سورة طه | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 321 من المصحف
** وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبّهِ وَلَعَذَابُ الاَخِرَةِ أَشَدّ وَأَبْقَىَ
يقول تعالى: وهكذا نجازي المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والاَخرة {لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الاَخرة أشق وما لهم من الله من واق} ولهذا قال: {ولعذاب الاَخرة أشد وأبقى} أي أشد ألماً من عذاب الدنيا وأدوم عليهم, فهم مخلدون فيه, ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين: «إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الاَخرة».
** أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لاُوْلِي النّهَىَ * وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رّبّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مّسَمّى * فَاصْبِرْ عَلَىَ مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ الْلّيْلِ فَسَبّحْ وَأَطْرَافَ النّهَارِ لَعَلّكَ تَرْضَىَ
يقول تعالى: {أفلم يهد} لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به يا محمد كم أهلكنا من الأمم المكذبين بالرسل قبلهم, فبادوا فليس لهم باقية ولا عين ولا أثر, كما يشاهدون ذلك من ديارهم الخالية التي خلفوهم فيها يمشون فيها {إن في ذلك لاَيات لأولي النهى} أي العقول الصحيحة والألباب المستقيمة, كما قال تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} وقال في سورة الم السجدة: {أو لم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم} الاَية, ثم قال تعالى: {ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاماً وأجل مسمى} أي لولا الكلمة السابقة من الله وهو أنه لايعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه, والأجل المسمى الذي ضربه الله تعالى لهؤلاء المكذبين إلى مدة معينة, لجاءهم العذاب بغتة, ولهذا قال لنبيه مسلياً له: {فاصبر علىَ ما يقولون} أي من تكذيبهم لك {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس} يعني صلاة الفجر {وقبل غروبه} يعني صلاة العصر, كما جاء في الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر, فقال: «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر, لا تضامون في رؤيته, فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا» ثم قرأ هذه الاَية.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن عمارة بن رؤيبة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها» رواه مسلم من حديث عبدالملك بن عمير به, وفي المسند والسنن عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة, ينظر الى أقصاه كما ينظر الى أدناه, وإن أعلاهم منزلة لمن ينظر إلى الله تعالى في اليوم مرتين».
وقوله: {ومن آناء الليل فسبح} أي من ساعاته فتهجد به, وحمله بعضهم على المغرب والعشاء, {وأطراف النهار} في مقابلة آناء الليل {لعلك ترضى} كما قال تعالى: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} وفي الصحيح «يقول الله تعالى ياأهل الجنة, فيقولون: لبيك ربنا وسعديك, فيقول: هل رضيتم ؟ فيقولون: ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك, فيقول: إني أعطيكم أفضل من ذلك, فيقولون: وأي شىء أفضل من ذلك ؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً» وفي الحديث الاَخر «يا أهل الجنة, إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه: فيقولون: وما هو ؟ ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويزحزحنا عن النار ويدخلنا الجنة, فيكشف الحجاب فينظرون إليه, فو الله ما أعطاهم خيراً من النظر إليه, وهي الزيادة»)
** وَلاَ تَمُدّنّ عَيْنَيْكَ إِلَىَ مَا مَتّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتّقْوَىَ
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تنظر إلى ما هؤلاء المترفون وأشباههم ونظراؤهم فيه من النعيم, فإنما هو زهرة زائلة ونعمة حائلة, لنختبرهم بذلك وقليل من عبادي الشكور. وقال مجاهد: {أزواجاً منهم}, يعني الأغنياء, فقد آتاك خيراً مما آتاهم, كما قال في الاَية الأخرى {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم لا تمدن عينيك} الاَية, وكذلك ما ادخره الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في الاَخرة أمر عظيم لا يحد ولا يوصف, كما قال تعالى: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} ولهذا قال: {ورزق ربك خير وأبقى} وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب لما دخل على على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك المشربة التي كان قد اعتزل فيها نساءه حين آلى منهن, فرآه متوسداً مضطجعاً على رمال حصير, وليس في البيت إلا صبرة من قرظ وأهب معلقة, فابتدرت عينا عمر بالبكاء, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مايبكيك يا عمر ؟» فقال: يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه, وأنت صفوة الله من خلقه ؟ فقال: «أو في شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا» فكان صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا مع القدرة عليها, إذا حصلت له ينفقها هكذا وهكذا في عباد الله, ولم يدخر لنفسه شيئاً لغد.
