تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 285 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 285

285- تفسير الصفحة رقم285 من المصحف
الآية: 28 {وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسور}
وهو أنه سبحانه وتعالى خص نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: "وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها". وهو تأديب عجيب وقول لطيف بديع، أي لا تعرض عنهم إعراض مستهين عن ظهر الغنى والقدرة فتحرمهم. وإنما يجوز أن تعرض عنهم عند عجز يعرض وعائق يعوق، وأنت عند ذلك ترجو من الله سبحانه وتعالى فتح باب الخير لتتوصل به إلى مواساة السائل؛ فإن قعد بك الحال فقل لهم قولا ميسورا.
في سبب نزولها؛ فال ابن زيد: نزلت الآية في قوم كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأبى أن يعطيهم؛ لأنه كان يعلم منهم نفقة المال في فساد، فكان يعرض عنهم رغبة في الأجر في منعهم لئلا يعينهم على فسادهم. وقال عطاء الخراساني في قوله تعالى "وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها" قال: ليس هذا في ذكر الوالدين، جاء ناس من مزينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستحملونه؛ فقال: (لا أجد ما أحملكم عليه) فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا؛ فأنزل الله تعالى: "وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها". والرحمة الفيء. والضمير في "عنهم" عائد على من تقدم ذكرهم من الآباء والقرابة والمساكين وأبناء السبيل.
قوله تعالى: "فقل لهم قولا ميسورا" أمره بالدعاء لهم، أي يسر فقرهم عليهم بدعائك لهم. وقيل: ادع لهم دعاء يتضمن الفتح لهم والإصلاح. وقيل: المعنى "وإما تعرضن" أي إن أعرضت يا محمد عن إعطائهم لضيق يد فقل لهم قولا ميسورا؛ أي أحسن القول وأبسط العذر، وادع لهم بسعة الرزق، وقل إذا وجدت فعلت وأكرمت؛ فإن ذلك يعمل في مسرة نفسه عمل المواساة. وكان عليه الصلاة والسلام إذا سئل وليس عنده ما يعطي سكت انتظارا لرزق يأتي من الله سبحانه وتعالى كراهة الرد، فنزلت هذه الآية، فكان صلى الله عليه وسلم إذا سئل وليس عنده ما يعطي قال: (يرزقنا الله وإياكم من فضله). فالرحمة على هذا التأويل الرزق المنتظر. وهذا قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة. و"قولا ميسورا" أي لينا لطيفا طيبا، مفعول بمعنى الفاعل، من لفظ اليسر كالميمون، أي وعدا جميلا، على ما بيناه. ولقد أحسن من قال:
إلا تكن وَرِقٌ يوما أجود بها للسائلين فإني لين العود
لا يعدم السائلون الخير من خلقي إما نوالي وإما حسن مردودي
تقول: يسرت لك كذا إذا أعددته.
الآية: 29 {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسور}
قوله تعالى: "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك" هذا مجاز عبر به عن البخيل الذي لا يقدر من قلبه على إخراج شيء من ماله؛ فضرب له مثل الغل الذي يمنع من التصرف باليد. وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديه قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه حتى تغشى أنامله وتعفو أثره وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت وأخذت كل حلقة بمكانها. قال أبو هريرة رضي الله عنه: فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأصبعيه هكذا في جيبه فلو رأيته يوسعها ولا تتوسع.
قوله تعالى: "ولا تبسطها كل البسط" ضرب بسط اليد مثلا لذهاب المال، فإن قبض الكف يحبس ما فيها، وبسطها يذهب ما فيها. وهذا كله خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، وكثيرا ما جاء في القرآن؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان سيدهم وواسطتهم إلى ربهم عبر به عنهم على عادة العرب في ذلك. وأيضا فإنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يدخر شيئا لغد، وكان يجوع حتى يشد الحجر على بطنه من الجوع. وكان كثير من الصحابة ينفقون في سبيل الله جميع أموالهم، فلم يعنفهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليهم لصحة يقينهم وشدة بصائرهم. وإنما نهى الله سبحانه وتعالى عن الإفراط في الإنفاق، وإخراج ما حوته يده من المال من خيف عليه الحسرة على ما خرج من يده، فأما من وثق بموعود الله عز وجل وجزيل ثوابه فيما أنفقه فغير مراد بالآية، والله اعلم. وقيل: إن هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في خاصة نفسه، علمه فيه كيفية الإنفاق، وأمره بالاقتصاد. قال جابر وابن مسعود: جاء غلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمي تسألك كذا وكذا. فقال: (ما عندنا اليوم شيء). قال: فتقول لك اكسني قميصك؛ فخلع قميصه فدفعه إليه وجلس في البيت عريانا. وفي رواية جابر: فأذن بلال للصلاة وانتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج، واشتغلت القلوب، فدخل بعضهم فإذا هو عار؛ فنزلت هذه الآية. وكل هذا في إنفاق الخير. وأما إنفاق الفساد فقليله وكثيره حرام، كما تقدم.
