تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 381 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 381

381- تفسير الصفحة رقم381 من المصحف
الآيات: 45 - 47 {ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون، قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون، قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون}
قوله تعالى: "ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله" تقدم معناه. "فإذا هم فريقان يختصمون" قال مجاهد: أي مؤمن وكافر؛ قال: والخصومة ما قصه الله تعالى في قوله: "أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه" [الأعراف: 75] إلى قوله: "كافرون". وقيل: تخاصمهم أن كل فرقة قالت: نحن على الحق دونكم.
قوله تعالى: "قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة" قال مجاهد: بالعذاب قبل الرحمة؛ المعنى: لم تؤخرون الإيمان الذي يجلب إليكم الثواب، وتقدمون الكفر الذي يوجب العقاب؛ فكان الكفار يقولون لفرط الإنكار: ايتنا بالعذاب. وقيل: أي لم تفعلون ما تستحقون به العقاب؛ لا أنهم التمسوا تعجيل العذاب. "لولا تستغفرون الله" أي هلا تتوبون إلى الله من الشرك. "لعلكم ترحمون" لكي ترحموا؛ وقد تقدم.
قوله تعالى: "قالوا اطيرنا بك وبمن معك" أي تشاءمنا. والشؤم النحس. ولا شيء أضر بالرأي ولا أفسد للتدبير من اعتقاد الطيرة. ومن ظن أن خوار بقرة أو نعيق غراب يرد قضاء، أو يدفع مقدورا فقد جهل. وقال الشاعر:
طيرة الدهر لا ترد قضاء فاعذر الدهر لا تشبه بلوم
أي يوم يخصه بسعود والمنايا ينزلن في كل يوم
ليس يوم إلا وفيه سعود ونحوس تجري لقوم فقوم
وقد كانت العرب أكثر الناس طيرة، وكانت إذا أرادت سفرا نفرت طائرا، فإذا طار يمنة سارت وتيمنت، وإن طار شمالا رجعت وتشاءمت، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: (أقِروا الطير على وكناتها) على ما تقدم بيانه في "المائدة". "قال طائركم عند الله" أي مصائبكم. "بل أنتم قوم تفتنون" أي تمتحنون. وقيل: تعذبون بذنوبكم.
الآيات: 48 - 49 {وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون، قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون}
قوله تعالى: "وكان في المدينة" أي في مدينة صالح وهي الحجر "تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون" أي تسعة رجال من أبناء أشرافهم. قال الضحاك. كان هؤلاء التسعة عظماء أهل المدينة، وكانوا يفسدون في الأرض ويأمرون بالفساد، فجلسوا عند صخرة عظيمة فقلبها الله عليهم. وقال عطاء بن أبي رباح: بلغني أنهم كانوا يقرضون الدنانير والدراهم، وذلك من الفساد في الأرض؛ وقاله سعيد بن المسيب. وقيل: فسادهم أنهم يتبعون عورات الناس ولا يسترون عليهم. وقيل: غير هذا. واللازم من الآية ما قاله الضحاك وغيره أنهم كانوا من أوجه القوم وأقناهم وأغناهم، وكانوا أهل كفر ومعاص جمة؛ وجملة أمرهم أنهم يفسدون ولا يصلحون. والرهط اسم للجماعة؛ فكأنهم كانوا رؤساء يتبع كل واحد منهم رهط. والجمع أرهط وأراهط. قال:
يا بؤس للحرب التي وضعت أراهط فاستراحوا
وهؤلاء المذكورون كانوا أصحاب قُدَار عاقر الناقة؛ ذكره ابن عطية.
قلت: واختلف في أسمائهم؛ فقال الغزنوي: وأسماؤهم قدار بن سالف ومصدع وأسلم ودسما وذهيم وذعما وذعيم وقتال وصداق. ابن إسحاق: رأسهم قدار بن سالف ومصدع بن مهرع، فاتبعهم سبعة؛ هم بلع بن ميلع ودعير بن غنم وذؤاب بن مهرج وأربعة لم تعرف أسماؤهم. وذكر الزمخشري أسماءهم عن وهب بن منبه: الهذيل بن عبد رب، غنم بن غنم، رياب بن مهرج، مصدع بن مهرج، عمير بن كردبة، عاصم بن مخرمة، سبيط بن صدقة، سمعان بن صفي، قدار بن سالف؛ وهم الذين سعوا في عقر الناقة، وكانوا عتاة قوم صالح، وكانوا من أبناء أشرافهم. السهيلي: ذكر النقاش التسعة الذين كانوا يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وسماهم بأسمائهم، وذلك لا ينضبط برواية؛ غير أني أذكره على وجه الاجتهاد والتخمين، ولكن نذكره على ما وجدناه في كتاب محمد بن حبيب، وهم: مصدع بن دهر. ويقال دهم، وقدار بن سالف، وهريم وصواب ورياب وداب ودعما وهرما ودعين بن عمير.
