سورة القصص | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 392 من المصحف
قوله تعالى: "ولقد وصلنا لهم القول" أي أتبعنا بعضه بعضا، وبعثنا رسولا بعد رسول وقرأ الحسن "وصلنا" مخففا وقال أبو عبيدة والأخفش: معنى "وصلنا" أتممنا كصلتك الشيء وقال ابن عيينه والسدي: بيّنا وقاله ابن عباس وقال مجاهد: فصلنا وكذلك كان يقرؤها. وقال ابن زيد: وصلنا لهم خبر الدنيا بخبر الآخرة حتى كأنهم في الآخرة في الدنيا وقال أهل المعاني: وَاَلينا وتابعنا وأنزلنا القرآن تبع بعضه بعضا: وعدا ووعيدا وقصصا وعبرا ونصائح ومواعظ إرادة أن يتذكروا فيفلحوا وأصلها من وصل الحبال بعضها ببعض قال الشاعر:
فقل لبني مروان ما بال ذمة وحبل ضعيف ما يزال يوصل
وقال امرؤ القيس:
درير كخذروف الوليد أمره تقلب كفيه بخيط موصل
والضمير في "لهم" لقريش؛ عن مجاهد وقيل: هو لليهود وقيل: هو لهم جميعا. والآية رد على من قال هلا أوتي محمد القرآن جملة واحدة "لعلهم يتذكرون" قال ابن عباس: يتذكرون محمدا فيؤمنوا به. وقيل: يتذكرون فيخافوا أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم؛ قاله علي بن عيسى وقيل: لعلهم يتعظون بالقرآن عن عبادة الأصنام. حكاه النقاش.
الآية: 52 {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون، وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين}
قوله تعالى: "الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون" أخبر أن قوما ممن أوتوا الكتاب من بني إسرائيل من قبل القرآن يؤمنون بالقرآن، كعبدالله بن سلام وسلمان ويدخل فيه من أسلم من علماء النصارى، وهم أربعون رجلا، قدموا مع جعفر بن أبي طالب المدينة، اثنان وثلاثون رجلا من الحبشة، وثمانية نفرا أقبلوا من الشام وكانوا أئمة النصاري: منهم بحيرا الراهب وأبرهه والأشرف وعامر وأيمن وإدريس ونافع كذا سماهم الماوردي، وأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية والتي بعدها "أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا" قاله قتادة وعنه أيضا نزلت في عبدالله بن سلام وتميم الداري والجارود العبدي وسلمان الفارسي، أسلموا فنزلت فيهم هذه الآية وعن رفاعة القرظي: نزلت في عشرة أنا أحدهم وقال عروة بن الزبير: نزلت في النجاشي وأصحابه ووجه باثني عشر رجلا فجلسوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أبو جهل وأصحابه قريبا منهم، فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فلما قاموا من عنده تبعهم أبو جهل ومن معه، فقال لهم: خيبكم الله من ركب، وقبحكم من وفد، ولم تلبثوا أن صدقتموه، وما رأينا ركبا أحمق منكم ولا أجهل، فقالوا: "سلام عليكم" لم نأل أنفسنا رشدا "لنا أعمالنا ولكم أعمالكم" [البقرة: 139] وقد تقدم هذا في "المائدة" عند قوله "وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول" [المائدة: 83] مستوفى وقال أبو العالية: هؤلاء قوم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث وقد أدركه بعضهم. "من قبله" أي من قبل القرآن وقيل: من قبل محمد عليه السلام "هم به" أي بالقرآن أو بمحمد عليه السلام "يؤمنون" "وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا" أي إذا قرئ عليهم القرآن قالوا بما فيه "إنا كنا من قبله مسلمين" أي من قبل نزوله، أو من قبل بعثه محمد عليه السلام "مسلمين" أي موحدين، أو مؤمنين بأنه سيبعث محمد وينزل عليه القرآن.