نهت هذه الآية عن استفراغ الوجد فيما يطرأ أولا من سؤال المؤمنين؛ لئلا يبقى من يأتي بعد ذلك لا شيء له، أو لئلا يضيع المنفق عياله. ونحوه من كلام الحكمة: ما رأيت قط سرفا إلا ومعه حق مضيع. وهذه من آيات فقه الحال فلا يبين حكمها إلا باعتبار شخص شخص من الناس.
قوله تعالى: "فتقعد ملوما محسورا" قال ابن عرفة: يقول لا تسرف ولا تتلف مالك فتبقى محسورا منقطعا عن النفقة والتصرف؛ كما يكون البعير الحسير، وهو الذي ذهبت قوته فلا انبعاث به؛ ومنه قوله تعالى: "ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير" [الملك: 4] أي كليل منقطع. وقال قتادة: أي نادما على ما سلف منك؛ فجعله من الحسرة، وفيه بعد؛ لأن الفاعل من الحسرة حسر وحسران ولا يقال محسور. والملوم: الذي يلام على إتلاف ماله، أو يلومه من لا يعطيه.
الآيتان: 30 - 31 {إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا، ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأ كبير}
قد مضى الكلام في هذه الآية في الأنعام، والحمد لله. والإملاق: الفقر وعدم الملك. أملق الرجل أي لم يبق له إلا الملقات؛ وهي الحجارة العظام الملس. قال الهذلي يصف صائدا:
أتيح لها أقيدر ذو حَشيف إذا سامت على الملقات ساما
الواحدة ملقة. والأقيدر تصغير الأقدر، وهو الرجل القصير. والحشيف من الثياب: الخلق. وسامت مرت. وقال شمر: أملق لازم ومتعد، أملق إذا افتقر، وأملق الدهر ما بيده. قال أوس:
وأملق ما عندي خطوب تَنَبَّل
قوله تعالى: "خطئا" قراءة الجمهور بكسر الخاء وسكون الطاء وبالهمزة والقصر. وقرأ ابن عامر "خطأ" بفتح الخاء والطاء والهمزة مقصورة، وهي قراءة أبي جعفر يزيد. وهاتان قراءتان مأخوذتان من "خطئ" إذا أتى الذنب على عمد. قال ابن عرفة: يقال خطئ في ذنبه خطأ إذا أثم فيه، وأخطأ إذا سلك سبيل خطأ عامدا أو غير عامد. قال: ويقال خطئ في معنى أخطأ. وقال الأزهري: يقال خطئ يخطأ خطئا إذا تعمد الخطأ؛ مثل أثم يأثم إثما. وأخطأ إذا لم يتعمد إخطاء وخطأ. قال الشاعر:
دعيني إنما خطئي وصوبي علي وإن ما أهلكت مال
والخطأ الاسم يقوم مقام الإخطاء، وهو ضد الصواب. وفيه لغتان: القصر وهو الجيد، والمد وهو قليل، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما "خطأ" بفتح الخاء وسكون الطاء وهمزة. وقرأ ابن كثير بكسر الخاء وفتح الطاء ومد الهمزة. قال النحاس: ولا أعرف لهذه القراءة وجها، ولذلك جعلها أبو حاتم غلطا. قال أبو علي: هي مصدر من خاطأ يخاطئ، وإن كنا لا نجد خاطأ، ولكن وجدنا تخاطأ، وهو مطاوع خاطأ، فدلنا عليه؛ ومنه قول الشاعر:
تخاطأت النبل أحشاءه وأخر يومي فلم أعجل
وقول الآخر في وصف مهاة:
تخاطأه القناص حتى وجدته وخرطومه في منقع الماء راسب
الجوهري: تخاطأه أي أخطأه؛ وقال أوفى بن مطر المازني:
ألا أبلغا خلتي جابرا بأن خليلك لم يقتل
تخاطأت النبل أحشاءه وأخر يومي فلم يعجل
وقرأ الحسن "خطاء" بفتح الخاء والطاء والمد في الهمزة. قال أبو حاتم: لا يعرف هذا في اللغة وهي غلط غير جائز. وقال أبو الفتح: الخطأ من أخطأت بمنزلة العطاء من أعطيت، هو اسم بمعنى المصدر، وعن الحسن أيضا "خطى" بفتح الخاء والطاء منونة من غير همز.
