سورة يس | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 443 من المصحف
الآية: 41 - 44 {وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون، وخلقنا لهم من مثله ما يركبون، وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون، إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين}
قوله تعالى: "وآية لهم" يحتمل ثلاثة معان: أحدها عبرة لهم؛ لأن في الآيات اعتبارا. الثاني نعمة عليهم؛ لأن في الآيات إنعاما. الثالث إنذار لهم؛ لأن في الآيات إنذارا. "أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون" من أشكل ما في السورة؛ لأنهم هم المحمولون. فقيل: المعنى وآية لأهل مكة أنا حملنا ذرية القرون الماضية "في الفلك المشحون" فالضميران مختلفان؛ ذكره المهدوي. وحكاه النحاس عن علي بن سليمان أنه سمعه يقول. وقيل: الضميران جميعا لأهل مكة على أن يكون ذرياتهم أولادهم وضعفاءهم؛ فالفلك على القول الأول سفينة نوح. وعلى الثاني يكون اسما للجنس؛ خبّر جل وعز بلطفه وامتنانه أنه خلق السفن يحمل فيها من يصعب عليه المشي والركوب من الذمة والضعفاء، فيكون الضميران على هذا متفقين. وقيل: الذرية الآباء والأجداد، حملهم الله تعالى في سفينة نوح عليه السلام؛ فالآباء ذرية والأبناء ذرية؛ بدليل هذه الآية؛ قاله أبو عثمان. وسمي الآباء ذرية؛ لأن منهم ذرأ الأبناء. وقول رابع: أن الذرية النطف حملها الله تعالى في بطون النساء تشبيها بالفلك المشحون؛ قاله علي بن أبى طالب رضي الله عنه؛ ذكره الماوردي. وقد مضى في "البقرة" اشتقاق الذرية والكلام فيها مستوفى. و"المشحون" المملوء الموقر، و"الفلك" يكون واحدا وجمعا. وقد تقدم في "يونس" القول فيه.
قوله تعالى: "وخلقنا لهم من مثله ما يركبون" والأصل يركبونه فحذفت الهاء لطول الاسم وأنه رأس آية. وفي معناه ثلاثة أقوال: مذهب مجاهد وقتادة وجماعة من أهل التفسير، وروي عن ابن عباس أن معنى "من مثله" للإبل، خلقها لهم للركوب في البر مثل السفن المركوبة في البحر؛ والعرب تشبه الإبل بالسفن. قال طرفة:
كأن حدوج المالكية غدوة خلايا سفين بالنواصف من دَدِ
جمع خلية وهي السفينة العظيمة. والقول الثاني أنه للإبل والدواب وكل ما يركب. والقول الثالث أنه للسفن؛ النحاس: وهو أصحها لأنه متصل الإسناد عن ابن عباس. "وخلقنا لهم من مثله ما يركبون" قال: خلق لهم سفنا أمثالها يركبون فيها. وقال أبو مالك: إنها السفن الصغار خلقها مثل السفن الكبار؛ وروي عن ابن عباس والحسن. وقال الضحاك وغيره: هي السفن المتخذة بعد سفينة نوح. قال الماوردي: ويجيء على مقتضى تأويل علي رضي الله عنه في أن الذرية في الفلك المشحون هي النطف في بطون النساء قول خامس في قوله: "وخلقتا لهم مثله ما يركبون" أن يكون تأويله النساء خلقن لركوب الأزواج لكن لم أره محكيا.
قوله تعالى: "وإن نشأ نغرقهم" أي في البحر فترجع الكناية إلى أصحاب الذرية، أو إلى الجميع، وهذا يدل على صحة قول ابن عباس ومن قال: إن المراد "من مثله" السفن لا الإبل. "فلا صريخ لهم" أي لا مغيث لهم رواه سعيد عن قتادة. وروى شيبان عنه: فلا منعة لهم ومعناهما متقاربان. و"صريخ" بمعنى مصرخ فعيل بمعنى فاعل. ويجوز "فلا صريخ لهم"؛ لأن بعده ما لا يجوز فيه إلا الرفع؛ لأنه معرفة وهو "ولا هم ينقذون" والنحويون يختارون لا رجل في الدار ولا زيد. ومعنى: "ينقذون" يخلصون من الغرق. وقيل: من العذاب. "إلا رحمة منا" قال الكسائي: هو نصب على الاستثناء. وقال الزجاج: نصب مفعول من أجله؛ أي للرحمة "ومتاعا" معطوف عليه. "إلى حين" إلى الموت؛ قاله قتادة. يحيى بن سلام: إلى القيامة أي إلا أن نرحمهم ونمتعهم إلى آجالهم، وأن الله عجل عذاب الأمم السالفة، وأخر عذاب أمة محمد صلى الله عليه وسلم وإن كذبوه إلى الموت والقيامة.
الآية: 45 {وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون، وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين، وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين، ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون}
قوله تعالى: "وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم" قال قتادة: يعني "اتقوا ما بين أيديكم" أي من الوقائع فيمن كان قبلكم من الأمم، "وما خلفكم" من الآخرة. ابن عباس وابن جبير ومجاهد: "ما بين أيديكم" ما مضى من الذنوب، "وما خلفكم" ما يأتي من الذنوب. الحسن: "ما بين أيديكم" ما مضى من أجلكم "وما خلفكم" ما بقي منه. وقيل: "ما بين أيديكم" من الدنيا، "وما خلفكم" من عذاب الآخرة؛ قال سفيان. وحكى عكس هذا القول الثعلبي عن ابن عباس. قال: "ما بين أيديكم" من أمر الآخرة وما عملوا لها، "وما خلفكم" من أمر الدنيا فاحذروها ولا تغتروا بها. وقيل: "ما بين أيديكم" ما ظهر لكم "وما خلفكم" ما خفي عنكم. والجواب محذوف، والتقدير: إذا قيل لهم ذلك أعرضوا؛ دليله قول بعد: "وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين" فاكتفى بهذا عن ذلك.
