تفسير الطبري تفسير الصفحة 321 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 321
322
320
 الآية : 124 - 126
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَىَ * قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِيَ أَعْمَىَ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَىَ }.
يقول تعالـى ذكره: وَمَنْ أعْرَضَ عَنْ ذِكْري الذي أذكره به فتولـى عنه ولـم يقبله ولـم يستـجب له, ولـم يتعظ به فـينزجر عما هو علـيه مقـيـم من خلافه أمر ربه فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا يقول: فإن له معيشة ضيقة. والضنك من الـمنازل والأماكن والـمعايش: الشديد يقال: هذا منزل ضنك: إذا كان ضيقا, وعيش ضنك: الذكر والأنثى والواحد والاثنان والـجمع بلفظ واحد ومنه قول عنترة:
وإنْ نَزَلُوا بضَنْكٍ أنْزلِ
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18414ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا يقول: الشقاء.
18415ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن قال: حدثنا ورقاء جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: ضَنْكا قال: ضيقة.
18416ـ حدثنا الـحسن, قال: حدثنا عبد الرزاق, عن معمر, عن قَتادة, فـي قوله: فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا قال: الضنك: الضيق.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن مـحمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبـي بزّة, عن مـجاهد, فـي قوله: فإنّ لَهُ مَعَيشَةً ضَنْكا يقول: ضيقة.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
واختلف أهل التأويـل فـي الـموضع الذي جعل الله لهؤلاء الـمعرضين عن ذكره العيشة الضنك, والـحال التـي جعلهم فـيها, فقال بعضهم: جعل ذلك لهم فـي الاَخرة فـي جهنـم, وذلك أنهم جعل طعامهم فـيها الضريع والزقوم. ذكر من قال ذلك:
18417ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو بن علـيّ بن مقدم, قال: حدثنا يحيى بن سعيد, عن عوفُ, عن الـحسن, فـي قوله: فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا قال: فـي جهنـم.
18418ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَمَنْ أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا فقرأ حتـى بلغ: ولَـمْ يُؤْمِنْ بآياتِ رَبّهِ قال: هؤلاء أهل الكفر. قال: ومعيشة ضنكا فـي النار شوك من نار وزقوم وغسلـين, والضريع: شوك من نار, ولـيس فـي القبر ولا فـي الدنـيا معيشة, ما الـمعيشة والـحياة إلا فـي الاَخرة, وقرأ قول الله عزّ وجلّ: يا لَـيْتَنِـي قَدّمْتُ لِـحَياتِـي قال: لـمعيشتـي قال: والغسلـين والزقوم: شيء لا يعرفه أهل الدنـيا.
18419ـ حدثنا الـحسن, قال: حدثنا عبد الرزاق, عن معمر, عن قتادة فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا قال: فـي النار.
وقال آخرون: بل عنى بذلك: فإن له معيشة فـي الدنـيا حراما. قال: ووصف الله جلّ وعزّ معيشتهم بـالضنك, لأن الـحرام وإن اتسع فهو ضنك. ذكر من قال ذلك:
18420ـ حدثنا مـحمد بن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا الـحسين بن واقد, عن يزيد, عن عكرِمة فـي قوله: مَعِيشَةً ضَنْكا قال: هي الـمعيشة التـي أوسع الله علـيه من الـحرام.
18421ـ حدثنـي داود بن سلـيـمان بن يزيد الـمكتب من أهل البصرة, قال: حدثنا عمرو بن جرير البجلـي, عن إسماعيـل بن أبـي خالد, عن قـيس بن أبـي حازم فـي قول الله: مَعِيشَةً ضَنْكا قال: رزقا فـي معصيته.
18422ـ حدثنـي عبد الأعلـى بن واصل, قال: حدثنا يعلـى بن عبـيد, قال: حدثنا أبو بسطام, عن الضحاك فإنّ لَهُ مَعيشَةً ضَنْكا قال: الكسب الـخبـيث.
حدثنـي مـحمد بن إسماعيـل الصراري, قال: حدثنا مـحمد بن سوار, قال: حدثنا أبو الـيقظان عمار بن مـحمد, عن هارون بن مـحمد التـيـمي, عن الضحاك, فـي قوله: فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا قال: العمل الـخبـيث, والرزق السيىء.
وقال آخرون مـمن قال عنى أن لهؤلاء القوم الـمعيشة الضنك فـي الدنـيا, إنـما قـيـل لها ضنك وإن كانت واسعة, لأنهم ينفقون ما ينفقون من أموالهم علـى تكذيب منهم بـالـخـلف من الله, وإياس من فضل الله, وسوء ظنّ منهم بربهم, فتشتدّ لذلك علـيهم معيشتهم وتضيق ذكر من قال ذلك:
18423ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وَمَنْ أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا يقول: كلّ مال أعطيته عبدا من عبـادي قلّ أو كثر, لا يتقـينـي فـيه, لا خير فـيه, وهو الضنك فـي الـمعيشة. ويقال: إن قوما ضُلاّلاً أعرضوا عن الـحق وكانوا أولـي سعة من الدنـيا مكثرين, فكانت معيشتهم ضنكا, وذلك أنهم كانوا يرون أن الله عزّ وجلّ لـيس بـمخـلف لهم معايشهم من سوء ظنهم بـالله, والتكذيب به, فإذا كان العبد يكذّب بـالله, ويسيء الظنّ به, اشتدّت علـيه معيشته, فذلك الضنك.
