سورة فاطر | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 437 من المصحف
الآية: 19 - 22 {وما يستوي الأعمى والبصير، ولا الظلمات ولا النور، ولا الظل ولا الحرور، وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور}
قوله تعالى: "وما يستوي الأعمى والبصير" أي الكافر والمؤمن والجاهل والعالم. مثل: "قل لا يستوي الخبيث والطيب" [المائدة: 100]. "ولا الظلمات ولا النور" قال الأخفش سعيد: "لا" زائدة؛ والمعنى ولا الظلمات والنور، ولا الظل والحرور. قال الأخفش: والحرور لا يكون إلا مع شمس النهار، والسموم يكون بالليل، أو قيل بالعكس. وقال رؤبة بن العجاج: الحرور تكون بالنهار خاصة، والسموم يكون بالليل خاصة، حكاه المهدوي. وقال الفراء: السموم لا يكون إلا بالنهار، والحرور يكون فيهما. النحاس: وهذا أصح؛ لأن الحرور فعول من الحر، وفيه معنى التكثير، أي الحر المؤذي.
قلت: وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قالت النار رب أكل بعضي بعضا فأذن لي أتنفس فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف فما وجدتم من برد أو زمهرير فمن نفس جهنم وما وجدتم من حر أو حرور فمن نفس جهنم). وروي من حديث الزهري عن سعيد عن أبي هريرة: (فما تجدون من الحر فمن سمومها وشدة ما تجدون من البرد فمن زمهريرها) وهذا يجمع تلك الأقوال، وأن السموم والحرور يكون بالليل والنهار؛ فتأمله. وقيل: المراد بالظل والحرور الجنة والنار؛ فالجنة ذات ظل دائم، كما قال تعالى: "أكلها دائم وظلها" [الرعد: 35] والنار ذات حرور، وقال معناه الذي. وقال ابن عباس: أي ظل الليل، وحر السموم بالنهار. قطرب: الحرور الحر، والظل البرد.
قوله تعالى: "وما يستوي الأحياء ولا الأموات" قال ابن قتيبة: الأحياء العقلاء، والأموات الجهال. قال قتادة: هذه كلها أمثال؛ أي كما لا تستوي هذه الأشياء كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن. "إن الله يسمع من يشاء" أي يسمع أولياءه الذين خلقهم لجنته. "وما أنت بمسمع من في القبور" أي الكفار الذين أمات الكفر قلوبهم؛ أي كما لا تسمع من مات، كذلك لا تسمع من مات قلبه. وقرأ الحسن وعيسى الثقفي وعمرو بن ميمون: "بمسمع من في القبور" بحذف التنوين تخفيفا؛ أي هم بمنزلة أهل القبور في أنهم لا ينتفعون بما يسمعونه ولا يقبلونه.
الآية: 23 {إن أنت إلا نذير}
أي رسول منذر؛ فليس عليك إلا التبليغ، ليس لك من الهدي شيء إنما الهدى بيد الله تبارك وتعالى.
الآية: 24 {إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير}
قوله تعالى: "إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا" أي بشيرا بالجنة أهل طاعته، ونذيرا بالنار أهل معصيته. "وإن من أمة إلا خلا فيها نذير" أي سلف فيها نبي. قال ابن جريج: إلا العرب.
الآية: 25 - 26 {وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير، ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير}
قوله تعالى: "وإن يكذبوك" يعني كفار قريش. "فقد كذب الذين من قبلهم" أنبياءهم، يسلي رسوله صلى الله عليه وسلم. "جاءتهم رسلهم بالبينات" أي بالمعجزات الظاهرات والشرائع الواضحات. "وبالزبر" أي الكتب المكتوبة. "وبالكتاب المنير" أي الواضح. وكرر الزبر والكتاب وهما واحد لاختلاف اللفظين. وقيل: يرجع البينات والزبر والكتاب إلى، معنى واحد، وهو ما أنزل على الأنبياء من الكتب. "ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير" أي كيف كانت عقوبتي لهم. وأثبت ورش عن نافع وشيبة الياء في "نكيري" حيث وقعت في الوصل دون الوقف. وأثبتها يعقوب في الحالين، وحذفها الباقون في الحالين. وقد مضى هذا كله، والحمد لله.
