تفسير الطبري تفسير الصفحة 393 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 393
394
392
 الآية : 60
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَآ أُوتِيتُم مّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: وما أُعطيتـم أيها الناس من شيء من الأموال والأولاد, فإنـما هو متاع تتـمتعون به فـي هذه الـحياة الدنـيا, وهو من زينتها التـي يترين به فـيها, لا يغنى عنكم عند الله شيئا, ولا ينفعكم شيء منه فـي معادكم, وما عند الله لأهل طاعته وولايته خير مـما أوتـيتـموه أنتـم فـي هذه الدنـيا من متاعها وزينتها وأبقـى, يقول: وأبقـى لأهله, لأنه دائم لا نفـاد له. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20981حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, فـي قوله وَما عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ وأبْقَـى قال: خير ثوابـا, وأبقـى عندنا أفَلاَ تَعْقِلُونَ يقول تعالـى ذكره: أفلا عقول لكم أيها القوم تتدبرون بها فتعرفون بها الـخير من الشرّ, وتـختارون لأنفسكم خير الـمنزلتـين علـى شرّهما, وتؤثرون الدائم الذي لا نفـاد له من النعيـم, علـى الفـانـي الذي لا بقاء له.
الآية : 61
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مّتّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا ثُمّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: أفمن وعدناه من خـلقنا علـى طاعته إيانا الـجنة, فآمن بـما وعدناه وصدّق وأطاعنا, فـاستـحقّ بطاعته إيانا أن ننـجز له ما وعدناه, فهو لاق ما وعد, وصائر إلـيه كمن متّعناه فـي الـحياة الدنـيا متاعها, فتـمتع به, ونسي العمل بـما وعدنا أهل الطاعة, وترك طلبه, وآثر لذّة عاجلة علـى آجله, ثم هو يوم القـيامة إذا ورد علـى الله من الـمـحضرين, يعنـي من الـمُشْهَدِين عذابَ الله, وألـيـمَ عقابه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20979ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة, قوله أفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْدا حَسَنا فَهُوَ لاقِـيهِ قال: هو الـمؤمن سمع كتاب الله فصدّق به وآمن بـما وعد الله فـيه كمَنْ مَتّعْناهُ مَتاعَ الْـحَياةِ الدّنْـيا هو هذا الكافر, لـيس والله كالـمؤمن ثُمّ هُوَ يَوْمَ القِـيامَةِ مِنَ الـمُـحْضَرِينَ: أي فـي عذاب الله.
20980ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال ابن عمرو فـي حديثه: قوله مِنَ الـمُـحْضَرِينَ قال: أحضروها. وقال الـحارث فـي حديثه ثُمّ هُوَ يَوْمَ القِـيَامَةِ مِنَ الـمُـحْضرِين أهلَ النار, أُحْضِروها.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد ثُمّ هُوَ يَوْمَ القِـيامَةِ مِنَ الـمُـحْضَرِينَ قال: أهل النار, أُحْضِروها.
واختلف أهل التأويـل فـيـمن نزلت فـيه هذه الاَية, فقال بعضهم: نزلت فـي النبـيّ صلى الله عليه وسلم, وفـي أبـي جهل بن هشام. ذكر من قال ذلك:
20981ـ حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا أبو النعمان الـحكم بن عبد الله العجلـي, قال: حدثنا شعبة, عن أبـان بن تغلب عن مـجاهد أفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْدا حَسَنا فَهُوَ لاقِـيهِ, كمَنْ مَتّعْناهُ مَتاعَ الـحَياةِ الدّنْـيا, ثُمّ هُوَ يَوْمَ القِـيامَةِ مِنَ الـمُـحْضَرِينَ قال: نزلت فـي النبـيّ صلى الله عليه وسلم, وفـي أبـي جهل بن هشام.
