تفسير السعدي تفسير الصفحة 348 من المصحف


بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( 90 ) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ( 91 ) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 92 ) .
يقول تعالى: بل أتينا هؤلاء المكذبين بالحق، المتضمن للصدق في الأخبار، العدل في الأمر والنهي، فما بالهم لا يعترفون به، وهو أحق أن يتبع؟ وليس عندهم ما يعوضهم عنه، إلا الكذب والظلم، ولهذا قال: ( وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ )
( مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ ) كذب يعرف بخبر الله، وخبر رسله، ويعرف بالعقل الصحيح، ولهذا نبه تعالى على الدليل العقلي، على امتناع إلهين فقال: ( إِذًا ) أي: لو كان معه آلهة كما يقولون ( لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ ) أي: لانفرد كل واحد من الإلهين بمخلوقاته, واستقل بها، ولحرص على ممانعة الآخر ومغالبته، ( وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) فالغالب يكون هو الإله، وإلا فمع التمانع لا يمكن وجود العالم، ولا يتصور أن ينتظم هذا الانتظام المدهش للعقول، واعتبر ذلك بالشمس والقمر، والكواكب الثابتة، والسيارة، فإنها منذ خلقت، وهي تجري على نظام واحد، وترتيب واحد، كلها مسخرة بالقدرة، مدبرة بالحكمة لمصالح الخلق كلهم، ليست مقصورة على مصلحة أحد دون أحد، ولن ترى فيها خللا ولا تناقضا، ولا معارضة في أدنى تصرف، فهل يتصور أن يكون ذلك، تقدير إلهين ربين؟ «
»
( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) قد نطقت بلسان حالها، وأفهمت ببديع أشكالها، أن المدبر لها إله واحد كامل الأسماء والصفات، قد افتقرت إليه جميع المخلوقات، في ربوبيته لها، وفي إلهيته لها، فكما لا وجود لها ولا دوام إلا بربوبيته، كذلك، لا صلاح لها ولا قوام إلا بعبادته وإفراده بالطاعة، ولهذا نبه على عظمة صفاته بأنموذج من ذلك، وهو علمه المحيط، فقال: ( عَالِمِ الْغَيْبِ ) أي: الذي غاب عن أبصارنا وعلمنا، من الواجبات والمستحيلات والممكنات، ( وَالشَّهَادَةِ ) وهو ما نشاهد من ذلك ( فَتَعَالَى ) أي: ارتفع وعظم، ( عَمَّا يُشْرِكُونَ ) به، من لا علم عنده، إلا ما علمه الله .
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ ( 93 ) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 94 ) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ( 95 ) .
لما أقام تعالى على المكذبين أدلته العظيمة، فلم يلتفتوا لها، ولم يذعنوا لها، حق عليهم العذاب، ووعدوا بنزوله، وأرشد الله رسوله أن يقول: ( قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ ) أي: أي وقت أريتني عذابهم، وأحضرتني ذلك ( رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) أي: اعصمني وارحمني، مما ابتليتهم به من الذنوب الموجبة للنقم، واحمني أيضا من العذاب الذي ينزل بهم، لأن العقوبة العامة تعم - عند نزولها- العاصي وغيره ، قال الله في تقريب عذابهم: ( وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ) ولكن إن أخرناه فلحكمة، وإلا فقدرتنا صالحة لإيقاعه فيهم.
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ( 96 ) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ( 97 ) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ( 98 ) .
هذا من مكارم الأخلاق، التي أمر الله رسوله بها فقال: ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ) أي: إذا أساء إليك أعداؤك، بالقول والفعل، فلا تقابلهم بالإساءة، مع أنه يجوز معاقبة المسيء بمثل إساءته، ولكن ادفع إساءتهم إليك بالإحسان منك إليهم، فإن ذلك فضل منك على المسيء، ومن مصالح ذلك، أنه تخف الإساءة عنك، في الحال، وفي المستقبل، وأنه أدعى لجلب المسيء إلى الحق، وأقرب إلى ندمه وأسفه، ورجوعه بالتوبة عما فعل، وليتصف العافي بصفة الإحسان، ويقهر بذلك عدوه الشيطان، وليستوجب الثواب من الرب، قال تعالى: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وقال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا أي ما يوفق لهذا الخلق الجميل إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ
وقوله ( نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ) أي بما يقولون من الأقوال المتضمنة للكفر والتكذيب بالحق قد أحاط علمنا بذلك وقد حلمنا عنهم وأمهلناهم وصبرنا عليهم والحق لنا وتكذيبهم لنا فأنت - يا محمد- ينبغي لك أن تصبر على ما يقولون وتقابلهم بالإحسان هذه وظيفة العبد في مقابلة المسيء من البشر وأما المسيء من الشياطين فإنه لا يفيد فيه الإحسان ولا يدعو حزبه إلا ليكونوا من أصحاب السعير فالوظيفة في مقابلته أن يسترشد بما أرشد الله إليه رسوله فقال ( وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ ) أي اعتصم بحولك وقوتك متبرئا من حولي وقوتي ( مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ) أي أعوذ بك من الشر الذي يصيبني بسبب مباشرتهم وهمزهم ومسهم ومن الشر الذي بسبب حضورهم ووسوستهم وهذه استعاذة من مادة الشر كله وأصله ويدخل فيها الاستعاذة من جميع نزغات الشيطان ومن مسه ووسوسته فإذا أعاذ الله عبده من هذا الشر وأجاب دعاءه سلم من كل شر ووفق لكل خير
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ( 99 ) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( 100 ) .
