تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 285 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 285

284

28- "وإما تعرضن عنهم" قد تقدم قريباً أن أصل "إما" هذه مركب من إن الشرطية وما الإبهامية، وأن دخول نون التأكيد على الشرط لمشابهته للنهي: أي إن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل لأمر اضطرك إلى ذلك الإعراض "ابتغاء رحمة من ربك" أي لفقد رزق من ربك ولكنه أقام المسبب الذي هو ابتغاء رحمة الله مقام السبب الذي هو فقد الرزق لأن فاقد الرزق مبتغ له، والمعنى: وإن أعرضت عنهم لفقد رزق من ربك ترجو أن يفتح الله به عليك "فقل لهم قولاً ميسوراً" أي قولاً سهلاً ليناً كالوعد الجميل أو الاعتذار المقبول. قال الكسائي: يسرت له القول أي لينته. قال الفراء: معنى الآية إن تعرض عن السائل إضافة وإعساراً فقل لهم قولاً ميسوراً عدهم عدة حسنة ويجوز أن يكون المعنى: وإن تعرض عنهم ولم تنفعهم لعدم استطاعتك فقل لهم قولاً ميسوراً، وليس المراد هنا الإعراض بالوجه. وفي هذه الآية تأديب من الله سبحانه لعباده إذا سألهم سائل ما ليس عندهم كيف يقولون وبما يردون، ولقد أحسن من قال: إن لا يكن ورق يوماً أجود بها للسائلين فإني لين العود لا يعدم السائلون الخير من خلقي إما نوال وإما حسن مردود
لما ذكر سبحانه أدب المنع بعد النهي عن التبذير بين أدب الإنفاق فقال: 29- "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط" وهذا النهي يتناول كل مكلف سواء كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم تعريضاً لأمته وتعليماً لهم أو الخطاب لكل من يصلح له من المكلفين والمراد النهي للإنسان بأن يمسك أمساكاً يصير به مضيقاً على نفسه وعلى أهله ولا يوسع في الإنفاق توسيعاً لا حاجة إليه بحيث يكون به مسرفاً، فهو نهى عن جانبي الإفراط والتفريط. ويتحصل من ذلك مشروعية التوسط، وهو العدل الذي ندب الله إليه: ولا تك فيها مفرطاً أو مفرطاً كلا طرفي قصد الأمور ذميم وقد مثل الله سبحانه في هذه الآية حال الشحيح بحال من كانت يده مغلولة إلى عنقه بحيث لا يستطيع التصرف بها، ومثلحال من يجاوز الحد في التصرف بحال من يبسط يده بسطاً لا يتعلق بسببه فيها شيء مما تقبض الأيدي عليه، وفي هذا التصوير مبالغة بليغة، ثم بين سبحانه غائلة الطرفين المنهي عنهما فقال: "فتقعد ملوماً" عند الناس بسبب ما أنت عليه من الشح "محسوراً" بسبب ما فعلته من الإسراف: أي منقطعاً عن المقاصد بسبب الفقر، والمحسور في الأصل: المنقطع عن السير، من حسره السفر إذا بلغ منه، والبعير الحسير هو الذي ذهبت قوته فلا انبعاث به، ومنه قوله تعالى: "ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير" أي كليل منقطع، وقيل معناه نادماً على ما سلف، فجعله هذا القائل من الحسرة التي هي الندامة، وفيه نظر لأن الفاعل من الحسرة حسران، ولا يقال محسور إلا للملوم.
ثم سلى رسوله والمؤمنين بأن الذين يرهقهم من الإضافة ليس لهوانهم على الله سبحانه، ولكن لمشيئة الخالق الرازق فقال: 30- "إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر" أي يوسعه على بعض ويضيقه على بعض لحكمة بالغة لا لكون من وسع له رزقه مكرماً عنده، ومن ضيقه عليه هانئاً لديه. قيل ويجوز أن يراد أن البسط والقبض إنما هما من أمر الله الذي لا تفنى خزائنه، فأما عباده فعليهم أن يقتصدوا، ثم علل ما ذكره من البسط للبعض والتضييق على البعض بقوله: "إنه كان بعباده خبيراً بصيراً" أي يعلم ما يسرون وما يعلنون، لا يخفى عليه من ذلك خافية، فهو الخبير بأحوالهم البصير بكيفية تدبيرهم في أرزاقهم.