20982ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج أفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْدا حَسَنا فَهُوَ لاقِـيهِ قال: النبـيّ صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: نزلت فـي حمزة وعلـيّ رضي الله عنهما, وأبـي جهل لعنه الله. ذكر من قال ذلك:
20983ـ حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا بَدَل بن الـمُـحَبّر التغلَبـيّ, قال: حدثنا شعبة, عن أبـان بن تغلب, عن مـجاهد أفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْدا حَسَنا فَهُوَ لاقِـيهِ كمَنْ مَتّعْناهُ مَتاعَ الْـحَياةِ الدّنْـيا, ثمّ هُوَ يَوْمَ القِـيامَةِ مِنَ الـمُـحْضَرِينَ قال: نزلت فـي حمزة وعلـيّ بن أبـي طالب, وأبـي جهل.
20984ـ قال: حدثنا عبد الصمد, قال: حدثنا شعبة عن أبـان بن تغلب, عن مـجاهد, قال: نزلت فـي حمزة وأبـي جهل.
الآية : 62 -63
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * قَالَ الّذِينَ حَقّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبّنَا هَـَؤُلآءِ الّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُوَاْ إِيّانَا يَعْبُدُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: ويوم ينادي ربّ العزّة الذين أشركوا به الأنداد والأوثان فـي الدنـيا, فـيقول لهم: أيْنَ شُرَكائِيَ الّذِينَ كُنْتُـمْ تَزْعُمُونَ أنهم لـي فـي الدنـيا شركاء؟ قالَ الّذِينَ حَقّ عَلَـيْهِمُ الْقَوْلُ يقول: قال الذين وجب علـيهم غضب الله ولعنته, وهم الشياطين الذين كانوا يُغْوُون بنـي آدم: رَبّنا هَؤلاءِ الّذِينَ أغْوَيْنا, أغْوَيْناهُمْ كمَا غَوَيْنا. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20985ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو سفـيان, عن معمر, عن قَتادة, فـي قوله هَؤُلاءِ الّذِينَ أغْوَيْنا, أغْوَيْناهُمْ كمَا غَوَيْنا قال: هم الشياطين.
وقوله: تَبرّأنا إلَـيْكَ يقول: تبرأنا من وَلايتهم ونُصْرتهم إلـيك ما كانُوا إِيّانَا يَعْبُدُونَ: يقول: لـم يكونوا يعبدوننا.

الآية : 64
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقِيلَ ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ لَوْ أَنّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: وقـيـل للـمشركين بـالله الاَلهة والأنداد فـي الدنـيا ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ الذين كنتـم تدعون من دون الله فَدَعَوْهُمْ فَلَـمْ يَسْتَـجِيبُوا لَهُمْ يقول: فلـم يُجيبوهم. ورأَوُا العَذَابَ: يقول: وعاينوا العذاب لَوْ أنّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ يقول: فودّوا حين رأوا العذاب لو أنهم كانوا فـي الدنـيا مُهتدين للـحقّ.
الآية : 65 -66
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنبَـآءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: ويوم ينادي الله هؤلاء الـمشركين, فـيقول لهم ماذَا أجَبْتُـمُ الـمُرْسَلِـينَ فـيـما أرسلناهم به إلـيكم, من دعائكم إلـى توحيدنا, والبراءة من الأوثان والأصنام فَعَمِيَتْ عَلَـيْهِمُ الأنْبـاءُ يَوْمَئِذٍ يقول: فخفـيت علـيهم الأخبـار, من قولهم: قد عَمِي عنـي خبر القوم: إذا خفـي. وإنـما عُنِـي بذلك أنهم عميت علـيهم الـحجة, فلـم يدرُوا ما يحتـجون, لأن الله تعالـى قد كان أبلغ إلـيهم فـي الـمعذرة, وتابع علـيهم الـحجة, فلـم تكن لهم حجة يحتـجون بها, ولا خبر يُخْبرون به, مـما تكون لهم به نـجاة ومَخْـلَص. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20986ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فَعَمِيَتْ عَلَـيْهِمُ الأنْبـاءُ قال: الـحجج, يعنـي الـحجة.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد فَعَمِيَتْ عَلَـيْهِمُ الأنْبـاءُ قال: الـحجج.
