تفسير الطبري تفسير الصفحة 285 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 285
286
284
 الآية : 28
القول فـي تأويـل قوله تعالـى {وَإِمّا تُعْرِضَنّ عَنْهُمُ ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مّن رّبّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لّهُمْ قَوْلاً مّيْسُوراً }.
يقول تعالـى ذكره: وإن تعرض يا مـحمد عن هؤلاء الذين أمرتك أن تؤتـيهم حقوقهم إذا وجدت إلـيها السبـيـل بوجهك عند مسألتهم إياك، ما لا تـجد إلـيه سبـيلاً، حياء منهم ورحمة لهم ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبّكَ يقول: انتظار رزق تنتظره من عند ربك، وترجو تـيسير الله إياه لك، فلا تؤيسهم، ولكن قل لهم قولاً ميسورا. يقول: ولكن عدهم وعدا جميلاً، بأن تقول: سيرزق الله فأعطيكم، وما أشبه ذلك من القول اللـين غير الغلـيظ، كما قال جلّ ثناؤه وأمّا السّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16804ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، عن سفـيان، عن منصور، عن إبراهيـم وإمّا تُعْرِضَنّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبّكَ تَرْجُوها قال: انتظار الرزق فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُورا قال: لـينا تَعِدُهم.
16805ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الـخُراسانـي، عن ابن عبـاس ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبّكَ قال: رزق أهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ نَـحْنُ قَسَمْنا بَـيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ.
16806ـ حدثنا عمران بن موسى، قال: حدثنا عبد الوارث، قال: حدثنا عمارة، عن عكرمة، فـي قوله وَإمّا تُعْرِضَنّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبّكَ تَرْجُوها قال: انتظار رزق من الله يأتـيك.
16807ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قوله وَإمّا تُعْرِضَنّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبّكَ تَرْجُوها قال: إن سألوك فلـم يجدوا عندك ما تعطيهم ابتغاء رحمة، قال: رزق تنتظره ترجوه فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُورا قال: عِدْهم عِدَةً حسنة: إذا كان ذلك، إذا جاءنا ذلك فعلنا، أعطيناكم، فهو القول الـميسور.
قال ابن جريج، قال مـجاهد: إن سألوك فلـم يكن عندك ما تعطيهم، فأعرضت عنهم ابتغاء رحمة، قال: رزق تنتظره فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً ميْسُورا.
16808ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن قال: حدثنا ورقاء، جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، فـي قول الله عزّ وجلّ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبّكَ قال: انتظار رزق الله.
16809ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا سفـيان، عن الأعمش، عن أبـي الضّحَى، عن عبـيدة فـي قوله ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبّكَ تَرْجُوها قال: ابتغاء الرزق.
16810ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد وإمّا تُعْرِضَنّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبّكَ تَرْجُوها قال: أي رزق تنتظره فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُورا أي معروفـا.
16811ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُورا قال: عدهم خيرا. وقال الـحسن: قل لهم قولاً لـينا وسهلاً.
16812ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول، فـي قوله وَإمّا تُعْرِضَنّ عَنْهُم يقول: لا نـجد شيئا تعطيهم ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبّكَ يقول: انتظار الرزق من ربك، نزلت فـيـمن كان يسأل النبـيّ صلى الله عليه وسلم من الـمساكين.
حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: ثنـي حرمي بن عمارة، قال: حدثنا شعبة، قال: ثنـي عمارة، عن عكرمة فـي قول الله فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُورا قال: الرفق.
وكان ابن زيد يقول فـي ذلك ما:
16813ـ حدثنـي به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وإمّا تُعْرِضَنّ عَنْهُم عن هؤلاء الذين أوصيناك بهم ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبّكَ تَرْجوها إذا خشيت إن أعطيتهم، أن يتقوّوا بها علـى معاصي الله عزّ وجلّ، ويستعينوا بها علـيها، فرأيت أن تـمنعهم خيرا، فإذا سألوك فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُورا قولاً جميلاً: رزقك الله، بـارك الله فـيك.
وهذا القول الذي ذكرناه عن ابن زيد مع خلافه أقوال أهل التأويـل فـي تأويـل هذه الاَية، بعيد الـمعنى، مـما يدلّ علـيه ظاهرها، وذلك أن الله تعالـى قال لنبـيه صلى الله عليه وسلم وَإمّا تُعْرِضَنّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبّكَ تَرْجُوها فأمره أن يقول إذا كان إعراضه عن القوم الذين ذكرهم انتظار رحمة منه يرجوها من ربه قَوْلاً مَيْسُورا وذلك الإعراض ابتغاء الرحمة، لن يخـلو من أحد أمرين: إما أن يكون إعراضا منه ابتغاء رحمة من الله يرجوها لنفسه، فـيكون معنى الكلام كما قلناه، وقاله أهل التأويـل الذين ذكرنا قولهم، وخلاف قوله أو يكون إعراضا منه ابتغاء رحمة من الله يرجوها للسائلـين الذين أُمِر نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم بزعمه أن يـمنعهم ما سألوه خشية علـيهم من أن ينفقوه فـي معاصي الله، فمعلوم أن سخط الله علـى من كان غير مأمون منه صَرْف ما أُعْطي من نفقة لـيتقوّى بها علـى طاعة الله فـي معاصيه، أخوف من رجاء رحمته له، وذلك أن رحمة الله إنـما ترجى لأهل طاعته، لا لأهل معاصيه، إلا أن يكون أراد توجيه ذلك إلـى أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم أمر بـمنعهم ما سألوه، لـينـيبوا من معاصي الله، ويتوبوا بـمنعه إياهم ما سألوه، فـيكون ذلك وجها يحتـمله تأويـل الاَية، وإن كان لقول أهل التأويـل مخالفـا.

الآية : 29
القول فـي تأويـل قوله تعالـى {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىَ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مّحْسُوراً }.