وقال آخرون: بل عنـي بذلك: أن ذلك لهم فـي البرزخ, وهو عذاب القبر. ذكر من قال ذلك:
18424ـ حدثنـي يزيد بن مخـلد الواسطي, قال: حدثنا خالد بن عبد الله, عن عبد الرحمن بن إسحاق, عن أبـي حازم عن النعمان بن أبـي عياش, عن أبـي سعيد الـخدريّ, قال فـي قول الله: مَعِيشَةً ضَنْكا قال: عذاب القبر.
حدثنـي مـحمد بن عبد الله بن بزيع, قال: حدثنا بِشر بن الـمفضل, قال: حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق, عن أبـي حازم, عن النعمان بن أبـي عياش, عن أبـي سعيد الـخُدريّ, قال: إن الـمعيشة الضنك, التـي قال الله: عذاب القبر.
حدثنـي حوثرة بن مـحمد الـمنقري, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي حازم, عن أبـي سلـمة, عن أبـي سعيد الـخُدريّ فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا قال: يضيق علـيه قبره حتـى تـختلف أضلاعه.
حدثنـي مـحمد بن عبد الله بن عبد الـحكم, قال: حدثنا أبـي وشعيب بن اللـيث, عن اللـيث, قال: حدثنا خالد بن زيد, عن ابن أبـي هلال, عن أبـي حازم, عن أبـي سعيد, أنه كان يقول: الـمعيشة الضنك: عذاب القبر, إنه يسلط علـى الكافر فـي قبره تسعة وتسعون تنّـينا تنهشه وتـخدش لـحمه حتـى يُبعث. وكان يقال: لو أن تنّـينا منها نفخ الأرض لـم تنبت زرعا.
18425ـ حدثنا مـجاهد بن موسى, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا مـحمد بن عمرو, عن أبـي سلـمة, عن أبـي هريرة, قال: يطبق علـى الكافر قبره حتـى تـختلف فـيه أضلاعه, وهي الـمعيشة الضنك التـي قال الله: مَعِيشَةً ضَنْكا ونـحْشُرُهُ يَوْمَ القِـيامَةِ أعْمَى.
18426ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا جابر بن نوح, عن إسماعيـل بن أبـي خالد, عن أبـي صالـح والسديّ فـي قوله: مَعِيشَةً ضَنْكا قال: عذاب القبر.
18427ـ حدثنا مـحمد بن إسماعيـل الأحمسي, قال: حدثنا مـحمد بن عبـيد, قال: حدثنا سفـيان الثوري, عن إسماعيـل بن أبـي خالد, عن أبـي صالـح, فـي قوله: فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا قال: عذاب القبر.
18428ـ حدثنـي عبد الرحمن بن الأسود, قال: حدثنا مـحمد بن ربـيعة, قال: حدثنا أبو عُمَيس, عن عبد الله بن مخارق عن أبـيه, عن عبد الله, فـي قوله: مَعِيشَةً ضَنْكا قال: عذاب القبر.
حدثنـي عبد الرحيـم البرقـيّ, قال: حدثنا ابن أبـي مَريـم, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر وابن أبـي حازم, قالا: حدثنا أبو حازم, عن النعمان بن أبـي عياش, عن أبـي سعيد الـخدريّ مَعِيشَةً ضَنْكا قال: عذاب القبر.
قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: هو عذاب القبر الذي:
18429ـ حدثنا به أحمد بن عبد الرحمن بن وهب, قال: حدثنا عمي عبد الله بن وهب, قال: أخبرنـي عمرو بن الـحارث, عن درّاج, عن ابن حُجَيرة عن أبـي هريرة, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أتَدْرُونَ فِـيـمَ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الاَيَةُ: فإنّ لَهُ مَعيشَةً ضَنْكا وَنـحْشُرُهُ يَوْمَ القـيامَةِ أعْمَى أتَدْرُونَ ما الـمَعِيشَةً الضّنْكُ؟» قالوا: الله ورسوله أعلـم, قال: «عَذَابُ الكافرِ فـي قَبْرِهِ, والّذِي نَفْسي بـيَدِهِ, إنّه لَـيُسَلّطُ عَلَـيْهِ تَسْعَةٌ وَتِسْعُونَ تِنّـينا, أتَدْرُونَ ما التّنِـينُ: تسْعَةٌ وَتسْعُونَ حَيّة, لكلّ حَيّة سَبْعَةُ رُؤُوسٍ, يَنْفُخُونَ فـي جِسْمِهِ وَيَـلْسَعُونَهُ ويَخْدِشُونَهُ إلـى يَوْمِ القِـيامَةِ». وإن الله تبـارك وتعالـى أتبع ذلك بقوله: وَلَعَذَابُ الاَخِرَةِ أشَدّ وأبْقَـى فكان معلوما بذلك أن الـمعيشة الضنك التـي جعلها الله لهم قبل عذاب الاَخرة, لأن ذلك لو كان فـي الاَخرة لـم يكن لقوله وَلَعَذَابُ الاَخِرَةِ أشَدّ وأبْقَـى معنى مفهوم, لأن ذلك إن لـم يكن تقدّمه عذاب لهم قبل الاَخرة, حتـى يكون الذي فـي الاَخرة أشدّ منه, بطل معنى قوله وَلَعَذَابُ الاَخِرَةِ أشَدّ وأبْقَـى. فإذ كان ذلك كذلك, فلا تـخـلو تلك الـمعيشة الضنك التـي جعلها الله لهم من أن تكون لهم فـي حياتهم الدنـيا, أو فـي قبورهم قبل البعث, إذ كان لأوجه لأن تكون فـي الاَخرة لـما قد بـيّنا, فإن كانت لهم فـي حياتهم الدنـيا, فقد يجب أن يكون كلّ من أعرض عن ذكر الله من الكفـار, فإن معيشته فـيها ضنك, وفـي وجودنا كثـيرا منهم أوسع معيشة من كثـير من الـمقبلـين علـى ذكر الله تبـارك وتعالـى, القائلـين له الـمؤمنـين فـي ذلك, ما يدلّ علـى أن ذلك لـيس كذلك, وإذ خلا القول فـي ذلك من هذين الوجهين صحّ الوجه الثالث, وهو أن ذلك فـي البرزخ.
