تفسير الطبري تفسير الصفحة 326 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 326
327
325
 الآية : 45
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قُلْ إِنّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلاَ يَسْمَعُ الصّمّ الدّعَآءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا مـحمد لهؤلاء القائلـين فلـيأتنا بآية كما أرسل الأولون: إنـما أنذركم أيها القوم بتنزيـل الله الذي يوحيه إلـى من عنده, وأخوّفكم به بأسه. كما:
18582ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة, قوله: قُلْ إنّـمَا أُنْذِرُكُمْ بـالوَحْيِ أي بهذا القرآن.
وقوله: وَلا يَسْمَعُ الصّمّ الدّعاءَ اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الأمصار: ولا يَسْمَعُ بفتـح الـياء من «يَسْمَعُ» بـمعنى أنه فعل للصمّ, و«الصمّ» حينئذ مرفوعون. ورُوي عن أبـي عبد الرحمن السلـمي أنه كان يقرأ: «وَلا تُسْمعُ» بـالتاء وضمها, فـالصمّ علـى هذه القراءة مرفوعة, لأن قوله: «وَلا تُسْمِعُ» لـم يسمّ فـاعله, ومعناه علـى هذه القراءة: ولا يسمع الله الصمّ الدعاء.
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندنا فـي ذلك ما علـيه قرّاء الأمصار لإجماع الـحجة من القرّاء علـيه. ومعنى ذلك: ولا يصغي الكافر بـالله بسمع قلبه إلـى تذكر ما فـي وحي الله من الـمواعظ والذكر, فـيتذكر به ويعتبر, فـينزجر عما هو علـيه مقـيـم من ضلاله إذا تُلـى علـيه وأُريد به ولكنه يعرض عن الاعتبـار به والتفكر فـيه, فعل الأصمّ الذي لا يسمع ما يقال له فـيعمل به.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18583ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَلا يَسْمَعُ الصّمّ الدّعاءَ إذَا ما يُنْذَرُونَ يقول: إن الكافر قد صمّ عن كتاب الله لا يسمعه, ولا ينتفع به ولا يعقله, كما يسمعه الـمؤمن وأهل الإيـمان.

الآية : 46
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَلَئِن مّسّتْهُمْ نَفْحَةٌ مّنْ عَذَابِ رَبّكَ لَيَقُولُنّ يَويْلَنَآ إِنّا كُنّا ظَالِمِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: ولئن مست هؤلاء الـمستعجلـين بـالعذاب يا مـحمد نفحة من عذاب ربك, يعنـي بـالنفحة النصيب والـحظّ, من قولهم: نفح فلان لفلان من عطائه: إذا أعطاه قسما أو نصيبـا من الـمال. كما:
18584ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَلَئِنْ مَسّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبّكَ... الاَية, يقول: لئن أصابتهم عقوبة.
وقوله: لَـيَقُولُنّ يا وَيْـلَنا إنّا كُنّا ظالِـمِينَ يقول: لئن أصابتهم هذه النفحة من عقوبة ربك يا مـحمد بتكذيبهم بك وكفرهم, لـيعلـمنّ حينئذ غبّ تكذيبهم بك, ولـيعترفن علـى أنفسهم بنعمة الله وإحسانه إلـيهم وكفرانهم أياديه عندهم, ولـيقولنّ يا ويـلنا إنا كان ظالـمين فـي عبـادتنا الاَلهة والأنداد, وتركنا عبـادة الله الذي خـلقنا وأنعم علـينا, ووضعنا العبـادة غير موضعها.
الآية : 47
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىَ بِنَا حَاسِبِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: وَنَضَعُ الـمَوَازِينَ العدل وهو القِسْطَ. وجعل القسط وهو موحد من نعت الـموازين, وهو جمع لأنه فـي مذهب عدل ورضا ونظر. وقوله: لِـيَوْمِ القِـيامَةِ يقول: لأهل يوم القـيامة, ومن ورد علـى الله فـي ذلك الـيوم من خـلقه. وقد كان بعض أهل العربـية يوجه معنى ذلك إلـى «فـي» كأن معناه عنده: ونضع الـموازين القسط فـي يوم القـيامة. وقوله: فَلا تُظْلَـمُ نَفْسٌ شَيْئا يقول: فلا يظلـم الله نفسا مـمن ورد علـيه منهم شيئا بأن يعاقبه بذنب لـم يعمله أو يبخسه ثواب عمل عمله وطاعة أطاعه بها ولكن يجازي الـمـحسن بإحسانه, ولا يعاقب مسيئا إلا بإساءته.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18585ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وَنَضَعُ الـمَوَازِينَ القِسْطَ لِـيَوْمِ القِـيامَةِ... إلـى آخر الاَية, وهو كقوله: وَالوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الـحَقّ يعنـي بـالوزن: القِسط بـينهم بـالـحقّ فـي الأعمال الـحسنات والسيئات فمن أحاطت حسناته بسيئاته ثقلت موازينه, يقول: أذهبت حسناته سيئاته, ومن أحاطت سيئاته بحسناته فقد خفّت موازينه وأمه هاوية, يقول: أذهبت سيئاته حسناته.
