تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 436 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 436

436- تفسير الصفحة رقم436 من المصحف
الآية: 12 {وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون}
قوله تعالى: "وما يستوي البحران هذا عذب فرات" قال ابن عباس: "فرات" حلو، و"أجاج" مر. وقرأ طلحة: "هذا مَلِح أجاج" بفتح الميم وكسر اللام بغير ألف. وأما المالح فهو الذي يجعل فيه الملح. وقرأ عيسى وابن أبي إسحاق "سيغ شرابه" مثل سيد وميت. "ومن كل تأكلون لحما طريا" لا اختلاف في أنه منهما جميعا. وقد مضى في "النحل" الكلام فيه.
قوله تعالى: "وتستخرجون حلية تلبسونها" مذهب أبي إسحاق أن الحلية إنما تستخرج من الملح، فقيل منهما لأنهما مختلطان. وقال غيره: إنما تستخرج الأصداف التي فيها الحلية من الدر وغيره من المواضع التي فيها العذب والملح نحو العيون، فهو مأخوذ منهما؛ لأن في البحر عيونا عذبة، وبينهما يخرج اللؤلؤ عند التمازج. وقيل: من مطر السماء. وقال محمد بن يزيد قولا رابعا، قال: إنما تستخرج الحلية من الملح خاصة. النحاس: وهذا أحسنها وليس هذا عنده، لأنهما مختلطان، ولكن جمعا ثم أخبر عن أحدهما كما قال جل وعز: "ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله" [القصص: 73]. وكما تقول: لو رأيت الحسن والحجاج لرأيت خيرا وشرا. وكما تقول: لو رأيت الأعمش وسيبويه لملأت يدك لغة ونحوا. فقد عرف معنى هذا، وهو كلام فصيح كثير، فكذا: "ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها" فاجتمعا في الأول وانفرد الملح بالثاني.
وفي قوله: "تلبسونها"، دليل على أن لباس كل شيء بحسبه؛ فالخاتم يجعل في الإصبع، والسوار في الذراع، والقلادة في العنق، والخلخال في الرجل. وفي البخاري والنسائي عن ابن سيرين قال قلت لعبيدة: افتراش الحرير كلبسه؟ فال نعم. وفي، الصحاح عن أنس (فقمت على حصير لنا قد اسود من طول ما لبس). الحديث.
قوله تعالى: "وترى الفلك فيه مواخر" قال النحاس: أي ماء الملح خاصة، ولولا ذلك لقال فيهما. وقد مخرت السفينة تمخر إذا شقت الماء. وقد مضى هذا في "النحل". "لتبتغوا من فضله" فال مجاهد: التجارة في الفلك إلى البلدان البعيدة: في مدة قريبة؛ كما تقدم في "البقرة". وقيل: ما يستخرج من حليته ويصاد من حيتانه. "ولعلكم تشكرون" على ما آتاكم من فضله. وقيل: على ما أنجاكم من هوله.
الآية: 13 {يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير}
قوله تعالى: "يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل" تقدم. "وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى" تقدم في "لقمان" بيانه. "ذلكم الله ربكم له الملك" أي هذا الذي من صنعه ما تقرر هو الخالق المدبر، والقادر المقتدر؛ فهو الذي يعبد. "والذين تدعون من دونه" يعني الأصنام. "ما يملكون من قطمير" أي لا يقدرون عليه ولا على خلقه. والقطمير القشرة الرقيقة البيضاء التي بين التمرة والنواة؛ قاله أكثر المفسرين. وقال ابن عباس: هو شق النواة؛ وهو اختيار المبرد، وقال قتادة. وعن قتادة أيضا: القطمير القمع الذي على رأس النواة. الجوهري: ويقال: هي النكتة البيضاء التي في ظهر النواة، تنبت منها النخلة.
الآية: 14 {إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير}
قوله تعالى: "إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم" أي إن تستغيثوا بهم في النوائب لا يسمعوا دعاءكم؛ لأنها جمادات لا تبصر ولا تسمع. "ولو سمعوا ما استجابوا لكم" إذ ليس كل سامع ناطقا. وقال قتادة: المعنى لو سمعوا لم ينفعوكم. وقيل: أي لو جعلنا لهم عقولا وحياة فسمعوا دعاءكم لكانوا أطوع لله منكم، ولما استجابوا لكم على الكفر. "ويوم القيامة يكفرون بشرككم" أي يجحدون أنكم عبدتموهم، ويتبرؤون منكم. ثم يجوز أن يرجع هذا إلى المعبودين مما يعقل؛ كالملائكة والجن والأنبياء والشياطين أي يجحدون أن يكون ما فعلتموه حقا، وأنهم أمروكم بعبادتهم؛ كما أخبر عن عيسى بقوله: "ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق" [المائدة: 116] ويجوز أن يندرج فيه الأصنام أيضا، أي يحييها الله حتى تخبر أنها ليست أهلا للعبادة. "ولا ينبئك مثل خبير" هو الله جل وعز؛ أي لا أحد يخبر بخلق الله من الله، فلا ينبئك مثله في عمله.