قلت: وقد ذكر الماوردي أسماءهم عن ابن عباس فقال: هم دعما ودعيم وهرما وهريم وداب وصواب ورياب ومسطح وقدار، وكانوا بأرض الحجر وهي أرض الشام.
قوله تعالى: "قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله" يجوز أن يكون "تقاسموا" فعلا مستقبلا وهو أمر؛ أي قال بعضهم لبعض احلفوا. ويجوز أن يكون ماضيا في معنى الحال كأنه قال: قالوا متقاسمين بالله؛ ودليل هذا التأويل قراءة عبدالله: "يفسدون في الأرض ولا يصلحون. تقاسموا بالله" وليس فيها "قالوا". "لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه" قراءة العامة بالنون فيهما واختاره أبو حاتم. وقرأ حمزة والكسائي: بالتاء فيهما، وضم التاء واللام على الخطاب أي أنهم تخاطبوا بذلك؛ واختاره أبو عبيد. وقرأ مجاهد وحميد بالياء فيهما، وضم الياء واللام على الخبر. والبيات مباغتة العدو ليلا. ومعنى "لوليه" أي لرهط صالح الذي له ولاية الدم. "ما شهدنا مهلك أهله" أي ما حضرنا، ولا ندري من قتله وقتل أهله. والمهلك بمعنى الإهلاك؛ ويجوز أن يكون الموضع. وقرأ عاصم والسلمي: (بفتح الميم واللام) أي الهلاك؛ يقال: ضرب يضرب مضربا أي ضربا. وقرأ المفضل وأبو بكر: (بفتح الميم وجر اللام) فيكون اسم المكان كالمجلس لموضع الجلوس؛ ويجوز أن يكون مصدرا؛ كقوله تعالى: "إليه مرجعكم" [يونس: 4] أي رجوعكم.
الآيات: 50 - 53 {ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون، فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين، فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون، وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون}
قوله تعالى: "ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون" مكرهم ما روي أن هؤلاء التسعة لما كان في صدر الثلاثة الأيام بعد عقر الناقة، وقد أخبرهم صالح بمجيء العذاب، اتفقوا وتحالفوا على أن يأتوا دار صالح ليلا ويقتلوه وأهله المختصين به؛ قالوا: فإذا كان كاذبا في وعيده أوقعنا به ما يستحق، وإن كان صادقا كنا عجلناه قبلنا، وشفينا نفوسنا؛ قال مجاهد وغيره. قال ابن عباس: أرسل الله تعالى الملائكة تلك الليلة، فامتلأت بهم دار صالح، فأتى التسعة دار صالح شاهرين سيوفهم، فقتلهم الملائكة رضخا بالحجارة فيرون الحجارة ولا يرون من يرميها. وقال قتادة: خرجوا مسرعين إلى صالح، فسلط عليهم ملك بيده صخرة فقتلهم. وقال السدي: نزلوا على جرف من الأرض، فانهار بهم فأهلكهم الله تحته. وقيل: اختفوا في غار قريب من دار صالح، فانحدرت عليهم صخرة شدختهم جميعا، فهذا ما كان من مكرهم. ومكر الله مجازاتهم على ذلك. "فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين" أي بالصيحة التي أهلكتهم. وقد قيل: إن هلاك الكل كان بصيحة جبريل. والأظهر أن التسعة هلكوا بعذاب مفرد؛ ثم هلك الباقون بالصيحة والدمدمة. وكان الأعمش والحسن وابن أبي إسحاق وعاصم وحمزة والكسائي يقرؤون: "أنا" بالفتح؛ وقال ابن الأنباري: فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على "عاقبة مكرهم" لأن "أنا دمرناهم" خبر كان. ويجوز أن تجعلها في موضع رفع على الإتباع للعاقبة. ويجوز أن تجعلها في موضع نصب من قول الفراء، وخفض من قول الكسائي على معنى: بأنا دمرناهم ولأنا دمرناهم. ويجوز أن تجعلها في موضع نصب على الإتباع لموضع "كيف" فمن هذه المذاهب لا يحسن الوقف على "مكرهم". وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: "إنا دمرناهم" بكسر الألف على الاستئناف؛ فعلى هذا المذهب يحسن الوقف على "مكرهم". قال النحاس: ويجوز أن تنصب "عاقبة" على خبر "كان" ويكون "إنا" في موضع رفع على أنها اسم "كان". ويجوز أن تكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ تبيينا للعاقبة؛ والتقدير: هي إنا دمرناهم؛ قال أبو حاتم: وفي حرف أُبَي "أن دمرناهم" تصديقا لفتحها.