20987ـ قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, فـي قوله وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَـيَقُولُ ماذَا أجَبْتُـمُ الـمُرْسَلِـينَ قال: بلا إله إلاّ الله, التوحيد.
وقوله: فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ بـالأنساب والقرابة. ذكر من قال ذلك:
20988ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فهُمْ لا يَتَساءَلُونَ قال: لا يتساءلون بـالأنساب, ولا يتـماتّون بـالقرابـات, إنهم كانوا فـي الدنـيا إذا التقوا تساءلوا وتـماتّوا.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد فَهُمْ لا يتَساءَلونَ قال: بـالأنساب. وقـيـل معنى ذلك: فعَمِيت علـيهم الـحجج يومئذٍ, فسكتوا, فهم لا يتساءلون فـي حال سكوتهم.

الآية : 67
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَأَمّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَىَ أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: فأمّا مَنْ تابَ من الـمشركين, فأناب وراجع الـحقّ, وأخـلص لله الألوهة, وأفرد له العبـادة, فلـم يشرك فـي عبـادته شيئا وآمَنَ يقول: وصدّق بنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم. وعَمِلَ صَالِـحا يقول: وعمل بـما أمره الله بعمله فـي كتابه, وعلـى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم, فَعَسَى أن يكُونَ مِنَ الـمُفْلِـحِينَ. يقول: فهو من الـمُنْـجِحِين الـمُدْرِكِين طَلِبتهم عند الله, الـخالدين فـي جِنانه, وعسى من الله واجب.
الآية : 68
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَرَبّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللّهِ وَتَعَالَىَ عَمّا يُشْرِكُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: وَرَبّكَ يا مـحمد يَخْـلُقُ ما يَشاءُ أن يخـلقه, ويَخْتارُ لولايته الـخِيَرة من خـلقه, ومن سبقت له منه السعادة. وإنـما قال جلّ ثناؤه ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الـخِيرَةُ والـمعنى: ما وصفت, لأن الـمشركين كانوا فـيـما ذُكِر عنهم يختارون أموالَهم, فـيجعلونها لاَلهتهم, فقال الله لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: وربك يا مـحمد يخـلق ما يشاء أن يخـلقه, ويختار للهداية والإيـمان والعمل الصالـح من خـلقه, ما هو فـي سابق علـمه أنه خِيَرَتهم, نظير ما كان من هؤلاء الـمشركين لاَلهتهم خيار أموالهم, فكذلك اختـياري لنفسي. واجتبـائي لولايتـي, واصطفـائي لـخدمتـي وطاعتـي, خيارَ مـملكتـي وخـلقـي. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20989ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنِـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وَرَبّكَ يَخْـلُقُ ما يَشاءُ ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الـخِيرَةُ قال: كانوا يجعلون خَيْر أموالهم لاَلهتهم فـي الـجاهلـية.
فإذا كان معنى ذلك كذلك, فلا شكّ أن «ما» من قوله: ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الـخِيرَةُ فـي موضع نصب, بوقوع يختار علـيها, وأنها بـمعنى الذي.