يخبر تعالى عن حال من حضره الموت، من المفرطين الظالمين، أنه يندم في تلك الحال، إذا رأى مآله، وشاهد قبح أعماله فيطلب الرجعة إلى الدنيا، لا للتمتع بلذاتها واقتطاف شهواتها وإنما ذلك يقول: ( لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ) من العمل، وفرطت في جنب الله. ( كَلا ) أي: لا رجعة له ولا إمهال، قد قضى الله أنهم إليها لا يرجعون، ( إِنَّهَا ) أي: مقالته التي تمنى فيها الرجوع إلى الدنيا ( كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ) أي: مجرد قول باللسان، لا يفيد صاحبه إلا الحسرة والندم، وهو أيضا غير صادق في ذلك، فإنه لو رد لعاد لما نهي عنه.
( وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) أي: من أمامهم وبين أيديهم برزخ، وهو الحاجز بين الشيئين، فهو هنا: الحاجز بين الدنيا والآخرة، وفي هذا البرزخ، يتنعم المطيعون، ويعذب العاصون، من موتهم إلى يوم يبعثون، أي: فليعدوا له عدته، وليأخذوا له أهبته.
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ( 101 ) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 102 ) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ( 103 ) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ( 104 ) .
يخبر تعالى عن هول يوم القيامة، وما في ذلك اليوم، من المزعجات والمقلقات، وأنه إذا نفخ في الصور نفخة البعث، فحشر الناس أجمعون، لميقات يوم معلوم، أنه يصيبهم من الهول ما ينسيهم أنسابهم، التي هي أقوى الأسباب، فغير الأنساب من باب أولى، وأنه لا يسأل أحد أحدا عن حاله، لاشتغاله بنفسه، فلا يدري هل ينجو نجاة لا شقاوة بعدها؟ أو يشقى شقاوة لا سعادة بعدها؟ قال تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ .
وفي القيامة مواضع، يشتد كربها، ويعظم وقعها، كالميزان الذي يميز به أعمال العبد، وينظر فيه بالعدل ما له وما عليه، وتبين فيه مثاقيل الذر، من الخير والشر، ( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ) بأن رجحت حسناته على سيئاته ( فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) لنجاتهم من النار، واستحقاقهم الجنة، وفوزهم بالثناء الجميل ، ( وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ) بأن رجحت سيئاته على حسناته، وأحاطت بها خطيئاته ( فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ) كل خسارة، غير هذه الخسارة، فإنها - بالنسبة إليها- سهلة، ولكن هذه خسارة صعبة، لا يجبر مصابها، ولا يستدرك فائتها، خسارة أبدية، وشقاوة سرمدية، قد خسر نفسه الشريفة، التي يتمكن بها من السعادة الأبدية ففوتها هذا النعيم المقيم، في جوار الرب الكريم.
( فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ) لا يخرجون منها أبد الآبدين، وهذا الوعيد، إنما هو كما ذكرنا، لمن أحاطت خطيئاته بحسناته، ولا يكون ذلك إلا كافرا، فعلى هذا، لا يحاسب محاسبة من توزن حسناته وسيئاته، فإنهم لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم وتحصى، فيوقفون عليها، ويقررون بها، ويخزون بها، وأما من معه أصل الإيمان، ولكن عظمت سيئاته، فرجحت على حسناته، فإنه وإن دخل النار، لا يخلد فيها، كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة.
ثم ذكر تعالى، سوء مصير الكافرين فقال: ( تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ ) أي: تغشاهم من جميع جوانبهم، حتى تصيب أعضاءهم الشريفة، ويتقطع لهبها عن وجوههم، ( وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ) قد عبست وجوههم، وقلصت شفاههم، من شدة ما هم فيه، وعظيم ما يلقونه.