الآية: 27 - 28 {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور}
قوله تعالى: "ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها" هذه الرؤية رؤية القلب والعلم؛ أي ألم ينته علمك ورأيت بقلبك أن الله أنزل؛ فـ "أن" واسمها وخبرها سدت مسد مفعولي الرؤية. "فأخرجنا به ثمرات" هو من باب تلوين الخطاب. "مختلفا ألوانها" نصبت "مختلفا" نعتا لـ "ثمرات". "ألوانها" رفع بمختلف، وصلح أن يكون نعتا ل. "ثمرات" لما دعا عليه من ذكره. ويجوز في غير القرآن رفعه؛ ومثله رأيت رجلا خارجا أبوه. "به" أي بالماء وهو واحد، والثمرات مختلفة. "ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها" الجدد جمع جدة، وهي الطرائق المختلفة الألوان، وإن كان الجميع حجرا أو ترابا. قال الأخفش: ولو كان جمع جديد لقال: جدد (بقسم الجيم والدال) نحو سرير وسرر. وقال زهير:
كأنه أسفع الخدين ذو جدد طاو ويرتفع بعد الصيف عريانا
وقيل: إن الجدد القطع، مأخوذ من جددت الشيء إذا قطعته؛ حكاه ابن بحر قال الجوهري: والجدة الخطة التي في ظهر الحمار تخالف لونه. والجدة الطريقة، والجمع جدد؛ قال تعالى: "ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها" أي طرائق تخالف لون الجبل. ومنه قولهم: ركب فلان جدة من الأمر؛ إذا رأى فيه رأيا. وكساء مجدد: فيه خطوط مختلفة. الزمخشري: وقرأ الزهري "جدد" بالضم جمع جديدة، هي الجدة؛ يقال: جديدة وجدد وجدائد كسفينة وسفن وسفائن. وقد فسربها قول أبي ذؤيب:
جون السراة له جدائد أربع
وروي عنه "جدد بفتحتين، وهو الطريق الواضح المسفر، وضعه موضع الطرائق والخطوط الواضحة المنفصل بعضها من بعض. "ومن الناس والدواب" وقرئ: "والدواب" مخففا. ونظير هذا التخفيف قراءة من قرأ: "ولا الضألين" لأن كل واحد منهما فر من التقاء الساكنين، فحرك ذلك أولهما، وحذف هذا آخرهما؛ قاله الزمخشري. "والأنعام مختلف ألوانه" أي فيهم الأحمر والأبيض والأسود وغير ذلك، وكل ذلك دليل على صانع مختار. وقال: "مختلف ألوانه" فذكر الضمير مراعاة لـ "من"؛ قاله المؤرج. وقال أبو بكر بن عياش: إنما ذكر الكناية لأجل أنها مردودة إلى "ما" مضمرة؛ مجازه: ومن الناس ومن الدواب ومن الأنعام ما هو مختلف ألوانه، أي أبيض وأحمر وأسود. "وغرابيب سود" قال أبو عبيدة: الغربيب الشديد السواد؛ ففي الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: ومن الجبال سود غرابيب. والعرب تقول للشديد السواد الذي لونه كلون الغراب: أسود غربيب. قال الجوهري: وتقول هذا أسود غربيب؛ أي شديد السواد. وإذا قلت: غرابيب سود، تجعل السود بدلا من غرابيب لأن توكيد الألوان لا يتقدم. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبغض الشيخ الغربيب) يعني الذي يخضب بالسواد. قال امرؤ القيس:
العين طامحة واليد سابحة والرجل لافحة والوجه غربيب
وقال آخر يصف كرما:
ومن تعاجيب خلق الله غاطية يعصر منها ملاحي وغربيب
قوله تعالى: "كذلك" هنا تمام الكلام؛ أي كذلك تختلف أحوال العباد في الخشية، "إنما يخشى الله من عباده العلماء" يعني بالعلماء الذين يخافون قدرته؛ فمن علم أنه عز وجل قدير أيقن بمعاقبته على المعصية، كما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "إنما يخشى الله من عباده العلماء" قال: الذين علموا أن الله على كل شيء قدير. وقال الربيع بن أنس من لم يخش الله تعالى فليس بعالم. وقال مجاهد: إنما العالم من خشي الله عز وجل. وعن ابن مسعود: كفى بخشية الله تعالى علما وبالاغترار جهلا. وقيل لسعد بن إبراهيم: من أفقه أهل المدينة؟ قال أتقاهم لربه عز وجل. وعن مجاهد قال: إنما الفقيه من يخاف الله عز وجل. وعن علي رضي الله عنه قال: إن الفقيه حق الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يرخص لهم في معاصي الله تعالى، ولم يؤمنهم من عذاب الله، ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى غيره؛ إنه لا خير في عبادة لا علم فيها، ولا علم لا فقه فيه، ولا قراءة لا تدبر فيها. وأسند الدارمي أبو محمد عن مكحول قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم - ثم تلا هذه الآية - إنما يخشى الله من عباده العلماء. إن الله وملائكته وأهل سمواته وأهل أرضيه والنون في البحر يصلون على الذين يعلمون الناس الخير الخبر مرسل. قال الدارمي: وحدثني أبو النعمان حدثنا حماد بن زيد عن يزيد بن حازم قال حدثني عمي جرير بن زيد أنه سمع تبيعا يحدث عن كعب قال: إني لأجد نعت قوم يتعلمون لغير العمل، ويتفقهون لغير العبادة، ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة، ويلبسون جلود الضأن، قلوبهم أمر من الصبر؛ فبي يغترون، وإياي يخادعون، فبي حلفت لأتيحن لهم فتنة تذر الحليم فيهم حيران. خرجه الترمذي مرفوعا من حديث أبي الدرداء وقد كتبناه في مقدمة الكتاب. الزمخشري: فإن قلت: فما وجه قراءة من قرأ "إنما يخشى اللهُ" بالرفع "من عباده العلماءَ" بالنصب، وهو عمر بن عبدالعزيز. وتحكى عن أبي حنيفة. قلت: الخشية في هذه القراءة استعارة، والمعنى: إنما يجلهم ويعظمهم كما يجل المهيب المخشي من الرجال بين الناس من بين جميع عباده. "إن الله عزيز غفور" تعليل لوجوب الخشية، لدلاله على عقوبة العصاة وقهرهم، وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم. والمعاقب والمثيب حقه أن يخشى.
الآية: 29 - 30 {إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور، ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور}
قوله تعالى: "إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية" هذه آية القراء العاملين العالمين الذين يقيمون الصلاة الفرض والنفل، وكذا في الإنفاق. وقد مضى في مقدمة الكتاب ما ينبغي أن يتخلق به قارئ القرآن. "يرجون تجارة لن تبور" قال أحمد بن يحيى: خبر "إن" "يرجون". "ويزيدهم من فضله" قيل: الزيادة الشفاعة في الآخرة. وهذا مثل الآية الأخرى: "رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله" إلى قوله" ويزيدهم من فضله" [النور: 37 - 38]، وقوله في آخر النساء: "فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله" [النساء: 173] وهناك بيناه. "إنه غفور" للذنوب. "شكور" يقبل القليل من العمل الخالص، ويثيب عليه الجزيل من الثواب.
تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 437
437- تفسير الصفحة رقم437 من المصحفالآية: 19 - 22 {وما يستوي الأعمى والبصير، ولا الظلمات ولا النور، ولا الظل ولا الحرور، وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور}
قوله تعالى: "وما يستوي الأعمى والبصير" أي الكافر والمؤمن والجاهل والعالم. مثل: "قل لا يستوي الخبيث والطيب" [المائدة: 100]. "ولا الظلمات ولا النور" قال الأخفش سعيد: "لا" زائدة؛ والمعنى ولا الظلمات والنور، ولا الظل والحرور. قال الأخفش: والحرور لا يكون إلا مع شمس النهار، والسموم يكون بالليل، أو قيل بالعكس. وقال رؤبة بن العجاج: الحرور تكون بالنهار خاصة، والسموم يكون بالليل خاصة، حكاه المهدوي. وقال الفراء: السموم لا يكون إلا بالنهار، والحرور يكون فيهما. النحاس: وهذا أصح؛ لأن الحرور فعول من الحر، وفيه معنى التكثير، أي الحر المؤذي.
قلت: وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قالت النار رب أكل بعضي بعضا فأذن لي أتنفس فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف فما وجدتم من برد أو زمهرير فمن نفس جهنم وما وجدتم من حر أو حرور فمن نفس جهنم). وروي من حديث الزهري عن سعيد عن أبي هريرة: (فما تجدون من الحر فمن سمومها وشدة ما تجدون من البرد فمن زمهريرها) وهذا يجمع تلك الأقوال، وأن السموم والحرور يكون بالليل والنهار؛ فتأمله. وقيل: المراد بالظل والحرور الجنة والنار؛ فالجنة ذات ظل دائم، كما قال تعالى: "أكلها دائم وظلها" [الرعد: 35] والنار ذات حرور، وقال معناه الذي. وقال ابن عباس: أي ظل الليل، وحر السموم بالنهار. قطرب: الحرور الحر، والظل البرد.