الآية: 32 {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيل}
قال العلماء: قوله تعالى "ولا تقربوا الزنى" أبلغ من أن يقول: ولا تزنوا؛ فإن معناه لا تدنوا من الزنى. والزنى يمد ويقصر، لغتان. قال الشاعر:
كانت فريضة ما تقول كما كان الزناء فريضة الرجم
و "سبيلا" نصب على التمييز؛ التقدير: وساء سبيله سبيلا. أي لأنه يؤدي إلى النار. والزنى من الكبائر، ولا خلاف فيه وفي قبحه لا سيما بحليلة الجار. وينشأ عنه استخدام ولد الغير واتخاذه ابنا وغير ذلك من الميراث وفساد الأنساب باختلاط المياه. وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بامرأة مُجح على باب فسطاط فقال: (لعله يريد أن يُلم بها) فقالوا: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد هممت أن ألعنه لعنا يدخل معه قبره كيف يورثه وهو لا يحل له كيف يستخدمه وهو لا يحل له).
الآية: 33 {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصور}
قوله تعالى: "ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما" أي بغير سبب يوجب القتل. "فقد جعلنا لوليه" أي لمستحق دمه. قال ابن خويز منداد: الولي يجب أن يكون ذكرا؛ لأنه أفرده بالولاية بلفظ التذكير. وذكر إسماعيل بن إسحاق في قوله تعالى: "فقد جعلنا لوليه" ما يدل على خروج المرأة عن مطلق لفظ الولي، فلا جرم، ليس للنساء حق في القصاص لذلك ولا أثر لعفوها، وليس لها الاستيفاء. وقال المخالف: إن المراد ها هنا بالولي الوارث؛ وقد قال تعالى: "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض" [التوبة: 71]، وقال: "والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء"، [الأنفال: 72]، وقال: "وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله" [الأنفال: 75] فاقتضى ذلك إثبات القود لسائر الورثة؛ وأما ما ذكروه من أن الولي في ظاهره على التذكير وهو واحد، كأن ما كان بمعنى الجنس يستوي المذكر والمؤنث فيه، وتتمته في كتب الخلاف. "سلطانا" أي تسليطا إن شاء قتل وإن شاء عفا، وإن شاء أخذ الدية؛ قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والضحاك وأشهب والشافعي. وقال ابن وهب قال مالك: السلطان أمر الله. ابن عباس: السلطان الحجة. وقيل: السلطان طلبه حتى يدفع إليه. قال ابن العربي: وهذه الأقوال متقاربة، وأوضحها قول مالك: إنه أمر الله. ثم إن أمر الله عز وجل لم يقع نصا فاختلف العلماء فيه؛ فقال ابن القاسم عن مالك وأبي حنيفة: القتل خاصة. وقال أشهب: الخيرة؛ كما ذكرنا آنفا، وبه قال الشافعي. وقد مضى في سورة "البقرة" هذا المعنى.
قوله تعالى: "فلا يسرف في القتل" فيه ثلاثة أقوال: لا يقتل غير قاتله؛ قاله الحسن والضحاك ومجاهد وسعيد بن جبير. الثاني: لا يقتل بدل وليه اثنين كما كانت العرب تفعله. الثالث: لا يمثل بالقاتل؛ قاله طلق بن حبيب، وكله مراد لأنه إسراف منهي عنه. وقد مضى في "البقرة" القول في هذا مستوفى. وقرأ الجمهور "يسرف" بالياء، يريد الولي، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي "تسرف" بالتاء من فوق، وهي قراءة حذيفة. وروى العلاء بن عبدالكريم عن مجاهد قال: هو للقاتل الأول، والمعنى عندنا فلا تسرف أيها القاتل. وقال الطبري: هو على معنى الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والأئمة من بعده. أي لا تقتلوا غير القاتل. وفي حرف أبي "فلا تسرفوا في القتل".
