تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 348 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 348

348- تفسير الصفحة رقم348 من المصحف
الآية: 90 - 92 {بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون، ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون، عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون}
قوله تعالى: "بل أتيناهم بالحق" أي بالقول الصدق، لا ما تقوله الكفار من إثبات الشريك ونفي البعث. "وإنهم لكاذبون" أن الملائكة بنات الله. فقال الله تعالى: "ما اتخذ الله من ولد" "من" صلة. "وما كان معه من إله" "من" زائدة؛ والتقدير: ما اتخذ الله ولدا كما زعمتم، ولا كان معه إله فيما خلق. وفي الكلام حذف؛ والمعنى: لو كانت معه آلهة لانفرد كل إله بخلقه. "ولعلا بعضهم على بعض" أي ولغالب وطلب القوي الضعيف كالعادة بين الملوك، وكان الضعيف المغلوب لا يستحق الإلهية. وهذا الذي يدل على نفي الشريك يدل على نفي الولد أيضا؛ لأن الولد ينازع الأب في الملك منازعة الشريك. "سبحان الله عما يصفون" تنزيها له عن الولد والشريك. "عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون" تنزيه وتقديس. وقرأ نافا وأبو بكر وحمزة والكسائي "عالم" بالرفع على الاستئناف؛ أي هو عالم الغيب. الباقون بالجر على الصفة لله. وروى رويس عن يعقوب "عالم" إذا وصل خفضا. و"عالم" إذا ابتدأ رفعا.
الآيتان: 93 - 94 {قل رب إما تريني ما يوعدون، رب فلا تجعلني في القوم الظالمين}
علمه ما يدعو به؛ أي قل رب، أي يا رب إن أريتني ما يوعدون من العذاب. "فلا تجعلني في القوم الظالمين" أي في نزول العذاب بهم، بل أخرجني منهم. وقيل: النداء معترض؛ و"ما" في "إما" زائدة. وقيل: إن أصل إما إن ما؛ فـ "إن" شرط و"ما" شرط، فجمع بين الشرطين توكيدا، والجواب "فلا تجعلني في القوم الظالمين"؛ أي إذا أردت بهم عقوبة فأخرجني منهم. وكان عليه السلام يعلم أن الله تعالى لا يجعله في القوم الظالمين إذا نزل بهم العذاب، ومع هذا أمره الرب بهذا الدعاء والسؤال ليعظم أجره وليكون في كل الأوقات ذاكرا لربه تعالى.
الآية: 95 {وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون}
نبه على أن خلاف المعلوم مقدور، وقد أراه الله تعالى ذلك فيهم بالجوع والسيف، ونجاه الله ومن آمن به من ذلك.
الآية: 96 {ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون}
قوله تعالى: "ادفع بالتي هي أحسن السيئة" أمر بالصفح ومكارم الأخلاق؛ فما كان منها لهذه الأمة فيما بينهم فهو محكم باق في الأمة أبدا. وما كان فيها من موادعة الكفار وترك التعرض لهم والصفح عن أمورهم فمنسوخ بالقتال. "نحن أعلم بما يصفون" أي من الشرك والتكذيب. وهذا يقتضي أنها آية موادعة، والله تعالى أعلم.
الآيتان: 97 - 98 {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين، وأعوذ بك رب أن يحضرون}
قوله تعالى: "من همزات الشياطين" "الهمزات" هي جمع همزة. والهمز في اللغة النخس والدفع؛ يقال: همزة ولمزه ونخسه دفعه. قال الليث: الهمز كلام من وراء القفا، واللمز مواجهة. والشيطان يوسوس فيهمس في وسواسه في صدر ابن آدم؛ وهو قوله: "أعوذ بك من همزات الشياطين" أي نزغات الشياطين الشاغلة عن ذكر الله تعالى. وفي الحديث: كان يتعوذ من همز الشيطان ولمزه وهمسه. قال أبو الهيثم: إذا أسر الكلام وأخفاه فذلك الهمس من الكلام. وسمي الأسد هوسا؛ لأنه يمشي بخفه لا يسمع صوت وطئه. وقد تقدم في "طه".