الآيات: 54 - 55 {أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون، وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين}
قوله تعالى: "أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا" ثبت في صحيح مسلم عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم ـ فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران وعبد مملوك أدي حق الله عز وجل وحق سيده فله أجران ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها ثم أدبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران) قال الشعبي للخراساني: خذا هذا الحديث بغير شيء فقد كان الرجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة وخرجه البخاري أيضا قال علماؤنا: لما كان كل واحد من هؤلاء مخاطبا بأمرين من جهتين استحق كل واحد منهم أجرين؛ فالكتابي كان مخاطبا من جهة نبيه، ثم إنه خوطب من جهة نبينا فأجابه واتبعه فله أجر الملتين، وكذلك العبد هو مأمور من جهة الله تعالى ومن جهة سيده، ورب الأمة لما قام بما خوطب به من تربيته أمته وأدبها فقد أحياها إحياء التربية، ثم إنه لما أعتقها وتزوجها أحياها إحياء الحرية التي ألحقها فيه بمنصبه، فقد قام بما أمر فيها، فأجر كل واحد منهم أجرين ثم إن كل واحد من الأجرين مضاعف في نفسه، الحسنة بعشر أمثالها فتتضاعف الأجور ولذلك قيل: إن العبد الذي يقوم بحق سيده وحق الله تعالى أفضل من الحر، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبدالبر وغيره وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للعبد المملوك المصلح أجران) والذي نفس أبي هريرة بيده لولا الجهاد في سبيل الله وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك قال سعيد بن المسيب: وبلغنا أن أبا هريرة لم يكن يحج حتى ماتت أمه لصحبتها. وفي الصحيح أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعما للمملوك أن يتوفى يحسن عبادة الله وصحابة سيده نعما له). "بما صبروا" عام في صبرهم على ملتهم، ثم على هذه وعلى الأذى الذي يلقونه من الكفار وغير ذلك. "ويدرؤون بالحسنة السيئة" أي يدفعون درأت إذا دفعت، والدرء الدفع وفي الحديث: (ادرؤوا الحدود بالشبهات) قيل: يدفعون بالاحتمال والكلام الحسن الأذى وقيل: يدفعون بالتوبة والاستغفار الذنوب؛ وعلى الأول فهو وصف لمكارم الأخلاق؛ أي من قال لهم سوءا لاينوه وقابلوه من القول الحسن بما يدفعه فهذه آية مهادنة، وهي من صدر الإسلام، وهي مما نسختها آية السيف وبقي حكمها فيما دون الكفر يتعاطاه أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ومنه قوله عليه السلام لمعاذ: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن) ومن الخلق الحسن دفع المكروه والأذى، والصبر على الجفا بالإعراض عنه ولين الحديث
قوله تعالى: "ومما رزقناهم ينفقون" أثني عليهم بأنهم ينفقون من أموالهم في الطاعات وفي رسم الشرع، وفي ذلك حض على الصدقات وقد يكون الإنفاق من الأبدان بالصوم والصلاة؛ ثم مدحهم أيضا على إعراضهم عن اللغو كما قال تعالى: "وإذا مروا باللغو مروا كراما" [الفرقان: 72] أي إذا سمعوا ما قال لهم المشركون من الأذى والشتم أعرضوا عنه؛ أي لم يشتغلوا به "وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم" أي متاركة؛ مثل قوله: "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما" [الفرقان: 63] أي لنا ديننا ولكم دينكم "سلام عليكم" أي أمنا لكم منا فإنا لا نحاربكم، ولا نسابكم، وليس من التحية في شيء مال الزجاج: وهذا قبل الأمر بالقتال "لا نبتغي الجاهلين" أي لا نطلبهم للجدال والمراجعة والمشاتمة
الآية: 56 {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين}
قوله تعالى: "إنك لا تهدي من أحببت" قال الزجاج: أجمع المسلمون على أنها نزلت في أبي طالب.
