تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 447 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 447

447- تفسير الصفحة رقم447 من المصحف
"ما لكم لا تناصرون" على جهة التقريع والتوبيخ؛ أي ينصر بعضكم بعضا فيمنعه من عذاب الله. وقيل: هو إشارة إلى قول أبي جهل يوم بدر: "نحن جميع منتصر" [القمر: 44]. وأصله تتناصرون فطرحت إحدى التاءين تخفيفا. وشدد البزي التاء في الوصل.
قوله تعالى: "بل هم اليوم مستسلمون" قال قتادة: مستسلمون في عذاب الله عز وجل. ابن عباس: خاضعون ذليلون. الحسن: منقادون. الأخفش: ملقون بأيديهم. والمعنى متقارب. "وأقبل بعضهم على بعض" يعني الرؤساء والأتباع "يتساءلون" يتخاصمون. ويقال لا يتساءلون فسقطت لا. النحاس: وإنما غلط الجاهل باللغة فتوهم أن هذا من قوله: "فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون" [المؤمنون: 101] إنما هو لا يتساءلون بالأرحام، فيقول أحدهم: أسألك بالرحم الذي بيني وبينك لما نفعتني، أو أسقطت لي حقا لك علي، أو وهبت لي حسنة. وهذا بين؛ لأن قبله "فلا أنساب بينهم" [المؤمنون: 101]. أي ليس ينتفعون بالأنساب التي بينهم؛ كما جاء في الحديث: (إن الرجل ليسر بأن يصبح له على أبيه أو على ابنه حق فيأخذه منه لأنها الحسنات والسيئات)، وفي حديث آخر: (رحم الله امرأ كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فأتاه فاستحله قبل أن يطالبه به فيأخذ من حسناته فإن لم تكن له حسنات زيد عليه من سيئات المطالب). و"يتساءلون" ها هنا إنما هو أن يسأل بعضهم بعضا ويوبخه في أنه أضله أو فتح بابا من المعصية؛ يبين ذلك أن بعده "إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين" قال مجاهد: هو قول الكفار للشياطين. قتادة: هو قول الإنس للجن. وقيل: هو من قول الأتباع للمتبوعين؛ دليله قوله تعالى: "ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول" [سبأ: 31] الآية. قال سعيد عن قتادة: أي تأتوننا عن طريق الخير وتصدوننا عنها. وعن ابن عباس نحو منه. وقيل: تأتوننا عن اليمين التي نحبها ونتفاءل بها لتغرونا بذلك من جهة النصح. والعرب تتفاءل بما جاء عن اليمين وتسميه السانح. وقيل: "تأتوننا عن اليمين" تأتوننا مجيء من إذا حلف لنا صدقناه. وقيل: تأتوننا من قبل الدين فتهونون علينا أمر الشريعة وتنفروننا عنها.
قلت: وهذا القول حسن جدا؛ لأن من جهة الدين يكون الخير والشر، واليمين بمعنى الدين؛ أي كنتم تزينون لنا الضلالة. وقيل: اليمين بمعنى القوة؛ أي تمنعوننا بقوة وغلبة وقهر؛ قال الله تعالى: "فراغ عليهم ضربا باليمين" [الصافات: 93] أي بالقوة وقوة الرجل في يمينه؛ وقال الشاعر:
إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين
أي بالقوة والقدرة. وهذا قول ابن عباس. وقال مجاهد: "تأتوننا عن اليمين" أي من قبل الحق أنه معكم؛ وكله متقارب المعنى. "قالوا بل لم تكونوا مؤمنين" قال قتادة: هذا قول الشياطين لهم. وقيل: من قول الرؤساء؛ أي لم تكونوا مؤمنين قط حتى ننقلكم منه إلى الكفر، بل كنتم على الكفر فأقمتم عليه للألف والعادة. "وما كان لنا عليكم من سلطان" أي من حجة في ترك الحق "بل كنتم قوما طاغين" أي ضالين متجاوزين الحد. "فحق علينا قول ربنا" هو أيضا من قول المتبوعين؛ أي وجب علينا وعليكم قول ربنا، فكلنا ذائقون العذاب، كما كتب الله وأخبر على ألسنة الرسل "لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين" [السجدة: 13]. وهذا موافق