قال ابن أبي حاتم: أنبأنا يونس, أخبرنا ابن وهب, أخبرني مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار, عن أبي سعيدأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا» قالوا: وما زهرة الدنيا يا رسول الله ؟ قال «بركات الأرض». وقال قتادة والسدي: زهرة الحياة الدنيا, يعني زينة الحياة الدنيا. وقال قتادة: {لنفتنهم فيه} لنبتليهم. وقوله: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليه} أي استنقذهم من عذاب الله بإقام الصلاة, واصبر أنت على فعلها, كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نار}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أحمد بن صالح, حدثنا ابن وهب, أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب كان يبيت عنده أنا ويرفأ, وكان له ساعة من الليل يصلي فيها, فربما لم يقم, فنقول: لا يقوم الليلة كما كان يقوم, وكان إذا استيقظ أقام يعني أهله, وقال «وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها».
وقوله: {لا نسألك رزقاً نحن نرزقك} يعني إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب, كما قال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} وقال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ـ إلى قوله ـ إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} ولهذا قال: {لا نسألك رزقاً نحن نرزقك}. وقال الثوري: {لا نسألك رزق}, أي لا نكلفك الطلب. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا حفص بن غياث عن هشام عن أبيه أنه كان إذا دخل على أهل الدنيا فرأى من دنياهم طرفاً, فإذا رجع إلى أهله, فدخل الدار قرأ {ولا تمدن عينيك ـ إلى قوله ـ نحن نرزقك} ثم يقول: الصلاة. الصلاة رحمكم الله.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن أبي زياد القطواني, حدثنا سيار, حدثنا جعفر عن ثابت قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابه خصاصة نادى أهله: يا أهلاه صلوا, صلوا. قال ثابت: وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة, وقد روى الترمذي وابن ماجه من حديث عمران بن زائدة عن أبيه عن أبي خالد الوالبي, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك, وإن لم تفعل, ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك» وروى ابن ماجه من حديث الضحاك عن الأسود عن ابن مسعود: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: «من جعل الهموم هماً واحداً هم المعاد كفاه الله هم دنياه, ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك», وروي أيضاً من حديث شعبة عن عمر بن سليمان عن عبد الرحمن بن أبان, عن أبيه عن زيد بن ثابت, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره, وجعل فقره بين عينيه, ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له, ومن كانت الاَخرة نيته, جمع له أمره وجعل غناه في قلبه, وأتته الدنيا وهي راغمة» وقوله: {والعاقبة للتقوى} أي وحسن العاقبة في الدنيا والاَخرة, وهي الجنة لمن اتقى الله. وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت الليلة كأنا في دار عقبة بن رافع, وأنا أتينا برطب ابن طاب, فأولت ذلك أن العاقبة لنا في الدنيا والرفعة, وأن ديننا قد طاب».
** وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مّن رّبّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيّنَةُ مَا فِي الصّحُفِ الاُولَىَ * وَلَوْ أَنّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبّنَا لَوْلآ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نّذِلّ وَنَخْزَىَ * قُلْ كُلّ مّتَرَبّصٌ فَتَرَبّصُواْ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصّرَاطِ السّوِيّ وَمَنِ اهْتَدَىَ
يقول تعالى مخبراً عن الكفار في قولهم: {لول} أي هلا يأتينا محمد بآية من ربه, أي بعلامة دالة على صدقه في أنه رسول الله ؟ قال الله تعالى: {أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى} يعني القرآن الذي أنزله عليه الله, وهو أمي لا يحسن الكتابة ولم يدارس أهل الكتاب, وقد جاء فيه أخبار الأولين بما كان منهم في سالف الدهور بما يوافقه عليه الكتب المتقدمة الصحيحة منها, فإن القرآن مهيمن عليها يصدق الصحيح ويبين خطأ المكذوب فيها وعليها, وهذه الاَية كقوله تعالى في سورة العنكبوت: {وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الاَيات عند الله وإنما أنا نذير مبين * أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من نبي إلا وقد أوتي من الاَيات ما آمن على مثله البشر, وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ, فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة» وإنما ذكر ههنا أعظم الاَيات التي أعطيها عليه السلام, وهو القرآن, وإلا فله من المعجزات ما لا يحد ولا يحصر, كما هو مودع في كتبه ومقرر في مواضعه.