وقوله: ونَـحْشُرُهُ يَوْمَ القِـيامَةِ أعْمَى اختلف أهل التأويـل فـي صفة العمى الذي ذكر الله فـي هذه الاَية, أنه يبعث هؤلاء الكفـار يوم القـيامة به, فقال بعضهم: ذلك عمى عن الـحجة, لا عمى عن البصر. ذكر من قال ذلك:
18430ـ حدثنا مـحمد بن إسماعيـل الأحمسي, قال: حدثنا مـحمد بن عبـيد, قال: حدثنا سفـيان الثوري, عن إسماعيـل بن أبـي خالد, عن أبـي صالـح, فـي قوله: ونَـحْشُرُهُ يَوْمَ القِـيامَةِ أعْمَى قال: لـيس له حجة.
18431ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: ونَـحْشُرُهُ يَوْمَ القِـيامَةِ أعْمَى قال: عن الـحجة.
18432ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله, وقـيـل: يحشر أعمى البصر.
قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك ما قال الله تعالـى ذكره, وهو أنه يحشر أعمى عن الـحجة ورؤية الشيء كما أخبر جلّ ثناؤه, فعمّ ولـم يخصص.
وقوله: قالَ رَبّ لِـمَ حَشَرْتَنِـي أعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرا اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك. فقال بعضهم فـي ذلك, ما:
18433ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرزاق, عن ابن نـجيح, عن مـجاهد قالَ رَبّ لِـمَ حَشَرْتَنِـي أعْمَى لا حجة لـي.
وقوله: وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرا اختلف أهل التأويـل ذلك, فقال بعضهم: معناه: وقد كنت بصيرا بحجتـي. ذكر من قال ذلك:
18434ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرا قال: عالـما بحجتـي.
وقال آخرون: بل معناه: وقد كنت ذا بصر أبصر به الأشياء. ذكر من قال ذلك
18435ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرا فـي الدنـيا.
18436ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: قالَ رَبّ لِـمَ حَشَرْتَنِـي أعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرا قال: كان بعيد البصر, قصير النظر, أعمى عن الـحقّ.
قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك عندنا, أن الله عزّ وجلّ ثناؤه, عمّ بـالـخبر عنه بوصفه نفسه بـالبصر, ولـم يخصص منه معنى دون معنى, فذلك علـى ما عمه فإذا كان ذلك كذلك, فتأويـل الاَية, قال: ربّ لـم حشرتنـي أعمى عن حجتـي ورؤية الأشياء, وقد كنت فـي الدنـيا ذا بصر بذلك كله.
فإن قال قائل: وكيف قال هذا لربه: لِـمَ حَشَرْتَنِـي أعْمَى مع معاينته عظيـم سلطانه, أجهل فـي ذلك الـموقـف أن يكون لله أن يفعل به ما شاء, أم ما وجه ذلك؟ قـيـل: إن ذلك منه مسألة لربه يعرّفه الـجرم الذي استـحقّ به ذلك, إذ كان قد جهله, وظنّ أن لا جرم له, استـحق ذلك به منه, فقال: ربّ لأيّ ذنب ولأيّ جرم حشرتنـي أعمى, وقد كنت من قبل فـي الدنـيا بصيرا وأنت لا تعاقب أحدا إلا بدون ما يستـحق منك من العقاب.
وقوله: قالَ كَذَلكَ أتَتْكَ آياتنا فَنَسِيتَها يقول تعالـى ذكره, قال الله حينئذٍ للقائل له: لِـمَ حَشَرْتَنِـي أعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرا: فعلت ذلك بك, فحشرتك أعمى كما أتتك آياتـي, وهي حججه وأدلته وبـيانه الذي بـيّنه فـي كتابه, فنسيتها: يقول: فتركتها وأعرضت عنها, ولـم تؤمن بها, ولـم تعمل. وعنى بقوله كَذَلكَ أتَتْك هكذا أتتكَ.
وقوله: وكذلكَ الـيَوْمَ تُنْسَى يقول: فكما نسيت آياتنا فـي الدنـيا, فتركتها وأعرضت عنها, فكذلك الـيوم ننساك, فنتركك فـي النار.
