تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 381 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 381

380

قوله: 45- "ولقد أرسلنا" معطوف على قوله "ولقد آتينا داود" واللام هي الموطئة للقسم، وهذه القصة من جملة بيان قوله "وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم" و "صالحاً" عطف بيان، و "أن اعبدوا الله" تفسير للرسالة وأن هي المفسرة، ويجوز أن تكون مصدرية: أي بأن اعبدوا الله، وإذا في "فإذا هم فريقان" هي الفجائية: أي ففاجئوا التفرق والاختصام، والمراد بالفريقين المؤمنون منهم والكافرون، ومعن الاختصام: أن كل فريق يخاصم على ما هو فيه ويزعم أنه الحق معه، وقيل إن الخصومة بينهم في صالح هل هو مرسل أم لا؟ وقيل أحد الفريقين صالح، والفريق الآخر جميع قومه، وهو ضعيف.
46- "قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة" أي قال صالح للفريق الكافر منهم منكراً عليهم: لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة؟ قال مجاهد: بالعذاب قبل الرحمة. والمعنى: لم تؤخرون الإيمان الذي يجلب إليكم الثواب وتقدمون الكفر الذي يجلب إليكم العقوبة؟ وقد كانوا لفرط كفرهم يقولون: ائتنا يا صالح بالعذاب "لولا تستغفرون الله" هلا تستغفرون الله وتتوبون إليه من الشرك "لعلكم ترحمون" رجاء أن ترحموا أو كي ترحموا فلا تعذبوا، فإن استعجال الخير أولى من استعجال الشر، ووصف العذاب بأنه سيئة مجازاً، إما لأن العقاب من لوازمه، أو لأنه يشبهه في كونه مكروهاً.
فكان جوابهم عليه بعد هذا الإرشاد الصحيح والكلام اللين أنهم 47- "قالوا اطيرنا بك وبمن معك" أصله تطيرنا، وقد قرئ بذلك، والتطير التشاؤم: أي تشاءمنا بك وبمن معك ممن أجابك ودخل في دينك، وذلك لأنه أصابهم قحط فتشاءموا بصالح، وقد كانت العرب أكثر الناس طيرة وأشقاهم بها وكانوا إذا أرادوا سفراً أو أمراً من الأمور نفروا طائراً من وكره فإن طار يمنة ساروا وفعلوا ما عزموا عليه، وإن طار يسرة تركوا ذلك فلما قالوا ذلك "قال" لهم صالح "طائركم عند الله" أي ليس ذلك بسبب الطائر الذي تتشاءمون به، بل سبب ذلك عند الله، هو ما يقدره عليكم والمعنى أن الشؤم الذي أصابكم هو من عند الله بسبب كفركم، وهذا كقوله تعالى: "يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله"، ثم أوضح لهم سبب ما هم فيه بأوضح بيان، فقال: "بل أنتم قوم تفتنون" أي تمتحنون وتختبرون وقيل تعذبون بذنوبكم، وقيل يفتنكم غيركم، وقيل يفتنكم الشيطان بما تقعون فيه من الطيرة أو بما لأجله تطيرون فأضرب عن ذكر الطائر إلى ما هو السبب الداعي إليه.
48- "وكان في المدينة" التي في صالح، وهو الحجر "تسعة رهط" أي تسعة رجال من أبناء الأشراف، والرهط اسم للجماعة، فكأنهم كانوا رؤساء يتبع كل واحد منهم جماعة، والجمع أرهط وأراهط، وهؤلاء التسعة هم أصحاب قدار عاقر الناقة، ثم وصف هؤلاء بقوله: "يفسدون في الأرض ولا يصلحون" أي شأنهم وعملهم الفساد في الأرض الذي لا يخالطه صلاح، وقد اختلف في أسماء هؤلاء التسعة اختلافاً كثيراً لا حاجة إلى التطويل بذكره.
49- "قالوا تقاسموا بالله" أي قال بعضهم لبعض: احلفوا بالله، هذا على أن تقاسموا فعل أمر، ويجوز أن يكون فعلاً ماضياً مفسراً لقالوا: كأنه قيل ما قالوا. فقال تقاسموا، أو يكون حالاً على إضمار قد: أي قالوا ذلك متقاسمين، وقرأ ابن مسعود يفسدون في الأرض ولا يصلحون تقاسموا بالله وليس فيها قالوا، واللام في "لنبيتنه وأهله" جواب القسم: أي لنأتينه بغتة في وقت البيات، فنقتله وأهله "ثم لنقولن لوليه" قرأ الجمهور بالنون للمتكلم في "لنبيتنه" وفي "لنقولن"، واختار هذه القراءة أبو حاتم وقرأ حمزة والكسائي بالفوقية فيهما على خطاب بعضهم لبعض، واختار هذه القراءة أبو عبيد، وقرأ مجاهد وحميد بالتحتية فيهما، والمراد بولي صالح رهطه "ما شهدنا مهلك أهله" أي ما حضرنا قتلهم ولا ندري من قتله وقتل أهله، ونفيهم لشهودهم لمكان الهلاك يدل على نفي شهودهم لنفس القتل بالأولى، وقيل إن المهلك بمعنى الإهلاك وقرأ حفص والسلمي مهلك بفتح الميم واللام، وقرأ أبو بكر والمفضل بفتح الميم وكسر اللام "وإنا لصادقون" فيما قلناه قال الزجاج: وكان هؤلاء النفر تحالفوا أن يبيتوا صالحاً وأهله ثم ينكروا عند أوليائه أنهم ما فعلوا ذلك ولا رأوه وكان هذا مكراً منهم.