قوله تعالى: "وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله" أي تصدقوا على الفقراء. قال الحسن: يعني اليهود أمروا بإطعام الفقراء. وقيل: هم المشركون قال لهم فقراء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أعطونا ما زعمتم من أموالكم أنها لله؛ وذلك قوله: "وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا" [الأنعام: 136] فحرموهم وقالوا: لو شاء الله أطعمكم - استهزاء - فلا نطعمكم حتى ترجعوا إلى ديننا. قالوا "أنطعم" أي أنرزق "من لو يشاء الله أطعمه" كان بلغهم من قول المسلمين: أن الرازق هو الله. فقالوا هزءا: أنرزق من لو يشاء الله أغناه. وعن ابن عباس: كان بمكة زنادقة، فإذا أمروا بالصدقة على المساكين قالوا: لا والله! أيفقره الله ونطعمه نحن. وكانوا يسمعون المؤمنين يعلقون أفعال الله تعالى بمشيئته فيقولون: لو شاء الله لأغنى فلانا؛ ولو شاء الله لأعز، ولو شاء الله لكان كذا. فأخرجوا هذا الجواب مخرج الاستهزاء بالمؤمنين، وبما كانوا يقولونه من تعليق الأمور بمشيئة الله تعالى. وقيل: قالوا هذا تعلقا بقول المؤمنين لهم: "أنفقوا مما رزقكم الله" أي فإذا كان الله رزقنا فهو قادر على أن يرزقكم فلم تلتمسون الرزق منا؟. وكان هذا الاحتجاج باطلا؛ لأن الله تعالى إذا ملك عبدا مالا ثم أوجب عليه فيه حقا فكأنه انتزع ذلك القدر منه، فلا معنى للاعتراض. وقد صدقوا في قولهم: لو شاء الله أطعمهم ولكن كذبوا في الاحتجاج. ومثله قوله: "سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا" [الأنعام: 148]، وقوله: "قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون" [المنافقون: 1]. "إن أنتم إلا في ضلال مبين" قيل هو من قول الكفار للمؤمنين؛ أي في سؤال المال وفي اتباعكم محمدا. قال معناه مقاتل وغيره. وقيل: هو من قول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم. وقيل من قول الله تعالى للكفار حين ردوا بهذا الجواب. وقيل: إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يطعم مساكين المسلمين فلقيه أبو جهل فقال: يا أبا بكر أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء؟ قال: نعم. قال: فما باله لم يطعمهم؟ قال: ابتلى قوما بالفقر، وقوما بالغنى، وأمر الفقراء بالصبر، وأمر الأغنياء بالإعطاء. فقال: والله يا أبا بكر ما أنت إلا في ضلال أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء وهو لا يطعمهم ثم تطعمهم أنت؟ فنزلت هذه الآية، ونزل قوله تعالى: "فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى" [الليل: 5 - 6] الآيات. وقيل: نزلت الآية في قوم من الزنادقة، وقد كان فيهم أقوام يتزندقون فلا يؤمنون بالصانع واستهزؤوا بالمسلمين بهذا القول؛ ذكره القشيري والماوردي.
قوله تعالى: "ويقولون متى هذا الوعد" لما قيل لهم: "اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم" قالوا: "متى هذا الوعد" وكان هذا استهزاء منهم أيضا أي لا تحقيق لهذا الوعيد، قال الله تعالى: "ما ينظرون" أي ما ينتظرون "إلا صيحة واحدة" وهي نفخة إسرافيل "تأخذهم وهم يخصمون" أي يختصمون في أمور دنياهم فيموتون في مكانهم؛ وهذه نفخة الصعق. وفي "يخصمون"خمس قراءات: قرأ أبو عمرو وابن كثير: "وهم يخصمون" بفتح الياء والخاء وتشديد الصاد. وكذا روى ورش عن نافع. فأما أصحاب القراءات وأصحاب نافع سوى ورش فرووا عنه "يخصمون" بإسكان الخاء وتشديد الصاد على الجمع ببن ساكنين. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة: "وهم يخصمون" بإسكان الخاء وتخفيف الصاد من خصمه. وقرأ عاصم والكسائي "وهم يخصمون" بكسر الخاء وتشديد الصاد، ومعناه يخصم بعضهم بعضا. وقيل: تأخذهم وهم عند أنفسهم يختصمون في الحجة أنهم لا يبعثون. وقد روى ابن جبير عن أبي بكر عن عاصم، وحماد عن عاصم كسر الياء والخاء والتشديد. قال النحاس: القراءة الأولى أبينها، والأصل فيها يختصمون فأدغمت التاء في الصاد فنقلت حركتها إلى الخاء. وفي حرف أبي "وهم يختصمون" - وإسكان الخاء لا يجوز، لأنه جمع بين ساكنين وليس أحدهما حرف مد ولين. وقيل: أسكنوا الخاء على أصلها، والمعنى يخصم بعضهم بعضا