تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 393 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 393

393- تفسير الصفحة رقم393 من المصحف
قوله تعالى: "وما أوتيتم من شيء" يا أهل مكة "فمتاع الحياة الدنيا وزينتها" أي تتمتعون بها مدة حياتكم، أو مدةً في حياتكم، فإما أن تزولوا عنها أو تزول عنكم. "وما عند الله خير وأبقى" أي أفضل وأدوم، يريد الدار الآخرة وهي الجنة. "أفلا تعقلون" أن الباقي أفضل من الفاني قرأ أبو عمرو: "يعقلون" بالياء الباقون بالتاء على الخطاب وهو الاختيار لقوله تعالى: "وما أو تيتم". قوله تعالى: "أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه" يعني الجنة وما فيها من الثواب. "كمن متعناه متاع الحياة الدنيا" فأعطي منها بعض ما أراد. "ثم هو يوم القيامة من المحضرين" أي في النار ونظيره قوله: "ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين" [الصافات: 57]. قال ابن عباس: نزلت في حمزة بن عبدالمطلب، وفي أبي جهل بن هشام وقال مجاهد: نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وأبي جهل وقال محمد بن كعب. نزلت في حمزة وعلي، وفي أبي جهل وعمارة بن الوليد وقيل: في عمار والوليد بن المغيرة؛ قاله السدي قال القشيري: والصحيح أنها نزلت في المؤمن والكافر على التعميم الثعلبي: وبالجملة فإنها نزلت في كل كافر متع في الدنيا بالعافية والغنى وله في الآخرة النار، وفي كل مؤمن صبر على بلاء الدنيا ثقة بوعد الله وله في الآخرة الجنة.
الآيات: 62 - 67 {ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون، قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون، وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون، ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين، فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون، فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين}
قوله تعالى: "ويوم يناديهم" أي ينادي الله يوم القيامة هؤلاء المشركين "فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون" بزعمكم أنهم ينصرونكم ويشفعون لكم "قال الذين حق عليهم القول" أي حقت عليهم كلمة العذاب وهم الرؤساء؛ قاله الكلبى وقال قتادة: هم الشياطين. "ربنا هؤلاء الذين أغوينا" أي دعوناهم إلى الغي فقيل لهم: أغويتموهم ؟ قالوا: "أغويناهم كما غوينا" يعنون أضللناهم كما كنا ضالين. "تبرأنا إليك" أي تبرأ بعضنا من بعض، والشياطين يتبرؤون ممن أطاعهم، والرؤساء يتبرؤون ممن قبل منهم؛ كما قال تعالى: "الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين" [الزخرف: 67].
قوله تعالى: "وقيل" أي للكفار "ادعوا شركاءكم" أي استغيثوا بآلهتكم التي عبدتموها في الدنيا لتنصركم وتدفع عنكم "فدعوهم" أي استغاثوا بهم "فلم يستجيبوا لهم" أي فلم يجيبوهم ولم ينتفعوا بهم "ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون" قال الزجاج: جواب "لو" محذوف؛ والمعنى: لو أنهم كانوا يهتدون لأنجاهم الهدى، ولما صاروا إلى العذاب وقيل: أي لو أنهم كانوا يهتدون ما دعوهم وقيل المعنى: ودوا حين رأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا إذا رأوا العذاب يوم القيامة. "ماذا أجبتم المرسلين" أي يقول الله لهم ما كان جوابكم لمن أرسل إليكم من النبيين لما بلغوكم رسالاتي. "فعميت عليهم الأنباء يومئذ" أي خفيت عليهم الحجج؛ قاله مجاهد؛ لأن الله قد أعذر إليهم في الدنيا فلا يكون لهم عذر ولا حجة يوم القيامة و"الإنباء" الأخبار؛ سمى حججهم أنباء لأنها أخبار يخبرونها "فهم لا يتساءلون" أي لا يسأل بعضهم بعضا عن الحجج؛ لأن الله تعالى أدحض حججهم؛ قاله الضحاك وقال ابن عباس: "لا يتساءلون" أي لا ينطقون بحجة وقيل: "لا يتساءلون" في تلك الساعة، ولا يدرون ما يجيبون به من هول تلك الساعة، ثم يجيبون بعد ذلك كما أخبر عن قولهم: "والله ربنا ما كنا مشركين" [الأنعام: 23]. وقال مجاهد: لا يتساءلون بالأنساب وقيل: لا يسأل بعضهم بعضا أن يحمل من ذنوبه شيئا؛ حكاه ابن عيسى