ثم قال تعالى: {ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسول} أي لو أنا أهلكنا هؤلاء المكذبين قبل أن نرسل إليهم هذا الرسول الكريم وننزل عليهم هذا الكتاب العظيم, لكانوا قالوا: {ربنا لولا أرسلت إلينا رسول} قبل أن تهلكنا حتى نؤمن به ونتبعه كما قال: {فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى} يبين تعالى أن هؤلاء المكذبين متعنتون معاندون لا يؤمنون {ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} كما قال تعالى: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون ـ إلى قوله ـ بما كانوا يصدفون} وقال: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم} الاَية, وقال: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن به} الاَيتين, ثم قال تعالى: {قل} أي يا محمد لمن كذبك وخالفك واستمر على كفره وعناده {كل متربص} أي منا ومنكم {فتربصو} أي فانتظروا {فستعلمون من أصحاب الصراط السوي} أي الطريق المستقيم {ومن اهتدى} إلى الحق وسبيل الرشاد, وهذا كقوله تعالى: {وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيل} وقال: {سيعلمون غداً من الكذاب الأشر}.
آخر تفسير سورة طه ولله الحمد والمنة ويتلوه إن شاء الله تفسير سورة الأنبياء ولله الحمد.
تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 321
321 : تفسير الصفحة رقم 321 من القرآن الكريم** وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبّهِ وَلَعَذَابُ الاَخِرَةِ أَشَدّ وَأَبْقَىَ
يقول تعالى: وهكذا نجازي المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والاَخرة {لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الاَخرة أشق وما لهم من الله من واق} ولهذا قال: {ولعذاب الاَخرة أشد وأبقى} أي أشد ألماً من عذاب الدنيا وأدوم عليهم, فهم مخلدون فيه, ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين: «إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الاَخرة».
** أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لاُوْلِي النّهَىَ * وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رّبّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مّسَمّى * فَاصْبِرْ عَلَىَ مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ الْلّيْلِ فَسَبّحْ وَأَطْرَافَ النّهَارِ لَعَلّكَ تَرْضَىَ
يقول تعالى: {أفلم يهد} لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به يا محمد كم أهلكنا من الأمم المكذبين بالرسل قبلهم, فبادوا فليس لهم باقية ولا عين ولا أثر, كما يشاهدون ذلك من ديارهم الخالية التي خلفوهم فيها يمشون فيها {إن في ذلك لاَيات لأولي النهى} أي العقول الصحيحة والألباب المستقيمة, كما قال تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} وقال في سورة الم السجدة: {أو لم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم} الاَية, ثم قال تعالى: {ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاماً وأجل مسمى} أي لولا الكلمة السابقة من الله وهو أنه لايعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه, والأجل المسمى الذي ضربه الله تعالى لهؤلاء المكذبين إلى مدة معينة, لجاءهم العذاب بغتة, ولهذا قال لنبيه مسلياً له: {فاصبر علىَ ما يقولون} أي من تكذيبهم لك {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس} يعني صلاة الفجر {وقبل غروبه} يعني صلاة العصر, كما جاء في الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر, فقال: «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر, لا تضامون في رؤيته, فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا» ثم قرأ هذه الاَية.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن عمارة بن رؤيبة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها» رواه مسلم من حديث عبدالملك بن عمير به, وفي المسند والسنن عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة, ينظر الى أقصاه كما ينظر الى أدناه, وإن أعلاهم منزلة لمن ينظر إلى الله تعالى في اليوم مرتين».