فحذف المضاف، وجاز أن يكون المعنى يخصمون مجادلهم عند أنفسهم فحذف المفعول. قال الثعلبي: وهي قراءة أبي بن كعب. قال النحاس: فأما "يخصمون" فالأصل فيه أيضا يختصمون، فأدغمت التاء في الصاد ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين. وزعم الفراء أن هذه القراءة أجود وأكثر؛ فترك ما هو أولى من إلقاء حركة التاء على الخاء واجتلب لها حركة أخرى وجمع بين ياء وكسرة، وزعم أنه أجود وأكثر. وكيف يكون أكثر وبالفتح قراءة الخلق من أهل مكة وأهل البصرة وأهل المدينة! وما روي عن عاصم من كسر الياء والخاء فللإتباع. وقد مضى هذا في "البقرة" في "يخطف أبصارهم" [البقرة: 20] وفي "يونس" "يهدي" [يونس: 35]. وقال عكرمة في قوله جل وعز: "إلا صيحة واحدة" قال: هي النفخة الأولى في الصور. وقال أبو هريرة: ينفخ في الصور والناس في أسواقهم: فمن حالب لقحة، ومن ذارع ثوبا، ومن مار في حاجة. وروى نعيم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه فلا يطويانه حتى تقوم الساعة، والرجل يليط حوضه ليسقي ماشيته فما يسقيها حتى تقوم الساعة، والرجل يخفض ميزانه فما يرفعه حتى تقوم الساعة، والرجل يرفع أكلته إلى فيه فما يبتلعها حتى تقوم الساعة). وفي حديث عبدالله بن عمرو: (وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله - قال - فيصعق ويصعق الناس) الحديث. "فلا يستطيعون توصية" أي لا يستطيع بعضهم أن يوصي بعضا لما في يده من حق. وقيل: لا يستطيع أن يوصي بعضهم بعضا بالتوبة والإقلاع؛ بل يموتون في أسواقهم ومواضعهم. "ولا إلى أهلهم يرجعون" إذا ماتوا. وقيل: إن معنى "ولا إلى أهلهم يرجعون" لا يرجعون إليهم قولا. وقال قتادة: "ولا إلى أهلهم يرجعون" أي إلى منازلهم؛ لأنهم قد أعجلوا عن ذلك.
الآية: 51 - 54 {ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون، قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون، إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون، فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون}
قوله تعالى: "ونفخ في الصور" هذه النفخة الثانية للنشأة. وقد بينا في سورة (النمل) أنهما نفختان لا ثلاث. وهذه الآية دالة على ذلك. وروى المبارك بن فضالة عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بين النفختين أربعون سنة: الأولى يميت الله بها كل حي، والأخرى يحيي الله بها كل ميت). وقال قتادة: الصور جمع صورة؛ أي نفخ في الصور والأرواح. وصورة وصور مثل سورة البناء وسور؛ قال العجاج:
ورب ذي سرادق محجور سرتُ إليه في أعالي السور
وقد روي عن أبي هريرة أنه قرأ: "ونفخ في الصور". النحاس: والصحيح أن "الصور" بإسكان الواو: القرن؛ جاء بذلك التوقيف عن رسول الله، وذلك معروف في كلام العرب. أنشد أهل اللغة:
نحن نطحناهم غداة الغورين بالضابحات في غبار النقعين
نطحا شديدا لا كنطح الصورين
وقد مضى هذا في "الأنعام" مستوفى. "فإذا هم من الأجداث" أي القبور. وقرئ بالفاء "من الأجداف" ذكره الزمخشري. يقال: جدث وجدف. واللغة الفصيحة الجدث (بالثاء) والجمع أجدث وأجداث؛ قال المتنخل الهذلي:
عرفت بأجدث فنعاف عرق علامات كتحبير النماط
واجتدث: أي اتخذ جدثا. "إلى ربهم ينسلون" أي يخرجون؛ قال ابن عباس وقتادة ومنه قول امرئ القيس:
فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي
ومنه قيل للولد نسل؛ لأنه يخرج من بطن أمه. وقيل: يسرعون. والنسلان والعسلان: الإسراع في السير، ومنه مشية الذئب؛ قال:
عسلان الذئب أمسى قاربا برد الليل عليه فنسل
يقال: عسل الذئب ونسل، يعسل وينسل، من باب ضرب يضرب. ويقال: ينسل بالضم أيضا. وهو الإسراع في المشي؛ فالمعنى يخرجون مسرعين. وفي التنزيل: "ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة" [لقمان: 28]، وقال: "يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر" [القمر:7]، وفي "سأل سائل" [المعارج: 1] "يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون" [المعارج: 43] أي يسرعون. وفي الخبر: شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الضعف فقال: (عليكم بالنسل) أي بالإسراع في المشي فإنه ينشط.