وفي هذه الآية دليل على أنه المتكفل بأرزاق عباده، فلذلك قال بعدها 31- "ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق" أملق الرجل لم يبق له إلا الملقات: وهي الحجارة العظام الملس. قال الهذلي يصف صائداً: أتيح لها أقيدر ذو خشيف إذا سامت على الملقات ساما الأقيدر تصغير الأقدر: وهو الرجل القصير، والخشيف من الثياب: الخلق، وسامت مرت، ويقال أملق إذا افتقر وسلب الدهر ما بيده. قال أوس: وأملق ما عندي خطوب تنبل نهاهم الله سبحانه عن أن يقتلوا أولادهم خشية الفقر، وقد كانوا يفعلون ذلك، ثم بين لهم أن خوفهم من الفقر حتى يبلغوا بسبب ذلك إلى قتل الأولاد لا وجه له، فإن الله سبحانه هو الرازق لعباده يرزق الأبناء كما يرزق الآباء فقال: "نحن نرزقهم وإياكم" ولستم لهم برازقين حتى تصنعوا بهم هذا الصنع، وقد مر مثل هذه الآية في الأنعام ثم علل سبحانه النهي عن قتل الأولاد لذلك بقوله: " إن قتلهم كان خطأ كبيرا " قرأ الجمهور بكسر الخاء وسكون الطاء وبالهمز المقصور. وقرأ ابن عامر "خطأً" بفتح الخاء والطاء والقصر في الهمز، يقال خطئ في دينه خطئاً: إذا أثم، وأخطأ: إذا سلك سبيل خطأ عامداً أو غير عامد. قال الأزهري، خطئ خطئاً مثل أثم يأثم إثماً: إذا تعمد الخطأ، وأخطأ: إذا لم يتعمد أخطاء وخطاء، قال الشاعر: دعيني إنما خطاء وصدا علي وإنما أهلكت مالي والخطأ الاسم يقوم مقام الاخطاء، وفيه لغتان القصر، وهو الجيد، والمد وهو قليل. وقرأ ابن كثير بكسر الخاء وفتح الطاء ومد الهمز. قال النحاس: ولا أعرف لهذه القراءة وجهاً، وكذلك جعلها أبو حاتم غلطاً. وقرأ الحسن خطاً بفتح الخاء والطاء منونة من غير همز.
ولما نهى سبحانه عن قتل الأولاد المستدعي لإفناء النسل ذكر النهي عن الزنا المفضي إلى ذلك لما فيه من اختلاط الأنساب فقال: 32- " ولا تقربوا الزنى " وفي النهي عن قربانه بمباشرة مقدماته نهي عنه بالأولى، فإن الوسيلة إلى الشيء إذا كانت حراماً كان المتوسل إليه حراماً بفحوى الخطاب، والزنا فيه لغتان: المد، والقصر. قال الشاعر: كانت فريضة ما تقول كما كان الزناء فريضة الرجم ثم علل النهي عن الزنا بقوله: "إنه كان فاحشة" أي قبيحاً متبالغاً في القبح مجاوزاً للحد "وساء سبيلاً" أي بئس طريقاً طريقه، وذلك لأنه يؤدي إلى النار، ولا خلاف في كونه من كبائر الذنوب. وقد ورد في تقبيحه والتنفير عنه من الأدلة ما هو معلوم.