18586ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: وَنَضَعُ الـمَوَازِينَ القِسْطَ لِـيَوْمِ القِـيامَةِ قال: إنـما هو مثل, كما يجوز الوزن كذلك يجوز الـحقّ. قال الثوري: قال لـيث عن مـجاهد: وَنَضَعُ الـمَوَازِينَ القِسْطَ قال: العدل.
وقوله: وَإنْ كانَ مِثْقالَ حَبّةٍ مِنْ خَرْدَلِ أتَـيْنا بِها يقول: وإن كان الذي له من عمل الـحسنات أو علـيه من السيئات وزن حبة من خردل أتَـيْنَا بِهَا يقول: جئنا بها فأحضرناها إياه. كما:
18587ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَإنْ كانَ مِثْقالَ حَبّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أتَـيْنا بِها قال: كتبناها وأحصيناها له وعلـيه.
18588ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَإنْ كانَ مِثْقالَ حَبّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أتَـيْنا بِها قال: يؤتـي بها لك وعلـيك, ثم يعفو إن شاء أو يأخذ, ويجزي بـما عمل له من طاعة.
وكان مـجاهد يقول فـي ذلك ما:
18589ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: حدثنا سفـيان, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: وَإنْ كانَ مِثْقالَ حَبّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أتَـيْنا بِها قال: جازينا بها.
حدثنا عمرو بن عبد الـحميد, قال: حدثنا سفـيان, عن لـيث, عن مـجاهد أنه كان يقول: وَإنْ كانَ مِثْقالَ حَبّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أتَـيْنا بِها قال: جازينا بها.
وقال: أتَـيْنَا بِهَا فأخرج قوله بها مخرج كناية الـمؤنث, وإن كان الذي تقدم ذلك قوله مثقال حبة, لأنه عنـي بقوله بها الـحبة دون الـمثقال, ولو عنـي به الـمثقال لقـيـل «به». وقد ذكر أن مـجاهدا إنـما تأوّل قوله: أتَـيْنا بِها علـى ما ذكرنا عنه, لأنه كان يقرأ ذلك: «آتَـيْنا بِها» بـمدّ الألف. وقوله: وكَفَـى بِنا حاسِبِـينَ يقول: وحسب من شهد ذلك الـموقـف بنا حاسبـين, لأنه لا أحد أعلـم بأعمالهم وما سلف فـي الدّنا من صالـح أو سيىء منا.

الآية : 48
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىَ وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَآءً وَذِكْراً لّلْمُتّقِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: ولقد آتـينا موسى بن عمران وأخاه هارون الفرقان, يعنـي به الكتاب الذي يفرق بـين الـحقّ والبـاطل. وذلك هو التوراة فـي قول بعضهم ذكر من قال ذلك:
18590ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: الفُرْقان قال: الكتاب.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
18591ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة, قوله: وَلَقَدْ آتَـيْنا مُوسَى وَهارُونَ الفُرْقانَ الفرقان: التوراة حلالها وحرامها, وما فرق الله به بـين الـحق والبـاطل.
وكان ابن زيد يقول فـي ذلك ما:
18592ـ حدثنـي به يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَلَقَدْ آتَـيْنا مُوسَى وَهارُونَ الفُرْقانَ قال: الفرقان: الـحق آتاه الله موسى وهارون, فرق بـينهما وبـين فرعون, فقضى بـينهم بـالـحقّ. وقرأ: وَما أنْزَلْنا عَلـى عَبْدِنا يَوْمَ الفُرْقانِ قال: يوم بدر.