قوله تعالى: "إنه كان منصورا" أي معانا، يعني الولي. فإن قيل: وكم من ولي مخذول لا يصل إلى حقه. قلنا: المعونة تكون بظهور الحجة تارة وباستيفائها أخرى، وبمجموعهما ثالثة، فأيها كان فهو نصر من الله سبحانه وتعالى. وروى ابن كثير عن مجاهد قال: إن المقتول كان منصورا. النحاس: ومعنى قوله إن الله نصره بوليه. وروي أنه في قراءة أُبَي "فلا تسرفوا في القتل إن ولي المقتول كان منصورا". قال النحاس: الأبين بالياء ويكون للولي؛ لأنه إنما يقال: لا يسرف إن كان له أن يقتل، فهذا للولي. وقد يجوز بالتاء ويكون للولي أيضا، إلا أنه يحتاج فيه إلى تحويل المخاطبة. قال الضحاك: هذا أول ما نزل من القرآن في شأن القتل، وهي مكية.
الآية: 34 {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤول}
قوله تعالى: "ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده" قد مضى الكلام فيه في الأنعام.
قوله تعالى: "وأوفوا بالعهد" قد مضى الكلام فيه في غير موضع. قال الزجاج: كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد. "إن العهد كان مسؤولا" عنه، فحذف؛ كقوله: "ويفعلون ما يؤمرن" [التحريم: 6] به وقيل: إن العهد يسأل تبكيتا لناقضه فيقال: نقضت، كما تسأل الموؤودة تبكيتا لوائدها.
الآية: 35 {وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويل}
قوله تعالى: "وأوفوا الكيل إذا كلتم" تقدم الكلام فيه أيضا في الأنعام. وتقتضي هذه الآية أن الكيل على البائع، وقد مضى في سورة "يوسف" فلا معنى للإعادة. والقسطاس (بضم القاف وكسرها): الميزان بلغة الروم؛ قاله ابن عزيز. وقال الزجاج: القسطاس: الميزان صغيرا كان أو كبيرا. وقال مجاهد: القسطاس العدل، وكان يقول: هي لغة رومية، وكأن الناس قيل لهم: زنوا بمعدلة في وزنكم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر "القسطاس" بضم القاف. وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم (بكسر القاف) وهما لغتان.
قوله تعالى: "ذلك خير" أي وفاء الكيل وإقامة الوزن خير عند ربك وأبرك. "وأحسن تأويلا" أي عاقبة. قال الحسن: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه ليس لديه إلا مخافة الله تعالى إلا أبدله الله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك).
الآية: 36 {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤول}
قوله تعالى: "ولا تقف" أي لا تتبع ما لا تعلم ولا يعنيك. قال قتادة: لا تقل رأيت وأنت لم تر، وسمعت وأنت لم تسمع، وعلمت وأنت لم تعلم؛ وقاله ابن عباس رضي الله عنهما. قال مجاهد: لا تذم أحدا بما ليس لك به علم؛ وقاله ابن عباس رضي الله عنهما أيضا. وقال محمد ابن الحنفية: هي شهادة الزور. وقال القتبي: المعنى لا تتبع الحدس والظنون؛ وكلها متقاربة. وأصل القفو البهت والقذف بالباطل؛ ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (نحن بنو النضر ابن كنانة لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا) أي لا نسب أمنا. وقال الكميت:
فلا أرمي البريء بغير ذنب ولا أقفو الحواصن إن قفينا
يقال: قفوته أقفوه، وقفته أقوفه، وقفيته إذا اتبعت أثره. ومنه القافة لتتبعهم الآثار وقافية كل شيء آخره، ومنه قافية الشعر؛ لأنها تقفو البيت. ومنه اسم النبي صلى الله عليه وسلم المقفي؛ لأنه جاء آخر الأنبياء. ومنه القائف، وهو الذي يتبع أثر الشبه. يقال: قاف القائف يقوف إذا فعل ذلك. وتقول: فقوت للأثر، بتقديم الفاء على القاف. ابن عطية: ويشبه أن يكون هذا من تلعب العرب في بعض الألفاظ؛ كما قالوا: رعملي في لعمري. وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: قفا وقاف، مثل عتا وعات. وذهب منذر بن سعيد إلى أن قفا وقاف مثل جبذ وجذب. وبالجملة فهذه الآية تنهى عن قول الزور والقذف، وما أشبه ذلك من الأقوال الكاذبة والرديئة. وقرأ بعض الناس فيما حكى الكسائي "تقف" بضم القاف وسكون الفاء. وقرأ الجراح "والفاد" بفتح الفاء، وهي لغة لبعض الناس، وأنكرها أبو حاتم وغيره.