قوله تعالى: "فأما من تاب" أي من الشرك "وآمن" أي صدق "وعمل صالحا" أدى الفرائض وأكثر من النوافل "فعسى أن يكون من المفلحين" أي من الفائزين بالسعادة. وعسى من الله واجبة
الآيات: 68 - 70 {وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون، وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون، وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون}
قوله تعالى: "وربك يخلق ما يشاء ويختار" هذا متصل بذكر الشركاء الذين عبدوهم واختاروهم للشفاعة؛ أي الاختيار إلى الله تعالى في الشفعاء لا إلى المشركين وقيل: هو جواب الوليد بن المغيرة حين قال: "لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم" [الزخرف: 31] يعني نفسه زعم، وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف وقيل: هو جواب اليهود إذ قالوا لو كان الرسول إلى محمد غير جبريل لآمنا به. قال ابن عباس: والمعنى؛ وربك يخلق ما يشاء من خلقه ويختار منهم من يشاء لطاعته وقال يحيى بن سلام: والمعنى؛ وربك يخلق ما يشاء من خلقه ويختار من يشاء لنبوته وحكى النقاش: إن المعنى وربك يخلق ما يشاء من خلقه يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، ويختار الأنصار لدينه.
قلت: وفي كتاب البزار مرفوعا صحيحا عن جابر (إن الله تعالى اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين واختار لي من أصحابي أربعة - يعني أبا بكر وعمر وعثمان وعليا - فجعلهم أصحابي وفي أصحابي كلهم خير واختار أمتي - على سائر الأمم واختار لي من أمتي أربعة قرون) وذكر سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن وهب بن منبه عن أبيه في قوله عز وجل: "وربك يخلق ما يشاء ويختار" قال: من النعم الضأن، ومن الطير الحمام والوقف التام "يختار" وقال علي بن سليمان: هذا وقف التمام ولا يجوز أن تكون "ما" في موضع نصب بـ"يختار" لأنها لو كانت في موضع نصب لم يعد عليها شيء قال وفي هذا رد على القدرية قال النحاس: التمام "ويختار" أي ويختار الرسل.
قوله تعالى: "ما كان لهم الخيرة" أي ليس يرسل من اختاروه هم قال أبو إسحاق: "ويختار" هذا الوقف التام المختار ويجوز أن تكون "ما" في موضع نصب بـ"يختار" ويكون المعنى ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة قال القشيري: الصحيح الأول لإطباقهم على الوقف على قوله "ويختار" قال المهدوي: وهو أشبه بمذهب أهل السنة و"ما" من قوله: "ما كان لهم الخيرة" نفي عام لجميع الأشياء أن يكون للعبد فيها شيء سوى اكتسابه بقدرة الله عز وجل. الزمخشري: "ما كان لهم الخيرة "بيان لقوله: "ويختار" لأن معناه يختار ما يشاء، ولهذا لم يدخل العاطف، والمعني، وإن الخيرة الله تعالى في أفعاله وهو أعلم بوجوده الحكمة فيها أي ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه وأجاز الزجاج وغيره أن تكون "ما" منضى منصوبة بـ"يختار" وأنكر الطبري أن تكون "ما" نافيه، لئلا يكون المعنى إنهم لم تكن لهم الخيرة فيما مضى وهي لهم فيما يستقبل، ولأنه لم يتقدم كلام بنفي قال المهدي:ولا يلزم ذلك؛ لأن "ما" تنفي الحال والاستقبال كليس ولذلك عملت عملها، ولأن