تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 403 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 403

403- تفسير الصفحة رقم403 من المصحف
الآية: 53 - 55 {ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون، يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين، يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون}
قوله تعالى: "ويستعجلونك بالعذاب" لما أنذرهم بالعذاب قالوا لفرط الإنكار: عجل لنا هذا العذاب وقيل: إن قائل ذلك النضر بن الحارث وأبو جهل حين قالا: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء" [الأنفال: 32] وقولهم: "ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب" [ص: 16]. وقوله: "ولولا أجل مسمى" في نزول العذاب قال ابن عباس: يعني هو ما وعدتك ألا أعذب قومك وأؤخرهم إلى يوم القيامة بيانه: "بل الساعة موعدهم" [القمر: 46] وقال الضحاك: هو مدة أعمارهم في الدنيا وقيل: المراد بالأجل المسمى النفخة الأولى قاله يحيى بن سلام وقيل: الوقت الذي قدره الله لهلاكهم وعذابهم؛ قاله ابن شجرة وقيل: هو القتل يوم بدر وعلى الجملة فلكل عذاب أجل لا يتقدم ولا يتأخر دليله قوله: "لكل نبأ مستقر" [الأنعام: 67]. "لجاءهم العذاب" يعني الذي استعجلوه. "وليأتينهم بغتة" أي فجأة. "وهم لا يشعرون" أي لا يعلمون بنزوله عليهم. "يستعجلونك بالعذاب" أي يستعجلونك وقد أعد لهم جهنم وأنها ستحيط بهم لا محالة فما معنى الاستعجال وقيل: نزلت في عبدالله بن أبي أمية وأصحابه من المشركين حين قالوا "أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا" [الإسراء: 92].
قوله تعالى: "يوم يغشاهم العذاب من فوقهم" قيل: هو متصل بما هو قبله؛ أي يوم يصيبهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم فإذا غشيهم العذاب أحاطت بهم جهنم وإنما قال: "من تحت أرجلهم" للمقاربة وإلا فالغشيان من فوق أعم؛ كما قال الشاعر:
علفتها تبنا وماء باردا
وقال آخر:
لقد كان قوَّاد الجياد إلى العدا عليهن غاب من قنى ودروع
"ويقول ذوقوا" قرأ أهل المدينة والكوفة: "نقول" بالنون الباقون بالياء واختاره أبو عبيد؛ لقوله: "قل كفى بالله" [الإسراء: 96] ويحتمل أن يكون الملك الموكل بهم يقول: "ذوقوا" والقراءتان ترجع إلى معنى أي يقول الملك بأمرنا ذوقوا.
الآية: 56 - 60 {يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون، كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون، والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين، الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون، وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم}
قوله تعالى: "يا عباديَ الذين آمنوا إن أرضي واسعة" هذه الآية نزلت في تحريض المؤمنين الذين كانوا بمكة على الهجرة - في قول مقاتل والكلبي - فأخبرهم الله تعالى بسعة أرضه وأن البقاء في بقعة على أذى الكفار ليس بصواب بل الصواب أن يتلمس عبادة الله في أرضه مع صالحي عباده؛ أي إن كنتم في ضيق من إظهار الإيمان بها فهاجروا إلى المدينة فإنها واسعة؛ لإظهار التوحيد بها وقال ابن جبير وعطاء: إن الأرض التي فيها الظلم والمنكر تترتب فيها هذه الآية وتلزم الهجرة عنها إلى بلد حق وقاله مالك وقاله مجاهد: "إن أرضي واسعة" فهاجروا وجاهدوا وقال مطرف بن الشخير: المعنى إن رحمتي واسعة وعنه أيضا: إن رزقي لكم واسع فابتغوه في الأرض قال سفيان الثوري: إذا كنت بأرض غالية فانتقل إلى غيرها تملأ فيها جرابك خبزا بدرهم وقيل: المعنى: إن أرضي التي هي أرضى الجنة الواسعة. "فاعبدون" حتى أورثكموها. "فاعبدون" "إياي" منصوب بفعل مضمر أي فاعبدوا إياي فاعبدون فاستغنى بأحد الفعلين عن الثاني والفاء في قوله: "فإياي" بمعنى الشرط أي إن ضاق بكم موضع فإياي فاعبدوني في غيره؛ لأن أرضي واسعة.