ولما فرغ من ذكر النهي عن القتل لخصوص الأولاد وعن النهي عن الزنا الذي يفضي إلى ما يفضي إليه قتل الأولاد من اختلاط الأنساب وعدم استقرارها نهى عن قتل الأنفس المعصومة على العموم فقال: 33- "ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق" والمراد بالتي حرم الله التي جعلها معصومة بعصمة الدين أو عصمة العهد، والمراد بالحق الذي استثناه هو ما يباح به قتل الأنفس المعصومة في الأصل، وذلك كالردة والزنا من المحصن، وكالقصاص من القاتل عمداً عدواناً وما يلتحق بذلك والاستثناء مفرغ: أي لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب متلبس بالحق أو إلا متلبسين بالحق، وقد تقدم الكلام في هذا في الأنعام. ثم بين حكم بعض المقتولين بغير حق فقال: "ومن قتل مظلوماً" أي لا بسبب من الأسباب المسوغة لقتله شرعاً "فقد جعلنا لوليه سلطاناً" أي لمن يلي أمره من ورثته إن كانوا موجودين، أو ممن له سلطان إن لم يكونوا موجودين، والسلطان التسلط على القاتل إن شاء قتل وإن شاء عفا وإن شاء أخذ الدية، ثم لما بين إباحة القصاص لمن هو مستحق لدم المقتول، أو ما هو عوض عن القصاص نهاه عن مجاوزة الحد فقال: "فلا يسرف في القتل" أي لا يجاوز ما أباحه الله له فيقتل بالواحد إثنين أو جماعة، أو يمثل بالقتل أو يعذبه. قرأ الجمهور "لا يسرف" بالياء التحتية: أي الولي وقرأ حمزة والكسائي "تسرف" بالتاء الفوقية، وهو خطاب للقاتل الأول، ونهي له عن القتل: أي فلا تسرف أيها القاتل بالقتل فإن عليك القصاص مع ما عليك من عقوبة الله وسخطه ولعنته. وقال ابن جرير: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وللأئمة من بعده: أي لا تقتل يا محمد غير القاتل ولا يفعل ذلك الأئمة بعدك. وفي قراءة أبي ولا تسرفوا ثم علل النهي عن السرف فقال: "إنه كان منصوراً" أي مؤيداً معاناً: يعني الولي، فإن الله سبحانه قد نصره بإثبات القصاص له بما أبرزه من الحجج، وأوضحة من الأدلة، وأمر أهل الولايات بمعونته والقيام بحقه حتى يستوفيه، ويجوز أن يكون الضمير راجعاً إلى المقتول: أي إن الله نصره بوليه، قيل وهذه الآية من أول ما نزل من القرآن في شأن القتل لأنها مكية. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "إن تكونوا صالحين" قال: تكون البادرة من الولد إلى الوالد، فقال الله: إن تكونوا صالحين إن تكن النية صادقة "فإنه كان للأوابين غفوراً" للبادرة التي بدرت منه. وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب عنه في قوله: "فإنه كان للأوابين غفوراً" قال: الرجاعين إلى الخير. وأخرج سعيد بن منصور وهناد وابن أبي حاتم والبيهقي عن الضحاك في الآية قال: الرجاعين من الذنب إلى التوبة، ومن السيئات إلى الحسنات. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "للأوابين" قال: للمطيعين المحسنين. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عنه قال: للتوابين. وأخرج البخاري في تاريخه وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "وآت ذا القربى حقه" قال: أمره بأحق الحقوق، وعلمه كيف يصنع إذا كان عنده، وكيف يصنع إذا لم يكن عنده فقال: "وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها" قال: إذا سألوك وليس عندك شيء انتظرت رزقاً من الله "فقل لهم قولاً ميسوراً" يكون إن شاء الله يكون شبه العدة. قال سفيان: والعدة من النبي صلى الله عليه وسلم دين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال: هو أن تصل ذا القرابة وتطعم المسكين وتحسن إلى ابن السبيل. وأخرج ابن جرير عن علي بن الحسين أنه قال لرجل من أهل الشام: أقرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: فما قرأت في بني إسرائيل "وآت ذا القربى حقه" قال: وإنكم للقرابة التي أمر الله أن يؤتى حقهم؟ قال نعم. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في الآية. قال: والقربى قربى بني عبد المطلب. وأقول: ليس في السياق ما يفيد هذا التخصيص، ولا دل على ذلك دليل، ومعنى النظم القرآني واضح إن كان الخطاب مع كل من يصلح له من الأمة، لأن معناه أمر كل مكلف متمكن من صلة قرابته بأن يعطيهم حقهم وهو الصلة التي أمر الله بها. وإن كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان على وجه التعريض لأمته فالأمر فيه كالأول. وإن كان خطاباً له من دون تعريض، فأمته أسوته، فالأمر له صلى الله عليه وسلم بإيتاء ذي القربى حقه أمر لكل فرد من أفراد أمته. والظاهر أن هذا الخطاب ليس خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم بدليل ما قبل هذه الآية، وهي قوله: " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " وما بعدها، وهي قوله: " ولا تبذر تبذيرا * إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ". وفي معنى هذه الآية الدالة على وجوب صلة الرحم أحاديث كثيرة. وأخرج أحمد والحاكم وصححه عن أنس "أن رجلاً قال: يا رسول الله إني ذو مال كثير وذو أهل وولد وحاضرة فأخبرني كيف أنفق وكيف أصنع؟ قال: تخرج الزكاة المفروضة، فإنها طهرة تطهرك وتصل أقاربك وتعرف حق السائل والجار والمسكين، فقال: يا رسول الله أقلل لي؟ قال: فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيراً. قال: حسبي يا رسول الله". وأخرج البزار وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت هذه الآية "وآت ذا القربى حقه" دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فأعطاها فدك. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت "وآت ذا القربى حقه" أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فدك. قال ابن كثير بعد أن ساق حديث أبي سعيد هذا ما لفظه: وهذا الحديث مشكل لو صح إسناده، لأن الآية مكية، وفدك إنما فتحت مع خيبر سنة سبع من الهجرة، فكيف يلتئم هذا مع هذا انتهى. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبخاري في الأدب وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود في قوله: "ولا تبذر تبذيراً" قال: التبذير إنفاق المال في غير حقه. وأخرج ابن جرير عنه قال: كنا أصحاب محمد نتحدث أن التبذير النفقة في غير حقه. وأخرج سعيد بن منصور والبخاري في الأدب وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله: "إن المبذرين" قال: هم الذين ينفقون المال في غير حقه. وأخرج البيهقي في الشعب عن علي قال: ما أنفقت على نفسك وأهل بيتك في غير سرف ولا تبذير وما تصدقت فلك. وما أنفقت رياءً وسمعة فذلك حظ الشيطان. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "فقل لهم قولاً ميسوراً" قال: العدة. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن سيار أبي الحكم قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بر من العراق، وكان معطاءً كريماً فقسمه بين الناس، فبلغ ذلك قوماً من العرب، فقالوا: إنا نأتي النبي صلى الله عليه وسلم نسأله، فوجدوه قد فرغ منه، فأنزل الله "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك" قال محبوسة "ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً" يلومك الناس "محسوراً" ليس بيدك شيء. أقول: ولا أدري كيف هذا؟ فالآية مكية، ولم يكن إذ ذاك عرب يقصدون رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحمل إليه شيء من العراق ولا مما هو أقرب منه، على أن فتح العراق لم يكن إلا بعد موته صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير عن المنهال بن عمرو "بعثت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بابنها فقالت: قل له اكسني ثوباً. فقال: ما عندي شيء، فقالت: ارجع إليه فقل له اكسني قميصك، فرجع إليه فنزع قميصه فأعطاها إياه، فنزلت "ولا تجعل يدك مغلولة" الآية". وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود نحوه. وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة وضرب بيده: أنفقي ما على ظهر كفي، قالت: إذن لا يبقى شيء. قال ذلك ثلاث مرات، فأنزل الله "ولا تجعل يدك مغلولة" الآية". ويقدح في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بعائشة إلا بعد الهجرة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولا تجعل يدك مغلولة" قال: يعني بذلك البخل. وأخرجا عنه في الآية قال: هذا في النفقة يقول: لا تجعلها مغلولة لا تبسطها بخير، ولا تبسطها كل البسط، يعني التبذير "فتقعد ملوماً"، يلوم نفسه على ما فاته من ماله "محسوراً" ذهب ماله كله. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: "إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر" قال: ينظر له، فإن كان الغنى خيراً له أغناه، وإن كان الفقر خيراً له أفقره. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "خشية إملاق" قال: مخافة الفقر والفاقة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه في قوله: "خطأ" قال: خطيئة. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: " ولا تقربوا الزنى " قال: يوم نزلت هذه الآية لم يكن حدود، فجاءت بعد ذلك الحدود في سورة النور. وأخرج أبو يعلى وابن مردويه عن أبي بن كعب أنه قرأ " ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا " إلا من تاب فإن الله كان غفوراً رحيماً فذكر لعمر فأتاه فسأله، فقال: أخذتها من في رسول الله وليس لك عمل إلا الصفق بالبقيع. وقد ورد في الترهيب عن فاحشة الزنا أحاديث كثيرة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن الضحاك في قوله: "ولا تقتلوا النفس" الآية قال: هذا بمكة ونبي الله صلى الله عليه وسلم بها، وهو أول شيء نزل من القرآن في شأن القتل، كان المشركون من أهل مكة يغتالون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الله: من قتلكم من المشركين، فلا يحملنكم قتله إياكم على أن تقتلوا له أباً أو أخاً أو واحداً من عشيرته وإن كانوا مشركين، فلا تقتلوا إلا قاتلكم، وهذا قبل أن تنزل براءة، وقيل أن يؤمر بقتال المشركين فذلك قوله: "فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً" يقول لا تقتل غير قاتلك، وهي اليوم على ذلك الموضع من المسلمين لا يحل لهم أن يقتلوا إلا قاتلهم. وأخرج البيهقي في سننه عن زيد بن أسلم أن الناس في الجاهلية كانوا إذا قتل الرجل من القوم رجلاً لم يرضوا حتى يقتلوا به رجلاً شريفاً إذا كان قاتلهم غير شريف لم يقتلوا قاتلهم وقتلوا غيره، فوعظوا في ذلك بقول الله سبحانه: "ولا تقتلوا النفس" إلى قوله: "فلا يسرف في القتل". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: "ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً" قال: بينة من الله أنزلها يطلبها ولي المقتول القود أو العقل، وذلك السلطان. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق مجاهد عنه "فلا يسرف في القتل" قال: لا يكثر في القتل. وأخرج ابن المنذر من طريق أبي صالح عنه أيضاً: لا يقاتل إلا قاتل رحمه.