قوله تعالى: "فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا" قراءة العامة بالنصب على الحال عند الفراء والنحاس؛ أي خالية عن أهلها خرابا ليس بها ساكن. وقال الكسائي وأبو عبيدة: "خاوية" نصب على القطع؛ مجازه: فتلك بيوتهم الخاوية، فلما قطع منها الألف واللام نصب على الحال؛ كقوله: "وله الدين واصبا" [النحل: 52]. وقرأ عيسى بن عمر ونصر بن عاصم والجحدري: بالرفع على أنها خبر عن "تلك" و"بيوتهم" بدل من "تلك". ويجوز أن تكون "بيوتهم" عطف بيان و"خاوية" خبر عن "تلك". ويجوز أن يكون رفع "خاوية" على أنها خبر ابتداء محذوف؛ أي هي خاوية، أو بدل من "بيوتهم" لأن النكرة تبدل من المعرفة. "إن في ذلك لآية لقوم يعلمون. وأنجينا الذين آمنوا" بصالح "وكانوا يتقون" الله ويخافون عذابه. قيل: آمن بصالح قدر أربعة آلاف رجل. والباقون خرج بأبدانهم - في قول مقاتل وغيره - خراج مثل الحمص؛ وكان في اليوم الأول أحمر، ثم صار من الغد أصفر، ثم صار في الثالث أسود. وكان عقر الناقة يوم الأربعاء، وهلاكهم يوم الأحد. قال مقاتل: فقعت تلك الخراجات، وصاح جبريل بهم خلال ذلك صيحة فخمدوا، وكان ذلك ضحوة. وخرج صالح بمن آمن معه إلى حضرموت؛ فلما دخلها مات صالح؛ فسميت حضرموت. قال الضحاك: ثم بنى الأربعة الآلاف مدينة يقال لها حاضورا؛ على ما تقدم بيانه في قصة أصحاب الرس.
الآيات: 54 - 58 {ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون، أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون، فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون، فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين، وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين}
قوله تعالى: "ولوطا" أي وأرسلنا لوطا، أو اذكر لوطا "إذ قال لقومه" وهم أهل سدوم. وقال لقومه: "أتأتون الفاحشة" الفعلة القبيحة الشنيعة. "وأنتم تبصرون" أنها فاحشة، وذلك أعظم لذنوبكم. وقيل: يأتي بعضكم بعضا وأنتم تنظرون إليه. وكانوا لا يستترون عتوا منهم وتمردا. "أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء" أعاد ذكرها لفرط قبحها وشنعتها. "بل أنتم قوم تجهلون" إما أمر التحريم أو العقوبة. واختيار الخليل وسيبويه تخفيف الهمزة الثانية من "أئنكم" فأما الخط فالسبيل فيه أن يكتب بألفين على الوجوه كلها؛ لأنها همزة مبتدأة دخلت عليها ألف الاستفهام.
قوله تعالى: "فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون" أي عن أدبار الرجال. يقولون ذلك استهزاء منهم؛ قاله مجاهد. وقال قتادة: عابوهم والله بغير عيب بأنهم يتطهرون من أعمال السوء. "فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين" وقرأ عاصم: "قدرنا" مخففا والمعنى واحد. يقال قد قدرت الشيء قدرا وقدرا وقدرته. "وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين" أي من أنذر فلم يقبل الإنذار. وقد مضى بيانه.