قوله تعالى: "كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون" تقدم في "آل عمران". وإنما ذكره ها هنا تحضيرا لأمر الدنيا ومخاوفها كأن بعض المؤمنين نظر في عاقبة تلحقه في خروجه من وطنه من مكة أنه يموت أو يجوع أو نحو هذا فحقر الله شأن الدنيا أي أنتم لا محالة ميتون ومحشورون إلينا فالبدار إلى طاعة الله والهجرة إليه وإلى ما يمتثل. وعد المؤمنين العاملين بسكنى الجنة تحريضا منه تعالى؛ وذكر الجزاء الذي ينالونه. ثم نعتهم بقوله: "الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون" وقرأ أبو عمرو ويعقوب والجحدري وابن إسحاق وابن محيصن والأعمش وحمزة والكسائي وخلف: "يا عبادي" بإسكان الياء وفتحها الباقون "إن أرضي" فتحها ابن عامر وسكنها الباقون وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من فر بدينه من أرض إلي أرض ولو قيد شبر استوجب الجنة وكان رفيق محمد وإبراهيم) عليهما السلام. "ثم إلينا ترجعون". وقرأ السلمي وأبو بكر عن عاصم: "يرجعون" بالياء؛ لقوله: "كل نفس ذائقة الموت" وقرأ الباقون بالتاء؛ لقوله: "يا عبادي الذين آمنوا" وأنشد بعضهم:
الموت في كل حين ينشد الكفنا ونحن في غفلة عما يراد بنا
لا تركنن إلى الدنيا وزهرتها وإن توشحت من أثوابها الحسنا
أين الأحبة والجيران ما فعلوا أين الذين همو كانوا لها سكنا
سقاهم الموت كأسا غير صافية صيرهم تحت أطباق الثرى رهنا
قوله تعالى: "لنبوئنهم من الجنة غرفا" وقر أ ابن مسعود والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي: "لنثوينهم" بالثاء مكان الباء من الثوى وهو الإقامة؛ أي لنعطينهم غرفا يثوون فيها وقرأ رويس عن يعقوب والجحدري والسلمي: "ليبوئنهم" بالياء مكان النون الباقون "لنبوئنهم" أي لننزلنهم "غرفا" جمع غرفة وهي العلية المشرفة وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أهل الجنة ليتراؤون أهل الغرف من فوقهم كما تتراؤون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم) قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال: (بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين). وخرج الترمذي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها) فقام إليه أعرابي فقال: لمن هي يا رسول الله ؟ قال: (هي لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى لله بالليل والناس نيام) وقد زدنا هذا المعنى بيانا في كتاب (التذكرة) والحمد لله.
قوله تعالى: "وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم" أسند الواحدي عن يزيد بن هارون قال: حدثنا حجاج بن المنهال عن الزهري - وهو عبدالرحمن بن عطاء - عن عطاء عن ابن عمر قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل بعض حيطان الأنصار فجعل يلتقط من الثمر ويأكل فقال: (يا ابن عمر مالك لا تأكل) فقلت لا أشتهيه يا رسول الله فقال: (لكني اشتهيه وهذه صبيحة رابعة لم أذق طعاما ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يخبئون رزق سنتهم ويضعف اليقين) قال: والله ما برحنا حتى نزلت: "وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم".
قلت: وهذا ضعيف يضعفه أنه عليه السلام كان يدخر لأهله قوت سنتهم اتفق البخاري عليه ومسلم وكانت الصحابة يفعلون ذلك وهم القدوة وأهل اليقين والأئمة لمن بعدهم من المتقين المتوكلين وقد روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمؤمنين بمكة حين آذاهم المشركون (اخرجوا إلى المدينة وهاجروا ولا تجاوروا الظلمة) قالوا: ليس لنا بها دار ولا عقار ولا من يطعمنا ولا من يسقينا فنزلت: "وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم" أي ليس معها رزقها مدخرا وكذلك أنتم يرزقكم الله في دار الهجرة وهذا أشبه من القول الأول وتقدم الكلام في "كأين" وأن هذه "أي" دخلت عليها كاف التشبيه وصار فيها معنى كم والتقدير عند الخليل وسيبويه كالعدد أي كشيء كثير من العدد من دابة قال مجاهد: يعني الطير والبهائم تأكل بأفواهها ولا تخمل شيئا الحسن: تأكل لوقتها ولا تدخر لغد وقيل: "لا تحمل رزقها" أي لا تقدر على رزقها "الله يرزقها" أينما توجهت "وإياكم" وقيل: الحمل بمعنى الحمالة وحكى النقاش: أن المراد النبي صلى الله عليه وسلم يأكل ولا يدخر.