قوله تعالى: "وما يستوي الأحياء ولا الأموات" قال ابن قتيبة: الأحياء العقلاء، والأموات الجهال. قال قتادة: هذه كلها أمثال؛ أي كما لا تستوي هذه الأشياء كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن. "إن الله يسمع من يشاء" أي يسمع أولياءه الذين خلقهم لجنته. "وما أنت بمسمع من في القبور" أي الكفار الذين أمات الكفر قلوبهم؛ أي كما لا تسمع من مات، كذلك لا تسمع من مات قلبه. وقرأ الحسن وعيسى الثقفي وعمرو بن ميمون: "بمسمع من في القبور" بحذف التنوين تخفيفا؛ أي هم بمنزلة أهل القبور في أنهم لا ينتفعون بما يسمعونه ولا يقبلونه.
الآية: 23 {إن أنت إلا نذير}
أي رسول منذر؛ فليس عليك إلا التبليغ، ليس لك من الهدي شيء إنما الهدى بيد الله تبارك وتعالى.
الآية: 24 {إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير}
قوله تعالى: "إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا" أي بشيرا بالجنة أهل طاعته، ونذيرا بالنار أهل معصيته. "وإن من أمة إلا خلا فيها نذير" أي سلف فيها نبي. قال ابن جريج: إلا العرب.
الآية: 25 - 26 {وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير، ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير}
قوله تعالى: "وإن يكذبوك" يعني كفار قريش. "فقد كذب الذين من قبلهم" أنبياءهم، يسلي رسوله صلى الله عليه وسلم. "جاءتهم رسلهم بالبينات" أي بالمعجزات الظاهرات والشرائع الواضحات. "وبالزبر" أي الكتب المكتوبة. "وبالكتاب المنير" أي الواضح. وكرر الزبر والكتاب وهما واحد لاختلاف اللفظين. وقيل: يرجع البينات والزبر والكتاب إلى، معنى واحد، وهو ما أنزل على الأنبياء من الكتب. "ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير" أي كيف كانت عقوبتي لهم. وأثبت ورش عن نافع وشيبة الياء في "نكيري" حيث وقعت في الوصل دون الوقف. وأثبتها يعقوب في الحالين، وحذفها الباقون في الحالين. وقد مضى هذا كله، والحمد لله.
الآية: 27 - 28 {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور}
قوله تعالى: "ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها" هذه الرؤية رؤية القلب والعلم؛ أي ألم ينته علمك ورأيت بقلبك أن الله أنزل؛ فـ "أن" واسمها وخبرها سدت مسد مفعولي الرؤية. "فأخرجنا به ثمرات" هو من باب تلوين الخطاب. "مختلفا ألوانها" نصبت "مختلفا" نعتا لـ "ثمرات". "ألوانها" رفع بمختلف، وصلح أن يكون نعتا ل. "ثمرات" لما دعا عليه من ذكره. ويجوز في غير القرآن رفعه؛ ومثله رأيت رجلا خارجا أبوه. "به" أي بالماء وهو واحد، والثمرات مختلفة. "ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها" الجدد جمع جدة، وهي الطرائق المختلفة الألوان، وإن كان الجميع حجرا أو ترابا. قال الأخفش: ولو كان جمع جديد لقال: جدد (بقسم الجيم والدال) نحو سرير وسرر. وقال زهير:
كأنه أسفع الخدين ذو جدد طاو ويرتفع بعد الصيف عريانا
وقيل: إن الجدد القطع، مأخوذ من جددت الشيء إذا قطعته؛ حكاه ابن بحر قال الجوهري: والجدة الخطة التي في ظهر الحمار تخالف لونه. والجدة الطريقة، والجمع جدد؛ قال تعالى: "ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها" أي طرائق تخالف لون الجبل. ومنه قولهم: ركب فلان جدة من الأمر؛ إذا رأى فيه رأيا. وكساء مجدد: فيه خطوط مختلفة. الزمخشري: وقرأ الزهري "جدد" بالضم جمع جديدة، هي الجدة؛ يقال: جديدة وجدد وجدائد كسفينة وسفن وسفائن. وقد فسربها قول أبي ذؤيب:
جون السراة له جدائد أربع