وقد اختلف أهل التأويـل فـي معنى قوله وكَذَلكَ الـيَوْمَ تُنْسَى فقال بعضهم بـمثل الذي قلنا فـي ذلك. ذكر من قال ذلك:
18437ـ حدثنا مـحمد بن إسماعيـل الأحمسي, قال, حدثنا مـحمد بن عبـيد, قال: حدثنا سفـيان الثوري, عن إسماعيـل بن أبـي خالد, عن أبـي صالـح, فـي قوله: وكَذَلكَ الـيَوْمَ تُنْسَى قال: فـي النار.
18438ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: كَذَلكَ أتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها قال: فتركتها وكَذَلكَ الـيَوْمَ تُنْسَى وكذلك الـيوم تترك فـي النار.
ورُوي عن قتادة فـي ذلك ما.
18439ـ حدثنـي بِشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة قالَ كَذَلكَ أتَتَكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وكَذَلكَ الـيَوْمَ تُنْسَى قال: نسي من الـخير, ولـم ينس من الشرّ.
وهذا القول الذي قاله قَتادة قريب الـمعنى مـما قاله أبو صالـح ومـجاهد, لأن تركه إياهم فـي النار أعظم الشرّ لهم.
الآية : 127
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبّهِ وَلَعَذَابُ الاَخِرَةِ أَشَدّ وَأَبْقَىَ }.
يقول تعالـى ذكره: وهكذا نـجزي: أي نثـيب من أسرف فعصي ربه, ولـم يؤمن برسله وكتبه, فنـجعل له معيشة ضنكا فـي البرزخ كما قد بـيّنا قبل وَلَعَذَابُ الاَخِرَةِ أشَدّ وأبْقَـى يقول جلّ ثناؤه: ولعذاب فـي الاَخرة أشدّ لهم مـما وعدتهم فـي القبر من الـمعيشة الضنك وأبقـى يقول: وأدوم منها, لأنه إلـى غير أمد ولا نهاية.
الآية : 128
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لاُوْلِي النّهَىَ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: أفلـم يهد لقومك الـمشركين بـالله, ومعنى يهد: يبـين. يقول: أفلـم يبـين لهم كثرة ما أهلكنا قبلهم من الأمـم التـي سلكت قبلها التـي يـمشون فـي مساكنهم ودورهم, ويرون آثار عقوبـاتنا التـي أحللناها بهم سوء مغبة ما هم علـيه مقـيـمون من الكفر بآياتنا, ويتعظوا بهم, ويعتبروا, وينـيبوا إلـى الإذعان, ويؤمنوا بـالله ورسوله, خوفـا أن يصيبهم بكفرهم بـالله مثل ما صابهم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18440ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: كَمْ أهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ القُرُونِ يَـمْشُونَ فِـي مَساكِنِهِمْ لأن قريشا كانت تتـجر إلـى الشأم, فتـمرّ بـمساكن عاد وثمود ومن أشبههم, فترى آثار وقائع الله تعالـى بهم, فلذلك قال لهم: أفلـم يحذّرهم ما يرون من فعلنا بهم بكفرهم بنا نزول مثله بهم, وهم علـى مثل فعلهم مقـيـمون. وكان الفرّاء يقول: لا يجوز فـي كم فـي هذا الـموضع أن يكون إلا نصبـا بأهلكنا وكان يقول: وهو وإن لـم يكن إلا نصبـا, فإن جملة الكلام رفع بقوله: يَهْدِ لَهُمْ ويقول: ذلك مثل قول القائل: قد تبـين لـي أقام عمرو أم زيد فـي الاستفهام, وكقوله سَوَاءٌ عَلَـيْكُمْ أدَعَوْتُـمُوهُمْ أمْ أنْتُـمْ صَامِتُونَ ويزعم أن فـيه شيئا يرفع سواء لا يظهر مع الاستفهام, قال: ولو قلت: سواء علـيكم صمتكم ودعاؤكم تبـين ذلك الرفع الذي فـي الـجملة ولـيس الذي قال الفرّاء من ذلك, كما قال: لأن كم وإن كانت من حروف الاستفهام فإنها لـم تـجعل فـي هذا الـموضع للاستفهام, بل هي واقعة موقع الأسماء الـموصوفة. ومعنى الكلام ما قد ذكرنا قبل وهو: أفلـم يبـين لهم كثرة إهلاكنا قبلهم القرون التـي يـمشون فـي مساكنهم, أو أفلـم تهدهم القرون الهالكة. وقد ذُكر أن ذلك فـي قراءة عبد الله: «أفَلَـمْ يَهْدِ لَهَمْ مَنْ أهْلَكْنا» فكم واقعة موقع من فـي قراءة عبد الله, هي فـي موضع رفع بقوله: يَهْدِ لَهُمْوهو أظهر وجوهه, وأصحّ معانـيه, وإن كان الذي قاله وجه ومذهب علـى بعد.
وقوله: إنّ فِـي ذلكَ لاَياتٍ لأُولـي النّهَى يقول تعالـى ذكره: إن فـيـما يعاين هؤلاء ويرون من آثار وقائعنا بـالأمـم الـمكذّبة رسلها قبلهم, وحلول مُثْلاتنا بهم لكفرهم بـالله لاَياتٍ يقول: لدلالات وعبرا وعظات لأُولـي النّهَى يعنـي: لأهل الـحجى والعقول, ومن ينهاه عقله وفهمه ودينه عن مواقعة ما يضره. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18441ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: لأُولـي النّهَى يقول: التقـى.