قال أبو جعفر: وهذا القول الذي قاله ابن زيد فـي ذلك أشبه بظاهر التنزيـل, وذلك لدخول الواو فـي الضياء, ولو كان الفرقان هو التوراة كما قال من قال ذلك, لكان التنزيـل: ولقد آتـينا موسى وهارون الفرقان ضياء لأن الضياء الذي آتـى الله موسى وهارون هو التوراة التـي أضاءت لهما ولـمن اتبعهما أمر دينهم فبصرّهم الـحلال والـحرام, ولـم يقصد بذلك فـي هذا الـموضع ضياء الإبصار. وفـي دخول الواو فـي ذلك دلـيـل علـى أن الفرقان غير التوراة التـي هي ضياء.
فإن قال قائل: وما ينكر أن يكون الضياء من نعت الفرقان, وإن كانت فـيه واو فـيكون معناه: وضياء آتـيناه ذلك, كما قال بِزِينَةٍ الكَوَاكِبِ وَحِفْظا؟ قـيـل له: إن ذلك وإن كان الكلام يحتـمله, فإن الأغلب من معانـيه ما قلنا. والواجب أن يوجه معانـي كلام الله إلـى الأغلب الأشهر من وجوهها الـمعروفة عند العرب ما لـم يكن بخلاف ذلك ما يجب التسلـيـم له من حجة خبر أو عقل.
وقوله: وَذِكْرا للْـمُتّقِـينَ يقول: وتذكيرا لـمن اتقـى الله بطاعته وأداء فرائضه واجتناب معاصيه, ذكّرهم بـما آتـى موسى وهارون من التوراة .
الآية : 49
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { الّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مّنَ السّاعَةِ مُشْفِقُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: آتـينا موسى وهارون الفرقان الذّكْر الذي آتـيناهما للـمتقـين الذين يخافون ربهم بـالغيب, يعنـي فـي الدنـيا أن يعاقبهم فـي الاَخرة إذا قدموا علـيه بتضيـيعهم ما ألزمهم من فرائضه فهم من خشيته يحافظون علـى حدوده وفرائضه, وهم من الساعة التـي تقوم فـيها القـيامة مشفقون, حذرون أن تقوم علـيهم, فـيردوا علـى ربهم قد فرّطوا فـي الواجب علـيهم لله, فـيعاقبهم من العقوبة بـما لا قِبَل لهم به.
الآية : 50
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَهَـَذَا ذِكْرٌ مّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ }.
يقول جلّ ثناؤه: وهذا القرآن الذي أنزلناه إلـى مـحمد صلى الله عليه وسلم ذِكْرٌ لـمن تذكر به, وموعظة لـمن اتعظ به. مبـاركٌ أنزلناهُ كما أنزلنا التوراة إلـى موسى وهارون ذكرا للـمتقـين. أفأَنْتُـمْ لَهُ مُنْكِرُونَ يقول تعالـى ذكره: أفأنتـم أيها القوم لهذا الكتاب الذي أنزلناه إلـى مـحمد منكرون وتقولون هُوَ أضْغاثُ أحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْـيَأْتِنا بآيَةٍ كمَا أُرْسِلَ الأوّلُونَ وإنـما الذي آتـيناه من ذلك ذكر للـمتقـين, كالذي آتـينا موسى وهارون ذكرا للـمتقـين.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18593ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَهَذَا ذِكْرٌ مُبـارَكٌ… إلـى قوله: أفأنْتُـمْ لَهُ مُنْكِرُونَ: أي هذا القرآن.
الآية : 51 و 52
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَـَذِهِ التّمَاثِيلُ الّتِيَ أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: وَلَقَدْ آتَـيْنا إبْرَاهِيـمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ موسى وهارون, ووفّقناه للـحقّ, وأنقذناه من بـين قومه وأهل بـيته من عبـادة الأوثان, كما فعلنا ذلك بـمـحمد صلى الله عليه وسلم وعلـى إبراهيـم, فأنقذنا من قومه وعشيرته من عبـادة الأوثان, وهديناه إلـى سبـيـل الرشاد توفـيقا مّنا له.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18594ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى «ح» وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: وَلَقَدْ آتَـيْنا إبْرَاهِيـمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ قال: هديناه صغيرا.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد: وَلَقَدْ آتَـيْنا إبْرَاهِيـمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ قال: هداه صغيرا.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: آتَـيْنا إبْرَاهِيـمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ قال: هداه صغيرا.
18595ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة, قوله: وَلَقَدْ آتَـيْنا إبْرَاهِيـمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ يقول: آتـيناه هداه.