الآي كانت تنزل على النبي صلى الله عليه وسلم على ما يسأل عنه، وعلى ما هم مصرون عليه من الأعمال وإن لم يكن ذلك في النص وتقدير الآية عند الطبري: ويختار من خلقه، لأن المشركين كانوا يختارون خيار أموالهم فيجعلونها لآلهتهم، فقال الله تبارك وتعالى: "وربك يخلق ما يشاء ويختار" للهداية ومن خلقه من سبقت له السعادة في علمه، كما اختار المشركون خيار أموالهم لآلهتهم فـ"ما" على هذا لمن يعقل وهي بمعنى الذي "والخيرة" رفع بالابتداء "ولهم" الخبر والجملة خبر "كان" وشبهه بقولك: كان زيد أبوه منطلق وفيه ضعف، إذا ليس في الكلام عائد يعود على اسم كان إلا أن يقدر فيه حذف فيجوز على بعد وقد روي معنى ما قاله الطبري عن ابن عباس قال الثعلبي: "ما" نفي أي ليس لهم الاختيار على الله وهذا أصوب كقوله تعالي: "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم" [الأحزاب: 36] قال محمود الوراق:
توكل على الرحمن في كل حاجةٍ أردت فإن الله يقضي ويقدِر
إذا ما يرد ذو العرش أمرا بعبده يصبه وما للعبد ما يتخير
وقد يهلك الإنسان ومن وجه حذره وينجو بحمد الله من حيث يحذر
وقال آخر:
العبد ذو ضجر والرب ذو قدر والدهر ذو دول والرزق مقسوم
والخير أجمع فيما اختار خالقنا وفي اختيار سواه اللوم والشوم
قال بعض العلماء: لا ينبغي لأحد أن يقدر على أمر من أمور الدنيا حتى يسأل الله الخيرة في ذلك بأن يصلي ركعتين صلاة الاستخارة يقرأ في الركعة ألأولي بعد الفاتحة: "قل يا أيها الكافرون" [الكافرون: 1] في الركعة الثانية "قل هو الله أحد" [الإخلاص: 1] واختار بعض المشايخ أن يقرأ في الركعة الأولى "وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة" الآية، وفي الركعة الثانية: "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم" [الأحزاب: 36] وكل حسن ثم يدعو بهذا الدعاء بعد السلام، وهو ما رواه البخاري من صحيحه عن جابر بن عبدالله قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة في القرآن؛ يقول: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين غير الفريضة ثم ليقل اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال في عاجل أمري وآجله - فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه اللهم وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال في عاجل أمري وآجله - فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به). قال: ويسمي حاجته. وروت عائشة عن أبي بكر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أمرا قال: (اللهم خر لي واختر لي) وروى أنس أن النبي صلى الله عليه قال: (يا أنس إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات ثم انظر إلى ما يسبق قلبك فإن الخير فيه) قال العلماء: وينبغي له أن يفرغ قلبه من جميع الخواطر حتى لا يكون مائلا إلى أمر من الأمور، فعند ذلك ما يسبق إلى قلبه يعمل عليه، فإن الخير فيه إن شاء الله وإن عزم على سفر فيتوخى بسفره يوم الخميس أو يوم الاثنين اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم نزه نفسه سبحانه فقال: "سبحان الله" أي تنزيها. "وتعالى" أي تقدس وتمجد "عما يشركون". "وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون" يظهرون وقرأ ابن محيصن وحميد: "تَكُن" بفتح التاء وضم الكاف وقد تقدم هذا في "النمل". تمدح سبحانه بأنه عالم الغيب والشهادة لا يخفى عليه شيء. "وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون" تقدم معناه، وأنه المنفرد بالوحدانية، لإن جميع المحامد إنما تجب له وأن لا حكم إلا له وإليه المصير.