18442ـ حدثنا بِشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة إنّ فِـي ذلكَ لاَياتٍ لأُولـي النّهَى أهل الورع.
الآية : 129-130
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رّبّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مّسَمّى * فَاصْبِرْ عَلَىَ مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ الْلّيْلِ فَسَبّحْ وَأَطْرَافَ النّهَارِ لَعَلّكَ تَرْضَىَ }.
يقول تعالـى ذكره: وَلَوْلا كَلِـمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبّكَ يا مـحمد أن كلّ من قضى له أجلاً فإنه لا يخترمه قبل بلوغه أجله وأجلٌ مسمّى يقول: ووقت مسمى عند ربك سماه لهم فـي أمّ الكتاب وخطه فـيه, هم بـالغوه ومستوفوه لَكانَ لِزَاما يقول: للازمهم الهلاك عاجلاً, وهو مصدر من قول القائل: لازم فلان فلانا يلازمه ملازمة ولزاما: إذا لـم يفـارقه, وقدّم قوله: لَكانَ لِزَاما قبل قوله أجَلٌ مُسَمّى ومعنى الكلام: ولولا كلـمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما, فـاصبر علـى ما يقولون. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18443ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: وَلَوْلا كَلِـمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبّكَ لَكانَ لِزَاما وأجَلٌ مُسَمّى الأجل الـمسمى: الدنـيا.
18444ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَلَوْلا كَلِـمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبّكَ لَكانَ لِزَاما وأجَلٌ مُسَمّى وهذه من مقاديـم الكلام, يقول: لولا كلـمة سبقت من ربك إلـى أجل مسمى كان لزاما, والأجل الـمسمى, الساعة, لأن الله تعالـى يقول بَلِ السّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ, والسّاعَةُ أدْهَى وأمَرّ.
18445ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَلَوْلا كَلِـمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبّكَ لَكانَ لِزَاما وأجَلٌ مُسَمّى قال: هذا مقدّم ومؤخر, ولولا كلـمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما.
واختلف أهل التأويـل فـي معنى قوله: لَكانَ لِزَاما فقال بعضهم: معناه: لكان موتا. ذكر من قال ذلك:
18446ـ حدثنـي علـيّ قال: ثنـي أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: لَكانَ لِزَاما يقول: موتا.
وقال آخرون: معناه لكان قتلاً. ذكر من قال ذلك:
18447ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد لَكانَ لِزَاما واللزام: القتل.
وقوله: فـاصْبِرْ علـى ما يَقُولُونَ يقول جلّ ثناؤه لنبـيه: فـاصبر يا مـحمد علـى ما يقول هؤلاء الـمكذّبون بآيات الله من قومك لك إنك ساحر, وإنك مـجنون وشاعر ونـحو ذلك من القول وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ يقول: وصل بثنائك علـى ربك, وقال: بحمد ربك. والـمعنى: بحمدك ربك, كما تقول: أعجبنـي ضرب زيد, والـمعنى: ضربـي زيدا. وقوله: قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وذلك صلاة الصبح وَقَبْلَ غُرُوبِها وهي العصر وَمِنْ آناءِ اللّـيْـلِ وهي ساعات اللـيـل, واحدها: إنْـيٌ, علـى تقدير حمل ومنه قول الـمنـخّـل السعدي:
حُلْوٌ وَمُرّ كَعِطْفِ القِدْحِ مُرّتُهُفِـي كُلّ إنْـيٍ قَضَاهُ اللّـيْـلُ يَنْتَعِلُ
ويعنـي بقوله: وَمِنْ آناءِ اللّـيْـلِ فَسَبّحْ صلاة العشاء الاَخرة, لأنها تصلـى بعد مضيّ آناء من اللـيـل.
وقوله: وأطْرَافَ النّهارِ: يعنـي صلاة الظهر والـمغرب وقـيـل: أطراف النهار, والـمراد بذلك الصلاتان اللتان ذكرنا, لأن صلاة الظهر فـي آخر طرف النهار الأوّل, وفـي أوّل طرف النهار الاَخر, فهي فـي طرفـين منه, والطرف الثالث: غروب الشمس, وعند ذلك تصلـى الـمغرب, فلذلك قـيـل أطراف, وقد يحمل أن يقال: أريد به طرفـا النهار. وقـيـل: أطراف, كما قـيـل صَغَتْ قُلُوبُكما فجمع, والـمراد: قلبـان, فـيكون ذلك أوّل طرف النهار الاَخر, وآخر طرفه الأول.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18448ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن عاصم, عن ابن أبـي زيد, عن ابن عبـاس وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها قال: الصلاة الـمكتوبة.
18449ـ حدثنا تـميـم بن الـمنتصر, قال: حدثنا يزيد بن هارون, قال: أخبرنا إسماعيـل بن أبـي خالد, عن قـيس بن أبـي حازم, عن جرير بن عبد الله, قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, فرأى القمر لـيـلة البدر فقال: «إنّكُمْ رَاءُونَ رَبّكُمْ كمَا تَرَوْنَ هَذَا, لا تُضَامُونَ فِـي رُؤْيَتِهِ, فإنِ اسْتَطَعْتـمْ أنْ لا تُغْلَبُوا عَلـى صَلاةٍ قَبلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها فـافْعَلُوا» ثُمّ تَلا: وسَبّحْ بحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها».