وقوله: {ومن آناء الليل فسبح} أي من ساعاته فتهجد به, وحمله بعضهم على المغرب والعشاء, {وأطراف النهار} في مقابلة آناء الليل {لعلك ترضى} كما قال تعالى: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} وفي الصحيح «يقول الله تعالى ياأهل الجنة, فيقولون: لبيك ربنا وسعديك, فيقول: هل رضيتم ؟ فيقولون: ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك, فيقول: إني أعطيكم أفضل من ذلك, فيقولون: وأي شىء أفضل من ذلك ؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً» وفي الحديث الاَخر «يا أهل الجنة, إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه: فيقولون: وما هو ؟ ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويزحزحنا عن النار ويدخلنا الجنة, فيكشف الحجاب فينظرون إليه, فو الله ما أعطاهم خيراً من النظر إليه, وهي الزيادة»)
** وَلاَ تَمُدّنّ عَيْنَيْكَ إِلَىَ مَا مَتّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتّقْوَىَ
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تنظر إلى ما هؤلاء المترفون وأشباههم ونظراؤهم فيه من النعيم, فإنما هو زهرة زائلة ونعمة حائلة, لنختبرهم بذلك وقليل من عبادي الشكور. وقال مجاهد: {أزواجاً منهم}, يعني الأغنياء, فقد آتاك خيراً مما آتاهم, كما قال في الاَية الأخرى {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم لا تمدن عينيك} الاَية, وكذلك ما ادخره الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في الاَخرة أمر عظيم لا يحد ولا يوصف, كما قال تعالى: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} ولهذا قال: {ورزق ربك خير وأبقى} وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب لما دخل على على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك المشربة التي كان قد اعتزل فيها نساءه حين آلى منهن, فرآه متوسداً مضطجعاً على رمال حصير, وليس في البيت إلا صبرة من قرظ وأهب معلقة, فابتدرت عينا عمر بالبكاء, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مايبكيك يا عمر ؟» فقال: يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه, وأنت صفوة الله من خلقه ؟ فقال: «أو في شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا» فكان صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا مع القدرة عليها, إذا حصلت له ينفقها هكذا وهكذا في عباد الله, ولم يدخر لنفسه شيئاً لغد.
قال ابن أبي حاتم: أنبأنا يونس, أخبرنا ابن وهب, أخبرني مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار, عن أبي سعيدأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا» قالوا: وما زهرة الدنيا يا رسول الله ؟ قال «بركات الأرض». وقال قتادة والسدي: زهرة الحياة الدنيا, يعني زينة الحياة الدنيا. وقال قتادة: {لنفتنهم فيه} لنبتليهم. وقوله: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليه} أي استنقذهم من عذاب الله بإقام الصلاة, واصبر أنت على فعلها, كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نار}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أحمد بن صالح, حدثنا ابن وهب, أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب كان يبيت عنده أنا ويرفأ, وكان له ساعة من الليل يصلي فيها, فربما لم يقم, فنقول: لا يقوم الليلة كما كان يقوم, وكان إذا استيقظ أقام يعني أهله, وقال «وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها».
