تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 321 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 321

321- تفسير الصفحة رقم321 من المصحف
"قال كذلك أتتك آياتنا" أي قال الله تعالى له "كذلك أتتك آياتنا" أي دلالاتنا على وحدانيتنا وقدرتنا. "فنسيتها" أي تركتها ولم تنظر فيها، وأعرضت عنها. "وكذلك اليوم تنسى" أي تترك في العذاب؛ يريد جهنم. "وكذلك نجزي من أسرف" أي وكما جزينا من أعرض عن القرآن، وعن النظر في المصنوعات، والتفكير فيها، وجاوز الحد في المعصية. "ولم يؤمن بآيات ربه" أي لم يصدق بها. "ولعذاب الآخرة أشد" أي أفظع من المعيشة الضنك، وعذاب القبر. "وأبقى" أي أدوم وأثبت؛ لأنه لا ينقطع ولا ينقضي.
الآيات: 128 - 130 {أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى، ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى، فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى}
قوله تعالى: "أفلم يهد لهم" يريد أهل مكة؛ أي أفلم يتبين لهم خبر من أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إذا سافروا وخرجوا في التجارة طلب المعيشة، فيرون بلاد الأمم الماضية، والقرون الخالية خاويه؛ أي أفلا يخافون أن يحل بهم مثل ما حل بالكفار قبلهم. وقرأ ابن عباس والسلمي وغيرهما "نهد لهم" بالنون وهي أبين. و"يهد" بالياء مشكل لأجل الفاعل؛ فقال الكوفيون "كم" الفاعل؛ النحاس: وهذا خطأ لأن "كم" استفهام فلا يعمل فيها ما قبلها. وقال الزجاج المعنى أو لم يهد لهم الأم بإهلاكنا من أهلكنا. وحقيقة "يهد" على الهدى؛ فالفاعل هو الهدى تقديره أفلم يهد الهدى لهم. قال الزجاج: "كم" في موضع نصب "أهلكنا".
قوله تعالى: "ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما" فيه تقديم وتأخير؛ أي ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما؛ قاله قتادة. واللزام الملازمة؛ أي لكان العذاب لازما لهم. وأضمر اسم كان. "وأجل مسمى" قال الزجاج: عطف على "كلمة". قتادة: والمراد القيامة؛ وقاله القتبي. وقيل تأخيرهم إلى يوم بدر.
قوله تعالى: "فاصبر على ما يقولون" أمره تعالى بالصبر على أقوالهم: إنه ساحر؛ إنه كاهن؛ إنه كذاب؛ إلى غير ذلك. والمعنى لا تحفل بهم؛ فان لعذابهم وقتا مضروبا لا يتقدم ولا يتأخر. ثم قيل: هذا منسوخ بآية القتال. وقيل: ليس منسوخا؛ إذ لم يستأصل الكفار بعد آية القتال بل بقي المعظم منهم. "وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس" قال أكثر المتأولين: هذا إشارة إلى الصلوات الخمس "قبل طلوع الشمس" صلاة الصبح "وقبل غروبها" صلاة العصر "ومن آناء الليل فسبح" العتمة "وأطراف النهار" المغرب والظهر؛ لأن الظهر في آخر طرف النهار الأول، وأول طرف النهار الآخر؛ فهي في طرفين منه؛ والطرف الثالث غروب الشمس وهو وقت المغرب. وقيل: النهار ينقسم قسمين فصلهما الزوال، ولكل قسم طرفان؛ فعند الزوال طرفان؛ الآخر من القسم الأول والأول من القسم الآخر؛ فقال عن الطرفين أطرافا على نحو "فقد صغت قلوبكما" [التحريم: 4] وأشار إلى هذا النظر ابن فورك في المشكل. وقيل: النهار للجنس فلكل يوم طرف، وهو إلى جمع لأنه يعود في كل نهار. و"آناء الليل" ساعاته وواحد الآناء إني وإنى وأنى. وقالت فرقة: المراد بالآية صلاة التطوع؛ قاله الحسن. "لعلك ترضى" بفتح التاء؛ أي لعلك تثاب على هذه الأعمال بما ترضى به. وقرأ الكسائي وأبو بكر عن عاصم "تُرضى" بضم التاء؛ أي لعلك تعطى ما يرضيك.
