تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 326 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 326

326- تفسير الصفحة رقم326 من المصحف
الآيتان: 45 - 46 {قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون، ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين}
قوله تعالى: "قل إنما أنذركم بالوحي" أي أخوفكم وأحذركم بالقرآن. "ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون" أي من أصم الله قلبه، وختم على سمعه، وجعل على بصره غشاوة، عن فهم الآيات وسماع الحق. وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي ومحمد بن السميقع "ولا يُسْمَع" بياء مضمومة وفتح الميم على ما لم يسم فاعله "الصم" رفعا أي إن الله لا يسمعهم. وقرأ ابن عامر والسلمي أيضا، وأبو حيوة ويحيى بن الحرث "ولا تسمع" بتاء مضمومة وكسر الميم "الصم" نصبا؛ أي إنك يا محمد "لا تُسمع الصم الدعاء "؛ فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. ورد هذه القراءة بعض أهل اللغة. وقال: وكان يجب أن يقول: إذا ما تنذرهم. قال النحاس: وذلك جائز؛ لأنه قد عرف المعنى.
قوله تعالى: "ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك" قال ابن عباس: طرف. قال قتادة: عقوبة. ابن كيسان: قليل وأدنى شيء؛ مأخوذة من نفح المسك. قال:
وعمرة من سروات النساء تنفح بالمسك أردانها
ابن جريج: نصيب؛ كما يقال: نفح فلان لفلان من عطائه، إذا أعطاه نصيبا من المال. قال الشاعر:
لما أتيتك أرجو فضل نائلكم نفحتني نفحة طابت لها العرب
أي طابت لها النفس. والنفحة في اللغة الدفعة اليسيرة؛ فالمعنى ولئن مسهم أقل شيء من العذاب. "ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين" أي متعدين فيعترفون حين لا ينفعهم الاعتراف.
الآية: 47 {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين}
قوله تعالى: "ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا" الموازين جمع ميزان. فقيل: إنه يدل بظاهره على أن لكل مكلف ميزانا توزن به أعماله، فتوضع الحسنات في وكفة، والسيئات في كفة. وقيل: يجوز أن يكون هناك موازين للعامل الواحد، يوزن بكل ميزان منها صنف من أعماله؛ كما قال:
ملك تقوم الحادثات لعدله فلكل حادثة لها ميزان
ويمكن أن يكون ميزانا واحدا عبر عنه بلفظ الجمع. وخرج اللالكائي الحافظ أبو القاسم في سننه عن أنس يرفعه: (إن ملكا موكلا بالميزان فيؤتي بابن آدم فيوقف بين كفتي الميزان فإن رجح نادي الملك بصوت يسمع الخلائق سعد فلان سعادة لا يشقي بعدها أبدا وإن خف نادي الملك شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا). وخرج عن حذيفة رضي الله عنه قال: (صاحب الميزان يوم القيامة جبريل عليه السلام) وقيل: للميزان كفتان وخيوط ولسان والشاهين؛ فالجمع يرجع إليها. وقال مجاهد وقتادة والضحاك: ذكر الميزان مثل وليس ثم ميزان وإنما هو العدل. والذي وردت به الأخبار وعليه السواد الأعظم القول الأول. وقد مضى في "الأعراف" بيان هذا، وفي "الكهف" أيضا. وقد ذكرناه في كتاب "التذكرة" مستوفى والحمد لله. و"القسط" العدل أي ليس فيها بخس ولا ظلم كما يكون في وزن الدنيا. و"القسط" صفة الموازين ووحد لأنه مصدر؛ يقال: ميزان قسط، وميزانان قسط، وموازين قسط. مثل رجال عدل ورضا. وقرأت فرقة "القصط" بالصاد. "ليوم القيامة" أي لأهل يوم القيامة. وقيل: المعنى في يوم القيامة. "فلا تظلم نفس شيئا" أي لا ينقص من إحسان محسن ولا يزاد في إساءة مسيء. "وإن كان مثقال حبة من خردل" قرأ نافع وشيبة وأبو جعفر "مثقال حبة" بالرفع هنا؛ وفي "لقمان" على معنى إن وقع أو حضر؛ فتكون كان تامة ولا تحتاج إلى خبر الباقون "مثقال" بالنصب على معنى وإن كان العمل أو ذلك الشيء مثقال. ومثقال الشيء ميزانه من مثله. "أتينا بها" مقصورة الألف قراءة الجمهور أي أحضرناها وجئنا بها للمجازاة عليها ولها. يجاء بها أي بالحجة ولو قال به أي بالمثقال لجاز. وقيل: مثقال الحبة ليس شيئا غير الحبة فلهذا قال: "أتينا بها". وقرأ مجاهد وعكرمة "آتينا" بالمد على معنى جازينا بها. يقال آتى يؤاتي مؤاتاة. "وكفى بنا حاسبين" أي محاسبين على ما قدموه من خير وشر. وقيل: "حاسبين" إذ لا أحد أسرع حسابا منا. والحساب العد. روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها: أن رجلا قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأشتمهم وأضربهم فكيف أنا منهم؟ قال: (يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا لك ولا عليك وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلا لك وإن كان عقابك فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل) قال: فتنحى الرجل فجعل يبكي ويهتف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أما تقرأ كتاب الله تعالى: "ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا") فقال الرجل: والله يا رسول الله ما أجد لي ولهؤلاء شيئا خيرا من مفارقتهم، أشهدك أنهم أحرار كلهم. قال حديث غريب.