18450ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها قال ابن جريج: العصر, وأطراف النهار قال: الـمكتوبة.
18451ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, عن معمى, عن قَتادة فـي قوله: وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ قال: هي صَلاة الفجر وَقَبْلَ غُرُوبِها قال: صلاة العصر. وَمِنْ آناءِ اللّـيْـلِ قال: صلاة الـمغرب والعشاء. وأطْرافَ النَهارِ قال: صلاة الظهر.
18452ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله وَمِنْ آناءِ اللّـيْـلِ فَسَبّحْ وأطْرَافَ النّهارِ: قال: من آناء اللـيـل: العَتَـمة. وأطراف النهار: الـمغرب والصبح.
ونصب قوله وأطْرافَ النهار عطفـا علـى قوله قَبْلَ طُلُوع الشّمْسِ, لأن معنى ذلك: فسبح بحمد ربك آخر اللـيـل, وأطراف النهار. وبنـحو الذي قلنا فـي معنى آناءِ اللّـيْـلِ قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18453ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: قال ابن عبـاس وَمِن آناءِ اللّـيْـلِ قال: الـمصلـى من اللـيـل كله.
18454ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن عُلَـية, عن أبـي رجاء, قال: سمعت الـحسن قرأ: وَمِنْ آناء اللّـيْـلِ قال: من أوّله, وأوسطه, وآخره.
18455ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, فـي قوله: وَمِنْ آناءِ اللّـيْـلِ فَسَبّحْ قال: آناء اللـيـل: جوف اللـيـل.
وقوله: لَعَلّكَ تَرْضَى يقول: كي ترضى.
وقد اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والعراق: لَعَلّكَ تَرْضَى بفتـح التاء. وكان عاصم والكسائي يقرآن ذلك: «لَعَلّكَ تُرْضَى» بضم التاء, ورُوي ذلك عن أبـي عبد الرحمن السّلَـميّ, وكأنّ الذين قرأوا ذلك بـالفتـح, ذهبوا إلـى معنى: إن الله يعطيك, حتـى ترضى عطيّته وثوابه إياك, وكذلك تأوّله أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18456ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: لَعَلّكَ تَرْضَى قال: الثواب, ترضى بـما يثـيبك الله علـى ذلك.
18457ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج لَعَلّكَ تُرْضَى قال: بـما تُعْطَى.
وكأن الذين قرأوا ذلك بـالضم, وجهوا معنى الكلام إلـى لعلّ الله يرضيك من عبـادتك إياه, وطاعتك له. والصواب من القول فـي ذلك عندي: أنهما قراءتان, قد قرأ بكل واحدة منهما علـماء من القرّاء, وهما قراءتان مستفـيضتان فـي قَرَأة الأمصار, متفقتا الـمعنى, غير مختلفتـيه وذلك أن الله تعالـى ذكره إذا أرضاه, فلا شكّ أنه يرضى, وأنه إذا رضي فقد أرضاه الله, فكل واحدة منهما تدلّ علـى معنى الأخرى, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب.
الآية : 131
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَلاَ تَمُدّنّ عَيْنَيْكَ إِلَىَ مَا مَتّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: ولا تنظر إلـى ما جعلنا لضُربـاء هؤلاء الـمعرضين عن آيات ربهم وأشكالهم, مُتْعة فـي حياتهم الدنـيا, يتـمتعون بها, من زهرة عاجل الدنـيا ونضرتها لِنَفْتِنَهُمْ فِـيهِ يقول: لنـختبرهم فـيـما متعناهم به من ذلك, ونبتلـيهم, فإِن ذلك فـانٍ زائل, وغُرور وخُدَع تضمـحلّ وَرِزْقُ رَبّكَ الذي وعدك أن يرزقكه فـي الاَخرة حتـى ترضى, وهو ثوابه إياه خَيْرٌ لك مـما متعناهم به من زهرة الـحياة الدنـيا. وأبْقَـى يقول: وأدوم, لأنه لانقطاع له ولا نفـاذ. وذُكر أن هذه الاَية نزلت علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم, من أجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلـى يهوديّ يستسلف منه طعاما, فأبى أن يُسْلفه إلاّ برهن. ذكر من قال ذلك:
18458ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن موسى بن عبـيدة, عن يزيد بن عبد الله بن قسيط, عن أبـي رافع, قال: أرسلنـي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلـى يهودي يستسلفه, فأبى أن يعطيه إلاّ برهن, فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله: وَلا تَـمُدّنّ عَيَنَـيْكَ إلـى ما مَتّعْنا بِهِ أزْوَاجا مِنهُمْ زَهْرَةَ الـحَياةِ الدّنْـيا.
18459ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا مـحمد بن كثـير, عن عبد الله بن واقد, عن يعقوب بن يزيد, عن أبـي رافع, قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ضيف, فأرسلنـي إلـى يهوديّ بـالـمدينة يستسلفه, فأتـيته, فقال: لا أسلفه إلاّ برهن, فأخبرته بذلك, فقال: «إنّـي لأَمِينٌ فِـي أهْلِ السّماءِ وفِـي أهْلِ الأرْضِ, فـاحْمِلْ دِرْعِي إلَـيْهِ» فنزلت: وَلَقَدْ آتَـيْناكَ سَبْعا مِنَ الـمَثانِـي والقُرآنَ العَظِيـمِ.