وهذا مثلٌ ضربه الله تبـارك وتعالـى للـمـمتنع من الإنفـاق فـي الـحقوق التـي أوجبها فـي أموال ذوي الأموال، فجعله كالـمشدودة يده إلـى عنقه، الذي لا يقدر علـى الأخذ بها والإعطاء.
وإنـما معنى الكلام: ولا تـمسك يا مـحمد يدك بخلاً عن النفقة فـي حقوق الله، فلا تنفق فـيها شيئا إمساك الـمغلولة يده إلـى عنقه، الذي لا يستطيع بسطها وَلا تَبْسُطْها كُلّ البَسْطِ يقول: ولا تبسطها بـالعطية كلّ البسط، فتَبقـى لا شيء عندك، ولا تـجد إذا سئلت شيئا تعطيه سائلك فَتَقْعُدَ مَلُوما مَـحْسُورا يقول: فتقعد يـلومك سائلوك إذا لـم تعطهم حين سألوك، وتلومك نفسك علـى الإسراع فـي مالك وذهابه، مـحسورا يقول: مَعِيبـا، قد انقُطِع بك، لا شيء عندك تنفقه. وأصله من قولهم للدابة التـي قد سير علـيها حتـى انقَطَع سيرها، وكلّت ورَزحَت من السير، بأنه حَسِير. يقال منه: حَسَرْت الدابة فأنا أحسِرُها، وأحسُرها حَسْرا، وذلك إذا أنضيته بـالسير وحَسَرته بـالـمسألة إذا سألته فألـحفت وحَسَرَ البصرُ فهو يَحْسِر، وذلك إذا بلغ أقصى الـمنظر فكَلّ. ومنه قوله عزّ وجلّ: يَنْقَلِبْ إلَـيْكَ البَصَرُ خاسِئا وَهُوَ حَسِيرٌ (الـملك: 4 وكذلك ذلك فـي كلّ شيء كَلّ وأزحف حتـى يَضْنَى. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16814ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا هودة، قال: حدثنا عوف، عن الـحسن، فـي قوله وَلا تَـجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلـى عُنُقِكَ قال: لا تـجعلها مغلولة عن النفقة وَلا تَبْسُطْها: تبذّر بسرف.
16815ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يوسف بن بهز، قال: حدثنا حوشب، قال: كان الـحسن إذا تلا هذه الاَية وَلا تَـجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلـى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوما مَـحْسُورا يقول: لا تطفّف برزقـي عن غير رضاي، ولا تضعْه فـي سُخْطي فأسلُبَك ما فـي يديك، فتكون حسيرا لـيس فـي يديك منه شيء.
16816ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله وَلا تَـجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلـى عُنُقُك وَلا تَبْسُطْها كُلّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوما مـحْسُورا يقول هذا فـي النفقة، يقول لا تَـجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلـى عُنُقِكَ يقول: لا تبسطها بـالـخير وَلا تَبْسُطْها كُلّ البَسْطِ يعنـي التبذير فَتَقْعُدَ مَلُوما يقول: يـلوم نفسه علـى ما فـات من ماله مَـحْسُورا يعنـي: ذهب ماله كله فهو مـحسور.
حدثنـي علـي، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـي، عن ابن عبـاس، قوله وَلا تـجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلـى عُنُقِكَ يعنـي بذلك البخـل.
16817ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله وَلا تَـجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلـى عُنُقِكَ أي لا تـمسكها عن طاعة الله، ولا عن حقه وَلا تبْسُطْها كُلّ البَسْطِ يقول: لا تنفقها فـي معصية الله، ولا فـيـما يصلـح لك، ولا ينبغي لك، وهو الإسراف. قوله فَتَقْعُدَ مَلُوما مَـحْسُورا قال: ملوما فـي عبـاد الله، مـحسورا علـى ما سلف من دهره وفرّط.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة وَلا تَـجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلـى عُنُقِكَ قال: فـي النفقة، يقول: لا تـمسك عن النفقة وَلا تَبْسُطْها كُلّ البَسْطِ يقول: لا تبذر تبذيرا فَتَقْعُدَ مَلُوما فـي عبـاد الله مَـحْسُورا يقول: نادما علـى ما فرط منك.
16818ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: لا تـمسك عن النفقة فـيـما أمرتك به من الـحق وَلا تَبْسُطْها كُلّ البَسْطِ فـيـما نهيتك فَتَقْعُدَ مَلُوما قال: مذنبـا مَـحْسُورا قال: منقطعا بك.
16819ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله وَلا تَـجْعَلْ يَدَكَ مَغْلولَةً إلـى عُنُقِكَ قال: مغلولة لا تبسطها بخير ولا بعطية وَلا تَبْسُطْها كُلّ البَسْطِ فـي الـحق والبـاطل، فـينفَذ ما معك، وما فـي يديك، فـيأتـيك من يريد أن تعطيه فـيحسر بك، فـيـلومك حين أعطيت هؤلاء، ولـم تعطهم.

الآية : 30
القول فـي تأويـل قوله تعالـى {إِنّ رَبّكَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: إن ربك يا مـحمد يبسط رزقه لـمن يشاء من عبـاده، فـيوسع علـيه، ويقدر علـى من يشاء، يقول: ويُقَتّر علـى من يشاء منهم، فـيضيّق علـيه إنّهُ كَانَ بِعِبَـادِهِ خَبِـيرا: يقول: إن ربك ذو خبرة بعبـاده، ومن الذي تصلـحه السعة فـي الرزق وتفسده ومن الذي يصلـحه الإقتار والضيق ويهلكه. بصيرا: يقول: هو ذو بصر بتدبـيرهم وسياستهم، يقول: فـانته يا مـحمد إلـى أمرنا فـيـما أمرناك ونهيناك من بسط يدك فـيـما تبسطها فـيه، وفـيـمن تبسطها له، ومِن كفها عمن تكفها عنه، وتكفها فـيه، فنـحن أعلـم بـمصالـح العبـاد منك، ومن جميع الـخـلق وأبصر بتدبـيرهم، كالذي:
16820ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، ثم أخبرنا تبـارك وتعالـى كيف يصنع، فقال: إنّ رَبّكَ يَبْسُط الرّزْقَ لِـمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ قال: يقدر: يقلّ، وكل شيء فـي القرآن يَقْدِر كذلك ثم أخبر عبـاده أنه لا يرزَؤُه ولا يئُوده أن لو بسط علـيهم، ولكن نظرا لهم منه، فقال: وَلَوْ بَسَطَ اللّهُ الرّزْقَ لِعِبـادِهِ لَبَغَوْا فِـي الأرْضِ وَلكِنْ يُنَزّلُ بقَدَرٍ ما يَشاءُ إنّهُ بِعبـادِهِ خَبِـيرٌ بَصِيرٌ قال: والعرب إذا كان الـخصب وبُسِط علـيهم أَشِروا، وقتل بعضهم بعضا، وجاء الفساد، فإذا كان السنة شُغِلوا عن ذلك.

