تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 448 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 448

448- تفسير الصفحة رقم448 من المصحف
"قال قائل منهم" أي من أهل الجنة "إني كان لي قرين" أي صديق ملازم "يقول أئنك لمن المصدقين" أي بالمبعث والجزاء. وقال سعيد بن جبير: قرينه شريكه. وقد مضى في "الكهف" ذكرهما وقصتهما والاختلاف في اسميهما مستوفى عند قوله تعالى: "واضرب لهم مثلا رجلين" [الكهف: 32] وفيهما أنزل الله جل وعز: "قال قائل منهم إني كان لي قربن" إلى "من المحضرين" وقيل: أراد بالقرين قرينه من الشيطان كان يوسوس إليه بإنكار البعث. وقرئ: "أئنك لمن المصدقين" بتشديد الصاد. رواه علي بن كيسة عن سليم عن حمزة. قال النحاس: ولا يجوز "أئنك لمن المصَدقين" لأنه لا معنى للصدقة ها هنا. وقال القشيري: وفي قراءة عن حمزة "أئنك لمن المصدقين" بتشديد الصاد. واعترض عليه بأن هذا من التصديق لا من التصدق. والاعتراض باطل؛ لأن القراءة إذا ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا مجال للطعن فيها. فالمعنى "أئنك لمن المصدقين" بالمال طلبا في ثواب الآخرة. "أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون" أي مجزيون محاسبون بعد الموت فـ "قال" الله تعالى لأهل الجنة: "هل أنتم مطلعون". وقيل: هو من قول المؤمن لإخوانه في الجنة هل أنتم مطلعون إلى النار لننظر كيف حال ذلك القرين. وقيل: هو من قول الملائكة. وليس "هل أنتم مطلعون" باستفهام، إنما هو بمعنى الأمر، أي اطلعوا؛ قاله ابن الأعرابي وغيره. ومنه لما نزلت آية الخمر، قام عمر قائما بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رفع رأسه إلى السماء، ثم قال: يا رب بيانا أشفى من هذا في الخمر. فنزلت: "فهل أنتم منتهون" [المائدة:91] قال: فنادى عمر انتهينا يا ربنا. وقرأ ابن عباس: "هل أنتم مطلعون" بإسكان الطاء خفيفة "فأُطْلِعَ" بقطع الألف مخففة على معنى هل أنتم مقبلون، فأقبل. قال النحاس "فأطلع فرآه" فيه قولان: أحدهما أن يكون فعلا مستقبلا معناه فأطلع أنا، ويكون منصوبا على أنه جواب الاستفهام. والقول الثاني أن يكون فعلا ماضيا ويكون اطلع وأطلع واحدا. قال الزجاج: يقال طلع وأطلع واطلع بمعنى واحد. وقد حكى "هل أنتم مطلعون" بكسر النون وأنكره أبو حاتم وغيره. النحاس: وهو لحن لا يجوز؛ لأنه جمع بين النون والإضافة، ولو كان مضافا لكان هل أنتم مطلعي، وإن كان سيبويه والفراء قد حكيا مثله، وأنشدا:
هم القائلون الخير والآمرونه إذا ما خشوا من حدث الأمر معظما
وأنشد الفراء: والفاعلونه. وأنشد سيبويه وحده:
ولم يرتفق والناس محتضرونه
وهذا شاذ خارج عن كلام العرب، وما كان مثل هذا لم يحتج به في كتاب الله عز وجل، ولا يدخل في الفصيح. وقد قيل في توجيهه: إنه أجرى اسم الفاعل مجرى المضارع لقربه منه، فجرى "مطلعون" مجرى يطلعون. ذكره أبو الفتح عثمان بن جني وأنشد:
أرأيت إن جئت به أملودا مرجلا ويلبس البرودا
أقائلن أحضروا الشهودا