قوله تعالى: "قالوا ياويلنا" قال ابن الأنباري: "يا ويلنا" وقف حسن ثم تبتدئ "من بعننا" وروي عن بعض القراء "يا ويلنا من بعثنا" بكسر من والثاء من البعث. روي ذلك عن علي رضي الله عنه؛ فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على قوله: "يا ويلنا" حتى يقول: "من مرقدنا". وفي قراءة أبي بن كعب "من هبّنا" بالوصل "من مرقدنا" فهذا دليل على صحة مذهب العامة. قال المهدوي: قرأ ابن أبي ليلى: "قالوا يا ويلتنا" بزيادة تاء وهو تأنيث الوصل، ومثله: "يا ويلتا أألد وأنا عجوز" [هود: 72]. وقرأ علي رضي الله عنه "يا ويلتا من بعثنا" فـ "من" متعلقة بالويل أو حال من "ويلتا" فتتعلق بمحذوف؛ كأنه قال: يا ويلتا كائنا من بعثنا؛ وكما يجوز أن يكون خبرا عنه كذلك يجوز أن يكون حالا منه. و"من" من قوله: "من مرقدنا" متعلقة بنفس البعث. ثم قيل: كيف قالوا هذا وهم من المعذبين في قبورهم؟ فالجواب أن أبي بن كعب قال: ينامون نومة. وفي رواية فيقولون: يا ويلتا من أهبنا من مرقدنا. قال أبو بكر الأنباري: لا يحمل هذا الحديث على أن "أهبنا" من لفظ القرآن كما قال من طعن في القرآن، ولكنه تفسير "بعثنا" أو معبر عن بعض معانيه. قال أبو بكر: وكذا حفظته "من هبنا" بغير ألف في أهبنا مع تسكين نون من. والصواب فيه على طريق اللغة "من أهبنا" بفتح النون على أن فتحة همزة أهب ألقيت على نون "من" وأسقطت الهمزة؛ كما قالت العرب: من أخبرك من أعلمك؟ وهم يريدون من أخبرك. ويقال: أهببت النائم فهب النائم. أنشدنا أحمد بن يحيى النحوي:
وعاذلة هبت بليل تلومني ولم يعتمرني قبل ذاك عذول
وقال أبو صالح: إذا نفخ النفخة الأولى رفع العذاب عن أهل القبور وهجعوا هجعة إلى النفخة الثانية وبينهما أربعون سنة؛ فذلك قولهم: "من بعثنا من مرقدنا" وقال ابن عباس وقتادة. وقال أهل المعاني: إن الكفار إذا عاينوا جهنم وما فيها من أنواع العذاب صار ما عذبوا به في قبورهم إلى جنب عذابها كالنوم. قال مجاهد: فقال لهم المؤمنون: "هذا ما وعد الرحمن". قال قتادة: فقال لهم من هدى الله: "هذا ما وعد الرحمن". وقال الفراء: فقالت لهم الملائكة: "هذا ما وعد الرحمن". النحاس: وهذه الأقوال متفقة؛ لأن الملائكة من المؤمنين وممن هدى الله عز وجل. وعلى هذا يتأول قول الله عز وجل: "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية" [البينة: 7] وكذا الحديث: (المؤمن عند الله خير من كل ما خلق). ويجوز أن تكون الملائكة وغيرهم من المؤمنين قالوا لهم: "هذا ما وعد الرحمن". وقيل: إن الكفار لما قال بعضهم لبعض: "من بعثنا من مرقدنا" صدقوا الرسل لما عاينوا ما أخبروهم به، ثم قالوا: "هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون" فكذبنا به؛ أقروا حين لم ينفعهم الإقرار. وكان حفص يقف على "من مرقدنا" ثم يبتدئ فيقول: "هذا". قال أبو بكر بن الأنباري: "من بعثنا من مرقدنا" وقف حسن؛ ثم تبتدئ: "هذا ما وعد الرحمن" ويجوز أن تقف على مرقدنا هذا" فتخفض هذا على الإتباع للمرقد، وتبتدئ: "ما وعد الرحمن" على معنى بعثكم ما وعد الرحمن؛ أي بعثكم وعد الرحمن. النحاس: التمام على "من مرقدنا" و"هذا" في موضع رفع بالابتداء وخبره "ما وعد الرحمن". ويجوز أن يكون في موضع خفض على النعت لـ "مرقدنا" فيكون التمام "من مرقدنا هذا". "ما وعد الرحمن" في موضع رفع من ثلاث جهات. ذكر أبو إسحاق منها اثنتين قال: يكون بإضمار هذا. والجهة الثانية أن يكون بمعنى حق ما وعد الرحمن بعثكم. والجهة الثالثة أن يكون بمعنى ما وعد الرحمن. "إن كانت إلا صيحة واحدة" يعني إن بعثهم وإحياءهم كان بصيحة واحدة وهي قول إسرافيل: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة والشعور المتمزقة! إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. وهذا معنى قول الحق: "يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج." [ق:42]. وقال: "مهطعين إلى الداعي" [القمر: 8] على ما يأتي. وفي قراءة ابن مسعود إن صح عنه "إن كانت إلا زقية واحدة" والزقية الصيحة؛ وقد تقدم هذا. "فإذا هم جميع لدينا محضرون" "فإذا هم" مبتدأ وخبره "جميع" نكرة، و"محضرون" من صفته. ومعنى "محضرون" مجموعون أحضروا موقف الحساب؛ وهو كقوله: "وما أمر الساعة إلا كلمح البصر" [النحل: 77]. قوله تعالى: "فاليوم لا تظلم نفس شيئا" أي لا تنقص من ثواب عمل. "ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون" "ما" في محل نصب من وجهين: الأول أنه مفعول ثان لما لم يسم فاعله. والثاني بنزع حرف الصفة تقديره: إلا بما كنتم تعملون؛ أي تعملونه فحذف.
تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 443
443- تفسير الصفحة رقم443 من المصحفالآية: 41 - 44 {وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون، وخلقنا لهم من مثله ما يركبون، وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون، إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين}
قوله تعالى: "وآية لهم" يحتمل ثلاثة معان: أحدها عبرة لهم؛ لأن في الآيات اعتبارا. الثاني نعمة عليهم؛ لأن في الآيات إنعاما. الثالث إنذار لهم؛ لأن في الآيات إنذارا. "أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون" من أشكل ما في السورة؛ لأنهم هم المحمولون. فقيل: المعنى وآية لأهل مكة أنا حملنا ذرية القرون الماضية "في الفلك المشحون" فالضميران مختلفان؛ ذكره المهدوي. وحكاه النحاس عن علي بن سليمان أنه سمعه يقول. وقيل: الضميران جميعا لأهل مكة على أن يكون ذرياتهم أولادهم وضعفاءهم؛ فالفلك على القول الأول سفينة نوح. وعلى الثاني يكون اسما للجنس؛ خبّر جل وعز بلطفه وامتنانه أنه خلق السفن يحمل فيها من يصعب عليه المشي والركوب من الذمة والضعفاء، فيكون الضميران على هذا متفقين. وقيل: الذرية الآباء والأجداد، حملهم الله تعالى في سفينة نوح عليه السلام؛ فالآباء ذرية والأبناء ذرية؛ بدليل هذه الآية؛ قاله أبو عثمان. وسمي الآباء ذرية؛ لأن منهم ذرأ الأبناء. وقول رابع: أن الذرية النطف حملها الله تعالى في بطون النساء تشبيها بالفلك المشحون؛ قاله علي بن أبى طالب رضي الله عنه؛ ذكره الماوردي. وقد مضى في "البقرة" اشتقاق الذرية والكلام فيها مستوفى. و"المشحون" المملوء الموقر، و"الفلك" يكون واحدا وجمعا. وقد تقدم في "يونس" القول فيه.
قوله تعالى: "وخلقنا لهم من مثله ما يركبون" والأصل يركبونه فحذفت الهاء لطول الاسم وأنه رأس آية. وفي معناه ثلاثة أقوال: مذهب مجاهد وقتادة وجماعة من أهل التفسير، وروي عن ابن عباس أن معنى "من مثله" للإبل، خلقها لهم للركوب في البر مثل السفن المركوبة في البحر؛ والعرب تشبه الإبل بالسفن. قال طرفة:
كأن حدوج المالكية غدوة خلايا سفين بالنواصف من دَدِ
جمع خلية وهي السفينة العظيمة. والقول الثاني أنه للإبل والدواب وكل ما يركب. والقول الثالث أنه للسفن؛ النحاس: وهو أصحها لأنه متصل الإسناد عن ابن عباس. "وخلقنا لهم من مثله ما يركبون" قال: خلق لهم سفنا أمثالها يركبون فيها. وقال أبو مالك: إنها السفن الصغار خلقها مثل السفن الكبار؛ وروي عن ابن عباس والحسن. وقال الضحاك وغيره: هي السفن المتخذة بعد سفينة نوح. قال الماوردي: ويجيء على مقتضى تأويل علي رضي الله عنه في أن الذرية في الفلك المشحون هي النطف في بطون النساء قول خامس في قوله: "وخلقتا لهم مثله ما يركبون" أن يكون تأويله النساء خلقن لركوب الأزواج لكن لم أره محكيا.
قوله تعالى: "وإن نشأ نغرقهم" أي في البحر فترجع الكناية إلى أصحاب الذرية، أو إلى الجميع، وهذا يدل على صحة قول ابن عباس ومن قال: إن المراد "من مثله" السفن لا الإبل. "فلا صريخ لهم" أي لا مغيث لهم رواه سعيد عن قتادة. وروى شيبان عنه: فلا منعة لهم ومعناهما متقاربان. و"صريخ" بمعنى مصرخ فعيل بمعنى فاعل. ويجوز "فلا صريخ لهم"؛ لأن بعده ما لا يجوز فيه إلا الرفع؛ لأنه معرفة وهو "ولا هم ينقذون" والنحويون يختارون لا رجل في الدار ولا زيد. ومعنى: "ينقذون" يخلصون من الغرق. وقيل: من العذاب. "إلا رحمة منا" قال الكسائي: هو نصب على الاستثناء. وقال الزجاج: نصب مفعول من أجله؛ أي للرحمة "ومتاعا" معطوف عليه. "إلى حين" إلى الموت؛ قاله قتادة. يحيى بن سلام: إلى القيامة أي إلا أن نرحمهم ونمتعهم إلى آجالهم، وأن الله عجل عذاب الأمم السالفة، وأخر عذاب أمة محمد صلى الله عليه وسلم وإن كذبوه إلى الموت والقيامة.
الآية: 45 {وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون، وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين، وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين، ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون}
قوله تعالى: "وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم" قال قتادة: يعني "اتقوا ما بين أيديكم" أي من الوقائع فيمن كان قبلكم من الأمم، "وما خلفكم" من الآخرة. ابن عباس وابن جبير ومجاهد: "ما بين أيديكم" ما مضى من الذنوب، "وما خلفكم" ما يأتي من الذنوب. الحسن: "ما بين أيديكم" ما مضى من أجلكم "وما خلفكم" ما بقي منه. وقيل: "ما بين أيديكم" من الدنيا، "وما خلفكم" من عذاب الآخرة؛ قال سفيان. وحكى عكس هذا القول الثعلبي عن ابن عباس. قال: "ما بين أيديكم" من أمر الآخرة وما عملوا لها، "وما خلفكم" من أمر الدنيا فاحذروها ولا تغتروا بها. وقيل: "ما بين أيديكم" ما ظهر لكم "وما خلفكم" ما خفي عنكم. والجواب محذوف، والتقدير: إذا قيل لهم ذلك أعرضوا؛ دليله قول بعد: "وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين" فاكتفى بهذا عن ذلك.