وقوله: {لا نسألك رزقاً نحن نرزقك} يعني إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب, كما قال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} وقال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ـ إلى قوله ـ إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} ولهذا قال: {لا نسألك رزقاً نحن نرزقك}. وقال الثوري: {لا نسألك رزق}, أي لا نكلفك الطلب. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا حفص بن غياث عن هشام عن أبيه أنه كان إذا دخل على أهل الدنيا فرأى من دنياهم طرفاً, فإذا رجع إلى أهله, فدخل الدار قرأ {ولا تمدن عينيك ـ إلى قوله ـ نحن نرزقك} ثم يقول: الصلاة. الصلاة رحمكم الله.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن أبي زياد القطواني, حدثنا سيار, حدثنا جعفر عن ثابت قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابه خصاصة نادى أهله: يا أهلاه صلوا, صلوا. قال ثابت: وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة, وقد روى الترمذي وابن ماجه من حديث عمران بن زائدة عن أبيه عن أبي خالد الوالبي, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك, وإن لم تفعل, ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك» وروى ابن ماجه من حديث الضحاك عن الأسود عن ابن مسعود: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: «من جعل الهموم هماً واحداً هم المعاد كفاه الله هم دنياه, ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك», وروي أيضاً من حديث شعبة عن عمر بن سليمان عن عبد الرحمن بن أبان, عن أبيه عن زيد بن ثابت, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره, وجعل فقره بين عينيه, ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له, ومن كانت الاَخرة نيته, جمع له أمره وجعل غناه في قلبه, وأتته الدنيا وهي راغمة» وقوله: {والعاقبة للتقوى} أي وحسن العاقبة في الدنيا والاَخرة, وهي الجنة لمن اتقى الله. وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت الليلة كأنا في دار عقبة بن رافع, وأنا أتينا برطب ابن طاب, فأولت ذلك أن العاقبة لنا في الدنيا والرفعة, وأن ديننا قد طاب».
** وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مّن رّبّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيّنَةُ مَا فِي الصّحُفِ الاُولَىَ * وَلَوْ أَنّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبّنَا لَوْلآ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نّذِلّ وَنَخْزَىَ * قُلْ كُلّ مّتَرَبّصٌ فَتَرَبّصُواْ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصّرَاطِ السّوِيّ وَمَنِ اهْتَدَىَ
يقول تعالى مخبراً عن الكفار في قولهم: {لول} أي هلا يأتينا محمد بآية من ربه, أي بعلامة دالة على صدقه في أنه رسول الله ؟ قال الله تعالى: {أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى} يعني القرآن الذي أنزله عليه الله, وهو أمي لا يحسن الكتابة ولم يدارس أهل الكتاب, وقد جاء فيه أخبار الأولين بما كان منهم في سالف الدهور بما يوافقه عليه الكتب المتقدمة الصحيحة منها, فإن القرآن مهيمن عليها يصدق الصحيح ويبين خطأ المكذوب فيها وعليها, وهذه الاَية كقوله تعالى في سورة العنكبوت: {وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الاَيات عند الله وإنما أنا نذير مبين * أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من نبي إلا وقد أوتي من الاَيات ما آمن على مثله البشر, وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ, فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة» وإنما ذكر ههنا أعظم الاَيات التي أعطيها عليه السلام, وهو القرآن, وإلا فله من المعجزات ما لا يحد ولا يحصر, كما هو مودع في كتبه ومقرر في مواضعه.
ثم قال تعالى: {ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسول} أي لو أنا أهلكنا هؤلاء المكذبين قبل أن نرسل إليهم هذا الرسول الكريم وننزل عليهم هذا الكتاب العظيم, لكانوا قالوا: {ربنا لولا أرسلت إلينا رسول} قبل أن تهلكنا حتى نؤمن به ونتبعه كما قال: {فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى} يبين تعالى أن هؤلاء المكذبين متعنتون معاندون لا يؤمنون {ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} كما قال تعالى: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون ـ إلى قوله ـ بما كانوا يصدفون} وقال: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم} الاَية, وقال: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن به} الاَيتين, ثم قال تعالى: {قل} أي يا محمد لمن كذبك وخالفك واستمر على كفره وعناده {كل متربص} أي منا ومنكم {فتربصو} أي فانتظروا {فستعلمون من أصحاب الصراط السوي} أي الطريق المستقيم {ومن اهتدى} إلى الحق وسبيل الرشاد, وهذا كقوله تعالى: {وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيل} وقال: {سيعلمون غداً من الكذاب الأشر}.
آخر تفسير سورة طه ولله الحمد والمنة ويتلوه إن شاء الله تفسير سورة الأنبياء ولله الحمد.
الصفحة رقم 321 من المصحف تحميل و استماع mp3