فأجرى أقائلن مجرى أتقولن. وقال ابن عباس في قوله تعالى: "هل أنتم مطلعون. فاطلع فرآه" إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى النار وأهلها. وكذلك قال كعب فيما ذكر ابن المبارك، قال: إن بين الجنة والنار كوى، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدو كان له في الدنيا اطلع من بعض الكوى، قال الله تعالى: "فاطلع فرآه في سواء الجحيم" أي في وسط النار والحسك حواليه؛ قاله ابن مسعود. ويقال: تعبت حتى انقطع سوائي: أي وسطي. وعن أبي عبيدة: قال لي عيسى بن عمر: كنت أكتب يا أبا عبيدة حتى ينقطع سوائي. وعن قتادة قال: قال بعض العلماء: لولا أن الله جل وعز عرفه إياه لما عرفه، لقد تغير حبره وسبره. فعند ذلك يقول: "تالله إن كدت لتردين" "إن" مخففة من الثقيلة دخلت على كاد كما تدخل على كان. ونحوه "إن كاد ليضلنا" [الفرقان: 42] واللام هي الفارقة بينها وبين النافية. "ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين" في النار. وقال الكسائي: "لتردين" أي لتهلكني، والردى الهلاك. وقال المبرد: لو قيل: "لتردين" لتوقعني في النار لكان جائزا "ولولا نعمة ربي" أي عصمته وتوفيقه بالاستمساك بعروة الإسلام والبراءة من القرين السوء. وما بعد لولا مرفوع بالابتداء عند سيبويه والخبر محذوف. "لكنت من المحضرين" قال الفراء: أي لكنت معك في النار محضرا. وأحضر لا يستعمل مطلقا إلا في الشر؛ قاله الماوردي.
قوله تعالى: "أفما نحن بميتين" وقرئ "بمائتين" والهمزة في "أفما" للاستفهام دخلت على فاء العطف، والمعطوف محذوف معناه أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين ولا معذبين. "إلا موتتنا الأولى" يكون استثناء ليس من الأول ويكون مصدرا؛ لأنه منعوت. وهو من قول أهل الجنة للملائكة حين يذبح الموت، ويقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت. وقيل: هو من قول المؤمن على جهة الحديث بنعمة الله في أنهم لا يموتون ولا يعذبون؛ أي هذه حالنا وصفتنا. وقيل: هو من قول المؤمن توبيخا للكافر لما كان ينكره من البعث، وأنه ليس إلا الموت في الدنيا. ثم قال المؤمن مشيرا إلى ما هو فيه؛ "إن هذا لهو الفوز العظيم" يكون "هو" مبتدأ وما بعده خبر عنه والجملة خبر إن. ويجوز أن يكون "هو" فاصلا. "لمثل هذا فليعمل العاملون" يحتمل أن يكون من كلام المؤمن لما رأى ما أعد الله له في الجنة وما أعطاه قال: "لمثل هذا" العطاء والفضل "فليعمل العاملون" نظير ما قال له الكافر: "أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا" [الكهف: 34]. ويحتمل أن يكون من قول الملائكة. وقيل: هو من قول الله عز وجل لأهل الدنيا؛ أي قد سمعتم ما في الجنة من الخيرات والجزاء، و"لمثل هذا" الجزاء "فليعمل العاملون". النحاس: وتقدير الكلام - والله أعلم - فليعمل العاملون لمثل هذا. فإن قال قائل: الفاء في العربية تدل على أن الثاني بعد الأول، فكيف صار ما بعدها ينوى به التقديم؟ فالجواب أن التقديم كمثل التأخير؛ لأن حق حروف الخفض وما بعدها أن تكون متأخرة.