الآية : 31
القول فـي تأويـل قوله تعالـى {وَلاَ تَقْتُلُوَاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيّاكُم إنّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً }.
يقول تعالـى ذكره: وَقَضَى رَبّكَ يا مـحمد ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ وَبـالوَالِدَيْنِ إحْسانا، وَلا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلاقٍ فموضع تقتلوا نُصب عطفـا علـى ألا تعبدوا.
ويعنـي بقوله: خَشْيَةَ إمْلاقٍ خوف إقتار وفقر. وقد بـيّنا ذلك بشواهده فـيـما مضى، وذكرنا الرواية فـيه. وإنـما قال جلّ ثناؤه ذلك للعرب، لأنهم كانوا يقتلون الإناث من أولادهم خوف العيـلة علـى أنفسهم بـالإنفـاق علـيهن، كما:
16821ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله ولا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ خَشْيَة إمْلاقٍ: أي خشية الفـاقة، وقد كان أهل الـجاهلـية يقتلون أولادهم خشية الفـاقة، فوعظهم الله فـي ذلك، وأخبرهم أن رزقهم ورزق أولادهم علـى الله، فقال: نَـحْنُ نَرْزُقُهُمْ وإيّاكُمْ إنّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبـيرا.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة خَشْيَة إمْلاقٍ قال: كانوا يقتلون البنات.
16822ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مـجاهد وَلا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ خَشْيَة إمْلاقٍ قال: الفـاقة والفقر.
16823ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله خَشْيَة إمْلاقٍ يقول: الفقر.
وأما قوله: إنّ قَتْلَهُمْ كان خِطْأً كَبِـيرا فإن القراء اختلفت فـي قراءته فقرأته عامّة قراء أهل الـمدينة والعراق إنّ قَتْلَهُمْ كان خِطْأً كَبِـيرا بكسر الـخاء مِن الـخطإِ وسكون الطاء. وإذا قرىء ذلك كذلك، كان له وجهان من التأويـل: أحدهما أن يكون اسما من قول القائل: خَطِئت فأنا أَخْطَأ، بـمعنى: أذنبت وأثمت. ويُحكى عن العرب: خَطِئتَ: إذا أذنبتَ عمدا، وأخطأت: إذا وقع منك الذنب خَطَأ علـى غير عمد منك له. والثانـي: أن يكون بـمعنى خَطَأ بفتـح الـخاء والطاء، ثم كسرت الـخاء وسكنت الطاء، كما قـيـل: قِتْب وقَتَب وحَذَر وحِذْر، ونَـجِس ونَـجَس. والـخِطْء بـالكسر اسم، والـخَطَأ بفتـح الـخاء والطاء مصدر من قولهم: خَطِىء الرجل وقد يكون اسما من قولهم: أخطأ. فأما الـمصدر منه فـالإخطاء. وقد قـيـل: خَطِىء، بـمعنى أخطأ، كما قال الشاعر:
لَهْفَ هِنْدٍ إذْ خَطِئْنَ كاههِلا
بـمعنى: أخطأن. وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل الـمدينة: «إنّ قَتْلَهُمْ كانَ خَطَأً» بفتـح الـخاء والطاء مقصورا علـى توجيهه إلـى أنه اسم من قولهم: أخطأ فلان خطأ. وقرأه بعض قراء أهل مكة: «إنّ قَتْلهُمْ كان خَطاءً» بفتـح الـخَاء والطاء، ومدّ الـخَطَاء بنـحو معنى من قرأه خطأ بفتـح الـخاء والطاء، غير أنه يخالفه فـي مدّ الـحرف.
وكان عامة أهل العلـم بكلام العرب من أهل الكوفة وبعض البصريـين منهم يرون أن الـخِطْء والـخَطَأ بـمعنى واحد، إلاّ أن بعضهم زعم أن الـخِطْء بكسر الـخاء وسكون الطاء فـي القراءة أكثر، وأَن الـخطأ بفتـح الـخاء والطاء فـي كلام الناس أفشى، وأنه لـم يسمع الـخِطْء بكسر الـخاء وسكون الطاء، فـي شيء من كلامهم وأشعارهم، إلا فـي بـيت أنشده لبعض الشعراء:
الـخِطْءُ فـاحِشَةٌ والبِرّ نافِلَةٌكعَجْوَة غُرِسَتْ فِـي الأرْضِ تُؤْتَبرُ
وقد ذكرت الفرق بـين الـخِطْء بكسر الـخاء وسكون الطاء وفتـحهما.
وأولـى القراءات فـي ذلك عندنا بـالصواب، القراءة التـي علـيها قراء أهل العراق، وعامة أهل الـحجاز، لإجماع الـحجة من القراء علـيها، وشذوذ ما عداها. وإن معنى ذلك كان إثما وخطيئة، لا خَطَأ من الفعل، لأنهم إنـما كانوا يقتلونهم عمدا لا خطأ، وعلـى عمدهم ذلك عاتبهم ربهم، وتقدم إلـيهم بـالنهي عنه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16824ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد خِطْأً كَبِـيرا قال: أي خطيئة.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد إنّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِـيرا قال: خطيئة. قال ابن جريج، وقال ابن عبـاس: خِطأ: أي خطيئة.

