تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 325 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 325

325- تفسير الصفحة رقم325 من المصحف
الآية: 36 {وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون}
قوله تعالى: "وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا" أي ما يتخذونك. والهزاء السخرية؛ وقد تقدم وهم المستهزئون المتقدمو الذكر في آخر سورة "الحجر" في قوله: "إنا كفيناك المستهزئين" [الحجر: 95]. كانوا يعيبون من جاحد إلهية أصنامهم وهم جاحدون لإلهية الرحمن؛ وهذا غاية الجهل. "أهذا الذي" أي يقولون: أهذا الذي؟ فأضمر القول وهو جواب "إذا" وقوله: "إن يتخذونك إلا هزوا" كلام معترض بين "إذا" وجوابه. "يذكر آلهتكم" أي بالسوء والعيب. ومنه قول عنترة:
لا تذكري مهري وما أطعمته فيكون جلدك مثل جلد الأجرب
أي لا تعيبي مهري. "وهم بذكر الرحمن" أي بالقرآن. "هم كافرون" "هم" الثانية توكيد كفرهم، أي هم الكافرون مبالغة في وصفهم بالكفر.
الآيات: 37 - 40 {خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون، ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون، بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون}
قوله تعالى: "خلق الإنسان من عجل" أي ركب على العجلة فخلق عجولا؛ كما قال الله تعالى: "الله الذي خلقكم من ضعف" [الروم: 54] أي خلق الإنسان ضعيفا. ويقال: خلق الإنسان من الشر أي شريرا إذا بالغت في وصفه به. ويقال: إنما أنت ذهاب ومجيء. أي ذاهب جائي. أي طبع الإنسان العجلة، فيستعجل كثيرا من الأشياء وإن كانت مضرة. ثم قيل: المراد بالإنسان آدم عليه السلام. قال سعيد بن جبير والسدي: لما دخل الروح في عيني آدم عليه السلام نظر في ثمار الجنة، فلما دخل جوفه اشتهى الطعام، فوثب من قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة. فذلك قوله: "خلق الإنسان من عجل". وقيل خلق آدم يوم الجمعة. في آخر النهار، فلما أحيا الله رأسه استعجل، وطلب تتميم نفخ الروح فيه قبل غروب الشمس؛ قاله الكلبي ومجاهد وغيرهما. وقال أبو عبيدة وكثير من أهل المعاني: العجل الطين بلغة حمير. وأنشدوا:
والنخل ينبت بين الماء والعجل
وقيل: المراد بالإنسان الناس كلهم. وقيل المراد: النضر بن الحرث بن علقمة بن كلدة بن عبد الدار في تفسير ابن عباس؛ أي لا ينبغي لمن خلق من الطين الحقير أن يستهزئ بآيات الله ورسله. وقيل: إنه من المقلوب؛ أي خلق العجل من الإنسان. وهو مذهب أبي عبيدة. النحاس: وهذا القول لا ينبغي أن يجاب به في كتاب الله؛ لأن القلب إنما يقع في الشعر اضطرارا كما قال:
كان الزناء فريضة الرجم
ونظيره هذه الآية: "وكان الإنسان عجولا" [الإسراء: 11] وقد مضى في "سبحان" [الإسراء: 1]. "سأريكم آياتي فلا تستعجلون" هذا يقوي القول الأول، وأن طبع الإنسان العجلة، وأنه خلق خلقا لا يتمالك، كما قال عليه السلام حسب ما تقدم في "الإسراء". والمراد بالآيات ما دل على صدق محمد عليه السلام من المعجزات، وما جعله له. العاقبة المحمودة. وقيل: ما طلبوه من العذاب، فأرادوا الاستعجال وقالوا: "متى هذا الوعد" [يونس: 48]؟ وما علموا أن لكل شيء أجلا مضروبا. نزلت في النضر بن الحرث. وقول: "إن كان هذا هو الحق" [الأنفال: 32]. وقال الأخفش سعيد: معنى "خلق الإنسان من عجل" أي قيل له كن فكان، فمعنى "فلا تستعجلون" على هذا القول أنه من يقول للشيء كن فيكون، لا يعجزه إظهار ما استعجلوه من الآيات. "ويقولون متى هذا الوعد" أي الموعود، كما يقال: الله رجاؤنا أي مرجونا. وقيل: معنى "الوعد" هنا الوعيد، أي الذي يعدنا من العذاب. وقيل: القيامة. "إن كنتم صادقين" يا معشر المؤمنين.