الآيتان: 131 - 132 {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى، وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى}
قوله تعالى: "ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به" وقد تقدم. "أزواجا" مفعول بـ "متعنا". و"زهرة" نصب على الحال. وقال الزجاج: "زهرة" منصوبة بمعنى "متعنا" لأن معناه جعلنا لهم الحياة الدنيا زهرة؛ أو بفعل مضمر وهو "جعلنا" أي جعلنا لهم زهرة الحياة الدنيا؛ عن الزجاج أيضا. وقيل: هي بدل من الهاء في "به" على الموضع كما تقول: مررت به أخاك. وأشار الفراء إلى نصبه على الحال؛ والعامل فيه "متعنا" قال: كما تقول مررت به المسكين؛ وقدره: متعناهم به زهرة الحياة في الدنيا وزينة فيها. ويجوز أن على المصدر مثل "صنع الله" و"وعد الله" وفيه نظر. والأحسن أن ينتصب على الحال ويحذف التنوين لسكونه وسكون اللام من الحياة؛ كما قرئ "ولا الليل سابق النهار" بنصب النهار بسابق على تقدير حذف التنوين لسكونه وسكون اللام، وتكون "الحياة" مخفوضة على البدل من "ما" في قوله: "إلى ما متعنا به" فيكون التقدير: ولا تمدن عينيك إلى الحياة الدنيا زهرة أي في حال زهرتها. ولا يحسن أن يكون "زهرة" بدلا من "ما" على الموضع في قوله: "إلى ما متعنا" لأن "لنفتنهم" متعلق و"متعنا" و"زهرة الحياة الدنيا" يعني زينتها بالنبات. والزهرة، بالفتح في الزاي والهاء نور النبات. والزهرة بضم الزاي وفتح الهاء النجم. وبنو زهرة بسكون الهاء؛ قاله ابن عزيز. وقرأ عيسى بن عمر "زهرة" بفتح الهاء مثل نهر ونهر. ويقال: سراج زاهر أي له بريق. وزهر الأشجار ما يروق من ألوانها. وفي الحديث: كان النبي صلى الله عليه وسلم أزهر اللون أي نير اللون؛ يقال لكل شيء مستنيرك زاهر، وهو أحسن الألوان. "لنفتنهم فيه" أي لنبتليهم. وقيل: لنجعل ذلك فتنة لهم وضلالا، ومعنى الآية: لا تجعل يا محمد لزهرة الدنيا وزنا، فإنه لا بقاء لها. "ولا تمدن" أبلغ من لا تنظرن، لأن الذي يمد بصره، إنما يحمله على ذلك حرص مقترن، والذي ينظر قد لا يكون ذلك معه.
مسألة: قال بعض الناس سبب نزول هذه الآية ما رواه أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال نزل ضيف برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلني عليه السلام إلى رجل من اليهود، وقال قل له يقول لك محمد: نزل بنا ضيف ولم يلق عندنا بعض الذي يصلحه؛ فبعني كذا وكذا من الدقيق، أو أسلفني إلى هلال رجب فقال: لا، إلا برهن. قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: "والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض ولو أسلفني أو باعني لأديت إليه اذهب بدرعي إليه" ونزلت الآية تعزية له عن الدنيا. قال ابن عطية وهذا معترض أن يكون سببا؛ لأن السورة مكية والقصة المذكورة مدنية في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مات ودرعه مرهونة عند يهودي بهذه القصة التي ذكرت؛ وإنما الظاهر أن الآية متناسقة مع ما قبلها، وذلك أن الله تعالى وبخهم على ترك الاعتبار بالأمم السالفة ثم توعدهم بالعذاب المؤجل، ثم أمر نبيه بالاحتقار لشأنهم، والصبر على أقوالهم، والإعراض عن أموالهم وما في أيديهم من الدنيا؛ إذ ذلك منصرم عنهم صائر إلى خزي.
قلت: وكذلك ما روي عنه عليه السلام أنه مر بابل بني المصطلق وقد عبست في أبوالها [وأبعارها] من السمن فتقنع بثوبه ثم مضى، لقوله عز وجل: "ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم" الآية. ثم سلاه فقال: "ورزق ربك خير وأبقى" أي ثواب الله على الصبر وقلة المبالاة بالدنيا أولى؛ لأنه يبقى والدنيا تفنى. وقيل: يعني بهذا الرزق ما يفتح الله على المؤمنين من البلاد والغنائم.
قوله تعالى: "وأمر أهلك بالصلاة" أمره تعالى بأن يأمر أهله بالصلاة ويمتثلها معهم، ويصطبر عليها ويلازمها. وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ويدخل في عمومه جميع أمته؛ وأهل بيته على التخصيص. وكان عليه السلام بعد نزول هذه الآية يذهب كل صباح إلى بيت فاطمة وعلي رضوان الله عليهما فيقول "الصلاة". ويروى أن عروة بن الزبير رضي الله عنه كان إذا رأى شيئا من أخبار السلاطين وأحوالهم بادر إلى منزل فدخله، وهو يقرأ "ولا تمدن عينك" الآية إلى قوله: "وأبقى" ثم ينادي بالصلاة الصلاة يرحمكم الله؛ ويصلي. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوقظ أهل داره لصلاة الليل ويصلي وهو يتمثل بالآية.
قوله تعالى: "لا نسألك رزقا" أي لا نسألك أن ترزق نفسك وإياهم، وتشتغل عن الصلاة بسبب الرزق، بل نحن نتكفل برزقك وإياهم، فكان عليه السلام إذا نزل بأهله ضيق أمرهم بالصلاة. وقد قال الله تعالى "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون. ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون. إن الله هو الرزاق" [الذاريات 56]. "والعاقبة للتقوى" أي الجنة لأهل التقوى؛ يعني العاقبة المحمودة. وقد تكون لغير التقوى عاقبة ولكنها مذمومة فهي كالمعدومة.