قلت: والصواب أن يقال أجمع جل المفسرين على أنها نزلت في شأن أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو نص حديث البخاري ومسلم، وقد تقدم الكلام في ذلك في "التوبة". قال أبو روق قوله: "ولكن الله يهدي من يشاء" إشارة إلى العباس. وقاله قتادة. "وهو أعلم بالمهتدين" قال مجاهد: لمن قدر له أن يهتدي. وقيل: معنى "من أحببت" أي من أحببت أن يهتدي وقال جبير بن مطعم: لم يسمع أحد الوحى يلقى على النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبا بكر الصديق فإنه سمع جبريل وهو يقول: يا محمد اقرأ: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء"
الآيات: 57 - 58 {وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون، وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين}
قوله تعالى: "وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا" هذا قول مشركي مكة قال ابن عباس: قائل ذلك من قريش الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف القرشي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لنعلم أن قولك حق، ولكن يمنعنا أن نتبع الهدى معك، ونؤمن بك، مخافة أن يتخطفنا العرب من أرضنا - يعني مكة - لاجتماعهم على خلافنا، ولا طاقة لنا بهم وكان هذا من تعللاتهم فأجاب الله تعالى عما اعتل به فقال: "أو لم نمكن لهم حرما آمنا" أي ذا أمن وذلك أن العرب كانت في الجاهلية يغير بعضهم على بعض، ويقتل بعضهم بعضا، وأهل مكة آمنون حيث كانوا بحرمة الحرم، فأخبر أنه قد أمنهم بحرمة البيت، ومنع عنهم عدوهم، فلا يخافون أن تستحل العرب حرمة في قتالهم. والتخطف الانتزاع بسرعة؛ وقد تقدم. قال يحيى بن سلام يقول: كنتم آمنين في حرمي، تأكلون رزقي، وتعبدون غيري، أفتخافون إذا عبدتموني وآمنتم بي. "يجبى إليه ثمرات كل شيء" أي يجمع إليه ثمرات كل أرض وبلد؛ عن ابن عباس وغيره يقال: جبى الماء في الحوض أي جمعه. والجابية الحوض العظيم وقرأ نافع: "تجبى" بالتاء؛ لأجل الثمرات والياقوت بالياء، لقوله: "كل شيء" واختاره أبو عبيد قال: لأنه حال بين الاسم المؤنث وبين فعله حائل وأيضا فإن الثمرات جمع، وليس بتأنيث حقيقي. "رزقا من لدنا" أي من عندنا "ولكن أكثرهم لا يعلمون" أي لا يعقلون؛ أي هم غافلون عن الاستدلال وأن من رزقهم وأمنهم فيما مضى حال كفرهم يرزقهم لو أسلموا، ويمنع الكفار عنهم في إسلامهم. و"رزقا" نصب على المفعول من أجله. ويجوز نصبه على المصدر بالمعنى؛ لأن معنى "تجبى" ترزق. وقرئ "يجنى" بالنون من الجنا، وتعديته بإلى كقولك يجنى إلى فيه ويجنى إلى الخافة.
قوله تعالى: "وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها" بين لمن توهم أنه لو آمن لقاتلته العرب أن الخوف في ترك الإيمان أكثر، فكم من قوم كفروا ثم حل بهم البوار، والبطر والطغيان بالنعمة؛ قاله الزجاج "معيشتها" أي في معيشتها فلما حذف "في" تعدى الفعل؛ قاله المازني الزجاج كقوله: "واختار موسى قومه سبعين رجلا" [الأعراف: 155] الفراء: هو منصوب على التفسير. قال كما تقول: أبطرت مالك وبطرته ونظيره عنده: "إلا من سفه نفسه" [البقرة:130] وكذا عنده. "فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا" [النساء: 4] ونصب المعارف على التفسير محال عند البصريين؛ لأنمعنى التفسير والتمييز أن يكون واحدا نكرة يدل على الجنس وقيل: أنتصب بـ"بطرت" ومعنى: "بطرت" جهلت؛ فالمعنى: جهلت شكر معيشتها. "فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا" أي لم تسكن بعد إهلاك أهلها إلا قليلا من المساكن وأكثرها خراب والاستثناء يرجع إلى المساكن أي بعضها يسكن؛ قاله الزجاج واعترض عليه؛ فقيل: لو كان الاستثناء يرجع إلى المساكن لقال إلا قليل؛ لأنك تقول: القوم لم تضرب إلا قليل، ترفع إذا كان المضروب قليلا، وإذا نصبت كان القليل صفة للضرب؛ أي لم تضرب إلا ضربا قليلا، فالمعنى إذا: فتلك مساكنهم لم يسكنها إلا المسافرون ومن مر بالطريق يوما أو بعض يوم أي لم تسكن من بعدهم إلا سكونا قليلا. وكذا قال ابن عباس: لم يسكنها إلا المسافر أو مار الطريق يوما أو ساعة "وكنا نحن الوارثين" أي لما خلفوا بعد هلاكهم.