قال ابن خويز منداد: تضمنت هذه الآية الحكم بالقافة؛ لأنه لما قال: "ولا تقف ما ليس لك به علم" دل على جواز ما لنا به علم، فكل ما علمه الإنسان أو غلب على ظنه جاز أن يحكم به، وبهذا احتججنا على إثبات القرعة والخرص؛ لأنه ضرب من غلبة الظن، وقد يسمى علما اتساعا. فالقائف يلحق الولد بأبيه من طريق الشبه بينهما كما يلحق الفقيه الفرع بالأصل من طريق الشبه. وفي الصحيح عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل علي مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال: (ألم تري أن مُجززا نظر إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد عليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال إن بعض هذه الأقدام لمن بعض). وفي حديث يونس بن يزيد: (وكان مجززا قائفا).
قال الإمام أبو عبدالله المازري: كانت الجاهلية تقدح في نسب أسامة لكونه أسود شديد السواد، وكان زيد أبوه أبيض من القطن، هكذا ذكره أبو داود عن أحمد بن صالح. قال القاضي عياض: وقال غير أحمد كان زيد أزهر اللون، وكان أسامة شديد الأدمة؛ وزيد بن حارثة عربي صريح من كلب، أصابه سباء، حسبما يأتي في سورة "الأحزاب" إن شاء الله تعالى.
استدل جمهور العلماء على الرجوع إلى القافة عند التنازع في الولد، بسرور النبي صلى الله عليه وسلم بقول هذا القائف؛ وما كان عليه السلام بالذي يسر بالباطل ولا يعجبه. ولم يأخذ بذلك أبو حنيفة وإسحاق والثوري وأصحابهم متمسكين بإلغاء النبي صلى الله عليه وسلم الشبه في حديث اللعان؛ على ما يأتي في سورة [النور] إن شاء الله تعالى.
واختلف الآخذون بأقوال القافة، هل يؤخذ بذلك في أولاد الحرائر والإماء أو يختص بأولاد الإماء، على قولين؛ فالأول: قول الشافعي ومالك رضي الله عنهما في رواية ابن وهب عنه، ومشهور مذهبه قصره على ولد الأمة. والصحيح ما رواه ابن وهب عنه وقال الشافعي رضي الله عنه؛ لأن الحديث الذي هو الأصل في الباب إنما وقع في الحرائر، فإن أسامة وأباه حران فكيف يلغى السبب الذي خرج عليه دليل الحكم وهو الباعث عليه، هذا مما لا يجوز عند الأصوليين. وكذلك اختلف هؤلاء، هل يكتفي بقول واحد من القافة أو لا بد من اثنين لأنها شهادة؛ وبالأول قال ابن القاسم وهو ظاهر الخبر بل نصه. وبالثاني قال مالك والشافعي رضي الله عنهما.
قوله تعالى: "إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا" أي يسأل كل واحد منهم عما اكتسب، فالفؤاد يسأل عما افتكر فيه واعتقده، والسمع والبصر عما رأس من ذلك وسمع. وقيل: المعنى أن الله سبحانه وتعالى يسأل الإنسان عما حواه سمعه وبصره وفؤاده؛ ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) فالإنسان راع على جوارحه؛ فكأنه قال كل هذه كان الإنسان عنه مسؤولا، فهو على حذف مضاف. والمعنى الأول أبلغ في الحجة؛ فإنه يقع تكذيبه من جوارحه، وتلك غاية الخزي؛ كما قال: "اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون" [يس:60]، وقوله "شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون" [فصلت:20]. وعبر عن السمع والبصر والفؤاد بأولئك لأنها حواس لها إدراك، وجعلها في هذه الآية مسؤولة، فهي حالة من يعقل، فلذلك عبر عنها بأولئك. وقال سيبويه رحمه الله في قوله تعالى: "رأيتهم لي ساجدين" [يوسف: 4]: إنما قال: "رأيتهم" في نجوم، لأنه لما وصفها بالسجود وهو من فعل من يعقل عبر عنها بكناية من يعقل؛ وقد تقدم. وحكى الزجاج أن العرب تعبر عما يعقل وعما لا يعقل بأولئك، وأنشد هو والطبري:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأيام
وهذا أمر يوقف عنده. وأما البيت فالرواية فيه "الأقوام" والله اعلم.