لما ذكر سبحانه النهي عن إتلاف النفوس أتبعه بالنهي عن إتلاف الأموال، وكان أهمها بالحفظ والرعاية مال اليتيم فقال: 34- "ولا تقربوا مال اليتيم" والنهي عن قربانه مبالغة في النهي عن المباشرة له وإتلافه، ثم بين سبحانه أن النهي عن قربانه، ليس المراد منه النهي عن مباشرته فيما يصلحه ويفسده بل يجوز لولي اليتيم أن يفعل في مال اليتيم ما يصلحه، وذلك يستلزم مباشرته، فقال: "إلا بالتي هي أحسن" أي إلا بالخصلة التي هي أحسن الخصال، وهي حفظه وطلب الربح فيه والسعي فيما يزيد به. ثم ذكر الغاية التي للنهي عن قربان مال اليتيم فقال: "حتى يبلغ أشده" أي لا تقربوه إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ اليتيم أشده. فإذا بلغ أشده كان لكم أن تدفعوه إليه، أو تتصرفوا فيه بإذنه، وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى في الأنعام "وأوفوا بالعهد" قد مضى الكلام فيه في غير موضع. قال الزجاج: كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد، فيدخل في ذلك ما بين العبد وربه، وما بين العباد بعضهم البعض. والوفاء بالعهد هو القيام بحفظه على الوجه الشرعي والقانون المرضي، إلا إذا دل ديل خاص على جواز النقض "إن العهد كان مسؤولاً" أي مسؤولاً عنه، فالمسؤول هنا هو صاحبه، وقيل إن العهد يسأل تبكيتاً لناقضه.
35- "وأوفوا الكيل إذا كلتم" أي أتموا الكيل ولا تخسروه وقت كيلكم للناس "وزنوا بالقسطاس المستقيم" قال الزجاج: هو ميزان العدل: أي ميزان كان من موازين الدراهم وغيرها، وفيه لغتان: ضم القاف، وكسرها- وقيل هو القبان المسمى بالقرسطون، وقيل هو العدل نفسه، وهي لغة الروم، وقيل لغة سريانية. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر "القسطاس" بضم القاف. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بكسر القاف، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى إيفاء الكيل والوزن، وهو مبتدأ وخبره "خير" أي خير لكم عند الله وعند الناس يتأثر عنه حسن الذكر وترغيب الناس في معاملة من كان كذلك "وأحسن تأويلاً" أي أحسن عاقبة، من آل إذا رجع.