فإن قال قائل: فإن كان الأمر كما وصفت, من أن «ما» اسم منصوب بوقوع قوله يَخْتارُ علـيها, فأين خبر كان؟ فقد علـمت أن ذلك إذا كان كما قلت, أن فـي كان ذِكْرا من ما, ولا بدّ لكان إذا كان كذلك من تـمام, وأين التـمام؟ قـيـل: إن العرب تـجعل لـحروف الصفـات إذا جاءت الأخبـار بعدها أحيانا, أخبـارا, كفعلها بـالأسماء إذا جاءت بعدها أخبـارها. ذَكر الفرّاء أن القاسمَ بن مَعْن أنشده قول عنترة:
أمِنْ سُمَيّةَ دَمْعُ العَيْنِ تَذْرِيفُلَوْ كانَ ذا مِنْكِ قبلَ الـيوْمِ مَعْرُوفُ
فرفع معروفـا بحرف الصفة, وهو لا شكّ خبر لذا, وذُكر أن الـمفَضّل أنشده ذلك:
(لوْ أنّ ذا مِنْكِ قبلَ الـيَوْمِ مَعْرُوفُ )
ومنه أيضا قول عمر بن أبـي ربـيعة:
قُلْتُ أجِيبِـي عاشِقابِحُبّكُمْ مُكَلّفُ
فِـيها ثَلاث كالدّمَىوكاعِبٌ ومُسْلِفُ
فمكلّف من نعت عاشق, وقد رفعه بحرف الصفة, وهو البـاء, فـي أشبـاه لـما ذكرنا بكثـير من الشواهد, فكذلك قوله: ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الـخِيرَةُ رُفعت الـخِيَرة بـالصفة, وهي لهم, وإن كانت خبرا لـما, لـما جاءت بعد الصفة, ووقعت الصفة موقع الـخبر, فصار كقول القائل: كان عمرو أبوه قائم, لا شكّ أن قائما لو كان مكان الأب, وكان الأب هو الـمتأخر بعده, كان منصوبـا, فكذلك وجه رفع الـخِيَرة, وهو خبر لـما.
فإن قال قائل: فهل يجوز أن تكون «ما» فـي هذا الـموضع جَحْدا, ويكون معنى الكلام: وربك يخـلق ما يشاء أن يخـلقه, ويختار ما يشاء أن يختاره, فـيكون قوله ويخْتارُ نهاية الـخبر عن الـخـلق والاختـيار, ثم يكون الكلام بعد ذلك مبتدأ بـمعنى: لـم تكن لهم الـخيرة: أي لـم يكن للـخـلق الـخِيَرة, وإنـما الـخِيَرة لله وحده؟
قـيـل: هذا قول لا يخفـى فساده علـى ذي حِجا, من وجوه, لو لـم يكن بخلافه لأهل التأويـل قول, فكيف والتأويـل عمن ذكرنا بخلافه فأما أحد وجوه فَساده, فهو أن قوله: ما كانَ لَهُمُ الـخيرَةُ لو كان كما ظنه من ظنه, من أن «ما» بـمعنى الـجحد, علـى نـحو التأويـل الذي ذكرت, كان إنـما جحد تعالـى ذكره, أن تكون لهم الـخِيَرة فـيـما مضى قبل نزول هذه الاَية, فأما فـيـما يستقبلونه فلهم الـخِيَرة, لأن قول القائل: ما كان لك هذا, لا شكّ إنـما هو خبر عن أنه لـم يكن له ذلك فـيـما مضى. وقد يجوز أن يكون له فـيـما يستقبل, وذلك من الكلام لا شكّ خُـلْف. لأن ما لـم يكن للـخـلق من ذلك قديـما, فلـيس ذلك لهم أبدا. وبعد, لو أريد ذلك الـمعنى, لكان الكلام: فلـيس. وقـيـل: وربك يخـلق ما يشاء ويختار, لـيس لهم الـخيرة, لـيكون نفـيا عن أن يكون ذلك لهم فـيـما قبلُ وفـيـما بعد.