الآية: 59 - 61 {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون، وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون، أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين}
قوله تعالى: "وما كان ربك مهلك القرى" أي القرى الكافر أهلها. "حتى يبعث في أمها" قرئ بضم الهمزة وكسرها لإتباع الجر يعني مكة. و"رسولا" يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. وقيل: "في أمها" يعني في أعظمها "رسولا" ينذرهم. وقال الحسن: في أوائلها.
قلت: ومكة أعظم القرى لحرمتها وأولها، لقوله تعالى: "إن أول بيت وضع للناس" [آل عمران: 96] وخصت بالأعظم لبعثة الرسول فيها؛ لأن الرسل تبعث إلى الأشراف وهم يسكنون المدائن وهي أم ما حولها. وقد مضى هذا المعنى في آخر سورة "يوسف".
قوله تعالى: "يتلو عليهم آياتنا" "يتلو" في موضع الصفة أي تاليا أي يخبرهم أن العذاب ينزل بهم إن لم يؤمنوا "وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون" "وما كنا مهلكي القري" سقطت النون للإضافة مثل "ظالمي أنفسهم" [النساء: 97]أي لم أهلكهم إلا وقد استحقوا الإهلاك لإصرارهم على الكفر بعد الإعذار إليهم وفي هذا بيان لعدله وتقدسه عن الظلم أخبر تعالى أنه لا يهلكهم إلا إذا استحقوا الإهلاك بظلمهم، ولا يهلكهم مع كونهم ظالمين إلا بعد تأكيد الحجة والإلزام ببعثة الرسل، ولا يجعل علمه بأحوالهم حجة عليهم ونزه ذاته أن يهلكهم وهم غير ظالمين، كما قال عز من قائل: "وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون" [هود: 117] فنص في قوله "بظلم" [هود: 117] على أنه لو أهلكهم وهم مصلحون لكان ذلك ظلما لهم منه، وإن حاله في غناه وحكمته منافية للظلم، دل على ذلك بحرف النفي مع لامه كما قال تعالى: "وما كان الله ليضيع إيمانكم" [البقرة: 143]
قوله تعالى: "وما أوتيتم من شيء" يا أهل مكة "فمتاع الحياة الدنيا وزينتها" أي تتمتعون بها مدة حياتكم، أو مدةً في حياتكم، فإما أن تزولوا عنها أو تزول عنكم. "وما عند الله خير وأبقى" أي أفضل وأدوم، يريد الدار الآخرة وهي الجنة. "أفلا تعقلون" أن الباقي أفضل من الفاني قرأ أبو عمرو: "يعقلون" بالياء الباقون بالتاء على الخطاب وهو الاختيار لقوله تعالى: "وما أو تيتم". قوله تعالى: "أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه" يعني الجنة وما فيها من الثواب. "كمن متعناه متاع الحياة الدنيا" فأعطي منها بعض ما أراد. "ثم هو يوم القيامة من المحضرين" أي في النار ونظيره قوله: "ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين" [الصافات: 57]. قال ابن عباس: نزلت في حمزة بن عبدالمطلب، وفي أبي جهل بن هشام وقال مجاهد: نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وأبي جهل وقال محمد بن كعب. نزلت في حمزة وعلي، وفي أبي جهل وعمارة بن الوليد وقيل: في عمار والوليد بن المغيرة؛ قاله السدي قال القشيري: والصحيح أنها نزلت في المؤمن والكافر على التعميم الثعلبي: وبالجملة فإنها نزلت في كل كافر متع في الدنيا بالعافية والغنى وله في الآخرة النار، وفي كل مؤمن صبر على بلاء الدنيا ثقة بوعد الله وله في الآخرة الجنة.
تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 392
392- تفسير الصفحة رقم392 من المصحفقوله تعالى: "ولقد وصلنا لهم القول" أي أتبعنا بعضه بعضا، وبعثنا رسولا بعد رسول وقرأ الحسن "وصلنا" مخففا وقال أبو عبيدة والأخفش: معنى "وصلنا" أتممنا كصلتك الشيء وقال ابن عيينه والسدي: بيّنا وقاله ابن عباس وقال مجاهد: فصلنا وكذلك كان يقرؤها. وقال ابن زيد: وصلنا لهم خبر الدنيا بخبر الآخرة حتى كأنهم في الآخرة في الدنيا وقال أهل المعاني: وَاَلينا وتابعنا وأنزلنا القرآن تبع بعضه بعضا: وعدا ووعيدا وقصصا وعبرا ونصائح ومواعظ إرادة أن يتذكروا فيفلحوا وأصلها من وصل الحبال بعضها ببعض قال الشاعر:
فقل لبني مروان ما بال ذمة وحبل ضعيف ما يزال يوصل
وقال امرؤ القيس:
درير كخذروف الوليد أمره تقلب كفيه بخيط موصل
والضمير في "لهم" لقريش؛ عن مجاهد وقيل: هو لليهود وقيل: هو لهم جميعا. والآية رد على من قال هلا أوتي محمد القرآن جملة واحدة "لعلهم يتذكرون" قال ابن عباس: يتذكرون محمدا فيؤمنوا به. وقيل: يتذكرون فيخافوا أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم؛ قاله علي بن عيسى وقيل: لعلهم يتعظون بالقرآن عن عبادة الأصنام. حكاه النقاش.
الآية: 52 {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون، وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين}
قوله تعالى: "الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون" أخبر أن قوما ممن أوتوا الكتاب من بني إسرائيل من قبل القرآن يؤمنون بالقرآن، كعبدالله بن سلام وسلمان ويدخل فيه من أسلم من علماء النصارى، وهم أربعون رجلا، قدموا مع جعفر بن أبي طالب المدينة، اثنان وثلاثون رجلا من الحبشة، وثمانية نفرا أقبلوا من الشام وكانوا أئمة النصاري: منهم بحيرا الراهب وأبرهه والأشرف وعامر وأيمن وإدريس ونافع كذا سماهم الماوردي، وأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية والتي بعدها "أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا" قاله قتادة وعنه أيضا نزلت في عبدالله بن سلام وتميم الداري والجارود العبدي وسلمان الفارسي، أسلموا فنزلت فيهم هذه الآية وعن رفاعة القرظي: نزلت في عشرة أنا أحدهم وقال عروة بن الزبير: نزلت في النجاشي وأصحابه ووجه باثني عشر رجلا فجلسوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أبو جهل وأصحابه قريبا منهم، فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فلما قاموا من عنده تبعهم أبو جهل ومن معه، فقال لهم: خيبكم الله من ركب، وقبحكم من وفد، ولم تلبثوا أن صدقتموه، وما رأينا ركبا أحمق منكم ولا أجهل، فقالوا: "سلام عليكم" لم نأل أنفسنا رشدا "لنا أعمالنا ولكم أعمالكم" [البقرة: 139] وقد تقدم هذا في "المائدة" عند قوله "وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول" [المائدة: 83] مستوفى وقال أبو العالية: هؤلاء قوم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث وقد أدركه بعضهم. "من قبله" أي من قبل القرآن وقيل: من قبل محمد عليه السلام "هم به" أي بالقرآن أو بمحمد عليه السلام "يؤمنون" "وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا" أي إذا قرئ عليهم القرآن قالوا بما فيه "إنا كنا من قبله مسلمين" أي من قبل نزوله، أو من قبل بعثه محمد عليه السلام "مسلمين" أي موحدين، أو مؤمنين بأنه سيبعث محمد وينزل عليه القرآن.