وقوله: وكُنّا بِهِ عالِـمِينَ يقول: وكنا عالـمين به أنه ذو يقـين وإيـمان بـالله وتوحيد له, لا يشرك به شيئا. إذْ قَالَ لأَبِـيِهِ وَقْومِهِ يعنـي فـي وقت قـيـله وحين قـيـله لهم: ما هذهِ التـماثِـيـلُ الّتِـي أنتـمْ لَهَا عَاكِفُونَ يقول: قال لهم: أيّ شيء هذه الصور التـي أنتـم علـيها مقـيـمون؟ وكانت تلك التـماثـيـل أصنامهم التـي كانوا يعبدونها كما:
18596ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: ما هَذِهِ التّـماثِـيـلُ الّتِـي أنْتُـمْ لَهَا عاكِفُونَ قال: الأصنام.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
وقد بـيّنا فـيـما مضى من كتابنا هذا أن العاكف علـى الشيء الـمقـيـم علـيه بشواهد ذلك, وذكرنا الرواية عن أهل التأويـل.
الآية : 53 -55
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ * قَالُوَاْ أَجِئْتَنَا بِالْحَقّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاّعِبِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: قال أبو إبراهيـم وقومه لإبراهيـم: وجدنا آبـاءنا لهذه الأوثان عابدين, فنـحن علـى ملة آبـائنا نعبدها كما كانوا يعبدون. قالَ إبراهيـم: لَقَدْ كُنْتُـمْ أيها القوم أنْتُـمْ وَآبـاؤُكُمْ بعبـادتكم إياها فِـي ضَلالٍ مُبِـينٍ يقول: فـي ذهاب عن سبـيـل الـحقّ, وجور عن قصد السبـيـل مبـين يقول: بَـيّنٌ لـمن تأمله بعقل أنكم كذلك فـي جور عن الـحقّ. قالُوا أجِئْتَنا بـالـحَقّ؟ يقول: قال أبوه وقومه له: أجئتنا بـالـحقّ فـيـما تقول أمْ أنْتَ هازل لاعب مِنَ اللاّعِبِـينَ.
الآية : 56
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قَالَ بَل رّبّكُمْ رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الّذِي فطَرَهُنّ وَأَنَاْ عَلَىَ ذَلِكُمْ مّنَ الشّاهِدِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: قال إبراهيـم لهم: بل جئتكم بـالـحقّ لا اللعب, ربكم ربّ السموات والأرض الذي خـلقهنّ, وأنا علـى ذلكم من أن ربكم هو ربّ السموات والأرض الذي فطرهنّ دون التـماثـيـل التـي أنتـم لها عاكفون ودون كلّ أحد سواه شاهد من الشاهدين, يقول: فإياه فـاعبدوا لا هذه التـماثـيـل التـي هي خـلقه التـي لا تضرّ ولا تنفع.
الآية : 57 - 58
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَتَاللّهِ لأكِيدَنّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلّواْ مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاّ كَبِيراً لّهُمْ لَعَلّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ }.
ذكر أن إبراهيـم صلوات الله علـيه حلف بهذه الـيـمين فـي سرّ من قومه وخفـاء, وأنه لـم يسمع ذلك منه إلا الذي أفشاه علـيه حين قالوا: من فعل هذا بآلهتنا إنه لـمن الظالـمين, فقالوا: سمعنا فتـى يذكرهم يقال له إبراهيـم. ذكر من قال ذلك:
18597ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قول الله: وَتاللّهِ لأَكِيدَنّ أصْنامَكُمْ قال: قول إبراهيـم حين استتبعه قومه إلـى عيد لهم فأبى وقال: إنـي سقـيـم, فسمع منه وعيد أصنامهم رجل منهم استأخر, وهو الذي يقول: سَمِعْنا فَتـى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لهُ إبْرَاهِيـمُ.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
18598ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة, قوله: وَتاللّهِ لأَكِيدَنّ أصْنامَكُمْ قال: نرى أنه قال ذلك حيث لـم يسمعوه بعد أن تولّوا مدبرين.
وقوله: فَجَعَلَهُمْ جُذَاذا إلاّ كَبِـيرا لَهُمْ اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الأمصار سوى يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي: «فَجَعَلَهُمْ جِذَاذا» بـمعنى جمع جذيذ, كأنهم أرادوا به جمع جذيذ وجِذاذ, كما يجمع الـخفـيف خِفـاف, والكريـم كِرام.
وأولـى القراءتـين فـي ذلك عندنا بـالصواب قراءة من قرأه: جُذَاذا بضمّ الـجيـم, لإجماع قرّاء الأمصار علـيه, وأن ما أجمعت علـيه فهو الصواب وهو إذا قرىء كذلك مصدرٌ مثل الرّفـات, والفُتات, والدّقاق لا واحد له, وأما من كسر الـجيـم فإنه جمع للـجذيذ, والـجذيذ: هو فعيـل صُرِف من مـجذوذ إلـيه, مثل كسير وهشيـم, والـمـجذوذة: الـمكسورة قِطَعا.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18599ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: فجَعَلَهُمْ جُذَاذا يقول: حُطاما.