الآية : 32
القول فـي تأويـل قوله تعالـى {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَىَ إِنّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً }.
يقول تعالـى ذكره: وقضى أيضا أن لا تَقْرَبُوا أيها الناس الزّنا إنّهُ كانَ فـاحِشَةً يقول: إن الزّنا كان فـاحشة وَساءَ سَبـيلاً يقول: وساء طريق الزنا طريقا، لأن طريق أهل معصية الله، والـمخالفـين أمره، فأسوىءْ به طريقا يورد صاحبه نار جهنـم.

الآية : 33
القول فـي تأويـل قوله تعالـى {وَلاَ تَقْتُلُواْ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالحَقّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فّي الْقَتْلِ إِنّهُ كَانَ مَنْصُوراً }.
يقول جل ثناؤه: وقضى أيضا أن لا تَقْتُلُوا أيها الناس النّفْسَ التـي حَرّمَ اللّهُ قتلها إلاّ بـالـحَقّ وحقها أن لا تقتل إلا بكفر بعد إسلام، أو زنا بعد إحصان، أو قود نفس، وإن كانت كافرة لـم يتقدّم كفرها إسلام، فأن لا يكون تقدم قتلها لها عهد وأمان، كما:
16825ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله وَلا تقْتُلُوا النّفْسَ التـي حَرّمَ اللّهُ إلاّ بـالـحَقّ وإنا والله ما نعلـم بحلّ دم امرىء مسلـم إلاّ بإحدى ثلاث، إلا رجلاً قتل متعمدا، فعلـيه القَوَد، أو زَنى بعد إحصانه فعلـيه الرجم أو كفر بعد إسلامه فعلـيه القتل.
16826ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن عيـينة، عن الزهريّ، عن عُروة أو غيره، قال: قـيـل لأبـي بكر: أتقتل من يرى أن لا يؤدي الزكاة، قال: لو منعونـي شيئا مـما أقروا به لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم. فقـيـل لأبـي بكر: ألـيس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ النّاسَ حتـى يَقُولُوا: لا إلَه إلاّ اللّهُ، فإذَا قالُوها عَصَمُوا مِنّـي دِماءهُمْ وأمْوالُهم إلاّ بِحَقّها، وحِسابُهُمْ عَلـى اللّهِ» فقال أبو بكر: هذا من حقها.
16827ـ حدثنـي موسى بن سهل، قال: حدثنا عمرو بن هاشم، قال: حدثنا سلـيـمان بن حيان، عن حميد الطويـل، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أنْ أُقاتِل النّاسِ حتـى يقُولُوا لا إلَه إلاّ اللّهُ، فإذَا قالُوها عَصمُوا مِنّى دِماءهُمْ وأمْوالهُمْ إلاّ بِحَقّها وحِسابُهمْ عَلـى اللّهِ» قـيـل: وما حقها؟ قال: «زِنا بَعْد إحْصانٍ، وكُفْرٌ بَعْد إيـمَانٍ، وقَتْلُ نَفْسٍ فَـيُقْتَلُ بِها».
وقوله: ومَنْ قُتِل مَظْلُوما يقول: ومن قتل بغير الـمعانـي التـي ذكرنا أنه إذا قتل بها كان قتلاً بحقّ فَقَدْ جَعَلْنا لِولِـيّهِ سُلْطانا يقول: فقد جعلنا لولـيّ الـمقتول ظلـما سلطانا علـى قاتل ولـيه، فإن شاء استقاد منه فقتله بولـيه، وإن شاء عفـا عنه، وإن شاء أخذ الدية.
وقد اختلف أهل التأويـل فـي معنى السلطان الذي جُعل لولـيّ الـمقتول، فقال بعضهم فـي ذلك، نـحو الذي قُلنا. ذكر من قال ذلك:
16828ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله ولا تَقْتَلُوا النّفْسَ التـي حَرّمَ اللّهُ إلاّ بـالـحَقّ وَمَنْ قُتِل مَظْلُوما فَقَدْ جَعَلْنا لولـيّه سُلْطانا قال: بـيّنة من الله عزّ وجلّ أنزلها يطلبها ولـيّ الـمقتول، العَقْل، أو القَوَد، وذلك السلطان.
16829ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن جُويبر، عن الضحاك بن مزاحم، فـي قوله: فَقَدْ جَعَلْنا لِولِـيّهِ سُلْطانا قال: إن شاء عفـا، وإن شاء أخذ الدية.
وقال آخرون: بل ذلك السلطان: هو القتل. ذكر من قال ذلك:
16830ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَمَنْ قُتِل مَظْلُوما فَقَدْ جَعَلْنا لِولِـيّهِ سُلْطانا وهو القَوَد الذي جعله الله تعالـى.
وأولـى التأويـلـين بـالصواب فـي ذلك تأويـل من تأول ذلك: أن السلطان الذي ذكر الله تعالـى فـي هذا الـموضع ما قاله ابن عبـاس، من أن لولـيّ القتـيـل القتل إن شاء وإن شاء أخذ الدية، وإن شاء العفو، لصحة الـخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم فتـح مكة: «ألا وَمن قُتِل لَهُ قَتِـيـلٌ فَهُو بِخَيْرِ النّظَريْنِ بـينِ أنْ يَقْتُل أوْ يأْخُذ الدّيَة» وقد بـيّنت الـحكم فـي ذلك فـي كتابنا: كتاب الـجراح.