الآيات: 54 - 55 {أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون، وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين}
قوله تعالى: "أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا" ثبت في صحيح مسلم عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم ـ فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران وعبد مملوك أدي حق الله عز وجل وحق سيده فله أجران ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها ثم أدبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران) قال الشعبي للخراساني: خذا هذا الحديث بغير شيء فقد كان الرجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة وخرجه البخاري أيضا قال علماؤنا: لما كان كل واحد من هؤلاء مخاطبا بأمرين من جهتين استحق كل واحد منهم أجرين؛ فالكتابي كان مخاطبا من جهة نبيه، ثم إنه خوطب من جهة نبينا فأجابه واتبعه فله أجر الملتين، وكذلك العبد هو مأمور من جهة الله تعالى ومن جهة سيده، ورب الأمة لما قام بما خوطب به من تربيته أمته وأدبها فقد أحياها إحياء التربية، ثم إنه لما أعتقها وتزوجها أحياها إحياء الحرية التي ألحقها فيه بمنصبه، فقد قام بما أمر فيها، فأجر كل واحد منهم أجرين ثم إن كل واحد من الأجرين مضاعف في نفسه، الحسنة بعشر أمثالها فتتضاعف الأجور ولذلك قيل: إن العبد الذي يقوم بحق سيده وحق الله تعالى أفضل من الحر، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبدالبر وغيره وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للعبد المملوك المصلح أجران) والذي نفس أبي هريرة بيده لولا الجهاد في سبيل الله وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك قال سعيد بن المسيب: وبلغنا أن أبا هريرة لم يكن يحج حتى ماتت أمه لصحبتها. وفي الصحيح أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعما للمملوك أن يتوفى يحسن عبادة الله وصحابة سيده نعما له). "بما صبروا" عام في صبرهم على ملتهم، ثم على هذه وعلى الأذى الذي يلقونه من الكفار وغير ذلك. "ويدرؤون بالحسنة السيئة" أي يدفعون درأت إذا دفعت، والدرء الدفع وفي الحديث: (ادرؤوا الحدود بالشبهات) قيل: يدفعون بالاحتمال والكلام الحسن الأذى وقيل: يدفعون بالتوبة والاستغفار الذنوب؛ وعلى الأول فهو وصف لمكارم الأخلاق؛ أي من قال لهم سوءا لاينوه وقابلوه من القول الحسن بما يدفعه فهذه آية مهادنة، وهي من صدر الإسلام، وهي مما نسختها آية السيف وبقي حكمها فيما دون الكفر يتعاطاه أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ومنه قوله عليه السلام لمعاذ: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن) ومن الخلق الحسن دفع المكروه والأذى، والصبر على الجفا بالإعراض عنه ولين الحديث
قوله تعالى: "ومما رزقناهم ينفقون" أثني عليهم بأنهم ينفقون من أموالهم في الطاعات وفي رسم الشرع، وفي ذلك حض على الصدقات وقد يكون الإنفاق من الأبدان بالصوم والصلاة؛ ثم مدحهم أيضا على إعراضهم عن اللغو كما قال تعالى: "وإذا مروا باللغو مروا كراما" [الفرقان: 72] أي إذا سمعوا ما قال لهم المشركون من الأذى والشتم أعرضوا عنه؛ أي لم يشتغلوا به "وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم" أي متاركة؛ مثل قوله: "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما" [الفرقان: 63] أي لنا ديننا ولكم دينكم "سلام عليكم" أي أمنا لكم منا فإنا لا نحاربكم، ولا نسابكم، وليس من التحية في شيء مال الزجاج: وهذا قبل الأمر بالقتال "لا نبتغي الجاهلين" أي لا نطلبهم للجدال والمراجعة والمشاتمة
الآية: 56 {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين}
قوله تعالى: "إنك لا تهدي من أحببت" قال الزجاج: أجمع المسلمون على أنها نزلت في أبي طالب.