ثم أمر سبحانه بإصلاح اللسان والقلب فقال: 36- "ولا تقف ما ليس لك به علم" أي لا تتبع ما لا تعلم، من قولك قفوت فلاناً إذا اتبعت أثره، ومنه قافية الشعر لأنها تقفو كل بيت، ومنه القبيلة المشهورة بالقافة لأنهم يتبعون آثار أقدام الناس. وحكى ابن جرير عن فرقة أنها قالت: قف وقاف مثل عثا وعاث. قال منذر بن سعيد البوطي: قفا وقاف، مثل جذب وجبذ. وحكى الكسائي عن بعض القراء أنه قرأ "تقف" بضم القاف وسكون الفاء. وقرأ الفراء بفتح القاف وهي لغة لبعض العرب، وأنكرها أبو حاتم وغيره. ومعنى الآية: النهي عن أن يقول الإنسان ما لا يعلم أو يعمل بما لا علم له به، وهذه قضية كلية، وقد جعلها جماعة من المفسرين خاصة بأمور: فقيل لا تذم أحداً بما ليس لك به علم، وقيل هي في شهادة الزور، وقيل هي في القذف. وقال القتيبي: معنى الآية: لا تتبع الحدس والظنون، وهذا صواب، فإن ما عدا ذلك هو العلم، وقيل المراد بالعلم هنا هو الاعتقاد الراجح المستفاد من مستند قطعياً كان أو ظنياً. قال أبو السعود في تفسيره: واستعماله بهذا المعنى مما لا ينكر شيوعه. وأقول: إن هذه الآية قد دلت على عدم جواز العمل بما ليس بعلم، ولكنها عامة مخصصة بالأدلة الواردة بجواز العمل بالظن كالعمل بالعام وبخبر الواحد والعمل بالشهادة والاجتهاد في القبلة وفي جزاء الصيد ونحو ذلك، فلا تخرج من عمومها ومن عموم "إن الظن لا يغني من الحق شيئاً" إلا ما قام دليل جواز العمل به، فالعمل بالرأي في مسائل الشرع إن كان لعدم وجود الدليل في الكتاب والسنة، فقد رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم كما في قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه قاضياً "بم تقضي؟ قال بكتاب الله، قال: فإن لم تجد، قال: فبسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد، قال: أجتهد رأيي"، وهو حديث صالح للاحتجاج به كما أوضحنا ذلك في بحث مفرد. وأما التوثب على الرأي مع وجود الدليل في الكتاب أو السنة، ولكنه قصر صاحب الرأي عن البحث فجاء برأيه فهو داخل تحت هذا النهي دخولاً أولياً، لأنه محض رأي في شرع الله، وبالناس عنه غنى بكتاب الله سبحانه وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم تدع إليه حاجة، على أن الترخيص في الرأي عند عدم وجود الدليل إنما هو رخصةة للمجتهد يجوز له أن يعمل به، ولم يدل دليل على أنه يجوز لغيره العمل به وينزله منزلة مسائل الشرع، وبهذا يتضح لك أتم اتضاح ويظهر لك أكمل ظهور أن هذه الآراء المدونة في الكتب الفروعية ليست من الشرع في شيء، والعامل بها على شفا جرف هار، فالمجتهد المستكثر من الرأي قد قفا ما ليس له به علم، والمقلد المسكين العامل برأي ذلك المجتهد قد عمل بما ليس له به علم ولا لمن قلده "ظلمات بعضها فوق بعض" وقد قيل إن هذه الآية خاصة بالعقائد ولا دليل على ذلك أصلاً. ثم علل سبحانه النهي عن العمل بما ليس يعلم بقوله: "إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً" إشارة إلى الأعضاء الثلاثة، وأجريت مجرى العقلاء لما كانت مسؤولة عن أحوالها شاهدة على أصحابها. وقال الزجاج: إن العرب تعبر عما يعقل وعما لا يعقل بأولئك، وأنشد ابن جرير مستدلاً على جواز هذا قول الشاعر: ذم المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأيام واعترض بأن الرواية بعد أولئك الأقوام، وتبعه غيره على هذا الخطأ كصاحب الكشاف. والضمير في كان من قوله: "كان عنه مسؤولاً" يرجع إلى كل، وكذا الضمير في عنه، وقيل الضمير في كان يعود إلى القافي المدلول عليه بقوله: "ولا تقف". وقوله "عنه" في محل رفع لإسناد مسؤولاً إليه، ورد بما حكاه النحاس من الإجماع على عدم جواز تقديم القائم مقام الفاعل إذا كان جاراً أو مجروراً. قيل والأولى أن يقال إنه فاعل مسؤولاً المحذوف، والمذكور مفسر له. ومعنى سؤال هذه الجوارح أنه يسأل صاحبها عما استعملها فيه لأنها آلات، والمستعمل بها هو الروح الإنساني، فإن استعملها في الخير استحق الثواب، وإن استعملها في الشر استحق العقاب. وقيل إن الله سبحانه ينطق الأعضاء هذه عند سؤالها فتخبر عما فعله صاحبها.