الآية: 62 - 68 {أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم، إنا جعلناها فتنة للظالمين، إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم، طلعها كأنه رؤوس الشياطين، فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون، ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم، ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم}
قوله تعالى: "أذلك خير" مبتدأ وخبر، وهو من قول الله جل وعز. "نزلا" على البيان؛ والمعنى أنعيم الجنة خير نزلا. "أم شجرة الزقوم" والنزل في اللغة الرزق الذي له سعة - النحاس - وكذا النزل إلا أنه يجوز أن يكون النزل بإسكان الزاي لغة، ويجوز أن يكون أصله النزل؛ ومنه أقيم للقوم نزلهم، واشتقاقه أنه الغذاء الذي يصلح أن ينزلوا معه ويقيموا فيه. وقد مضى هذا في آخر سورة "آل عمران" وشجرة الزقوم مشتقة من التزقم وهو البلع على جهد لكراهتها ونتنها. قال المفسرون: وهي في الباب السادس، وأنها تحيا بلهب النار كما تحيا الشجرة ببرد الماء؛ فلا بد لأهل النار من أن ينحدر إليها من كان فوقها فيأكلون منها، وكذلك يصعد إليها من كان أسفل. واختلف فيها هل هي من شجر الدنيا التي تعرفها العرب أم لا على قولين: أحدهما أنها معروفة من شجر الدنيا. ومن قال بهذا اختلفوا فيها؛ فقال قطرب: إنها شجرة مرة تكون بتهامة من أخبث الشجر. وقال غيره: بل هو كل نبات قاتل. القول الثاني: إنها لا تعرف في شجر الدنيا. فلما نزلت هذه الآية في شجرة الزقوم قالت كفار قريش: ما نعرف هذه الشجرة. فقدم عليهم رجل من إفريقية فسألوه فقال: هو عندنا الزُبد والتمر. فقال ابن الزبعري: أكثر الله في بيوتنا الزقوم فقال أبو جهل لجاريته: زقمينا؛ فأتته بزبد وتمر. ثم قال لأصحابه: تزقموا؛ هذا الذي يخوفنا به محمد؛ يزعم أن النار تنبت الشجر، والنار تحرق الشجر.
قوله تعالى: "إنا جعلناها فتنة للظالمين" أي المشركين، وذلك أنهم قالوا: كيف تكون في النار شجرة وهي تحرق الشجر؟ وقد مضى هذا المعنى في "سبحان" واستخفافهم في هذا كقولهم في قوله تعالى: "عليها تسعة عشر" [المدثر: 30]. ما الذي يخصص هذا العدد؟ حتى قال بعضهم: أنا أكفيكم منهم كذا فاكفوني الباقين. فقال الله تعالى: "وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا" [المدثر: 31] والفتنة الاختبار، وكان هذا القول منهم جهلا، إذ لا يستحيل في العقل أن يخلق الله في النار شجرا من جنسها لا تأكله النار، كما يخلق الله فيها الأغلال والقيود والحيات والعقارب وخزنة النار. وقيل: هذا الاستبعاد الذي وقع للكفار هو الذي وقع الآن للملحدة، حتى حملوا الجنة والنار على نعيم أو عقاب تتخلله الأرواح، وحملوا وزن الأعمال والصراط واللوح والقلم على معاني زوروها في أنفسهم، دون ما فهمه المسلمون من موارد الشرع، وإذا ورد خبر الصادق بشيء موهوم في العقل، فالواجب تصديقه وإن جاز أن يكون له تأويل، ثم التأويل في موضع إجماع المسلمين على أنه تأويل باطل لا يجوز، والمسلمون مجمعون على الأخذ بهذه الأشياء من غير مصير إلى علم الباطن. وقيل إنها فتنة أي عقوبة للظالمين؛ كما قال: "ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون" [الذاريات: 14].
قوله تعالى: "إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم" أي قعر النار ومنها منشؤها ثم هي متفرعة في جهنم. "طلعها" أي ثمرها؛ سمي طلعا لطلوعه. "كأنه رؤوس الشياطين" قيل: يعني الشياطين بأعيانهم شبهها برؤوسهم لقبحهم، ورؤوس الشياطين متصور في النفوس وإن كان غير مرئي. ومن ذلك قولهم لكل قبيح هو كصورة الشيطان، ولكل صورة حسنة هي كصورة ملك. ومنه قوله تعالى مخبرا عن صواحب يوسف: "ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم" [يوسف: 31] وهذا تشبيه تخييلي؛ روي معناه عن ابن عباس والقرظي. ومنه قول امرئ القيس:
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وإن كانت الغول لا تعرف؛ ولكن لما تصور من قبحها في النفوس. وقد قال الله تعالى: "شياطين الإنس والجن" [الأنعام: 112] فمردة الإنس شياطين مرئية. وفي الحديث الصحيح (ولكأن نخلها رؤوس الشياطين) وقد أدعى كثير من العرب رؤية الشياطين والغيلان. وقال الزجاج والفراء: الشياطين حيات لها رؤوس وأعراف، وهي من أقبح الحيات وأخبثها وأخفها جسما. قال الراجز وقد شبه المرأة بحية لها عرف:
عنجرد تحلف حين أحلف كمثل شيطان الحماط أعرف
الواحدة حماطة. والأعرف الذي له عف. وقال الشاعر يصف ناقته:
تلاعب مثنى حضرمي كأنه تعمج شيطان بذي خروع قفر
التعمج: الاعوجاج في السير. وسهم عموج: يتلوى في ذهابه. وتعمجت الحية: إذا تلوت في سيرها. وقال يصف زمام الناقة:
تلاعب مثنى حضرمي كأنه تعمج شيطان بذي خروع قفر
وقيل: إنما شبه ذلك بنبت قبيح في اليمن يقال له الأستن والشيطان. قال النحاس: وليس ذلك معروفا عند العرب. الزمخشري: هو شجر خشن منتن مر منكر الصورة يسمى ثمره رؤوس الشياطين. النحاس: وقيل: الشياطين ضرب من الحيات قباح. "فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون" فهذا طعامهم وفاكهتهم بدل رزق أهل الجنة. وقال في "الغاشية]: "ليس لهم طعام إلا من ضريع" [الغاشية: 6] وسيأتي. "ثم إن لهم عليها" أي بعد الأكل من الشجرة "لشوبا من حميم" الشوب الخلط، والشب والشوب لغتان كالفَقر والفُقر والفتح أشهر. قال الفراء: شاب طعامه وشرابه إذا خلطهما بشيء يشوبهما شوبا وشيابة. فأخبر أنه يشاب لهم. والحميم: الماء الحار ليكون أشنع؛ قال الله تعالى: "وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم" [محمد: 15]. السدي: يشاب لهم الحميم بغساق أعينهم وصديد من قيحهم ودمائهم. وقيل: يمزج لهم الزقوم بالحميم ليجمع لهم بين مرارة الزقوم وحراوة الحميم؛ تغليظا لعذابهم وتجديدا لبلائهم. "ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم" قيل: إن هذا يدل على أنهم كانوا حين أكلوا الزقوم في عذاب غير النار ثم يردون إليها. وقال مقاتل: الحميم خارج الجحيم فهم يوردون الحميم لشربه ثم يردون إلى الجحيم؛ لقوله تعالى: "هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون. يطوفون بينها وبين حميم آن" [الرحمن:44]. وقرأ ابن مسعود: "ثم إن منقلبهم لإلى الجحيم" قال أبو عبيدة: يجوز أن تكون "ثم" بمعنى الواو. القشيري: ولعل الحميم في موضع من جهنم على طرف منها.
الآية: 69 - 74 {إنهم ألفوا آباءهم ضالين، فهم على آثارهم يهرعون، ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين، ولقد أرسلنا فيهم منذرين، فانظر كيف كان عاقبة المنذرين، إلا عباد الله المخلصين}
قوله تعالى: "إنهم ألفوا آباءهم ضالين" أي صادفوهم كذلك فاقتدوا بهم. "فهم على آثارهم يهرعون" أي يسرعون؛ عن قتادة. وقال مجاهد: كهيئة الهرولة. قال الفراء: الإهراع الإسراع برعدة. وقال أبو عبيدة: "يهرعون" يستحثون من خلفهم. ونحوه قول المبرد. قال: المهرع المستحث؛ يقال: جاء فلان يهرع إلى النار إذا استحثه البرد إليها. وقيل: يزعجون من شدة الإسراع؛ قال الفضل. الزجاج: يقال هرع وأهرع إذا استحث وأزعج.
قوله تعالى: "ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين" أي من الأمم الماضية. "ولقد أرسلنا فيهم منذرين" أي رسلا أنذروهم العذاب فكفروا. "فانظر كيف كان عاقبة المنذرين" أي آخر أمرهم. "إلا عباد الله المخلصين" أي الذين استخلصهم الله من الكفر. وقد تقدم. ثم قيل: هو استثناء من "المنذَرين". وقيل هو من قوله تعالى: "ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين".