قوله تعالى: "وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله" أي تصدقوا على الفقراء. قال الحسن: يعني اليهود أمروا بإطعام الفقراء. وقيل: هم المشركون قال لهم فقراء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أعطونا ما زعمتم من أموالكم أنها لله؛ وذلك قوله: "وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا" [الأنعام: 136] فحرموهم وقالوا: لو شاء الله أطعمكم - استهزاء - فلا نطعمكم حتى ترجعوا إلى ديننا. قالوا "أنطعم" أي أنرزق "من لو يشاء الله أطعمه" كان بلغهم من قول المسلمين: أن الرازق هو الله. فقالوا هزءا: أنرزق من لو يشاء الله أغناه. وعن ابن عباس: كان بمكة زنادقة، فإذا أمروا بالصدقة على المساكين قالوا: لا والله! أيفقره الله ونطعمه نحن. وكانوا يسمعون المؤمنين يعلقون أفعال الله تعالى بمشيئته فيقولون: لو شاء الله لأغنى فلانا؛ ولو شاء الله لأعز، ولو شاء الله لكان كذا. فأخرجوا هذا الجواب مخرج الاستهزاء بالمؤمنين، وبما كانوا يقولونه من تعليق الأمور بمشيئة الله تعالى. وقيل: قالوا هذا تعلقا بقول المؤمنين لهم: "أنفقوا مما رزقكم الله" أي فإذا كان الله رزقنا فهو قادر على أن يرزقكم فلم تلتمسون الرزق منا؟. وكان هذا الاحتجاج باطلا؛ لأن الله تعالى إذا ملك عبدا مالا ثم أوجب عليه فيه حقا فكأنه انتزع ذلك القدر منه، فلا معنى للاعتراض. وقد صدقوا في قولهم: لو شاء الله أطعمهم ولكن كذبوا في الاحتجاج. ومثله قوله: "سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا" [الأنعام: 148]، وقوله: "قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون" [المنافقون: 1]. "إن أنتم إلا في ضلال مبين" قيل هو من قول الكفار للمؤمنين؛ أي في سؤال المال وفي اتباعكم محمدا. قال معناه مقاتل وغيره. وقيل: هو من قول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم. وقيل من قول الله تعالى للكفار حين ردوا بهذا الجواب. وقيل: إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يطعم مساكين المسلمين فلقيه أبو جهل فقال: يا أبا بكر أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء؟ قال: نعم. قال: فما باله لم يطعمهم؟ قال: ابتلى قوما بالفقر، وقوما بالغنى، وأمر الفقراء بالصبر، وأمر الأغنياء بالإعطاء. فقال: والله يا أبا بكر ما أنت إلا في ضلال أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء وهو لا يطعمهم ثم تطعمهم أنت؟ فنزلت هذه الآية، ونزل قوله تعالى: "فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى" [الليل: 5 - 6] الآيات. وقيل: نزلت الآية في قوم من الزنادقة، وقد كان فيهم أقوام يتزندقون فلا يؤمنون بالصانع واستهزؤوا بالمسلمين بهذا القول؛ ذكره القشيري والماوردي.
قوله تعالى: "ويقولون متى هذا الوعد" لما قيل لهم: "اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم" قالوا: "متى هذا الوعد" وكان هذا استهزاء منهم أيضا أي لا تحقيق لهذا الوعيد، قال الله تعالى: "ما ينظرون" أي ما ينتظرون "إلا صيحة واحدة" وهي نفخة إسرافيل "تأخذهم وهم يخصمون" أي يختصمون في أمور دنياهم فيموتون في مكانهم؛ وهذه نفخة الصعق. وفي "يخصمون"خمس قراءات: قرأ أبو عمرو وابن كثير: "وهم يخصمون" بفتح الياء والخاء وتشديد الصاد. وكذا روى ورش عن نافع. فأما أصحاب القراءات وأصحاب نافع سوى ورش فرووا عنه "يخصمون" بإسكان الخاء وتشديد الصاد على الجمع ببن ساكنين. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة: "وهم يخصمون" بإسكان الخاء وتخفيف الصاد من خصمه. وقرأ عاصم والكسائي "وهم يخصمون" بكسر الخاء وتشديد الصاد، ومعناه يخصم بعضهم بعضا. وقيل: تأخذهم وهم عند أنفسهم يختصمون في الحجة أنهم لا يبعثون. وقد روى ابن جبير عن أبي بكر عن عاصم، وحماد عن عاصم كسر الياء والخاء والتشديد. قال النحاس: القراءة الأولى أبينها، والأصل فيها يختصمون فأدغمت التاء في الصاد فنقلت حركتها إلى الخاء. وفي حرف أبي "وهم يختصمون" - وإسكان الخاء لا يجوز، لأنه جمع بين ساكنين وليس أحدهما حرف مد ولين. وقيل: أسكنوا الخاء على أصلها، والمعنى يخصم بعضهم بعضا