وقوله: وَلا تَـمُدّنّ عَيَنَـيْكَ إلـى ما مَتّعْنا بِهِ أزْوَاجا مِنْهُمْ زَهْرةَ الـحَياةِ الدّنْـيا إلـى قوله: وَالعاقِبَةُ للتّقْوَى.
ويعنـي بقوله: أزْوَاجا مِنْهُمْ رجالاً منهم أشكالاً, وبزهرة الـحياة الدنـيا: زينة الـحياة الدنـيا. كما:
18460ـ حدثنا بِشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: زَهْرَةَ الـحَياةِ الدّنْـيا: أي زينة الـحياة الدنـيا.
ونصب زهرة الـحياة الدنـيا علـى الـخروج من الهاء التـي فـي قوله به من مَتّعْنا بِهِ, كما يقال: مررت به الشريف الكريـم, فنصب الشريف الكريـم علـى فعل مررت, وكذلك قوله: إلـى ما مَتّعْنا بِهِ أزْوَاجا مِنْهُم زَهْرَةَ الـحَياةِ الدّنْـيا تنصب علـى الفعل بـمعنى: متعناهم به زهرة الـحياة الدنـيا وزينة لهم فِـيها. وذكر الفراء أن بعض بنـي فقعس أنشده:
أبَعْدَ الّذِي بـالسّفْحِ سَفْحِ كُوَاكِبٍرَهِينَةَ رَمْسٍ مِنْ تُرابٍ وَجَنْدَلِ
فنصب رهينة علـى الفعل من قوله: «أبعد الذي بـالسفح», وهذا لا شكّ أنه أضعف فـي العمل نصبـا من قوله: مَتّعْنا بِهِ أزْوَاجا مِنْهُمْ لأن العامل فـي الاسم وهو رهينة, حرف خافض لا ناصب. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18461ـ حدثنا بِشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة, قوله: لِنَفْتِنَهُمْ فِـيهِ قال: لنبتلـيهم فـيه وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وأبقَـى مـما متّعنا به هؤلاء من هذه الدنـيا.
الآية : 132
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتّقْوَىَ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: وأْمُرْ يا مـحمد أهْلَكَ بـالصّلاةِ وَاصْطَبرْ عَلَـيْها يقول: واصطبر علـى القـيام بها, وأدائها بحدودها أنت لا نَسْئَلُكَ رِزْقا يقول: لا نسألك مالاً, بل نكلفك عملاً ببدنك, نؤتـيك علـيه أجرا عظيـما وثوابـا جزيلاً نَـحْنُ نَرْزُقُكَ يقول: نـحن نعطيك الـمال ونكسبكه, ولا نسألكه.
وقوله: والعاقبَةُ للتّقْوَى يقول: والعاقبة الصالـحة من عمل كلّ عامل لأهل التقوى والـحثـية من الله دون من لا يخاف له عقابـا, ولا يرجو له ثوابـا. وبنـحو الذي قلنا فـي قوله وأْمُرْ أهْلَكَ بـالصّلاةِ وَاصْطَبرْ عَلَـيْها قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18462ـ حدثنـي أبو السائب, قال: حدثنا حفص بن غياث, عن هشام بن عروة, قال: كان عروة إذا رأى ما عند السلاطين دخـل داره, فقال: لا تَـمُدّنّ عَيَنَـيْكَ إلـى ما مَتّعْنا بهِ أزْوَاجا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الـحَياةِ الدّنْـيا لِنَفْتِنَهُمْ فِـيِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وأبْقَـى وأْمُرْ أهْلَكَ بـالصّلاةِ وَاصْطَبرْ عَلَـيْها لا نَسألُكَ رِزْقا نـحْنُ نَرْزُقُكَ والعاقِبَةُ للتّقْوَى ثم ينادي: الصلاة الصلاة, يرحمكم الله.
حدثنا أبو كريب قال, حدثنا عثام, عن هشام بن عروة, عن أبـيه, أنه كان إذا رأى شيئا من الدنـيا جاء إلـى أهله, فقال: الصلاة وأْمُرْ أهْلَكَ بـالصّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَـيْها لا نَسألُكَ رِزْقا.
18463ـ حدثنا العبـاس بن عبد العظيـم, قال: حدثنا جعفر بن عون, قال: أخبرنا هشام بن سعد, عن زيد بن أسلـم, عن أبـيه, قال: كان يبـيت عند عمر بن الـخطاب من غلـمانه أنا ويرفأ, وكانت له من اللـيـل ساعة يصلـيها, فإذا قلنا لا يقوم من اللـيـل كان قـياما, وكان إذا صلـى من اللـيـل ثم فرغ قرأ هذه الاَية: وأْمُرْ أهْلَكَ بـالصّلاةِ وَاصْطَبرْ عَلَـيْها... الاَية.
حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي هشام بن سعد, عن زيد بن أسلـم, مثله.
الآية : 133
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مّن رّبّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيّنَةُ مَا فِي الصّحُفِ الاُولَىَ }.