والثانـي: أن كتاب الله أبـين البـيان, وأوضح الكلام, ومـحال أن يوجد فـيه شيء غير مفهوم الـمعنى, وغير جائز فـي الكلام أن يقال ابتداء: ما كان لفلان الـخِيَرة, ولـما يتقدم قبل ذلك كلام يقتضي ذلك فكذلك قوله: «ويَخْتارُ, ما كانَ لَهُمُ الـخِيَرةُ» ولـم يتقدم قبله من الله تعالـى ذكره خبر عن أحد, أنه ادّعى أنه كان له الـخِيَرة, فـيقال له: ما كان لك الـخِيَرة, وإنـما جرى قبله الـخبر عما هو صائر إلـيه أمر من تاب من شركه, وآمن وعمل صالـحا, وأتبع ذلك جلّ ثناؤه الـخبر عن سبب إيـمان من آمن وعمل صالـحا منهم, وأن ذلك إنـما هو لاختـياره إياه للإيـمان, وللسابق من علـمه فـيه اهتدى. ويزيد ما قلنا من ذلك إبـانة قوله: وَرَبّكَ يَعْلَـمُ ما تُكِنّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ فأخبر أنه يعلـم من عبـاده السرائر والظواهر, ويصطفـي لنفسه ويختار لطاعته من قد علـم منه السريرة الصالـحة, والعلانـية الرضية.
والثالث: أن معنى الـخيرة فـي هذا الـموضع: إنـما هو الـخيرة, وهو الشيء الذي يختار من البهائم والأنعام والرجال والنساء, يقال منه: أُعطي الـخيرة والـخِيرَة, مثل الطّيرة والطّيْرَة, ولـيس بـالاختـيار, وإذا كانت الـخيرة ما وصفنا, فمعلوم أن من أجود الكلام أن يقال: وربك يخـلق ما يشاء, ويختار ما يشاء, لـم يكن لهم خير بهيـمة أو خير طعام, أو خير رجل أو امرأة.
فإن قال: فهل يجوز أن تكون بـمعنى الـمصدر؟ قـيـل: لا, وذلك أنها إذا كانت مصدرا كان معنى الكلام: وربك يخـلق ما يشاء ويختار كون الـخيرة لهم. وإذا كان ذلك معناه, وجب أن لا تكون الشرار لهم من البهائم والأنعام وإذا لـم يكن لهم شرار ذلك وجب أن لا يكون لها مالك, وذلك ما لا يخفـى خطؤه, لأن لـخيارها ولشرارها أربـابـا يـملكونها بتـملـيك الله إياهم ذلك, وفـي كون ذلك كذلك فساد توجيه ذلك إلـى معنى الـمصدر.
وقوله سبحانه وتعالـى: عَمّا يُشْرِكُونَ يقول تعالـى ذكره تنزيها لله وتبرئة له, وعلوّا عما أضاف إلـيه الـمشركون من الشرك, وما تـخرّصوه من الكذب والبـاطل علـيه. وتأويـل الكلام: سبحان الله وتعالـى عن شركهم. وقد كان بعض أهل العربـية يوجهه إلـى أنه بـمعنى: وتعالـى عن الذي يشركون به.
الآية : 69 -70
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: حسر سورة القصص) {وَرَبّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَهُوَ اللّهُ لآ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الاُولَىَ وَالاَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: وربك يا مـحمد يعلـم ما تـخفـى صدور خـلقه وهو من: أكننت الشيء فـي صدري: إذا أضمرته فـيه, وكننت الشيء: إذا صنته, وما يعلنون: يقول: وما يبدونه بألسنتهم وجوارحهم, وإنـما يعنـي بذلك أن اختـيار من يختار منهم للإيـمان به علـى علـم منه بسرائر أمورهم وبواديها, وإنه يختار للـخير أهله, فـيوفقهم له, ويولـي الشرّ أهله, ويخـلـيهم وإياه. وقوله: وَهُوَ اللّهُ لا إلَهَ إلاّ هُوَ يقول تعالـى ذكره: وربك يا مـحمد الـمعبود الذي لا تصلـح العبـادة إلاّ له, ولا معبود تـجوز عبـادته غيره لَهُ الـحَمْدُ فِـي الأُولـى يعنـي فـي الدنـيا والاَخرة وَلَهُ الـحُكْمُ يقول: وله القضاء بـين خـلقه وَإلَـيْهِ تُرْجَعُونَ يقول: وإلـيه تردّون من بعد مـماتكم, فـيقضي بـينكم بـالـحقّ