فحذف المضاف، وجاز أن يكون المعنى يخصمون مجادلهم عند أنفسهم فحذف المفعول. قال الثعلبي: وهي قراءة أبي بن كعب. قال النحاس: فأما "يخصمون" فالأصل فيه أيضا يختصمون، فأدغمت التاء في الصاد ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين. وزعم الفراء أن هذه القراءة أجود وأكثر؛ فترك ما هو أولى من إلقاء حركة التاء على الخاء واجتلب لها حركة أخرى وجمع بين ياء وكسرة، وزعم أنه أجود وأكثر. وكيف يكون أكثر وبالفتح قراءة الخلق من أهل مكة وأهل البصرة وأهل المدينة! وما روي عن عاصم من كسر الياء والخاء فللإتباع. وقد مضى هذا في "البقرة" في "يخطف أبصارهم" [البقرة: 20] وفي "يونس" "يهدي" [يونس: 35]. وقال عكرمة في قوله جل وعز: "إلا صيحة واحدة" قال: هي النفخة الأولى في الصور. وقال أبو هريرة: ينفخ في الصور والناس في أسواقهم: فمن حالب لقحة، ومن ذارع ثوبا، ومن مار في حاجة. وروى نعيم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه فلا يطويانه حتى تقوم الساعة، والرجل يليط حوضه ليسقي ماشيته فما يسقيها حتى تقوم الساعة، والرجل يخفض ميزانه فما يرفعه حتى تقوم الساعة، والرجل يرفع أكلته إلى فيه فما يبتلعها حتى تقوم الساعة). وفي حديث عبدالله بن عمرو: (وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله - قال - فيصعق ويصعق الناس) الحديث. "فلا يستطيعون توصية" أي لا يستطيع بعضهم أن يوصي بعضا لما في يده من حق. وقيل: لا يستطيع أن يوصي بعضهم بعضا بالتوبة والإقلاع؛ بل يموتون في أسواقهم ومواضعهم. "ولا إلى أهلهم يرجعون" إذا ماتوا. وقيل: إن معنى "ولا إلى أهلهم يرجعون" لا يرجعون إليهم قولا. وقال قتادة: "ولا إلى أهلهم يرجعون" أي إلى منازلهم؛ لأنهم قد أعجلوا عن ذلك.
الآية: 51 - 54 {ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون، قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون، إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون، فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون}
قوله تعالى: "ونفخ في الصور" هذه النفخة الثانية للنشأة. وقد بينا في سورة (النمل) أنهما نفختان لا ثلاث. وهذه الآية دالة على ذلك. وروى المبارك بن فضالة عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بين النفختين أربعون سنة: الأولى يميت الله بها كل حي، والأخرى يحيي الله بها كل ميت). وقال قتادة: الصور جمع صورة؛ أي نفخ في الصور والأرواح. وصورة وصور مثل سورة البناء وسور؛ قال العجاج:
ورب ذي سرادق محجور سرتُ إليه في أعالي السور
وقد روي عن أبي هريرة أنه قرأ: "ونفخ في الصور". النحاس: والصحيح أن "الصور" بإسكان الواو: القرن؛ جاء بذلك التوقيف عن رسول الله، وذلك معروف في كلام العرب. أنشد أهل اللغة:
نحن نطحناهم غداة الغورين بالضابحات في غبار النقعين
نطحا شديدا لا كنطح الصورين
وقد مضى هذا في "الأنعام" مستوفى. "فإذا هم من الأجداث" أي القبور. وقرئ بالفاء "من الأجداف" ذكره الزمخشري. يقال: جدث وجدف. واللغة الفصيحة الجدث (بالثاء) والجمع أجدث وأجداث؛ قال المتنخل الهذلي:
عرفت بأجدث فنعاف عرق علامات كتحبير النماط
واجتدث: أي اتخذ جدثا. "إلى ربهم ينسلون" أي يخرجون؛ قال ابن عباس وقتادة ومنه قول امرئ القيس:
فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي
ومنه قيل للولد نسل؛ لأنه يخرج من بطن أمه. وقيل: يسرعون. والنسلان والعسلان: الإسراع في السير، ومنه مشية الذئب؛ قال:
عسلان الذئب أمسى قاربا برد الليل عليه فنسل
يقال: عسل الذئب ونسل، يعسل وينسل، من باب ضرب يضرب. ويقال: ينسل بالضم أيضا. وهو الإسراع في المشي؛ فالمعنى يخرجون مسرعين. وفي التنزيل: "ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة" [لقمان: 28]، وقال: "يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر" [القمر:7]، وفي "سأل سائل" [المعارج: 1] "يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون" [المعارج: 43] أي يسرعون. وفي الخبر: شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الضعف فقال: (عليكم بالنسل) أي بالإسراع في المشي فإنه ينشط.