وروي عنه "جدد بفتحتين، وهو الطريق الواضح المسفر، وضعه موضع الطرائق والخطوط الواضحة المنفصل بعضها من بعض. "ومن الناس والدواب" وقرئ: "والدواب" مخففا. ونظير هذا التخفيف قراءة من قرأ: "ولا الضألين" لأن كل واحد منهما فر من التقاء الساكنين، فحرك ذلك أولهما، وحذف هذا آخرهما؛ قاله الزمخشري. "والأنعام مختلف ألوانه" أي فيهم الأحمر والأبيض والأسود وغير ذلك، وكل ذلك دليل على صانع مختار. وقال: "مختلف ألوانه" فذكر الضمير مراعاة لـ "من"؛ قاله المؤرج. وقال أبو بكر بن عياش: إنما ذكر الكناية لأجل أنها مردودة إلى "ما" مضمرة؛ مجازه: ومن الناس ومن الدواب ومن الأنعام ما هو مختلف ألوانه، أي أبيض وأحمر وأسود. "وغرابيب سود" قال أبو عبيدة: الغربيب الشديد السواد؛ ففي الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: ومن الجبال سود غرابيب. والعرب تقول للشديد السواد الذي لونه كلون الغراب: أسود غربيب. قال الجوهري: وتقول هذا أسود غربيب؛ أي شديد السواد. وإذا قلت: غرابيب سود، تجعل السود بدلا من غرابيب لأن توكيد الألوان لا يتقدم. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبغض الشيخ الغربيب) يعني الذي يخضب بالسواد. قال امرؤ القيس:
العين طامحة واليد سابحة والرجل لافحة والوجه غربيب
وقال آخر يصف كرما:
ومن تعاجيب خلق الله غاطية يعصر منها ملاحي وغربيب
قوله تعالى: "كذلك" هنا تمام الكلام؛ أي كذلك تختلف أحوال العباد في الخشية، "إنما يخشى الله من عباده العلماء" يعني بالعلماء الذين يخافون قدرته؛ فمن علم أنه عز وجل قدير أيقن بمعاقبته على المعصية، كما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "إنما يخشى الله من عباده العلماء" قال: الذين علموا أن الله على كل شيء قدير. وقال الربيع بن أنس من لم يخش الله تعالى فليس بعالم. وقال مجاهد: إنما العالم من خشي الله عز وجل. وعن ابن مسعود: كفى بخشية الله تعالى علما وبالاغترار جهلا. وقيل لسعد بن إبراهيم: من أفقه أهل المدينة؟ قال أتقاهم لربه عز وجل. وعن مجاهد قال: إنما الفقيه من يخاف الله عز وجل. وعن علي رضي الله عنه قال: إن الفقيه حق الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يرخص لهم في معاصي الله تعالى، ولم يؤمنهم من عذاب الله، ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى غيره؛ إنه لا خير في عبادة لا علم فيها، ولا علم لا فقه فيه، ولا قراءة لا تدبر فيها. وأسند الدارمي أبو محمد عن مكحول قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم - ثم تلا هذه الآية - إنما يخشى الله من عباده العلماء. إن الله وملائكته وأهل سمواته وأهل أرضيه والنون في البحر يصلون على الذين يعلمون الناس الخير الخبر مرسل. قال الدارمي: وحدثني أبو النعمان حدثنا حماد بن زيد عن يزيد بن حازم قال حدثني عمي جرير بن زيد أنه سمع تبيعا يحدث عن كعب قال: إني لأجد نعت قوم يتعلمون لغير العمل، ويتفقهون لغير العبادة، ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة، ويلبسون جلود الضأن، قلوبهم أمر من الصبر؛ فبي يغترون، وإياي يخادعون، فبي حلفت لأتيحن لهم فتنة تذر الحليم فيهم حيران. خرجه الترمذي مرفوعا من حديث أبي الدرداء وقد كتبناه في مقدمة الكتاب. الزمخشري: فإن قلت: فما وجه قراءة من قرأ "إنما يخشى اللهُ" بالرفع "من عباده العلماءَ" بالنصب، وهو عمر بن عبدالعزيز. وتحكى عن أبي حنيفة. قلت: الخشية في هذه القراءة استعارة، والمعنى: إنما يجلهم ويعظمهم كما يجل المهيب المخشي من الرجال بين الناس من بين جميع عباده. "إن الله عزيز غفور" تعليل لوجوب الخشية، لدلاله على عقوبة العصاة وقهرهم، وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم. والمعاقب والمثيب حقه أن يخشى.
الآية: 29 - 30 {إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور، ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور}
قوله تعالى: "إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية" هذه آية القراء العاملين العالمين الذين يقيمون الصلاة الفرض والنفل، وكذا في الإنفاق. وقد مضى في مقدمة الكتاب ما ينبغي أن يتخلق به قارئ القرآن. "يرجون تجارة لن تبور" قال أحمد بن يحيى: خبر "إن" "يرجون". "ويزيدهم من فضله" قيل: الزيادة الشفاعة في الآخرة. وهذا مثل الآية الأخرى: "رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله" إلى قوله" ويزيدهم من فضله" [النور: 37 - 38]، وقوله في آخر النساء: "فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله" [النساء: 173] وهناك بيناه. "إنه غفور" للذنوب. "شكور" يقبل القليل من العمل الخالص، ويثيب عليه الجزيل من الثواب.
الصفحة رقم 437 من المصحف تحميل و استماع mp3