الآيتان: 37 - 38 {ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا، كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروه}
قوله تعالى: "ولا تمش في الأرض مرحا" هذا نهي عن الخيلاء وأمر بالتواضع. والمرح: شدة الفرح. وقيل: التكبر في المشي. وقيل: تجاوز الإنسان قدره. وقال قتادة: هو الخيلاء في المشي. وقيل: هو البطر والأشر. وقيل: هو النشاط وهذه الأقوال متقاربة ولكنها منقسمة قسمين: أحدهما مذموم والآخر محمود؛ فالتكبر والبطر والخيلاء وتجاوز الإنسان قدره مذموم والفرح والنشاط محمود. وقد وصف الله تعالى نفسه بأحدهما؛ ففي الحديث الصحيح (لله أفرج بتوبة العبد من رجل...) الحديث. والكسل مذموم شرعا والنشاط ضده. وقد يكون التكبر وما في معناه محمودا، وذلك على أعداء الله والظلمة. أسند أبو حاتم بن حبان عن ابن جابر بن عتيك عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من الغيرة ما يبغض الله عز وجل ومنها ما يحب الله عز وجل ومن الخيلاء ما يحب الله عز وجل ومنها ما يبغض الله فأما الغيرة التي يحب الله الغيرة في الدين والغيرة التي يبغض الله الغيرة في غير دينه والخيلاء التي يحب الله اختيال الرجل بنفسه عند القتال وعند الصدقة والاختيال الذي يبغض الله الخيلاء في الباطل) وأخرجه أبو داود في مصنفه وغيره. وأنشدوا:
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا فكم تحتها قوم همو منك أرفع
وإن كنت في عز وحرز ومَنعة فكم مات من قوم همو منك أمنع
إقبال الإنسان على الصيد ونحوه ترفعا دون حاجة إلى ذلك داخل في هذه الآية، وفيه تعذيب الحيوان وإجراؤه لغير معنى. وأما الرجل يستريح في اليوم النادر والساعة من يومه، ويجم فيها نفسه في التطرح والراحة ليستعين بذلك على شغل من البر، كقراءة علم أو صلاة، فليس بداخل في هذه الآية.
قوله تعالى: "مرحا" قراءة الجمهور بفتح الراء. وقراءة فرقة فيما حكى يعقوب بكسر الراء على بناء اسم الفاعل. والأول أبلغ، فإن قولك: جاء زيد ركضا أبلغ من قولك: جاء زيد راكضا؛ فكذلك قولك مرحا. والمرح المصدر أبلغ من أن يقال مرحا.
قوله تعالى: "إنك لن تخرق الأرض" يعني لن تتولج باطنها فتعلم ما فيها "ولن تبلغ الجبال طولا" أي لن تساوي الجبال بطولك ولا تطاولك، ويقال: خرق الثوب أي شقه، وخرق الأرض قطعها. والخرق: الواسع من الأرض. أي لن تخرق الأرض بكبرك ومشيك عليها. "ولن تبلغ الجبال طولا" بعظمتك، أي بقدرتك لا تبلغ هذا المبلغ، بل أنت عبد ذليل، محاط بك من تحتك ومن فوقك، والمحاط محصور ضعيف، فلا يليق بك التكبر. والمراد بخرق الأرض هنا نقبها لا قطعها بالمسافة؛ والله اعلم. وقال الأزهري: معناه لن تقطعها. النحاس: وهذا أبين؛ لأنه مأخوذ من الخرق وهي الصحراء الواسعة. ويقال: فلان أخرق من فلان، أي أكثر سفرا وعزة ومنعة. ويروي أن سبأ دوخ الأرض بأجناده شرقا وغربا وسهلا وجبلا، وقتل سادة وسبى - وبه سمي سبأ - ودان له الخلق، فلما رأى ذلك انفرد عن أصحابه ثلاثة أيام ثم خرج إليهم فقال: إني لما نلت ما لم ينل أحد رأيت الابتداء بشكر هذه النعم، فلم أر أوقع في ذلك من السجود للشمس إذا أشرقت، فسجدوا لها، وكان ذلك أول عبادة الشمس؛ فهذه عاقبة الخيلاء والتكبر والمرح؛ نعوذ بالله من ذلك.