الآيات: 48 - 50 {ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين، الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون، وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون}
قوله تعالى: "ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء" وحكي عن ابن عباس وعكرمة "الفرقان ضياء" بغير واو على الحال. وزعم الفراء أن حذف الواو والمجيء بها واحد، كما قال عز وجل: "إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا" [الصافات: 6 - 7] أي حفظا. ورد عليه هذا القول الزجاج. قال: لأن الواو تجيء لمعنى فلا تزاد قال: وتفسير "الفرقان" التوراة؛ لأن فيها الفرق بين الحرام والحلال. قال: "وضياء" مثل "فيه هدى ونور" وقال ابن زيد: "الفرقان" هنا هو النصر على الأعداء؛ دليله قوله تعالى: "وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان" [الأنفال: 41] يعني يوم بدر. قال الثعلبي: وهذا القول أشبه بظاهر الآية؛ لدخول الواو في الضياء؛ فيكون معنى الآية: ولقد أتينا موسى وهارون النصر والتوراة التي هي الضياء والذكر. "الذين يخشون ربهم بالغيب" أي غائبين؛ لأنهم لم يروا الله تعالى، بل عرفوا بالنظر. والاستدلال أن لهم ربا قادرا، يجازي على الأعمال فهم يخشونه في سرائرهم، وخلواتهم التي يغيبون فيها عن الناس.
"وهم من الساعة" أي من قيامها قبل التوبة. "مشفقون" أي خائفون وجلون
قوله تعالى: "وهذا ذكر مبارك أنزلناه" يعني القرآن "أفأنتم له" يا معشر العرب "منكرون" وهو معجز لا تقدرون على الإتيان بمثله. وأجاز الفراء "وهذا ذكر مباركا أنزلناه" بمعنى أنزلناه مباركا.
الآية: 51 {ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين}
قوله تعالى: "ولقد آتينا إبراهيم رشده" قال الفراء: أي أعطياه هداه. "من قبل" أي من قبل النبوة؛ أي وفقناه للنظر والاستدلال، لما جن عليه الليل فرأى النجم والشمس والقمر. وقيل: "من قبل" أي من قبل موسى وهارون. والرشد على هذا النبوة. وعلى الأول أكثر أهل التفسير؛ كما قال ليحيى: "وآتيناه الحكم صبيا" [مريم: 12 ]. وقال القرظي: رشده صلاحه. "وكنا به عالمين" أي إنه أهل لإيتاء الرشد وصالح للنبوة.