للحديث: (إن الله جل وعز كتب للنار أهلا وللجنة أهلا لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم). "فأغويناكم" أي زينا لكم ما كنتم عليه من الكفر "إنا كنا غاوين" بالوسوسة والاستدعاء. ثم قال مخبرا عنهم: "فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون" الضال والمضل. "إنا كذلك" أي مثل هذا الفعل "نفعل بالمجرمين" أي المشركين. "إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون" أي إذا قيل لهم قولوا فأضمر القول. و"يستكبرون" في موضع نصب على خبر كان. ويجوز أن يكون في موضع رفع على أنه خبر إن، وكان ملغاة. ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب عند موته واجتماع قريش (قولوا لا إله إلا الله تملكوا بها العرب وتدين لكم بها العجم) أبوا وأنفوا من ذلك. وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنزل الله تعالى في كتابه فذكر قوما استكبروا فقال: "إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون") وقال تعالى: "إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا احق بها وأهلها" [الفتح: 26] وهي (لا إله إلا الله محمد رسول الله) استكبر عنها المشركون يوم الحديبية يوم كاتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قضية المدة؛ ذكر هذا الخبر البيهقي، والذي قبله القشيري.
الآية: 36 - 40 {ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون، بل جاء بالحق وصدق المرسلين، إنكم لذائقوا العذاب الأليم، وما تجزون إلا ما كنتم تعملون، إلا عباد الله المخلصين}
قوله تعالى: "ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون" أي لقول شاعر مجنون؛ فرد الله جل وعز عليهم فقال: "بل جاء بالحق" يعني القرآن والتوحيد "وصدق المرسلين" فيما جاؤوا به من التوحيد. "إنكم لذائقوا العذاب الأليم" الأصل لذائقون فحذفت النون استخفافا وخفضت للإضافة. ويجوز النصب كما أنشد سيبويه:
فألفيته غير مستعتب ولا ذاكر الله إلا قليلا
وأجاز سيبويه "والمقيمي الصلاة" على هذا. "وما تجزون إلا ما كنتم تعملون" أي إلا بما عملتم من الشرك "إلا عباد الله المخلصين" استثناء ممن يذوق العذاب. وقراءة أهل المدينة والكوفة "المخلصين" بفتح اللام؛ يعني الذين أخلصهم الله لطاعته ودينه وولايته. الباقون بكسر اللام؛ أي الذين أخلصوا لله العبادة. وقيل: هو استثناء منقطع، أي إنكم أيها المجرمون ذائقو العذاب لكن عباد الله المخلصين لا يذوقون العذاب.
الآية: 41 -49 {أولئك لهم رزق معلوم، فواكه وهم مكرمون، في جنات النعيم، على سرر متقابلين، يطاف عليهم بكأس من معين، بيضاء لذة للشاربين، لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون، وعندهم قاصرات الطرف عين، كأنهن بيض مكنون}
قوله تعالى: "أولئك لهم رزق معلوم" يعني المخلصين؛ أي لهم عطية معلومة لا تنقطع. قال قتادة: يعني الجنة. وقال غيره: يعني رزق الجنة. وقيل: هي الفواكه التي ذكر قال مقاتل: حين يشتهونه. وقال ابن السائب: إنه بمقدار الغداة والعشي؛ قال الله تعالى: "ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا" [مريم: 62]. "فواكه" جمع فاكهة؛ قال الله تعالى: "وأمددناهم بفاكهة" [الطور: 22] وهي الثمار كلها رطبها ويابسها؛ قاله ابن عباس. "وهم مكرمون" أي ولهم إكرام من الله جل وعز برفع الدرجات وسماع كلامه ولقائه. "في جنات النعيم" أي في بساتين يتنعمون فيها. وقد تقدم أن الجنان سبع في سورة "يونس" منها النعيم.