قوله تعالى: "لو يعلم الذين كفروا" العلم هنا بمعنى المعرفة فلا يقتضي مفعولا ثانيا مثل "لا تعلمونهم الله يعلمهم" [الأنفال: 60]. وجواب "لو" محذوف، أي لو علموا الوقت الذي "لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون" وعرفوه لما استعجلوا الوعيد. وقال الزجاج: أي لعلموا صدق الوعد. وقيل: المعنى لو علموه لما أقاموا على الكفر ولآمنوا. وقال الكسائي: هو تنبيه على تحقيق وقوع الساعة، أي لو علموه علم يقين لعلموا أن الساعة آتية. ودل عليه "بل تأتيهم بغتة" أي فجأة يعني القيامة. وقيل: العقوبة. وقيل: النار فلا يتمكنون حيلة "فتبهتهم" قال الجوهري: بهته بهتا أخذه بغتة، قال الله تعالى: "بل تأتيهم بغتة فتهتهم" وقال الفراء: "فتبهتهم" أي تحيرهم، يقال: بهته يبهته إذا واجهه بشيء يحيره. وقيل: فتفجأهم. "فلا يستطيعون ردها" أي صرفها عن ظهورهم. "ولا هم ينظرون" أي لا يمهلون ويؤخرون لتوبة واعتذار.
الآية: 41 {ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون}
قوله تعالى: "ولقد استهزئ برسل من قبلك" هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية له. يقول: إن استهزأ بك هؤلاء، فقد استهزئ برسل من قبلك، فاصبر كما صبروا. ثم وعده النصر فقال: "فحاق" أي أحاط ودار "بالذين" كفروا "سخروا منهم" وهزئوا بهم "ما كانوا به يستهزئون" أي جزاء استهزائهم.
الآيات: 42 - 44 {قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون، أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون، بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون}
قوله تعالى: "قل من يكلؤكم" أي يحرسكم ويحفظكم. والكلاءة الحراسة والحفظ؛ كلاه الله كلاء (بالكسر) أي حفظه وحرسه. يقال: اذهب في كلاءة الله؛ واكتلأت منهم أي احترست، قال الشاعر هو ابن هرمة:
إن سليمى والله يكلؤها ضنت بشيء ما كان يرزؤها
وقال آخر:
أنخت بعيري واكتلأت بعينه
وحكى الكسائي والفراء "قل من يكْلَوكم" بفتح اللام وإسكان الواو. وحكيا "من يكلاكم" على تخفيف الهمزة في الوجهين، والمعروف تحقيق الهمزة وهي قراءة العامة. فأما "يكلاكم" فخطأ من وجهين فيما ذكره النحاس: أحدهما: أن بدل الهمزة. يكون في الشعر. والثاني: أنهما يقولان في الماضي كليته، فينقلب المعنى؛ لأن كليته أوجعت كليته، ومن قال لرجل: كلاك الله فقد دعا عليه بأن يصيبه الله بالوجع في كليته.
ثم قيل: مخرج اللفظ مخرج الاستفهام والمراد به النفي. وتقديره: قل لا حافظ لكم "بالليل" إذا نمتم "والنهار" إذا قمتم وتصرفتم في أموركم. "من الرحمن" أي من عذابه وبأسه؛ كقوله تعالى: "فمن ينصرني من الله" [هود: 63] أي من عذاب الله. والخطاب لمن اعترف منهم بالصانع؛ أي إذا أقررتم بأنه الخالق، فهو القادر على إحلال العذاب الذي تستعجلونه. "بل هم عن ذكر ربهم" أي عن القرآن. وقيل: عن مواعظ ربهم وقيل: عن معرفته. "معرضون" لاهون غافلون.
قوله تعالى: "أم لهم آلهة" المعنى: ألهم والميم صلة. "تمنعهم من دوننا" أي من عذابنا. "لا يستطيعون" يعني الذين زعم هؤلاء الكفار. أنهم ينصرونهم لا يستطيعون "نصر أنفسهم" فكيف ينصرون عابديهم. "ولا هم منا يصحبون" قال ابن عباس: يمنعون. وعنه: يجارون؛ وهو اختيار الطبري. تقول العرب: أنا لك جار وصاحب. من فلان؛ أي مجير منه؛ قال الشاعر:
ينادي بأعلى صوته متعوذا ليصحب منها والرماح دواني
وروى معمر عن ابن أبي نجيح عن قال: "ينصرون" أي يحفظون. قتادة: أي لا يصحبهم الله بخير، ولا يجعل رحمته صاحبا لهم.
قوله تعالى: "بل متعنا هؤلاء وآباءهم" قال ابن عباس: يريد أهل مكة. أي بسطنا لهم ولآبائهم في نعيمها "حتى طال عليهم العمر" في النعمة. فظنوا أنها لا تزول عنهم، فاغتروا وأعرضوا عن تدبر حجج "أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها" أي بالظهور عليها لك يا محمد أرضا بعد أرض، وفتحها بلدا بعد بلد مما حول مكة؛ قال معناه الحسن وغيره. وقيل: بالقتل والسبي؛ حكاه الكلبي. والمعنى واحد. وقد مضى في "الرعد" الكلام في هذا مستوفى. "أفهم الغالبون" يعني، كفار مكة بعد أن نقصنا من أطرافهم، بل أنت تغلبهم وتظهر عليهم.