الآيات: 52 - 56 {إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين، قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين، قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين، قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين}
قوله تعالى: "إذ قال لأبيه وقومه" قيل: المعنى أي اذكر حين قال لأبيه؛ فيكون الكلام قد تم عند قوله: "وكنا به عالمين". وقيل: المعنى؛ "وكنا به عالمين إذ قال" فيكون الكلام متصلا ولا يوقف على قوله: "عالمين". "لأبيه" وهو آزر "وقومه" نمرود ومن اتبعه. "ما هذه التماثيل" أي الأصنام. والتمثال اسم موضوع للشيء المصنوع مشبها بخلق من بخلق الله تعالى. يقال: مثلت الشيء بالشيء أي شبهته به. واسم ذلك الممثل تمثال. "التي أنتم لها عاكفون" أي مقيمون على عبادتها. "قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين" أي نعبدها تقليدا لأسلافنا. "قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين" أي في خسران بعبادتها؛ إذ هي جمادات لا تنفع ولا تضر ولا تعلم. "قالوا أجئتنا بالحق" أي أجاء أنت بحق فيما تقول؟ "أم أنت من اللاعبين" أي لاعب مازح. "قال بل ربكم رب السماوات والأرض" أي لست بلاعب، بل ربكم والقائم بتدبيركم خالق السموات والأرض. "الذي فطرهن" أي خلقهن وأبدعهن. "وأنا على ذلكم من الشاهدين" أي على أنه رب السموات والأرض. والشاهد يبين الحكم، ومنه "شهد الله" [آل عمران: 18] بين الله؛ فالمعنى: وأنا أبين بالدليل ما أقول.
الآيتان: 57 - 58 {وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين، فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون}
قوله تعالى: "وتالله لأكيدن أصنامكم" أخبر أنه لم يكتف بالمحاجة باللسان بل كسر أصنامهم فعل واثق بالله تعالى، موطن نفسه على مقاساة المكروه في الذب عن الدين. والتاء في "تالله" تختص في القسم باسم الله وحده، والواو تختص بكل مظهر، والباء بكل مضمر ومظهر. قال الشاعر:
تالله يبقي على الأيام ذو حيد بمشمخر به الظيان والآس
وقال ابن عباس: أي وحرمة الله لأكيدن أصنامكم، أي لأمكرن بها. والكيد المكر. كاده يكيده كيدا ومكيدة، وكذلك المكايدة؛ وربما سمي الحرب كيدا؛ يقال: غزا فلان فلم يلق كيدا، وكل شيء تعالجه فأنت تكيده. "بعد أن تولوا مدبرين" أي منطلقين ذاهبين. وكان لهم في كل سنة عيد يجتمعون فيه، فقالوا لإبراهيم: لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا - روي ذلك عن ابن مسعود على ما يأتي بيانه في "والصافات" - فقال إبراهيم في نفسه: "وتالله لأكيدهم أصنامكم". قال مجاهد وقتادة: إنما قال ذلك إبراهيم في سر من قومه، ولم يسمعه إلا رجل. واحد وهو الذي أفشاه عليه والواحد يخبر عنه بخبر الجمع إذا كان ما أخبر به مما يرضى به غيره ومثله "يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأزل" [المنافقون: 8]. وقيل: إنما قاله بعد خروج القوم، ولم يبق منهم إلا الضعفاء فهم الدين سمعوه. وكان إبراهيم احتال في التخلف عنهم بقوله: "إني سقيم" [الصافات: 89] أي ضعيف عن الحركة.
قوله تعالى: "فجعلهم جذاذا" أي فتاتا. والجذ الكسر والقطع؛ جذذت الشيء كسرته وقطعته. والجذاذ والجذاذ ما كسر منه، والضم أفصح من كسره. قاله الجوهري. الكسائي: ويقال لحجارة الذهب جذاذ؛ لأنها تكسر. وقرأ الكسائي والأعمش وابن محيصن "جذاذا" بكسر الجيم؛ أي كسرا وقطعا جمع جذيذ وهو الهشيم، مثل خفيف وخفاف وظريف وظراف. قال الشاعر:
جذذ الأصنام في محرابها ذاك في الله العلي المقتدر
الباقون بالضم؛ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. [مثل] الحطام والرفات الواحدة جذاذة. وهذا هو الكيد الذي أقسم به ليفعلنه بها. وقال: "فجعلهم"؛ لأن القوم اعتقدوا في أصنامهم الإلهية. وقرأ ابن عباس وأبو نهيك وأبو السمال "جذاذا" بفتح الجيم؛ والفتح والكسر لغتان كالحصاد والحصاد. أبو حاتم: الفتح والكسر والضم بمعنى؛ حكاه قطرب. "إلا كبيرا لهم" أي عظيم الآلهة في الخلق فإنه لم يكسره. وقال السدي ومجاهد: ترك الصنم الأكبر وعلق الفأس الذي كسر به الأصنام في عنقه؛ ليحتج به عليهم. "لعلهم إليه يرجعون" أي إلى إبراهيم دينه "يرجعون" إذا قامت الحجة عليهم. وقيل: "لعلهم إليه" أي إلى الصنم الأكبر "يرجعون" في تكسيرها.