الآية: 75 - 82 {ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون، ونجيناه وأهله من الكرب العظيم، وجعلنا ذريته هم الباقين، وتركنا عليه في الآخرين، سلام على نوح في العالمين، إنا كذلك نجزي المحسنين، إنه من عبادنا المؤمنين، ثم أغرقنا الآخرين}
قوله تعالى: "ولقد نادانا نوح" من النداء الذي هو الاستغاثة؛ ودعا قيل بمسألة هلاك قومه فقال: "رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا" [نوح: 26]. "فلنعم المجيبون" قال الكسائي: أي "فلنعم المجيبون" له كنا. "ونجيناه وأهله" يعني أهل دينه، وهم من آمن معه وكانوا ثمانين على ما تقدم. "من الكرب العظيم" وهو الغرق. "وجعلنا ذريته هم الباقين" قال ابن عباس: لما خرج نوح من السفينة مات من معه من الرجال والنساء إلا ولده ونساءه؛ فذلك قوله: "وجعلنا ذريته هم الباقين". وقال سعيد بن المسيب: كان ولد نوح ثلاثة والناس كلهم من ولد نوح: فسام أبو العرب وفارس والروم واليهود والنصارى. وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب: السند والهند والنوب والزنج والحبشة والقبط والبربر وغيرهم. ويافث أبو الصقالبة والترك واللان والخزر ويأجوج ومأجوج وما هنالك. وقال قوم: كان لغير ولد نوح أيضا نسل؛ بدليل قوله: "ذرية من حملنا مع نوح" [الإسراء: 3]. وقوله: "قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم" [هود: 48] فعلى هذا معنى الآية: "وجعلنا ذريته هم الباقين" دون ذرية من كفر أنا أغرقنا أولئك.
قوله تعالى: "وتركنا عليه في الآخرين" أي تركنا عليه ثناء حسنا في كل أمة، فإنه محبب إلى الجميع؛ حتى إن في المجوس من يقول إنه أفريدون. روى معناه عن مجاهد وغيره. وزعم الكسائي أن فيه تقديرين: أحدهما "وتركنا عليه في الآخرين" يقال: "سلام على نوح" أي تركنا عليه هذا الثناء الحسن. وهذا مذهب أبي العباس المبرد. أي تركنا عليه هذه الكلمة باقية؛ يعني يسلمون له تسليما ويدعون له؛ وهو من الكلام المحكي؛ كقوله تعالى: "سورة أنزلناها". [النور:1]. والقول الآخر أن يكون المعنى وأبقينا عليه. وتم الكلام ثم ابتدأ فقال: "سلام على نوح" أي سلامة له من أن يذكر بسوء "في الآخرين". قال الكسائي: وفي قراءة ابن مسعود "سلاما" منصوب بـ "تركنا" أي تركنا عليه ثناء حسنا سلاما. وقيل: "في الآخرين" أي في أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: في الأنبياء إذ لم يبعث بعده نبي إلا أمر بالاقتداء به؛ قال الله تعالى: "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا" [الشورى: 13]. وقال سعيد بن المسيب: وبلغني أنه من قال حين يسمي "سلام على نوح في العامين" لم تلدغه عقرب. ذكره أبو عمر في التمهيد. وفي الموطأ عن خولة بنت حكيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من نزل منزلا فليقل أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق فإنه لن يضره شيء حتى يرتحل). وفيه عن أبي هريرة أن رجلا من أسلم قال: ما نمت هذه الليلة؛ فقال وسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أي شيء) فقال: لدغتني عقرب؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما إنك لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك).
قوله تعالى: "إنا كذلك نجزي المحسنين" أي نبقي عليهم الثناء الحسن. والكاف في موضع نصب؛ أي جزاء كذلك. "إنه من عبادنا المؤمنين" هذا بيان إحسانه. قوله تعالى: "ثم أغرقنا الآخرين" أي من كفر. وجمعه أُخر. والأصل فيه أن يكون معه "من" إلا أنها حذفت؛ لأن المعنى معروف، ولا يكون آخرا إلا وقبله شيء من جنسه. "ثم" ليس للتراخي ها هنا بل هو لتعديد النعم؛ كقول: "أو مسكينا ذا متربة. ثم كان من الذين آمنوا" [البلد: 16] أي ثم أخبركم أني قد أغرقت الآخرين، وهم الذين تأخروا عن الإيمان.