ولهذا قال الله سبحانه 50- "ومكروا مكراً" أي بهذه المحالفة "ومكرنا مكراً" جازيناهم بفعلهم فأهلكناهم "وهم لا يشعرون" بمكر الله بهم.
51- "فانظر كيف كان عاقبة مكرهم" أي انظر ما انتهى إليه أمرهم الذي بنوه على المكر وما أصابهم بسببه "أنا دمرناهم وقومهم أجمعين" قرأ الجمهور بكسر همزة "إنا"، وقرأ حمزة والكسائي والأعمش والحسن وابن أبي إسحاق وعاصم بفتحها، فمن كسر جعله استئنافاً. قال الفراء والزجاج: من كسر استأنف، وهو يفسر به ما كان قبله، كأنه جعله تابعاً للعاقبة، كأنه قال: العاقبة إنا دمرناهم، وعلى قراءة الفتح يكون التقدير بأنا دمرناهم أو لأنا دمرناهم، وكان تامة وعاقبة فاعل لها، أو يكون بدلاً من عاقبة، أو يكون خبر مبتدأ محذوف: أي هي أنا دمرناهم ويجوز أن تكون كان ناقصة وكيف خبرها، ويجوز أن يكون خبرها أنا دمرنا. قال أبو حاتم: وفي حرف أبي أن دمرناهم. والمعنى في الآية: أن الله دمر التسعة الرهط المذكورين، ودمر قومهم الذين لم يكونوا معهم عند مباشرتهم لذلك، ومعنى التأكيد بأجمعين أنه لم يشذ منهم أحد ولا سلم من العقوبة فرد من أفرادهم.
وجملة 52- "فتلك بيوتهم خاوية" مقررة لما قبلها. قرأ الجمهور "خاويةً" بالنصب على الحال. قال الزجاج: المعنى فانظر إلى بيوتهم حال كونها خاوية، وكذا قال الفراء والنحاس: أي خالية عن أهلها خراباً ليس بها ساكن. وقال الكسائي وأبو عبيدة: نصب خاوية على القطع، والأصل فتلك بيوتهم الخاوية، فلما قطع منها الألف واللام نصبت كقوله: "وله الدين واصباً" وقرأ عاصم بن عمر ونصر بن عاصم والجحدري وعيسى بن عمر برفع خاوية على أنه خبر اسم الإشارة وبيوتهم بدل، أو عطف بيان، أو خبر لاسم الإشارة وخاوية خبر آخر، والباء في "بما ظلموا" للسببية: أي بسبب ظلمهم "إن في ذلك" التدمير والتأهيل "لآية" عظيمة "لقوم يعلمون" أي يتصفون بالعلم بالأشياء.
53- "وأنجينا الذين آمنوا" وهم صالح ومن آمن به "وكانوا يتقون" الله ويخافون عذابه. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "طائركم" قال: مصائبكم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "وكان في المدينة تسعة رهط" قال: هم الذين عقروا الناقة وقالوا حين عقروها: نبيت صالحاً وأهله فنقلتهم، ثم نقول لأولياء صالح: ما شهدنا من هذا شيئاً وما لنا به علم فدمرهم الله أجمعين.
انتصاب لوطاً: بفعل مضمر معطوف على أرسلنا: أي وأرسلنا لوطاً، و 54- "إذ قال" ظرف للفعل المقدر ويجوز أن يقدر أذكر، والمعنى: وأرسلنا لوطاً وقت قوله: "لقومه أتأتون الفاحشة" أي الفعلة المتناهية في القبح والشناعة، وهم أهل سدوم، وجملة "وأنتم تبصرون" في محل نصب على الحال متضمنة لتأكيد الإنكار: أي وأنتم تعلمون أنها فاحشة. وذلك أعظم لذبوبكم، على أن تبصرون من بصر القلب، وهو العلم، أو بمعنى النظر، لأنهم كانوا لا يستترون حال فعل الفاحشة عتواً وتمرداً، وقد تقدم تفسير هذه القصة في الأعراف مستوفى.
55- " أإنكم لتأتون الرجال شهوة " فيه تكرير للتوبيخ مع التصريح بأن تلك الفاحشة هي اللواطة، وانتصاب شهوة على العلة: أي للشهوة، أو على أنه صفة لمصدر محذوف: أي إتياناً شهوة، أو أنه بمعنى الحال: أي مشتهين لهم "من دون النساء" أي متجاوزين النساء اللاتي هن محل لذلك "بل أنتم قوم تجهلون" التحريم أو العقوبة على هذه المعصية، واختار الخليل وسيبويه تخفيف الهمزة من أإنكم.