قوله تعالى: "على سرر متقابلين" قال عكرمة ومجاهد: لا ينظر بعضهم في قفا بعض تواصلا وتحاببا. وقيل: الأسرة تدور كيف شاؤوا فلا يرى أحد قفا أحد. وقال ابن عباس: على سرر مكللة بالدر والياقوت والزبرجد؛ السرير ما بين صنعاء إلى الجابية، وما بين عدن إلى أيلة. وقيل: تدور بأهل المنزل الواحد. والله أعلم. "يطاف عليهم بكأس من معين" لما ذكر مطاعمهم ذكر شرابهم. والكأس عند أهل اللغة اسم شامل لكل إناء مع شرابه؛ فإن كان فارغا فليس بكأس. قال الضحاك والسدي: كل كأس في القرآن فهي الخمر، والعرب تقول للإناء إذا كان فيه خمر كأس، فإذا لم يكن فيه خمر قالوا إناء وقدح. النحاس: وحكى من يوثق به من أهل اللغة أن العرب تقول للقدح إذا كان فيه خمر: كأس؛ فإذا لم يكن فيه خمر فهو قدح؛ كما يقال للخوان إذا كان عليه طعام: مائدة؛ فإذا لم يكن عليه طعام لم تقل له مائدة. قال أبو الحسن بن كيسان: ومنه ظعينة للهودج إذا كان فيه المرأة. وقال الزجاج: "بكأس من معين" أي من خمر تجري كما تجري العيون على وجه الأرض. والمعين: الماء الجاري الظاهر. "بيضاء" صفة للكأس. وقيل: للخمر. قال الحسن: خمر الجنة أشد بياضا من اللبن. وقيل: "بيضاء" أي لم يعتصرها الرجال بأقدامهم. "لذة للشاربين" "لذة" قال الزجاج: أي ذات لذة فحذف المضاف. وقيل: هو مصدر جعل اسما أي بيضاء لذيذة؛ يقال شراب لذ ولذيذ، مثل نبات غض وغضيض. فأما قول القائل:
ولذ كطعم الصرخدي تركته بأرض العدا من خشية الحدثان
فانه يريد النوم. "لا فيها غول" أي لا تغتال عقولهم، ولا يصيبهم منها مرض ولا صداع. "ولا هم عنها ينزفون" أي لا تذهب عقولهم بشربها؛ يقال: الخمر غول للحلم، والحرب غول للنفوس؛ أي تذهب بها. وقال: نزف الرجل ينزف فهو منزوف ونزيف إذا سكر. قال امرؤ القيس:
وإذا هي تمشي كمشي النزيـ ـف يصرعه بالكثيب البهر
وقال أيضا:
نزيف إذا قام لوجه تمايلت تراشي الفؤاد الرخص ألا تخرا
وقال آخر:
فلثمت فاها آخذا بقرونها شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
وقرأ حمزة والكسائي بكسر الزاي؛ من أنزف القوم إذا حان منهم النزف وهو السكر. يقال: أحصد الزرع إذا حان حصاده، وأقطف الكرم إذا حان قطافه، وأركب المهر إذا حان ركوبه. وقيل: المعنى لا ينفدون شرابهم؛ لأنه دأبهم؛ يقال: أنزف الرجل فهو منزوف إذا فنيت خمره. قال الحطيئة:
لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم لبئس الندامى كنتم آل أبجرا
النحاس: والقراءة الأولى أبين وأصح في المعنى؛ لأن معنى "ينزفون" عند جلة أهل التفسير منهم مجاهد لا تذهب عقولهم؛ فنفى الله عز وجل عن خمر الجنة الآفات التي تلحق في الدنيا من خمرها من الصداع والسكر. ومعنى "ينزفون" الصحيح فيه أنه يقال: أنزف الرجل إذا نفد شرابه، وهو يبعد أن يوصف به شراب الجنة؛ ولكن مجازه أن يكون بمعنى لا ينفد أبدا. وقيل: "لا ينزفون" بكسر الزاي لا يسكرون؛ ذكره الزجاج وأبو علي على ما ذكره القشيري. المهدوي: ولا يكون معناه يسكرون؛ لأن قبله "لا فيها غول". أي لا تغتال عقولهم فيكون تكرارا؛ ويسوغ ذلك في "الواقعة". ويجوز أن يكون معنى "لا فيها غول" لا يمرضون؛ فيكون