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالتعوذ من الشيطان في همزاته، وهي سورات الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه، كأنها هي التي كانت تصيب المؤمنين مع الكفار فتقع المحادة فلذلك اتصلت بهذه الآية. فالنزغات وسورات الغضب الواردة من الشيطان هي المتعوذ منها في الآية؛ وقد تقدم في آخر "الأعراف" بيانه مستوفى، وفي أول الكتاب أيضا. وروي عن علي بن حرب بن محمد الطائي حدثنا سفيان عن أيوب عن محمد بن حبان أن خالدا كان يؤرق من الليل؛ فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يتعوذ بكلمات الله التامة من غضب الله وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون. وفي كتاب أبي داود قال عمر: وهمزه الموتة؛ قال ابن ماجة: الموتة يعني الجنون. والتعوذ أيضا من الجنون وكيد. وفي قراءة أبي "رب عائذا بك من همزات الشياطين، وعائذا بك أن يحضرون"؛ أي يكونوا معي في أموري، فإنهم إذ ا حضروا الإنسان كانوا معدين للهمز، وإذا لم يكن حضور فلا همز. وفي صحيح مسلم عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه حتى يحضره عند طعامه فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان فإذا فرغ فليلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه البركة).
الآيتان: 99 - 100 {حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون، لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون}
قوله تعالى: "حتى إذا جاء أحدهم الموت" عاد الكلام إلى ذكر المشركين؛ أي قالوا "أئذا متنا - إلى قوله - إن هذا إلا أساطير الأولين". ثم احتج عليهم وذكرهم قدرته على كل شيء، ثم قال هم مصرون على ذلك حتى إذا جاء أحدهم الموت تيقن ضلالته وعاين الملائكة التي تقبض روحه؛ كما قال تعالى: "ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة" [الأنفال: 50]. "قال رب ارجعون" تمنى الرجعة كي يعمل صالحا فيما ترك. وقد يكون القول في النفس؛ قال الله عز وجل: "ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول" [المجادلة: 8]. فأما قوله "ارجعون" وهو مخاطب ربه عز وجل ولم يقل "ارجعني" جاء على تعظيم الذكر للمخاطب. وقيل: استغاثوا بالله عز وجل أولا، فقال قائلهم: ثم رجع إلى مخاطبة الملائكة فقال: ارجعون إلى الدنيا؛ قال ابن جريج. وقيل: إن معنى "ارجعون" على جهة التكرير؛ أي أرجعني أرجعني أرجعني وهكذا. قال المزني في قوله تعالى "ألقيا في جهنم" [ق: 24] قال: معناه ألق ألق. قال الضحاك: المراد به أهل الشرك.
قلت: ليس سؤال الرجعة مختصا بالكافر فقد يسألها المؤمن كما في آخر سورة المنافقين على ما يأتي. ودلت الآية على أن أحدا لا يموت حتى يعرف اضطرارا أهو من أولياء الله أم من أعداء الله، ولولا ذلك لما سأل الرجعة، فيعلموا ذلك قبل نزول الموت وذواقه.
قوله تعالى: "لعلي أعمل صالحا" قال ابن عباس: يريد أشهد أن لا إله إلا الله. "فيما تركت" أي فيما ضيعت وتركت العمل به من الطاعات. وقيل "فيما تركت" من المال فأتصدق. و"لعل" تتضمن ترددا؛ وهذا الذي يسأل الرجعة قد استيقن العذاب، وهو يوطن نفسه على العمل الصالح قطعا من غير تردد. فالتردد يرجع إما إلى رده إلى الدنيا، وإما إلى التوفيق؛ أي أعمل صالحا إن وفقتني؛ إذ ليس على قطع من وجود القدرة والتوفيق لو رد إلى الدنيا. "كلا" هذه كلمة رد؛ أي ليس الأمر على ما يظنه من أنه يجاب إلى الرجوع إلى الدنيا، بل هو كلام يطيح في أدراج الريح. وقيل: لو أجيب إلى ما يطلب لما وفى بما يقول؛ كما قال: "ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه" [الأنعام: 28]. وقيل: "كلا إنها كلمة هو قائلها" ترجع إلى الله تعالى؛ أي لا خلف في خبره، وقد أخبر أنه لن يؤخر نفسا إذا جاء أجلها، وأخبر بأن هذا الكافر لا يؤمن. وقيل: "إنها كلمة هو قائلها" عند الموت، ولكن لا تنفع. "ومن ورائهم برزخ" أي ومن أمامهم وبين أيديهم. وقيل: من خلفهم. "برزخ" أي حاجز بين الموت والبعث؛ قال الضحاك ومجاهد وابن زيد. وعن مجاهد أيض أن البرز هو الحاجز بين الموت والرجوع إلى الدنيا. وعن الضحاك: هو ما بين الدنيا والآخرة. ابن عباس. حجاب. السدي: أجل. قتادة: بقية الدنيا. وقيل: الإمهال إلى يوم القيامة؛ حكاه ابن عيسى. الكلبي: هو الأجل ما بين النفختين، وبينهما أربعون سنة. وهذه الأقوال متقاربة. وكل حاجز بين شيئين فهو برزخ. قال الجوهري: البرزخ الحاجز بين الشيئين. والبرزخ ما بين الدنيا والآخرة من وقت الموت إلى البعث؛ فمن مات فقد دخل في البرز. وقال رجل بحضرة الشعبي: رحم الله فلانا فقد صار من أهل الآخرة! فقال: لم يصر من أهل الآخرة، ولكنه صار من أهل البرزخ، وليس من الدنيا ولا من الآخرة. وأضيف "يوم" إلى "يبعثون" لأنه ظرف زمان، والمراد بالإضافة المصدر.