قلت: وليس بشيء؛ لإطلاق لفظ الدابة وليس مستعملا في العرف إطلاقها على الآدمي فكيف على النبي صلى الله عليه وسلم وقد مضى هذا في "النمل" عند قوله: "وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم" [النمل: 82] قال ابن عباس: الدواب هو كل ما دب من الحيوان فكله لا يحمل رزقه ولا يدخر إلا ابن آدم والنمل والفأر وعن بعضهم رأيت البلبل يحتكر في محضنه. ويقال للعقعق مخابئ إلا أنه ينساها "الله يرزقها وإياكم" يسوي بين الحريص والمتوكل في رزقه، وبين الراغب والقانع، وبين الحيول والعاجز حتى لا يغتر الجلد أنه مرزوق بجلده ولا يتصور العاجز أنه ممنوع بعجزه وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكَّلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا). "وهو السميع" لدعائكم وقولكم لا نجد ما ننفق بالمدينة "العليم" بما في قلوبكم.
الآية: 61 -62 {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون، الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم}
قوله تعالى: "ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض" الآية. لما عير المشركون المسلمين بالفقر وقالوا لو كنتم على حق لم تكونوا فقراء وكان هذا تمويها، وكان في الكفار فقراء أيضا أزال الله هذه الشبهة. وكذا قول من قال إن هاجرنا لم نجد ما ننفق. أي فإذا اعترفتم بأن الله خالق هذه الأشياء فكيف تشكون في الرزق فمن بيده تكوين الكائنات لا يعجز عن رزق العبد؛ ولهذا وصله بقوله تعالى: "الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له". "فأنى يؤفكون" أي كيف يكفرون بتوحيدي وينقلبون عن عبادتي. "الله يبسط الرزق لمن يشاء" أي لا يختلف أمر الرزق بالإيمان والكفر فالتوسيع والتقتير منه فلا تعيير بالفقر فكل شي بقضاء وقدر. "إن الله بكل شيء عليم" من أحوالكم وأموركم قيل: عليم بما يصلحكم من إقتار أو توسيع.
الآية: 63 - 64 {ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون، وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون}
قوله تعالى: "ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء" أي من السحاب مطرا "فأحيا به الأرض من بعد موتها" أي جدبها وقحط أهلها "ليقولن الله" أي فإذا أقررتم بذلك فلم تشركون به وتنكرون الإعادة وإذ قدر على ذلك فهو القادر على إغناء المؤمنين؛ فكرر تأكيدا "قل الحمد لله" أي على ما أوضح من الحجج والبراهين على قدرته. وقيل: "الحمد لله" على إقرارهم بذلك وقيل: على إنزال الماء وإحياء الأرض. "بل أكثرهم لا يعقلون" أي لا يتدبرون هذه الحجج "وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب" أي شيء يلهى به ويلعب أي ليس ما أعطاه الله الأغنياء من الدنيا إلا وهو يضمحل ويزول؛ كاللعب الذي لا حقيقة له ولا ثبات قال بعضهم: الدنيا إن بقيت لك لم تبق لها وأنشد:
تروح لنا الدنيا بغير الذي غدت وتحدث من بعد الأمور أمور
وتجري الليالي باجتماع وفرقة وتطلع فيها أنجم وتغور
فمن ظن أن الدهر باق سروره فذاك محال لا يدوم سرور
عفا الله عمن صير الهم واحدا وأيقن أن الدائرات تدور
قلت: وهذا كله في أمور الدنيا من المال والجاه والملبس الزائد على الضروري الذي به قوام العيش والقوة على الطاعات وأما ما كان منها لله فهو من الآخرة وهو الذي يبقى كما قال: "ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام" [الرحمن: 27] أي ما ابتغى به ثوابه ورضاه.
قوله تعالى: "وإن الدار الآخرة لهي الحيوان" أي دار الحياة الباقية التي لا تزول ولا موت فيها وزعم أبو عبيدة: أن الحيوان والحياة والحي بكسر الحاء واحد كما قال:
وقد ترى إذ الحياة حِيّ
وغيره يقول: إن الحي جمع على فعول مثل عصي والحيوان يقع على كل شيء حي وحيوان عين في الجنة وقيل: أصل حيوان حييان فأبدلت إحداهما واوا؛ لاجتماع المثلين "لو كانوا يعلمون" أنها كذلك.