وقوله: فَلا يُسْرِفْ فـي القَتْلِ اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامّة قرّاء الكوفة: «فلا تُسْرِفْ» بـمعنى الـخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والـمراد به هو والأئمة من بعده، يقول: فلا تقتل بـالـمقتول ظُلْـما غير قاتله، وذلك أن أهل الـجاهلـية كانوا يفعلون ذلك إذا قتل رجل رجلاً عمد ولـيّ القتـيـل إلـى الشريف من قبـيـلة القاتل، فقتله بولـيه، وترك القاتل، فنهى الله عزّ وجلّ عن ذلك عبـاده، وقال لرسوله علـيه الصلاة والسلام: قتل غير القاتل بـالـمقتول معصية وسرف، فلا تقتل به غير قاتله، وإن قتلت القاتل بـالـمقتول فلا تـمثّل به. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الـمدينة والبصرة: فَلا يُسْرِفْ بـالـياء، بـمعنى فلا يسرف ولـيّ الـمقتول، فـيقتل غير قاتل ولـيه. وقد قـيـل: عنى به: فلا يسرف القاتل الأول لأولـي الـمقتول.
والصواب من
القول فـي ذلك عندي، أن يقال: إنهما قراءتان متقاربتا الـمعنى، وذلك أن خطاب الله تبـارك وتعالـى نبـيه صلى الله عليه وسلم بأمر أو نهى فـي أحكام الدين، قضاء منه بذلك علـى جميع عبـاده، وكذلك أمره ونهيه بعضهم، أمر منه ونهى جميعهم، إلا فـيـما دلّ فـيه علـى أنه مخصوص به بعض دون بعض، فإذا كان ذلك كذلك بـما قد بـيّنا فـي كتابنا (كتاب البـيان، عن أصول الأحكام) فمعلوم أن خطابه تعالـى بقوله فَلا تُسْرِفْ فـي القَتْلِ نبـيه صلى الله عليه وسلم، وإن كان موجّها إلـيه أنه معنّى به جميع عبـاده، فكذلك نهيه ولـيّ الـمقتول أو القاتل عن الإسراف فـي القتل، والتعدّي فـيه نهى لـجميعهم، فبأيّ ذلك قرأ القارىء فمصيب صواب القراءة فـي ذلك.
وقد اختلف أهل التأويـل فـي تأويـلهم ذلك نـحو اختلاف القرّاء فـي قراءتهم إياه. ذكر من تأوّل ذلك بـمعنى الـخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
16831ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن طلق بن حبـيب، فـي قوله: فَلا تُسْرِفْ فـي القَتْلِ قال: لا تقتل غير قاتله، ولا تـمثّل به.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير. عن منصور، عن طلق بن حبـيب، بنـحوه.
16832ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن خصيف، عن سعيد بن جبـير، فـي قوله: فَلا تُسْرِفْ فـي القَتْلِ قال: لا تقتل اثنـين بواحد.
16833ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ، يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: فَلا تُسْرِفْ فـي القَتْلِ إنّهُ كان مَنْصُورا كان هذا بـمكة، ونبـيّ الله صلى الله عليه وسلم بها، وهو أوّل شيء نزل من القرآن فـي شأن القتل، كان الـمشركون يغتالون أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم، فقال الله تبـارك وتعالـى: من قتلكم من الـمشركين، فلا يحملنّكم قتله إياكم عن أن تقتلوا له أبـا أو أخا أو أحدا من عشيرته، وإن كانوا مشركين، فلا تقتلوا إلا قاتلكم وهذا قبل أن تنزل براءة، وقبل أن يؤمروا بقتال الـمشركين، فذلك قوله: فَلا تُسْرِفْ فـي القَتْلِ يقول: لا تقتل غير قاتلك، وهي الـيوم علـى ذلك الـموضع من الـمسلـمين، لا يحلّ لهم أن يقتلوا إلا قاتلهم. ذكر من قال: عُنِـي ولـيّ الـمقتول:
16834ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، قال: حدثنا أبو رجاء، عن الـحسن، فـي قوله: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوما فَقَدْ جَعَلْنا لِولِـيّهِ سُلْطانا قال: كان الرجل يُقتل فـيقول ولـيه: لا أرضى حتـى أقتل به فلانا وفلانا من أشراف قبـيـلته.
16835ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة فَلا تُسْرِفْ فـي القَتْلِ قال: لا تقتل غير قاتلك، ولا تـمثّل به.
حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فَلا يُسْرِفْ فـي القَتْلِ قال: لا يقتل غير قاتله من قَتَل بحديدة قُتل بحديدة ومن قَتَل بخشبة قُتِل بخشبة ومن قَتل بحجر قُتل بحجر. ذُكر لنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إنّ منْ أعْتَـى النّاسِ علـى اللّهِ جَلّ ثَناؤُهُ ثَلاَثَةً: رَجُلٌ قَتَلَ غيرَ قاتِلِهِ، أوْ قَتَلَ بدَخَنٍ فِـي الـجاهِلِـيّةِ، أوْ قَتَلَ فِـي حَرَمِ اللّهِ».
16836ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: سمعته، يعنـي ابن زيد، يقول فـي قول الله جلّ ثناؤه وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوما فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِـيّهِ سُلْطانا قال: إن العرب كانت إذا قُتل منهم قتـيـل، لـم يرضوا أن يقتلوا قاتل صاحبهم، حتـى يقتلوا أشرف من الذي قتله، فقال الله جلّ ثناؤه فَقَدْ جَعَلَنا لِوَلِـيّهِ سُلْطانا ينصره وينتصف من حقه فلا يُسْرِفْ فِـي القَتْلِ يقتل بريئا. ذكر من قال عُنِـي به القاتل:
16837ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثـير عن مـجاهد فَلا يُسْرِفْ فِـي القَتْلِ قال: لا يسرف القاتل فـي القتل.
وقد ذكرنا الصواب من القراءة فـي ذلك عندنا، وإذا كان كلا وجهي القراءة عندنا صوابـا، فكذلك جميع أوجه تأويـله التـي ذكرناها غير خارج وجه منها من الصواب، لاحتـمال الكلام ذلك وإن فـي نهي الله جلّ ثناؤه بعض خـلقه عن الإسراف فـي القتل، نهى منه جميعَهم عنه.