الآية: 15 {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد}
قوله تعالى: "يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله" أي المحتاجون إليه في بقائكم وكل أحوالكم. الزمخشري: "فإن قلت لم عرف الفقراء؟ قلت: قصد بذلك أن يريهم أنهم لشدة افتقارهم إليه هم جنس الفقراء، وإن كانت الخلائق كلهم مفتقرين إليه من الناس وغيرهم لأن الفقر مما يتبع الضعف، وكلما كان الفقير أضعف كان أفقر كلهم وقد شهد الله سبحانه على الإنسان بالضعف في قوله: "وخلق الإنسان ضعيفا" [النساء: 28]، وقال: "الله الذي خلقكم من ضعف" [الروم: 54] ولو نكر لكان المعنى: أنتم بعض الفقراء. فإن قلت: قد قوبل "الفقراء" بـ "الغني" فما فائدة "الحميد"؟ قلت: لما أثبت فقرهم إليه وغناه عنهم، وليس كل غنى نافعا بغناه إلا إذا كان الغني جوادا منعما، وإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليهم واستحق عليهم الحج ذكر "الحميد" ليدل به على أنه الغني النافع بغناه خلقه، الجواد المنعم عليهم، المستحق بإنعامه عليهم أن يحمدوه". وتخفيف الهمزة الثانية أجود الوجوه عند الخليل، ويجوز تخفيف الأولى وحدها وتخفيفهما وتحقيقهما جميعا. "والله هو الغني الحميد" تكون "هو" زائدة، فيكون لها موضع من الإعراب، وتكون مبتدأة فيكون موضعها رفعا.
الآية: 16 - 17 {إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد، وما ذلك على الله بعزيز}
قوله تعالى: "إن يشأ يذهبكم" فيه حذف؛ المعنى إن يشأ أن يذهبكم يذهبكم؛ أي يفنيكم. "ويأت بخلق جديد" أي أطوع منكم وأزكى. "وما ذلك على الله بعزيز" أي ممتنع عسير متعذر. وقد مضى.
الآية: 18 {ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير}
قوله تعالى: "ولا تزر وازرة وزر أخرى" تقدم الكلام فيه، وهو مقطوع مما قبله. والأصل "توزر" حذفت الواو اتباعا ليزر. "وازرة" نعت لمحذوف، أي نفس وازرة. وكذا "وإن تدع مثقلة إلى حملها" قال الفراء: أي نفس مثقلة أو دابة. قال: وهذا يقع للمذكر والمؤنث. قال الأخفش: أي وإن تدع مثقلة إنسانا إلى حملها وهو ذنوبها. والحمل ما كان على الظهر، والحمل حمل المرأة وحمل النخلة؛ حكاهما الكسائي بالفتح لا غير. وحكى ابن السكيت أن حمل النخلة يفتح ويكسر. "لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى" التقدير على قول الأخفش: ولو كان الإنسان المدعو ذا قربى. وأجاز الفراء ولو كان ذو قربى. وهذا جائز عند سيبويه، ومثله "وإن كان ذو عسرة" [البقرة: 280] فتكون "كان" بمعنى وقع، أو يكون الخبر محذوفا؛ أي وإن كان فيمن تطالبون ذو عسرة. وحكى سيبويه: الناس مجزيون بأعمالهم إن خير فخير؛ على هذا. وخيرا فخير؛ على الأول. وروي عن عكرمة أنه قال: بلغني أن اليهودي والنصراني يرى الرجل المسلم يوم القيامة فيقول له: ألم أكن قد أسديت إليك يدا، ألم أكن قد أحسنت إليك؟ فيقول بلى. فيقول: أنفعني؛ فلا يزال المسلم يسأل الله تعالى حتى ينقص، من عذابه. وأن الرجل ليأتي إلى أبيه يوم القيامة فيقول: ألم أكن بك بارا، وعليك مشفقا، وإليك محسنا، وأنت ترى ما أنا فيه، فهب لي حسنة من حسناتك، أو احمل عني سيئة؛ فيقول: إن الذي سألتني يسير؛ ولكني أخاف مثل ما تخاف. وأن الأب ليقول لابنه مثل ذلك فيرد عليه نحوا من هذا. وأن الرجل ليقول لزوجته: ألم أكن أحسن العشرة لك، فاحملي عني خطيئة لعلي أنجو؛ فتقول: إن ذلك ليسير ولكني أخاف مما تخاف منه. ثم تلا عكرمة: "وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى". وقال الفضيل بن عياض: هي المرأة تلقى ولدها فتقول: يا ولدي، ألم يكن بطني لك وعاء، ألم يكن ثديي لك سقاء، ألم يكن حجري لك وطاء؛ يقول: بلى يا أماه؛ فتقول: يا بني، قد أثقلتني ذنوبي فاحمل عني منها ذنبا واحدا؛ فيقول: إليك عني يا أماه، فإني بذنبي عنك مشغول.
قوله تعالى: "إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة" أي إنما يقبل إنذارك من يخشى عقاب الله تعالى، وهو كقوله تعالى: "إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب" [يس: 11]. "ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه" أي من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه. وقرئ: "ومن أزكى فإنما يزكى لنفسه". "وإلى الله المصير" أي إليه مرجع جميع الخلق.