الآيات: 133 - 135 {وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى، ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى، قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى}
قوله تعالى: "وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه" يريد كفار مكة؛ أي لولا يأتينا محمد بآية توجب العلم الضروري. أو بآية ظاهرة كالناقة والعصا. أو هلا يأتينا بالآيات التي نقترحها نحن كما أتى الأنبياء من قبله. "أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى" يريد التوراة والإنجيل والكتب المتقدمة، وذلك أعظم آية إذ أخبر بما فيها. وقرئ "الصحف" بالتخفيف. وقيل أو لم تأتيهم الآية الدالة على نبوته بما وجدوه في الكتب المتقدمة من البشارة. وقل: أو لم يأتهم إهلاكنا الأمم الذين كفروا واقترحوا الآيات، فما يؤمنهم إن أتتهم الآيات أن يكون حالهم حال أولئك وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وأبو عمرو ويعقوب وابن أبي إسحاق وحفص "أو لم تأتيهم" بالتاء لتأنيث البينة. الباقون بالياء لتقدم الفعل ولأن البينة هي البيان والبرهان فردوه إلى المعنى، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. وحكى الكسائي "أو لم تأتيهم بينة ما في الصحف الأولى" قال: ويجوز على هذا "بينة ما في الصحف الأولى". قال النحاس إذا نونت "بينة" ورفعت جعلت "ما" بدلا منها وإذا نصبتها فعلى الحال؛ والمعنى أو لم يأتهم ما في الصحف الأولى مبينا.
قوله تعالى: "ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله" أي من قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن "لقالوا" أي يوم القيامة "ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا" أي هلا أرسلت إلينا رسولا "فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى" وقرئ "نذل ونخزى" على ما لم يسم فاعله. وروى أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهالك في الفترة والمعتوه والمولود قال: (يقول الهالك في الفترة لم يأتني كتاب ولا رسول ثم تلا "ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا" الآية ويقول المعتوه رب لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرا ولا شرا ويقول المولود رب لم أدرك العمل فترفع لهم نار فيقول لهم ردوها وادخلوها قال فيردها أو يدخلها من كان علم الله سعيدا لو أدرك العمل ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل فيقول الله تبارك وتعالى إياك عصيتم فكيف رسلي لو أتتكم). ويروى موقوفا عن أبي سعيد قوله فيه نظر وقد بيناه في كتاب "التذكرة" وبه احتج من قال: إن الأطفال وغيرهم يمتحنون في الآخرة. "فنتبع" نصب بجواب التخصيص. "آياتك" يريد ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم "من قبل أن نذل" أي في العذاب "ونخزي" في جهنم؛ قاله ابن عباس. وقيل: "من قبل أن نذل" في الدنيا بالعذاب "ونخزى" في الآخرة بعذابها.
قوله تعالى: "قل كل متربص" أي قل لهم يا محمد كل متربص؛ أي كل المؤمنين الكافرين منتظرين دوائر الزمان ولمن يكون النصر. "فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى" يريد الدين المستقيم والهدى والمعنى فستعلمون بالنصر من اهتدى إلى دين الحق. وقيل: فستعلمون يوم القيامة من اهتدى إلى طريق الجنة. وفي هذا ضرب من الوعيد والتخويف والتهديد ختم به السورة. وقرئ "فسوف تعلمون". قال أبو رافع: حفظته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ذكره الزمخشري. و"من" في موضع رفع عند الزجاج. وقال الفراء يجوز أن يكون في موضع نصب مثل "والله يعلم المفسد من المصلح". قال أبو إسحاق: هذا خطأ، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، و"من" ها هنا استفهام في موضع رفع بالابتداء؛ والمعنى: فستعلمون أصحاب الصراط السوي نحن أم أنتم؟. قال النحاس والفراء يذهب إلى أن معنى "من أصحاب الصراط السوي" من لم يضل وإلى أن معنى "ومن اهتدى" من ضل ثم اهتدى. وقرأ يحيى بن يعمر وعاصم الجحدري "فسيعلمون من أصحاب الصراط السوي" بتشديد الواو بعدها ألف التأنيث على فعلى بغير همزة؛ وتأنيث الصراط شاذ قليل، قال الله وتعالى: "اهدنا الصراط المستقيم" [الفاتحة: 6] فجاء مذكرا في هذا وفي غيره، وقد رد هذا أبو حاتم قال: إن كان من السوء وجب أن يقال السوءى وإن كان من السواء وجب أن يقال: السيا بكسر السين والأصل السويا. قال الزمخشري: وقرئ "السواء" بمعنى الوسط والعدل؛ أو المستوي. النحاس وجواز قراءة يحيى بن يعمر والجحدري أن يكون الأصل "السوءى" والساكن ليس بحاجز حصين، فكأنه قلب الهمزة ضمة فأبدل منها واوا كما يبدل منها ألف إذا انفتح ما قبلها. تمت والحمد لله وحده.