وأما قوله: إنّهُ كانَ مَنْصُورا فإن أهل التأويـل اختلفوا فـيـمن عُنِـي بـالهاء التـي فـي قوله إنّهُ وعلـى ما هي عائدة، فقال بعضهم: هي عائدة علـى ولـيّ الـمقتول، وهو الـمعنـيّ بها، وهو الـمنصور علـى القاتل. ذكر من قال ذلك:
16838ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة إنّهُ كانَ مَنْصُورا قال: هو دفع الإمام إلـيه، يعنـي إلـى الولـيّ، فإن شاء قتل، وإن شاء عفـا.
وقال آخرون: بل عُنِـي بها الـمقتول، فعلـى هذا القول هي عائدة علـى «مَن» فـي قوله: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوما. ذكر من قال ذلك:
16839ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثـير، عن مـجاهد إنّهُ كانَ مَنْصُورا إن الـمقتول كان منصورا.
وقال آخرون: عُنِـي بها دم الـمقتول، وقالوا: معنى الكلام: إن دم القتـيـل كان منصورا علـى القاتل.
وأشبه ذلك بـالصواب عندي. قول من قال عُنِـي بها الولـيّ، وعلـيه عادت، لأنه هو الـمظلوم، وولـيه الـمقتول، وهي إلـى ذكره أقرب من ذكر الـمقتول، وهو الـمنصور أيضا، لأن الله جلّ ثناؤه قضى فـي كتابه الـمنزل، أن سلّطه علـى قاتل ولـيه، وحكّمه فـيه، بأن جعل إلـيه قتله إن شاء، واستبقاءه علـى الدية إن أحبّ، والعفو عنه إن رأى، وكفـى بذلك نُصرة له من الله جلّ ثناؤه، فلذلك قلنا: هو الـمعنـيّ بـالهاء التـي فـي قوله: إنّهُ كانَ مَنْصُورا.
الآية : 34
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّىَ يَبْلُغَ أَشُدّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً }.
يقول تعالـى ذكره: وقضى أيضا أن لا تقربوا مال الـيتـيـم بأكل، إسرافـا وبدارا أن يَكْبَروا، ولكن اقرَبوه بـالفَعْلَة التـي هي أحسن، والـخَـلّة التـي هي أجمل، وذلك أن تتصرّفوا فـيه له بـالتثمير والإصلاح والـحيطة. وكان قتادة يقول فـي ذلك ما:
16840ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الـيَتِـيـمِ إلاّ بـالّتِـي هِيَ أحْسَنُ لـما نزلت هذه الاَية، اشتدّ ذلك علـى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا لا يخالطونهم فـي طعام أو أكل ولا غيره، فأنزل الله تبـارك وتعالـى وَإن تُـخالِطُوهُمْ فإخْوانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَـمُ الـمُفْسِدَ مِنَ الـمُصْلِـحِ فكانت هذه لهم فـيها رُخْصة.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة وَلا تَقَرْبُوا مالَ الـيَتِـيـمِ إلاّ بـالّتِـي هِيَ أحْسَنُ قال: كانوا لا يخالطونهم فـي مال ولا مأكل ولا مركب، حتـى نزلت وإنْ تُـخالِطُوهُمْ فإخْوَانُكُمْ. وقال ابن زيد فـي ذلك ما:
16841ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَلاَ تَقْرَبُوا مالَ الـيتِـيـمِ إلاّ بـالّتِـي هِيَ أحْسَنُ قال: الأكل بـالـمعروف، أن تأكل معه إذا احتـجت إلـيه، كان أُبـيّ يقول ذلك.
وقوله: حتـى يَبْلُغَ أشُدّهُ يقول: حتـى يبلغ وقت اشتداده فـي العقل، وتدبـير ماله، وصلاح حاله فـي دينه وأوْفُوا بـالعَهْدِ يقول: وأوفوا بـالعقد الذي تعاقدون الناس فـي الصلـح بـين أهل الـحرب والإسلام، وفـيـما بـينكم أيضا، والبـيوع والأشربة والإجارات، وغير ذلك من العقود إنّ العَهْدَ كانَ مَسْئُولاً يقول: إن الله جلّ ثناؤه سائل ناقض العهد عن نقضه إياه، يقول: فلا تنقصوا العهود الـجائزة بـينكم، وبـين من عاهدتـموه أيها الناس فتـخفروه، وتغدروا بـمن أعطيتـموه ذلك. وإنـما عنى بذلك أن العهد كان مطلوبـا يقال فـي الكلام: لـيسئلنّ فلان عهد فلان.
الآية : 35
القول فـي تأويـل قوله تعالـى {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }.
يقول تعالـى ذكره: وَ قضى أن أوْفُوا الكَيْـلَ للناس إذَا كِلْتُـمْ لهم حقوقهم قِبَلَكم، ولا تبخَسُوهم وَزِنُوا بـالقِسْطاسِ الـمُسْتَقِـيـمِ يقول: وقَضَى أو زنوا أيضا إذا وزنتـم لهم بـالـميزان الـمستقـيـم، وهو العدل الذي لا اعوجاج فـيه، ولا دَغَل، ولا خديعة. وقد اختلف أهل التأويـل فـي معنى القسطاس، فقال بعضهم: هو القبـان. ذكر من قال ذلك:
16842ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا صفوان بن عيسى، قال: حدثنا الـحسن بن ذكوان، عن الـحسن: وَزِنُوا بـالقِسْطاسِ الـمُسْتَقِـيـمِ قال: القَبّـان.
وقال آخرون: هو العدل بـالرومية. ذكر من قال ذلك:
16843ـ حدثنا علـيّ بن سهل، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد: القِسطاس: العدل بـالرومية. وقال آخرون: هو الـميزان صغر أو كبر وفـيه لغتان: القِسطاس بكسر القاف، والقُسطاس بضمها، مثل القِرطاس والقُرطاس وبـالكسر يقرأ عامّة قرّاء أهل الكوفة، وبـالضمّ يقرأ عامة قرّاء أهل الـمدينة والبصرة، وقد قرأ به أيضا بعض قرّاء الكوفـيـين، وبأيتهما قرأ القارىء فمصيب، لأنهما لغتان مشهورتان، وقراءتان مستفـيضتان فـي قرّاء الأمصار.