قلت: والصواب أن يقال أجمع جل المفسرين على أنها نزلت في شأن أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو نص حديث البخاري ومسلم، وقد تقدم الكلام في ذلك في "التوبة". قال أبو روق قوله: "ولكن الله يهدي من يشاء" إشارة إلى العباس. وقاله قتادة. "وهو أعلم بالمهتدين" قال مجاهد: لمن قدر له أن يهتدي. وقيل: معنى "من أحببت" أي من أحببت أن يهتدي وقال جبير بن مطعم: لم يسمع أحد الوحى يلقى على النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبا بكر الصديق فإنه سمع جبريل وهو يقول: يا محمد اقرأ: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء"
الآيات: 57 - 58 {وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون، وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين}
قوله تعالى: "وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا" هذا قول مشركي مكة قال ابن عباس: قائل ذلك من قريش الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف القرشي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لنعلم أن قولك حق، ولكن يمنعنا أن نتبع الهدى معك، ونؤمن بك، مخافة أن يتخطفنا العرب من أرضنا - يعني مكة - لاجتماعهم على خلافنا، ولا طاقة لنا بهم وكان هذا من تعللاتهم فأجاب الله تعالى عما اعتل به فقال: "أو لم نمكن لهم حرما آمنا" أي ذا أمن وذلك أن العرب كانت في الجاهلية يغير بعضهم على بعض، ويقتل بعضهم بعضا، وأهل مكة آمنون حيث كانوا بحرمة الحرم، فأخبر أنه قد أمنهم بحرمة البيت، ومنع عنهم عدوهم، فلا يخافون أن تستحل العرب حرمة في قتالهم. والتخطف الانتزاع بسرعة؛ وقد تقدم. قال يحيى بن سلام يقول: كنتم آمنين في حرمي، تأكلون رزقي، وتعبدون غيري، أفتخافون إذا عبدتموني وآمنتم بي. "يجبى إليه ثمرات كل شيء" أي يجمع إليه ثمرات كل أرض وبلد؛ عن ابن عباس وغيره يقال: جبى الماء في الحوض أي جمعه. والجابية الحوض العظيم وقرأ نافع: "تجبى" بالتاء؛ لأجل الثمرات والياقوت بالياء، لقوله: "كل شيء" واختاره أبو عبيد قال: لأنه حال بين الاسم المؤنث وبين فعله حائل وأيضا فإن الثمرات جمع، وليس بتأنيث حقيقي. "رزقا من لدنا" أي من عندنا "ولكن أكثرهم لا يعلمون" أي لا يعقلون؛ أي هم غافلون عن الاستدلال وأن من رزقهم وأمنهم فيما مضى حال كفرهم يرزقهم لو أسلموا، ويمنع الكفار عنهم في إسلامهم. و"رزقا" نصب على المفعول من أجله. ويجوز نصبه على المصدر بالمعنى؛ لأن معنى "تجبى" ترزق. وقرئ "يجنى" بالنون من الجنا، وتعديته بإلى كقولك يجنى إلى فيه ويجنى إلى الخافة.
قوله تعالى: "وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها" بين لمن توهم أنه لو آمن لقاتلته العرب أن الخوف في ترك الإيمان أكثر، فكم من قوم كفروا ثم حل بهم البوار، والبطر والطغيان بالنعمة؛ قاله الزجاج "معيشتها" أي في معيشتها فلما حذف "في" تعدى الفعل؛ قاله المازني الزجاج كقوله: "واختار موسى قومه سبعين رجلا" [الأعراف: 155] الفراء: هو منصوب على التفسير. قال كما تقول: أبطرت مالك وبطرته ونظيره عنده: "إلا من سفه نفسه" [البقرة:130] وكذا عنده. "فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا" [النساء: 4] ونصب المعارف على التفسير محال عند البصريين؛ لأنمعنى التفسير والتمييز أن يكون واحدا نكرة يدل على الجنس وقيل: أنتصب بـ"بطرت" ومعنى: "بطرت" جهلت؛ فالمعنى: جهلت شكر معيشتها. "فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا" أي لم تسكن بعد إهلاك أهلها إلا قليلا من المساكن وأكثرها خراب والاستثناء يرجع إلى المساكن أي بعضها يسكن؛ قاله الزجاج واعترض عليه؛ فقيل: لو كان الاستثناء يرجع إلى المساكن لقال إلا قليل؛ لأنك تقول: القوم لم تضرب إلا قليل، ترفع إذا كان المضروب قليلا، وإذا نصبت كان القليل صفة للضرب؛ أي لم تضرب إلا ضربا قليلا، فالمعنى إذا: فتلك مساكنهم لم يسكنها إلا المسافرون ومن مر بالطريق يوما أو بعض يوم أي لم تسكن من بعدهم إلا سكونا قليلا. وكذا قال ابن عباس: لم يسكنها إلا المسافر أو مار الطريق يوما أو ساعة "وكنا نحن الوارثين" أي لما خلفوا بعد هلاكهم.