37- "ولا تمش في الأرض مرحاً" المرح: قيل هو شدة الفرح. وقيل التكبر في المشي، وقيل تجاوز الإنسان قدره، وقيل الخيلاء في المشي، وقيل البطر والأشر وقيل النشاط. والظاهر أن المراد به هنا الخيلاء والفخر، قال الزجاج في تفسير الآية: لا تمش في الأرض مختالاً فخوراً، وذكر الأرض مع أن المشي لا يكون إلا عليها أو على ما هو معتمد عليها تأكيداً وتقريراً، ولقد أحسن من قال: ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعاً فكم تحتها قوم هم منك أرفع وإن كنت في عز وحرز ومنعة فكم مات من قوم هم منك أمنع والمرح مصدر وقع حالاً: أي ذا مرح، وفي وضع المصدر موضع الصفة نوع تأكيد. وقرأ الجمهور "مرحاً" بفتح الراء على المصدر. وحكى يعقوب عن جماعة كسرها على أنه اسم فاعل، ثم علل سبحانه هذا النهي فقال: "إنك لن تخرق الأرض" يقال خرق الثوب: أي شقه، وخرق الأرض قطعها، والخرق الواسع من الأرض، والمعنى: أنك لن تخرق الأرض بمشيك عليها تكبراً، وفيه تهكم بالمختال المتكبر "ولن تبلغ الجبال طولاً" أي ولن تبلغ قدرتك إلى أن تطاول الجبال حتى يكون عظم جثتك حاملاً لك على الكبر والاختيال، فلا قوة لك حتى تخرق الأرض بالمشي عليها، ولا عظم في بدنك حتى تطاول الجبال، فما الحامل لك على ما أنت فيه؟ و "طولاً" مصدر في موضع الحال أو تمييز أو مفعول له. وقيل المراد بخرق الأرض نقبها لا قطعها بالمسافة. وقال الأزهري: خرقها قطعها. قال النحاس: وهذا أبين كأنه مأخوذ من الخرق، وهو الفتحة الواسعة، ويقال فلان أخرق من فلان: أي أكثر سفراً.
والإشارة بقوله: 38- "كل ذلك" إلى جميع ما تقدم ذكره من الأوامر والنواهي، أو إلى ما نهى عنه فقط من قوله: "ولا تقف" "ولا تمش" قرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي ومسروق "سيئه" على إضافة سيء إلى الضمير ويؤيد هذه القراءة قوله: "مكروهاً" فإن السيء هو المكروه، ويؤيدها أيضاً قراءة أبي: كان سيئاته، واختار هذه القراءة أبو عبيد. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو "سيئةً" على أنها واحدة السيئات، وانتصابها على خبرية كان، ويكون مكروهاً صفة لسيئة على المعنى، فإنها بمعنى سيئاً، أو هو بدل من سيئة، وقيل هو خبر ثان لكان حملاً على لفظ كل ورجح أبو علي الفارسي البدل، وقد قيل في توجيهه بغير هذا مما فيه تعسف لا يخفى. قال الزجاج: والإضافة أحسن، لأن ما تقدم من الآيات فيه سيء وحسن، فسيئه المكروه ويقوي ذلك التذكير في المكروه، قال: ومن قرأ بالتنوين جعل "كل ذلك" إحاطة بالمنهي عنه دون الحسن، المعنى: كل ما نهى الله عنه كان سيئة وكان مكروهاً، قال: والمكروه على هذه القراءة بدل من السيئة وليس بنعت، والمراد بالمكروه عند الله هو الذي يبغضه ولا يرضاه، لا أنه غير مراد مطلقاً، لقيام الأدلة القاطعة على أن الأشياء واقعة بإرادته سبحانه، وذكر مطلق الكراهة مع أن في الأشياء المتقدمة ما هو من الكبائر إشعاراً بأن مجرد الكراهة عنده تعالى يوجب انزجار السامع واجتنابه لذلك. والحاصل أن في الخصال المتقدمة ما هو حسن وهو المأمور به، وما هو مكروه وهو المنهي عنه، فعلى قراءة الإضافة تكون الإشارة إلى المنهيات، ثم الإخبار عن هذه المنهيات بأنها سيئة مكروهة عند ذلك.