وقوله: ذلكَ خَيْرٌ يقول: إيفـاؤكم أيها الناس من تكيـلون له الكيـل، ووزنكم بـالعدل لـمن توفون له خَيْرٌ لَكُمْ من بخسكم إياهم ذلك، وظلـمكموهم فـيه. وقوله: وأحْسَنُ تأْوِيلاً يقول: وأحسن مردودا علـيكم وأولـى إلـيه فـيه فعلكم ذلك، لأن الله تبـارك وتعالـى يرضى بذلك علـيكم، فـيُحسن لكم علـيه الـجزاء. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16844ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وأوْفُوا الكَيْـلَ كِلْتُـمْ وَزِنُوا بـالقِسْطاسِ الـمُسْتَقِـيـمِ ذلكَ خَيْرٌ وأحْسَنُ تَأْوِيلاً أي خير ثوابـا وعاقبة.
وأخبرنا أن ابن عبـاس كان يقول: يا معشر الـموالـي، إنكم وَلِـيتـم أمرين بهما هلك الناس قبلكم: هذا الـمِكيال، وهذا الـمِيزان. قال: وذُكر لنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «لا يَقْدِرُ رَجُلٌ علـى حَرَامٍ ثُمّ يَدَعُهُ، لَـيْسَ بِهِ إلاّ مَخافَةُ اللّهِ، إلاّ أبْدَلَهُ اللّهُ فِـي عاجِلِ الدّنْـيا قَبْلَ الاَخِرَةِ ما هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ذلكَ».
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة وأحْسَنُ تَأْوِيلاً قال: عاقبة وثوابـا.
الآية : 36
القول فـي تأويـل قوله تعالـى {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّ السّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلّ أُولـَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }.
اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: وَلا تَقْـفُ ما لَـيْسَ لَكَ بِهِ عِلْـمٌ فقال بعضهم: معناه: ولا تقل ما لـيس لك به علـم. ذكر من قال ذلك:
16845ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله: وَلا تَقْـفُ ما لَـيْسَ لَكَ بِهِ عِلْـمٌ يقول: لا تقل.
16846ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَلا تَقْـفُ ما لَـيْسَ لَكَ بِهِ عِلْـمٌ إنّ السّمْعَ والبَصَرَ والفُؤَادَ كُلّ أُولَئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْئُولاً لا تقل رأيت ولـم تر، وسمعت ولـم تسمع، فإن الله تبـارك وتعالـى سائلك عن ذلك كله.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة وَلا تَقْـفُ ما لَـيْسَ لَكَ بِهِ عِلْـمٌ قال: لا تقل رأيت ولـم تر، وسمعت ولـم تسمع، وعلـمت ولـم تعلـم.
16847ـ حُدثت عن مـحمد بن ربـيعة، عن إسماعيـل الأزرق، عن أبـي عمر البزار، عن ابن الـحنفـية قال: شهادة الزور.
وقال آخرون: بل معناه: ولا ترم. ذكر من قال ذلك:
16848ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله وَلا تَقْـفُ ما لَـيْسَ لَكَ بِهِ عِلْـمٌ يقول: لا ترم أحدا بـما لـيس لك به علـم.
16849ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد وَلا تَقْـفُ ولا ترمِ.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، مثله.
وهذان التأويلان متقاربـا الـمعنى، لأن القول بـما لا يعلـمه القائل يدخـل فـيه شهادة الزور، ورمى الناس بـالبـاطل، وادّعاء سماع ما لـم يسمعه، ورؤية ما لـم يره. وأصل القـفو: العضه والبهت. ومنه قول النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «نَـحْنُ بَنُو النّضْرِ بْنِ كِنانَة لا نَقْـفُو أمّنا وَلا نَنْتَفِـي مِنُ أبِـينا»، وكان بعض البصريـين ينشد فـي ذلك بـيتا:
وَمِثْلُ الدّمَى شُمّ العَرَانِـينِ ساكِنٌبِهِنّ الـحَياءُ لا يُشِعْنَ التّقافِـيا
يعنـي بـالتقافـي: التقاذف. ويزعم أن معنى قوله لا تَقْـفُ لا تتبع ما لا تعلـم، ولا يعنـيك. وكان بعض أهل العربـية من أهل الكوفة، يزعم أن أصله القـيافة، وهي اتبـاع الأثر وإذ كان كما ذكروا وجب أن تكون القراءة: «وَلا تَقُـفْ» بضم القاف وسكون الفـاء، مثل: ولا تقل. قال: والعرب تقول: قـفوت أثره، وقُـفت أثره، فتقدّم أحيانا الواو علـى الفـاء وتؤخرها أحيانا بعدها، كما قـيـل: قاع الـجمل الناقة: إذا ركبها وقَعَا وعاثَ وعَثَى وأنشد سماعا من العرب.
ولَوْ أنّـي رَمَيْتُكَ مِنْ قَرِيبٍلَعاقَكَ مِنْ دُعاءٍ الذّئْبِ عاقِ
يعنـي عائق، ونظائر هذا كثـيرة فـي كلام العرب.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: معنى ذلك: لا تقل للناس وفـيهم ما لا علـم لك به، فترميهم بـالبـاطل، وتشهد علـيهم بغير الـحقّ، فذلك هو القـفو.
وإنـما قلنا ذلك أولـى الأقوال فـيه بـالصواب، لأن ذلك هو الغالب من استعمال العرب القـفو فـيه.