يقول تعالـى ذكره: قال هؤلاء الـمشركون الذين وصف صفتهم فـي الاَيات قبل: هلا يأتـينا مـحمد بآية من ربه, كما أتـى قومه صالـح بـالناقة وعيسى بإحياء الـموتـى, وإبراء الأكمه والأبرص, يقول الله جلّ ثناؤه: أو لـم يأتهم بـيان ما فـي الكتب التـي قبل هذا الكتاب من أنبـاء الأمـم من قبلهم التـي أهلكناهم لـما سألوا الاَيات فكفروا بها لـما أتتهم كيف عجّلنا لهم العذاب, وأنزلنا بأسنا بكفرهم بها, يقول: فماذا يؤمنهم إن أتتهم الاَية أن يكون حالهم حال أولئك. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18464ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: أوَ لـمُ تَأْتِهِمْ بَـيّنَةُ ما فِـي الصّحُفِ الأُولـى قال: التوارة والإنـجيـل.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين قال: ثنـي حجاج عن ابن جريج عن مـجاهد مثله.
18465ـ حدثنا بِشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة, قوله: أوَ لَـمْ تَأْتِهِمْ بَـيّنَةُ ما فـي الصّحُفِ الأُولـى الكتب التـي خـلت من الأمـم التـي يـمشون فـي مساكنهم.
الآية : 134
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَلَوْ أَنّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبّنَا لَوْلآ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نّذِلّ وَنَخْزَىَ }.
يقول تعالـى ذكره: ولو أنا أهلكنا هؤلاء الـمشركين الذين يكذّبون بهذا القرآن من قبل أن ننزله علـيهم, ومن قبل أن نبعث داعيا يدعوهم إلـى ما فرضنا علـيهم فـيه بعذاب ننزله بهم بكفرهم بـالله, لقالوا يوم القـيامة, إذ وردوا علـينا, فأردنا عقابهم: ربنا هلا أرسلت إلـينا رسولاً يدعونا إلـى طاعتك, فنتبع آياتك يقول: فنتبع حجتك وأدلتك وما تنزله علـيه من أمرك ونهيك من قبل أن نذلّ بتعذبـيك إيانا ونـخزى به, كما: 18466ـ حدثنـي الفضل بن إسحاق, قال: حدثنا أبو قتـيبة سلـم بن قتـيبة, عن فضيـل بن مرزوق, عن عطية العوفـي, عن أبـي سعيد الـخُدريّ, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يَحْتَـجّ عَلـى اللّهِ يَوْمَ القـيامَةِ ثَلاثَةٌ: الهَالِكُ فِـي الفَتْرَةِ, والـمَغْلُوبُ عَلـى عَقْلهِ, والصّبـيّ الصّغيرُ, فَـيَقُولُ الـمَغْلُوبُ عَلـى عَقْلِه: لَـمْ تَـجْعَلْ لـي عَقْلاً أنْتَفِع بهِ, وَيَقُولُ الهَالِكُ فِـي الفتْرَةِ: لَـمْ يأْتِنـي رَسُولٌ وَلا نَبـيّ, وَلَوْ أتانِـي لَكَ رَسُولٌ أوْ نَبـيّ لَكُنْتُ أطْوَعَ خَـلْقِكَ لَكَ. وقرأ: لَوْلا أرْسَلْتَ إلَـيْنا رَسُولاً ويَقُولُ الصّبِـيّ الصّغِيرُ: كُنْتُ صَغِيرا لا أعْقِلُ» قالَ: «فَتُرْفَعُ لَهُمْ نارٌ وَيُقالُ لَهُمْ: رِدُوها» قال: «فَـيرِدُها مَنْ كانَ فِـي علْـمِ اللّهِ أنّه سَعيدٌ, وَيَتَلَكّأُ عَنْها مَنْ كانَ فِـي عِلْـمِ اللّهِ أنّهُ شَقِـيّ, فَـيَقُولُ: إيّايَ عَصَيْتُـمْ, فَكَيْقَ بِرُسُلـي لَوْ أتَتْكُمْ؟».
الآية : 135
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قُلْ كُلّ مّتَرَبّصٌ فَتَرَبّصُواْ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصّرَاطِ السّوِيّ وَمَنِ اهْتَدَىَ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا مـحمد: كلكم أيها الـمشركون بـالله متربص يقول: منتظر لـمن يكون الفلاح, وإلـى ما يؤول أمري وأمركم متوقـف ينتظر دوائر الزمان, فتربصوا يقول: فترقبوا وانتظروا, فستعلـمون من أهل الطريق الـمستقـيـم الـمعتدل الذي لا اعوجاج فـيه إذا جاء أمر الله وقامت القـيامة, أنـحن أم أنتـم؟ ومن اهتدى يقول: وستعلـمون حينئذٍ من الـمهتدي الذي هو علـى سنن الطريق القاصد غير الـجائر عن قصده منا ومنكم. وفـي «مَن» من قوله: فَسَتَعْلَـمُونَ مَنْ أصحَابُ الصّراطِ السّوِيّ, والثانـية من قوله: وَمَنِ اهْتَدَى وَجهان: الرفع, وترك إعمال تعلـمون فـيهما, كما قال جلّ ثناؤه: لنَعْلَـمَ أيّ الْـحِزْبَـيْنِ أحْصَى والنصب علـى إعمال تعلـمون فـيهما, كما قال جلّ ثناؤه: وَااللّهُ يَعْلَـمُ الـمُفْسِدَ منَ الـمُصْلِـحِ.

نهاية تفسير الإمام الطبري لسورة طه