قوله تعالى: "قالوا ياويلنا" قال ابن الأنباري: "يا ويلنا" وقف حسن ثم تبتدئ "من بعننا" وروي عن بعض القراء "يا ويلنا من بعثنا" بكسر من والثاء من البعث. روي ذلك عن علي رضي الله عنه؛ فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على قوله: "يا ويلنا" حتى يقول: "من مرقدنا". وفي قراءة أبي بن كعب "من هبّنا" بالوصل "من مرقدنا" فهذا دليل على صحة مذهب العامة. قال المهدوي: قرأ ابن أبي ليلى: "قالوا يا ويلتنا" بزيادة تاء وهو تأنيث الوصل، ومثله: "يا ويلتا أألد وأنا عجوز" [هود: 72]. وقرأ علي رضي الله عنه "يا ويلتا من بعثنا" فـ "من" متعلقة بالويل أو حال من "ويلتا" فتتعلق بمحذوف؛ كأنه قال: يا ويلتا كائنا من بعثنا؛ وكما يجوز أن يكون خبرا عنه كذلك يجوز أن يكون حالا منه. و"من" من قوله: "من مرقدنا" متعلقة بنفس البعث. ثم قيل: كيف قالوا هذا وهم من المعذبين في قبورهم؟ فالجواب أن أبي بن كعب قال: ينامون نومة. وفي رواية فيقولون: يا ويلتا من أهبنا من مرقدنا. قال أبو بكر الأنباري: لا يحمل هذا الحديث على أن "أهبنا" من لفظ القرآن كما قال من طعن في القرآن، ولكنه تفسير "بعثنا" أو معبر عن بعض معانيه. قال أبو بكر: وكذا حفظته "من هبنا" بغير ألف في أهبنا مع تسكين نون من. والصواب فيه على طريق اللغة "من أهبنا" بفتح النون على أن فتحة همزة أهب ألقيت على نون "من" وأسقطت الهمزة؛ كما قالت العرب: من أخبرك من أعلمك؟ وهم يريدون من أخبرك. ويقال: أهببت النائم فهب النائم. أنشدنا أحمد بن يحيى النحوي:
وعاذلة هبت بليل تلومني ولم يعتمرني قبل ذاك عذول
وقال أبو صالح: إذا نفخ النفخة الأولى رفع العذاب عن أهل القبور وهجعوا هجعة إلى النفخة الثانية وبينهما أربعون سنة؛ فذلك قولهم: "من بعثنا من مرقدنا" وقال ابن عباس وقتادة. وقال أهل المعاني: إن الكفار إذا عاينوا جهنم وما فيها من أنواع العذاب صار ما عذبوا به في قبورهم إلى جنب عذابها كالنوم. قال مجاهد: فقال لهم المؤمنون: "هذا ما وعد الرحمن". قال قتادة: فقال لهم من هدى الله: "هذا ما وعد الرحمن". وقال الفراء: فقالت لهم الملائكة: "هذا ما وعد الرحمن". النحاس: وهذه الأقوال متفقة؛ لأن الملائكة من المؤمنين وممن هدى الله عز وجل. وعلى هذا يتأول قول الله عز وجل: "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية" [البينة: 7] وكذا الحديث: (المؤمن عند الله خير من كل ما خلق). ويجوز أن تكون الملائكة وغيرهم من المؤمنين قالوا لهم: "هذا ما وعد الرحمن". وقيل: إن الكفار لما قال بعضهم لبعض: "من بعثنا من مرقدنا" صدقوا الرسل لما عاينوا ما أخبروهم به، ثم قالوا: "هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون" فكذبنا به؛ أقروا حين لم ينفعهم الإقرار. وكان حفص يقف على "من مرقدنا" ثم يبتدئ فيقول: "هذا". قال أبو بكر بن الأنباري: "من بعثنا من مرقدنا" وقف حسن؛ ثم تبتدئ: "هذا ما وعد الرحمن" ويجوز أن تقف على مرقدنا هذا" فتخفض هذا على الإتباع للمرقد، وتبتدئ: "ما وعد الرحمن" على معنى بعثكم ما وعد الرحمن؛ أي بعثكم وعد الرحمن. النحاس: التمام على "من مرقدنا" و"هذا" في موضع رفع بالابتداء وخبره "ما وعد الرحمن". ويجوز أن يكون في موضع خفض على النعت لـ "مرقدنا" فيكون التمام "من مرقدنا هذا". "ما وعد الرحمن" في موضع رفع من ثلاث جهات. ذكر أبو إسحاق منها اثنتين قال: يكون بإضمار هذا. والجهة الثانية أن يكون بمعنى حق ما وعد الرحمن بعثكم. والجهة الثالثة أن يكون بمعنى ما وعد الرحمن. "إن كانت إلا صيحة واحدة" يعني إن بعثهم وإحياءهم كان بصيحة واحدة وهي قول إسرافيل: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة والشعور المتمزقة! إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. وهذا معنى قول الحق: "يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج." [ق:42]. وقال: "مهطعين إلى الداعي" [القمر: 8] على ما يأتي. وفي قراءة ابن مسعود إن صح عنه "إن كانت إلا زقية واحدة" والزقية الصيحة؛ وقد تقدم هذا. "فإذا هم جميع لدينا محضرون" "فإذا هم" مبتدأ وخبره "جميع" نكرة، و"محضرون" من صفته. ومعنى "محضرون" مجموعون أحضروا موقف الحساب؛ وهو كقوله: "وما أمر الساعة إلا كلمح البصر" [النحل: 77]. قوله تعالى: "فاليوم لا تظلم نفس شيئا" أي لا تنقص من ثواب عمل. "ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون" "ما" في محل نصب من وجهين: الأول أنه مفعول ثان لما لم يسم فاعله. والثاني بنزع حرف الصفة تقديره: إلا بما كنتم تعملون؛ أي تعملونه فحذف.
الصفحة رقم 443 من المصحف تحميل و استماع mp3