وأما قوله إنّ السّمْعَ والبَصَرَ والفُؤَادَ كُلّ أُولَئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْئُولاً فإن معناه: إن الله سائل هذه الأعضاء عما قال صاحبها، من أنه سمع أو أبصر أو علـم، تشهد علـيه جوارحه عند ذلك بـالـحقّ، وقال «أولئك»، ولـم يقل «تلك»، كما قال الشاعر:
ذُمّ الـمَنازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللّوَىوالعَيْشَ بَعْدِ أُولَئِكَ الأيّامِ
وإنـما قـيـل: أولئك، لأن أولئك وهؤلاء للـجمع القلـيـل الذي يقع للتذكير والتأنـيث، وهذه وتلك للـجمع الكثـير فـالتذكير للقلـيـل من بـاب أَنْ كان التذكير فـي الأسماء قبل التأنـيث. لك التذكير للـجمع الأوّل، والتأنـيث للـجمع الثانـي، وهو الـجمع الكثـير، لأن العرب تـجعل الـجمع علـى مثال الأسماء.
الآية : 37 و38
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً إِنّكَ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً * كُلّ ذَلِكَ كَانَ سَيّئُهُ عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهاً }.
يقول تعالـى ذكره: ولا تـمش فـي الأرض مختالاً مستكبرا إنّكَ لَنْ تَـخْرِقَ الأرْضَ يقول: إنك لن تقطع الأرض بـاختـيالك، كما قال رُؤْبة:
وقاتِـمِ الأعماقِ خاوِي الـمُخْتَرَق
يعنـي بـالـمخترق: الـمقطع وَلَنْ تَبلُغَ الـجِبـالَ طُولاً بفخرك وكبرك، وإنـما هذا نهي من الله عبـاده عن الكبر والفخر والـخُيَلاء، وتقدم منه إلـيهم فـيه معرّفهم بذلك أنهم لا ينالون بكبرهم وفخارهم شيئا يقصر عنه غيرهم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16850ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله وَلا تَـمْشِ فِـي الأرْضِ مَرَحا إنّكَ لَنْ تَـخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الـجِبـالِ طُولاً يعنـي بكبرك ومرحك.
حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة وَلا تَـمْشِ فِـي الأرْضِ مَرَحا قال: لا تـمش فـي الأرض فخرا وكبرا، فإن ذلك لا يبلغ بك الـجبـال، ولا تـخرق الأرض بكبرك وفخرك.
16851ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج وَلا تَـمْشِ فِـي الأرْضِ قال: لا تفخر.
وقـيـل: لا تـمش مرَحا، ولـم يقل مرِحا، لأنه لـم يرد بـالكلام: لا تكن مرِحا، فـيجعله من نعت الـماشي، وإنـما أريد لا تـمرح فـي الأرض مرَحا، ففسر الـمعنى الـمراد من قوله: ولا تـمش، كما قال الراجز:
يُعْجِبُهُ السّخُونُ والعَصِيدُوالتّـمْرُ حَبّـا ما لَهُ مَزيدُ
فقال: حبـا، لأن فـي قوله: يعجبه، معنى يحبّ، فأخرج قوله: حبـا، من معناه دون لفظه.
وقوله: كُلّ ذلكَ كانَ سَيّئُهُ عنْدَ رَبّكَ مَكْرُوها فإن القرّاء اختلفت فـيه، فقرأه بعض قرّاء الـمدينة وعامة قرّاء الكوفة كُلّ ذلكَ كانَ سَيّئُهُ عنْدَ رَبّكَ مَكْرُوها علـى الإضافة بـمعنى: كلّ هذا الذي ذكرنا من هذه الأمور التـي عددنا من مبتدإ قولنا وَقَضَى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إياهُ... إلـى قولنا وَلا تَـمْشِ فِـي الأرْضِ مَرَحا كانَ سَيّئُهُ يقول: سيىء ما عددنا علـيك عند ربك مكروها. وقال قارئو هذه القراءة: إنـما قـيـل كُلّ ذلكَ كانَ سَيّئُهُ بـالإضافة، لأن فـيـما عددنا من قوله وَقَضَى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ أمورا، هي أمر بـالـجميـل، كقوله وَبـالوَالدَيْنِ إحْسانا، وقوله وآتِ ذَا القُرْبَى حَقّهُ وما أشبه ذلك، قالوا: فلـيس كلّ ما فـيه نهيا عن سيئة، بل فـيه نهى عن سيئة، وأمر بحسنات، فلذلك قرأنا سَيّئُهُ. وقرأ عامة قرّاء أهل الـمدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة: «كُلّ ذلكَ كانَ سَيّئَةً» وقالوا: إنـما عنى بذلك: كلّ ما عددنا من قولنا وَلا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلاقٍ ولـم يدخـل فـيه ما قبل ذلك. قالوا: وكلّ ما عددنا من ذلك الـموضع إلـى هذا الـموضع سيئة لا حسنة فـيه، فـالصواب قراءته بـالتنوين. ومن قرأ هذه القراءة، فإنه ينبغي أن يكون من نـيته أن يكون الـمكروه مقدما علـى السيئة، وأن يكون معنى الكلام عنده: كلّ ذلك كان مكروها سيئة لأنه إن جعل قوله: مكروها نعدّ السيئة من نعت السيئة، لزمه أن تكون القراءة: كلّ ذلك كان سيئة عند ربك مكروهة، وذلك خلاف ما فـي مصاحف الـمسلـمين.
وأولـى القراءتـين عندي فـي ذلك بـالصواب قراءة من قرأ كُلّ ذلكَ كانَ سيّئُهُ علـى إضافة السيىء إلـى الهاء، بـمعنى: كلّ ذلك الذي عددنا من وَقَضَى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ... كانَ سَيّئُهُ لأن فـي ذلك أمورا منهيا عنها، وأمورا مأمورا بها، وابتداء الوصية والعهد من ذلك الـموضع دون قوله وَلا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ إنـما هو عطف علـى ما تقدّم من قوله وَقَضَى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ فإذا كان ذلك كذلك، فقرأته بإضافة السيىء إلـى الهاء أولـى وأحقّ من قراءته سيئةً بـالتنوين، بـمعنى السيئة الواحدة.
فتأويـل الكلام إذن: كلّ هذا الذي ذكرنا لك من الأمور التـي عددناها علـيك كان سيئه مكروها عند ربك يا مـحمد، يكرهه وينهى عنه ولا يرضاه، فـاتق مواقعته والعمل به