معنى "ولا هم عنها ينزفون" لا يسكرون أو لا ينفد شرابهم. قال قتادة الغول وجع البطن. وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد "لا فيها غول" قال لا فيها وجع بطن. الحسن: صداع. وهو قول ابن عباس: "لا فيها غول" لا فيها صداع. وحكى الضحاك عنه أنه قال: في الخمر أربع خصال: السكر والصداع والقيء والبول؛ فذكر الله خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال. مجاهد: داء. ابن كيسان: مغص. وهذه الأقوال متقاربة. وقال الكلبي: "لا فيها غول" أي إثم؛ نظيره: "لا لغو فيها ولا تأثيم" [الطور: 23]. وقال الشعبي والسدي وأبو عبيدة: لا تغتال عقولهم فتذهب بها. ومنه قول الشاعر:
وما زالت الكأس تغتالنا وتذهب بالأول الأول
أي تصرع واحدا واحدا. وإنما صرف الله تعالى السكر عن أهل الجنة لئلا ينقطع الالتذاذ عنهم بنعيمهم. وقال أهل المعاني: الغول فساد يلحق في خفاء. يقال: اغتاله اغتيالا إذا أفسد عليه أمره في خفية. ومنه الغول والغيلة: وهو القتل خفية.
قوله تعالى: "وعندهم قاصرات الطرف" أي نساء قد قصرن طرفهن على أزواجهن فلا ينظرن إلى غيرهم؛ قاله ابن عباس ومجاهد ومحمد بن كعب وغيرهم. عكرمة: "قاصرات الطرف" أي محبوسات على أزواجهن. والتفسير الأول أبين؛ لأنه ليس في الآية مقصورات ولكن في موضع آخر "مقصورات" يأتي بيانه. و"قاصرات" مأخوذ من قولهم: قد اقتصر على كذا إذا اقتنع به وعدل عن غيره؛ قال امرؤ القيس:
من القاصرات الطرف لو دب محول من الذر فوق الإتب منها لأثرا
ويروى: فوق الخد. والأول أبلغ. والإتب القميص، والمحول الصغير من الذر. وقال مجاهد أيضا: معناه لا يغرن. "عين" عظام العيون الواحدة عيناء؛ وقال السدي. مجاهد: "عين" حسان العيون. الحسن: الشديدات بياض العين، الشديدات سوادها. والأول أشهر في اللغة. يقال: رجل أعين واسع العين بيّن العين، والجمع عين. وأصله فعل بالضم فكسرت العين؛ لئلا تنقلب الواو ياء. ومنه قيل لبقر الوحش عين، والثور أعين، والبقرة عيناء. "كأنهن بيض مكنون" أي مصون. قال الحسن وابن زيد: شبهن ببيض النعام، تكنها النعامة بالريش من الريح والغبار، فلونها أبيض في صفرة وهو حسن ألوان النساء. وقال ابن عباس وابن جبير والسدي: شبهن ببطن البيض قبل أن يقشر وتمسه الأيدي. وقال عطاء: شبهن بالسحاء الذي يكون بين القشرة العليا ولباب البيض. وسحاة كل شيء: قشره والجمع سحا؛ قاله الجوهري. ونحوه قول الطبري، قال: هو القشر الرقيق، الذي على البيضة بين ذلك. وروي نحوه عن النبي صلى الله عليه وسلم. والعرب تشبه المرأة بالبيضة لصفائها وبياضها؛ قال امرؤ القيس:
وبيضة خدر لا يرام خباؤها تمتعت من لهو بها غير معجل
وتقول العرب إذا وصفت الشيء بالحسن والنظافة: كأنه بيض النعام المغطى بالريش. وقيل: المكنون المصون عن الكسر؛ أي إنهن عذارى. وقيل: المراد بالبيض اللؤلؤ؛ كقوله تعالى: "وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون" [الواقعة:23] أي في أصدافه؛ قاله ابن عباس أيضا. ومنه قول الشاعر:
وهي بيضاء مثل لؤلؤة الغـ ـواص ميزت من جوهر مكنون
وإنما ذكر المكنون والبيض جمع؛ لأنه رد النعت إلى اللفظ.