الآية: 101 {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون}
قوله تعالى: "فإذا نفخ في الصور" المراد بهذا النفخ النفخة الثانية. "فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون" قال ابن عباس: لا يفتخرون بالأنساب في الآخرة كما يفتخرون بها في الدنيا، ولا يتساءلون فيها كما يتساءلون في الدنيا؛ من أي قبيلة أنت ولا من أي نسب، ولا يتعارفون لهول ما أذهلهم. وعن ابن عباس أن ذلك في النفخة الأولى حين يصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون، ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون. وسأل رجل ابن عباس عن هذه الآية وقول: "فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون" [الصافات: 50] فقال: لا يتساءلون في النفخة الأولى؛ لأنه لا يبقى على الأرض حي، فلا أنساب ولا تساؤل. أما قوله "فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون فإنهم إذا دخلوا الجنة تساءلوا. وقال ابن مسعود: إنما عنى في هذه الآية النفخة الثانية. وقال أبو عمر زادان: دخلت على ابن مسعود فوجدت أصحاب الخير واليمنة قد سبقوني إليه، فناديت بأعلى صوت،: يا عبدالله بن مسعود! من أجل أني رجل أعجمي أدنيت هؤلاء وأقصيتني! فقال: ادنه؛ فدنوت، حتى ما كان بيني وبينه جليس فسمعته يقول: يؤخذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة فينصب على رؤوس الأولين والآخرين ثم ينادي مناد: هذا فلان بن فلان، من كان له حق فليأت إلى حقه؛ فتفرح المرأة أن يدور لها الحق على أبيها أو على زوجها أو على أخيها أو على ابنها؛ ثم قرأ ابن مسعود: "فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون" فيقول الرب سبحانه وتعالى (آت هؤلاء حقوقهم) فيقول: يا رب قد فنيت الدنيا فمن أين أوتيهم؛ فيقول الرب للملائكة: (خذوا من حسناته فأعطوا كل إنسان بقدر طلبته) فإن كان وليا لله فضلت من حسناته مثقال حبة من خردل فيضاعفها الله تعالى حتى يدخله بها الجنة، ثم قرأ ابن مسعود "إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما" [النساء: 40]. وإن كان شقيا قالت الملائكة: رب! فنيت حسناته وبقي طالبون؛ فيقول الله تعالى: (خذوا من أعمالهم فأضيفوها إلى سيئاته وصكوا له صكا إلى جهنم).
الآيتان: 102 - 105 {فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون}
تقدم الكلام فيهما.
الآيتان: 104 - 105 {تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون، ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون}
قوله تعالى: "تلفح وجوههم النار" ويقال "تنفح" بمعناه؛ ومنه "ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك" [الأنبياء: 46]. إلا أن "تلفح" أبلغ بأسا؛ يقال: لفحته النار والسموم بحرها أحرقته. ولفحته بالسيف لفحة إذا ضربته به [ضربة] خفيفة. "وهم فيها كالحون" قال ابن عباس: عابسون. وقال هل اللغة: الكلوح تكشر في عبوس. والكالح: الذي قد تشمرت شفتاه وبدت أسنانه. قال الأعمش:
وله المقدم لا مثل له ساعة الشدق عن الناب كلح
وقد كلح الرجل كلوحا وكلاحا. وما أقبح كلحته؛ يراد به الفم وما حواليه. ودهر كالح أي شديد. وعن ابن عباس أيضا "وهم فيها كالحون" يريد كالذي كلح وتقلصت شفتاه وسال صديده. وقال ابن مسعود: ألم تر إلى الرأس المشيط بالنار، وقد بدت أسنانه وقلصت شفتاه. وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وهم فيها كالحون - قال - تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبل وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته) قال: هذا حديث حسن صحيح غريب.