18600ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: جُذَاذا كالصّريـم.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
18601ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة, قوله: فَجَعَلَهُمْ جُذَاذا: أي قطعا.
وكان سبب فعل إبراهيـم صلوات الله علـيه بآلهة قومه ذلك, كما:
18602ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط عن السديّ: أن إبراهيـم قال له أبوه: يا إبراهيـم إن لنا عيدا لو قد خرجت معنا إلـيه قد أعجبك ديننا فلـما كان يوم العيد, فخرجوا إلـيه, خرج معهم إبراهيـم, فلـما كان ببعض الطريق ألقـى نفسه وقال: إنـي سقـيـم, يقول: أشتكى رجلـي. فتواطئوا رجلـيه وهو صريع فلـما مضوا نادى فـي آخرهم, وقد بقـي ضَعْفَـي الناس: وَتاللّهِ لأَكِيدَنّ أصْنامَكُمْ بَعْدَ أنْ تُوَلّوْا مُدْبِرِينَ فسمعوها منه. ثم رجع إبراهيـم إلـى بـيت الاَلهة, فإذا هنّ فـي بهو عظيـم, مستقبل بـاب البهو صنـم عظيـم إلـى جنبه أصغر منه بعضها إلـى بعض, كل صنـم يـلـيه أصغر منه, حتـى بلغوا بـاب البهو, وإذا هم قد جعلوا طعاما, فوضعوه بـين أيدي الاَلهة, قالوا: إذا كان حين نرجع رجعنا وقد بـاركت الاَلهة فـي طعامنا فأكَلْنا. فلـما نظر إلـيهم إبراهيـم وإلـى ما بـين أيديهم من الطعام قالَ ألا تَأْكُلُونَ؟ فلـما لـم تـجبه, قال: ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ فَرَاغَ عَلَـيْهِمْ ضَرْبـا بـالْـيَـمِينِ فأخذ فأس حديد, فنقر كلّ صنـم فـي حافتـيه, ثم علقّ الفأس فـي عنق الصنـم الأكبر, ثم خرج. فلـما جاء القوم إلـى طعامهم نظروا إلـى آلهتهم قالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنا إنّهُ لِـمِنَ الظّالِـمِينَ قالُوا سَمِعْنا فَتًـى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إبْرَاهِيـمُ.
وقوله: إلاّ كَبِـيرا لَهُمْ يقول: إلا عظيـما للاَلهة, فإن إبراهيـم لـم يكسره, ولكنه فـيـما ذكر علق الفأس فـي عنقه.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18603ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج: إلاّ كَبِـيرا لَهُمْ قال: قال ابن عبـاس: إلا عظيـما لهم عظيـم آلهتهم. قال ابن جُرَيْج, وقال مـجاهد: وجعل إبراهيـم الفأس التـي أهلك بها أصنامهم مُسْندة إلـى صدر كبـيرهم الذي تَرَك.
18604ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: جعل إبراهيـم الفأس التـي أهلك بها أصنامهم مسندة إلـى صدر كبـيرهم الذي ترك.
18605ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: أقبل علـيهنّ كما قال الله تبـارك وتعالـى ضَرْبـا بـالـيَـمِينِ ثم جعل يكسرهنّ بفأس فـي يده, حتـى إذا بقـي أعظم صنـم منها ربط الفأس بـيده, ثم تركهنّ. فلـما رجع قومه, رأوا ما صنع بأصنامهم, فراعهم ذلك وأعظموه وقالوا: من فعل هذا بآلهتنا إنه لـمن الظالـمين.
وقوله لَعَلّهُمْ إلَـيْهِ يَرْجِعُونَ يقول: فعل ذلك إبراهيـم بآلهتهم لعيتبروا ويعلـموا أنها إذا لـم تدفع عن نفسها ما فعل بها إبراهيـم, فهي من أن تدفع عن غيرها من أراده بسوء أبعد, فـيرجعوا عما هم علـيه مقـيـمون من عبـادتها إلـى ما هو علـيه من دينه وتوحيد الله والبراءة من الأوثان.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18606ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة: لَعَلّهُمْ إلَـيْهِ يَرْجِعُونَ قال: كادهم بذلك لعلهم يتذكرون أو يبصرون