تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 443 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 443

443 : تفسير الصفحة رقم 443 من القرآن الكريم

** وَآيَةٌ لّهُمْ أَنّا حَمَلْنَا ذُرّيّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ * وَإِن نّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ * إِلاّ رَحْمَةً مّنّا وَمَتَاعاً إِلَىَ حِينٍ
يقول تبارك وتعالى: ودلالة لهم أيضاً على قدرته تبارك وتعالى تسخيره البحر ليحمل السفن, فمن ذلك بل أوله سفينة نوح عليه الصلاة والسلام, التي أنجاه الله تعالى فيها بمن معه من المؤمنين الذين لم يبق على وجه الأرض من ذرية آدم عليه الصلاة والسلام غيرهم, ولهذا قال عز وجل: {وآية لهم أنا حملنا ذريتهم} أي آباءهم {في الفلك المشحون} أي في السفينة المملوءة من الأمتعة والحيوانات, التي أمره الله تبارك وتعالى أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين. قال ابن عباس رضي الله عنهما: المشحون الموقر, وكذا قال سعيد بن جبير والشعبي وقتادة والسدي. وقال الضحاك وقتادة وابن زيد: وهي سفينة نوح عليه الصلاة والسلام.
وقوله جل وعلا: {وخلقنا لهم من مثله ما يركبون} قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: يعني بذلك الإبل, فإنها سفن البر يحملون عليها ويركبونها, وكذا قال عكرمة ومجاهد والحسن وقتادة في رواية, وعبد الله بن شداد وغيرهم: وقال السدي في رواية: هي الأنعام. وقال ابن جرير: حدثنا الفضل بن الصباح, حدثنا محمد بن فضيل عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: أتدرون ما قوله تعالى: {وخلقنا لهم من مثله ما يركبون} قلنا: لا, قال: هي السفن جعلت من بعد سفينة نوح عليه الصلاة والسلام على مثلها, وكذا قال أبو مالك والضحاك وقتادة وأبو صالح والسدي أيضاً المراد بقوله تعالى: {وخلقنا لهم من مثله ما يركبون} أي السفن, ويقوي هذا المذهب في المعنى قوله جل وعلا: {إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية}.
وقوله عز وجل: {وإن نشأ نغرقهم} يعني الذين في السفن {فلا صريخ لهم} أي لا مغيث لهم مما هم فيه{ولا هم ينقذون} أي مما أصابهم {إلا رحمة من} وهذا استثناء منقطع تقديره ولكن برحمتنا نسيركم في البر والبحر, ونسلمكم إلى أجل مسمى, ولهذا قال تعالى: {ومتاعاً إلى حين} أي إلى وقت معلوم عند الله عز وجل.

** وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ آيَةٍ مّنْ آيَاتِ رَبّهِمْ إِلاّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمّا رِزَقَكُمُ الله قَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَنُطْعِمُ مَن لّوْ يَشَآءُ اللّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاّ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ
يقول تعالى مخبراً عن تمادي المشركين في غيهم وضلالهم وعدم اكتراثهم بذنوبهم التي أسلفوها, وما يستقبلون بين أيديهم يوم القيامة {وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم} قال مجاهد: من الذنوب, وقال غيره بالعكس, {لعلكم ترحمون} أي لعل الله باتقائكم ذلك يرحمكم ويؤمنكم من عذابه, وتقدير الكلام أنهم لا يجيبون إلى ذلك بل يعرضون عنه, واكتفى عن ذلك بقوله تعالى: {وما تأتيهم من آية من آيات ربهم} أي على التوحيد وصدق الرسل {إلا كانوا عنها معرضين} أي لا يتأملونها ولا يقبلونها ولا ينتفعون بها.
وقوله عز وجل: {وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله} أي إذا أمروا بالإنفاق مما رزقهم الله على الفقراء والمحاويج من المسلمين {قال الذين كفروا للذين آمنو} أي عن الذين آمنوا من الفقراء أي قالوا لمن أمرهم من المؤمنين بالإنفاق محاجين لهم فيما أمروهم به{أنطعم من لو يشاء الله أطعمه} أي هؤلاء الذين أمرتمونا بالإنفاق عليهم لو شاء الله لأغناهم ولأطعمهم من رزقه, فنحن نوافق مشيئة الله تعالى فيهم {إن أنتم إلا في ضلال مبين} أي في أمركم لنا بذلك. قال ابن جرير: ويحتمل أن يكون من قول الله عز وجل للكفار حين ناظروا المؤمنين وردوا عليهم, فقال لهم: {إن أنتم إلا في ضلال مبين} وفي هذا نظر, والله أعلم.