قوله تعالى: "كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها" "ذلك "إشارة إلى جملة ما تقدم ذكره مما أمر به ونهى عنه. "ذلك" يصلح للواحد والجمع والمؤنث والمذكر. وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي ومسروق "سيئة" على إضافة سيئ إلى الضمير، ولذلك قال: "مكروها" نصب على خبر كان. والسيء: هو المكروه، وهو الذي لا يرضاه الله عز وجل ولا يأمر به. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآي من قوله: "وقضى ربك - إلى قوله - كان سيئة" [الإسراء: 23] مأمورات بها ومنهيات عنها، فلا يخبر عن الجميع بأنه سيئة فيدخل المأمور به في المنهي عنه. واختار هذه القراءة أبو عبيد. ولأن في قراءة أُبَي "كل ذلك كان سيئاته" فهذه لا تكون إلا للإضافة. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو "سيئة" بالتنوين؛ أي كل ما نهى الله ورسوله عنه سيئة. وعلى هذا انقطع الكلام عند قوله: "وأحسن تأويلا" [النساء: 59] ثم قال: "ولا تقف ما ليس لك به علم" [الإسراء: 36]، "ولا تمش"، ثم قال: "كل ذلك كان سيئة" بالتنوين. وقيل: إن قوله "ولا تقتلوا أولادكم" [الأنعام: 151] إلى هذه الآية كان سيئة لا حسنة فيه، فجعلوا "كلا" محيطا بالمنهي عنه دون غيره. وقوله: "مكروها" ليس نعتا لسيئة، بل هو بدل منه؛ والتقدير: كان سيئة وكان مكروها. وقد قيل: إن "مكروها" خبر ثان لكان حمل على لفظه كل، و"سيئة" محمول على المعنى في جميع هذه الأشياء المذكورة قبل. وقال بعضهم: وهو نعت لسيئة؛ لأنه لما كان تأنيثها غير حقيقي جاز أن توصف بمذكر. وضعف أبو علي الفارسي هذا وقال: إن المؤنث إذا ذكر فإنما ينبغي أن يكون ما بعده مذكرا، وإنما التساهل أن يتقدم الفعل المسند إلى المؤنث وهو في صيغة ما يسند إلى المذكر؛ ألا ترى قول الشاعر:
فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها
مستقبح عندهم. ولو قال قائل: أبقل أرض لم يكن قبيحا. قال أبو علي: ولكن يجوز في قوله "مكروها" أن يكون بدلا من "سيئة". ويجوز أن يكون حالا من الضمير الذي في "عند ربك" ويكون "عند ربك" في موضع الصفة لسيئة.
استدل العلماء بهذه الآية على ذم الرقص وتعاطيه. قال الإمام أبو الوفاء بن عقيل: قد نص القرآن على النهي عن الرقص فقال: "ولا تمشي في الأرض مرحا" وذم المختال. والرقص أشد المرح والبطر. أو لسنا الذين قسنا النبيذ على الخمر لاتفاقهما في الإطراب والسكر، فما بالنا لا نقيس القضيب وتلحين الشعر معه على الطنبور والمزمار والطبل لاجتماعهما. فما أقبح من ذي لحية، وكيف إذا كان شيبة، يرقص ويصفق على إيقاع الألحان والقضبان، وخصوصا إن كانت أصوات لنسوان ومردان، وهل يحسن لمن بين يديه الموت والسؤال والحشر والصراط، ثم هو إلى إحدى الدارين، يشمس بالرقص شمس البهائم، ويصفق تصفيق النسوان، ولقد رأيت مشايخ في عمري ما بان لهم سن من التبسم فضلا عن الضحك مع إدمان مخالطتي لهم وقال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: ولقد حدثني بعض المشايخ عن الإمام الغزالي رضي الله عنه أنه قال: الرقص حماقة بين الكتفين لا تزول إلا باللعب. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في "الكهف" وغيرها إن شاء الله تعالى.