الآية: 59 - 61 {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون، وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون، أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين}
قوله تعالى: "وما كان ربك مهلك القرى" أي القرى الكافر أهلها. "حتى يبعث في أمها" قرئ بضم الهمزة وكسرها لإتباع الجر يعني مكة. و"رسولا" يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. وقيل: "في أمها" يعني في أعظمها "رسولا" ينذرهم. وقال الحسن: في أوائلها.
قلت: ومكة أعظم القرى لحرمتها وأولها، لقوله تعالى: "إن أول بيت وضع للناس" [آل عمران: 96] وخصت بالأعظم لبعثة الرسول فيها؛ لأن الرسل تبعث إلى الأشراف وهم يسكنون المدائن وهي أم ما حولها. وقد مضى هذا المعنى في آخر سورة "يوسف".
قوله تعالى: "يتلو عليهم آياتنا" "يتلو" في موضع الصفة أي تاليا أي يخبرهم أن العذاب ينزل بهم إن لم يؤمنوا "وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون" "وما كنا مهلكي القري" سقطت النون للإضافة مثل "ظالمي أنفسهم" [النساء: 97]أي لم أهلكهم إلا وقد استحقوا الإهلاك لإصرارهم على الكفر بعد الإعذار إليهم وفي هذا بيان لعدله وتقدسه عن الظلم أخبر تعالى أنه لا يهلكهم إلا إذا استحقوا الإهلاك بظلمهم، ولا يهلكهم مع كونهم ظالمين إلا بعد تأكيد الحجة والإلزام ببعثة الرسل، ولا يجعل علمه بأحوالهم حجة عليهم ونزه ذاته أن يهلكهم وهم غير ظالمين، كما قال عز من قائل: "وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون" [هود: 117] فنص في قوله "بظلم" [هود: 117] على أنه لو أهلكهم وهم مصلحون لكان ذلك ظلما لهم منه، وإن حاله في غناه وحكمته منافية للظلم، دل على ذلك بحرف النفي مع لامه كما قال تعالى: "وما كان الله ليضيع إيمانكم" [البقرة: 143]
قوله تعالى: "وما أوتيتم من شيء" يا أهل مكة "فمتاع الحياة الدنيا وزينتها" أي تتمتعون بها مدة حياتكم، أو مدةً في حياتكم، فإما أن تزولوا عنها أو تزول عنكم. "وما عند الله خير وأبقى" أي أفضل وأدوم، يريد الدار الآخرة وهي الجنة. "أفلا تعقلون" أن الباقي أفضل من الفاني قرأ أبو عمرو: "يعقلون" بالياء الباقون بالتاء على الخطاب وهو الاختيار لقوله تعالى: "وما أو تيتم". قوله تعالى: "أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه" يعني الجنة وما فيها من الثواب. "كمن متعناه متاع الحياة الدنيا" فأعطي منها بعض ما أراد. "ثم هو يوم القيامة من المحضرين" أي في النار ونظيره قوله: "ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين" [الصافات: 57]. قال ابن عباس: نزلت في حمزة بن عبدالمطلب، وفي أبي جهل بن هشام وقال مجاهد: نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وأبي جهل وقال محمد بن كعب. نزلت في حمزة وعلي، وفي أبي جهل وعمارة بن الوليد وقيل: في عمار والوليد بن المغيرة؛ قاله السدي قال القشيري: والصحيح أنها نزلت في المؤمن والكافر على التعميم الثعلبي: وبالجملة فإنها نزلت في كل كافر متع في الدنيا بالعافية والغنى وله في الآخرة النار، وفي كل مؤمن صبر على بلاء الدنيا ثقة بوعد الله وله في الآخرة الجنة.
الصفحة رقم 392 من المصحف تحميل و استماع mp3