** وَيَقُولُونَ مَتَىَ هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * مَا يَنظُرُونَ إِلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ * فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَىَ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ
يخبر تعالى عن استبعاد الكفرة لقيام الساعة في قولهم: {متى هذا الوعد} {يستعجل بها الذين لا يؤمنون به} قال الله عز وجل: {ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون} أي ما ينتظرون إلا صيحة واحدة, وهذه والله أعلم ـ نفخة الفزع, ينفخ في الصور نفخة الفزع, والناس في أسواقهم ومعايشهم يختصمون ويتشاجرون على عادتهم, فبينما هم كذلك إذ أمر الله عز وجل إسرافيل فنفخ في الصور نفخة يطولها ويمدها, فلا يبقى أحد على وجه الأرض إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً, وهي صفحة العنق يتسمع الصوت من قبل السماء, ثم يساق الموجودون من الناس إلى محشر القيامة بالنار تحيط بهم من جوانبهم, ولهذا قال تعالى: {فلا يستطيعون توصية} أي على ما يملكونه, الأمر أهم من ذلك {ولا إلى أهلهم يرجعون} وقد وردت ههنا آثار وأحاديث ذكرناها في موضع آخر, ثم يكون بعد هذا نفخة الصعق التي تموت بها الأحياء كلهم ما عدا الحي القيوم, ثم بعد ذلك نفخة البعث.

** وَنُفِخَ فِي الصّورِ فَإِذَا هُم مّنَ الأجْدَاثِ إِلَىَ رَبّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُواْ يَوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرّحْمـَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِن كَانَتْ إِلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لّدَيْنَا مُحْضَرُونَ * فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
هذه هي النفخة الثالثة, وهي نفخة البعث والنشور للقيام من الأجداث والقبور, ولهذا قال تعالى: {فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون} والنسلان هو المشي السريع كما قال تعالى: {يوم يخرجون من الأجداث سراعاً كأنهم إلى نصب يوفضون قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا ؟} يعنون قبورهم التي كانوا يعتقدون في الدار الدنيا أنهم لا يبعثون منها, فلما عاينوا ما كذبوا به في محشرهم {قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدن} وهذا لا ينفي عذابهم في قبورهم, لأنه بالنسبة إلى مابعده في الشدة كالرقاد. قال أبي بن كعب رضي الله عنه ومجاهد والحسن وقتادة: ينامون نومة قبل البعث. قال قتادة: وذلك بين النفختين, فلذلك يقولون من بعثنا من مرقدنا, فإذا قالوا ذلك أجابهم المؤمنون, قاله غير واحد من السلف {هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} وقال الحسن: إنما يجيبهم بذلك الملائكة, ولا منافاة إذ الجمع ممكن, والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقال عبد الرحمن بن زيد: الجميع من قول الكفار {يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا ؟ هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} نقله ابن جرير, واختار الأول, وهو أصح, وذلك لقوله تبارك وتعالى في الصافات: {وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون} وقال الله عز وجل: {ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون}.
وقوله تعالى: {إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون} كقوله عز وجل: {فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة} وقال جلت عظمته: {وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب} وقال جل جلاله: {يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليل} أي إنما نأمرهم أمراً واحداً, فإذا الجميع محضرون {فاليوم لاتظلم نفس شيئ} أي من عملها {ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون}.