الآية: 50 - 61 {فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون، قال قائل منهم إني كان لي قرين، يقول أئنك لمن المصدقين، أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون، قال هل أنتم مطلعون، فاطلع فرآه في سواء الجحيم، قال تالله إن كدت لتردين، ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين، أفما نحن بميتين، إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين، إن هذا لهو الفوز العظيم، لمثل هذا فليعمل العاملون}
قوله تعالى: "فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون" أي يتفاوضون فيما بينهم أحاديثهم في الدنيا. وهو من تمام الأنس في الجنة. وهو معطوف على معنى "يطاف عليهم" المعنى يشربون فيتحادثون على الشراب كعادة الشراب. قال بعضهم:
وما بقيت من اللذات إلا أحاديث الكرام على المدام
فيقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى لهم وعليهم في الدنيا؛ إلا أنه جيء به ماضيا على عادة الله تعالى في إخباره. "قال قائل منهم" أي من أهل الجنة "إني كان لي قرين" أي صديق ملازم "يقول أئنك لمن المصدقين" أي بالمبعث والجزاء. وقال سعيد بن جبير: قرينه شريكه. وقد مضى في "الكهف" ذكرهما وقصتهما والاختلاف في اسميهما مستوفى عند قوله تعالى: "واضرب لهم مثلا رجلين" [الكهف: 32] وفيهما أنزل الله جل وعز: "قال قائل منهم إني كان لي قربن" إلى "من المحضرين" وقيل: أراد بالقرين قرينه من الشيطان كان يوسوس إليه بإنكار البعث. وقرئ: "أئنك لمن المصدقين" بتشديد الصاد. رواه علي بن كيسة عن سليم عن حمزة. قال النحاس: ولا يجوز "أئنك لمن المصَدقين" لأنه لا معنى للصدقة ها هنا. وقال القشيري: وفي قراءة عن حمزة "أئنك لمن المصدقين" بتشديد الصاد. واعترض عليه بأن هذا من التصديق لا من التصدق. والاعتراض باطل؛ لأن القراءة إذا ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا مجال للطعن فيها. فالمعنى "أئنك لمن المصدقين" بالمال طلبا في ثواب الآخرة. "أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون" أي مجزيون محاسبون بعد الموت فـ "قال" الله تعالى لأهل الجنة: "هل أنتم مطلعون". وقيل: هو من قول المؤمن لإخوانه في الجنة هل أنتم مطلعون إلى النار لننظر كيف حال ذلك القرين. وقيل: هو من قول الملائكة. وليس "هل أنتم مطلعون" باستفهام، إنما هو بمعنى الأمر، أي اطلعوا؛ قاله ابن الأعرابي وغيره. ومنه لما نزلت آية الخمر، قام عمر قائما بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رفع رأسه إلى السماء، ثم قال: يا رب بيانا أشفى من هذا في الخمر. فنزلت: "فهل أنتم منتهون" [المائدة:91] قال: فنادى عمر انتهينا يا ربنا. وقرأ ابن عباس: "هل أنتم مطلعون" بإسكان الطاء خفيفة "فأُطْلِعَ" بقطع الألف مخففة على معنى هل أنتم مقبلون، فأقبل. قال النحاس "فأطلع فرآه" فيه قولان: أحدهما أن يكون فعلا مستقبلا معناه فأطلع أنا، ويكون منصوبا على أنه جواب الاستفهام. والقول الثاني أن يكون فعلا ماضيا ويكون اطلع وأطلع واحدا. قال الزجاج: يقال طلع وأطلع واطلع بمعنى واحد. وقد حكى "هل أنتم مطلعون" بكسر النون وأنكره أبو حاتم وغيره. النحاس: وهو لحن لا يجوز؛ لأنه جمع بين النون والإضافة، ولو كان مضافا لكان هل أنتم مطلعي، وإن كان سيبويه والفراء قد حكيا مثله، وأنشدا:
هم القائلون الخير والآمرونه إذا ما خشوا من حدث الأمر معظما
وأنشد الفراء: والفاعلونه. وأنشد سيبويه وحده:
ولم يرتفق والناس محتضرونه
وهذا شاذ خارج عن كلام العرب، وما كان مثل هذا لم يحتج به في كتاب الله عز وجل، ولا يدخل في الفصيح. وقد قيل في توجيهه: إنه أجرى اسم الفاعل مجرى المضارع لقربه منه، فجرى "مطلعون" مجرى يطلعون. ذكره أبو الفتح عثمان بن جني وأنشد:
أرأيت إن جئت به أملودا مرجلا ويلبس البرودا
أقائلن أحضروا الشهودا
فأجرى أقائلن مجرى أتقولن. وقال ابن عباس في قوله تعالى: "هل أنتم مطلعون. فاطلع فرآه" إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى النار وأهلها. وكذلك قال كعب فيما ذكر ابن المبارك، قال: إن بين الجنة والنار كوى، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدو كان له في الدنيا اطلع من بعض الكوى، قال الله تعالى: "فاطلع فرآه في سواء الجحيم" أي في وسط النار والحسك حواليه؛ قاله ابن مسعود. ويقال: تعبت حتى انقطع سوائي: أي وسطي. وعن أبي عبيدة: قال لي عيسى بن عمر: كنت أكتب يا أبا عبيدة حتى ينقطع سوائي. وعن قتادة قال: قال بعض العلماء: لولا أن الله جل وعز عرفه إياه لما عرفه، لقد تغير حبره وسبره. فعند ذلك يقول: "تالله إن كدت لتردين" "إن" مخففة من الثقيلة دخلت على كاد كما تدخل على كان. ونحوه "إن كاد ليضلنا" [الفرقان: 42] واللام هي الفارقة بينها وبين النافية. "ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين" في النار. وقال الكسائي: "لتردين" أي لتهلكني، والردى الهلاك. وقال المبرد: لو قيل: "لتردين" لتوقعني في النار لكان جائزا "ولولا نعمة ربي" أي عصمته وتوفيقه بالاستمساك بعروة الإسلام والبراءة من القرين السوء. وما بعد لولا مرفوع بالابتداء عند سيبويه والخبر محذوف. "لكنت من المحضرين" قال الفراء: أي لكنت معك في النار محضرا. وأحضر لا يستعمل مطلقا إلا في الشر؛ قاله الماوردي.
قوله تعالى: "أفما نحن بميتين" وقرئ "بمائتين" والهمزة في "أفما" للاستفهام دخلت على فاء العطف، والمعطوف محذوف معناه أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين ولا معذبين. "إلا موتتنا الأولى" يكون استثناء ليس من الأول ويكون مصدرا؛ لأنه منعوت. وهو من قول أهل الجنة للملائكة حين يذبح الموت، ويقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت. وقيل: هو من قول المؤمن على جهة الحديث بنعمة الله في أنهم لا يموتون ولا يعذبون؛ أي هذه حالنا وصفتنا. وقيل: هو من قول المؤمن توبيخا للكافر لما كان ينكره من البعث، وأنه ليس إلا الموت في الدنيا. ثم قال المؤمن مشيرا إلى ما هو فيه؛ "إن هذا لهو الفوز العظيم" يكون "هو" مبتدأ وما بعده خبر عنه والجملة خبر إن. ويجوز أن يكون "هو" فاصلا. "لمثل هذا فليعمل العاملون" يحتمل أن يكون من كلام المؤمن لما رأى ما أعد الله له في الجنة وما أعطاه قال: "لمثل هذا" العطاء والفضل "فليعمل العاملون" نظير ما قال له الكافر: "أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا" [الكهف: 34]. ويحتمل أن يكون من قول الملائكة. وقيل: هو من قول الله عز وجل لأهل الدنيا؛ أي قد سمعتم ما في الجنة من الخيرات والجزاء، و"لمثل هذا" الجزاء "فليعمل العاملون". النحاس: وتقدير الكلام - والله أعلم - فليعمل العاملون لمثل هذا. فإن قال قائل: الفاء في العربية تدل على أن الثاني بعد الأول، فكيف صار ما بعدها ينوى به التقديم؟ فالجواب أن التقديم كمثل التأخير؛ لأن حق حروف الخفض وما بعدها أن تكون متأخرة.