تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 461 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 461

461- تفسير الصفحة رقم461 من المصحف
الآية: 22 {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين}
قوله تعالى: "أفمن شرح الله صدره للإسلام" شرح فتح ووسع. قال ابن عباس: وسع صدره للإسلام حتى ثبت فيه. وقال السدي: وسع صدره بالإسلام للفرح به والطمأنينة إليه؛ فعلى هذا لا يجوز أن يكون هذا الشرح إلا بعد الإسلام؛ وعلى الوجه الأول يجوز أن يكون الشرح قبل الإسلام. "فهو على نور من ربه" أي على هدى من ربه. "فويل للقاسية قلوبهم" قال المبرد: يقال قسا القلب إذا صلب، وكذلك عتا وعسا مقاربة لها. وقلب قاس أي صلب لا يرق ولا يلين. والمراد بمن شرح الله صدره ها هنا فيما ذكر المفسرون علي وحمزة رضي الله عنهما. وحكى النقاش أنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقال مقاتل: عمار بن ياسر. وعنه أيضا والكلبي رسول الله صلى الله عليه وسلم. والآية عامة فيمن شرح الله صدوره بخلق الإيمان فيه. وروى مرة عن ابن مسعود قال: قلنا يا رسول الله قوله تعالى: "أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه" كيف انشرح صدره؟ قال: (إذا دخل النور القلب انشرح وانفتح) قلنا: يا رسول الله وما علامة ذلك؟. قال: (الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله) وخرجه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول من حديث ابن عمر: أن رجلا قال يا رسول الله أي المؤمنين أكيس؟ قال: (أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم له استعدادا وإذا دخل النور في القلب انفسح واستوسع) قالوا: فما آية ذلك يا نبي الله؟ قال: (الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت) فذكر صلى الله عليه وسلم خصالا ثلاثة، ولا شك أن من كانت فيه هذه الخصال فهو الكامل الإيمان، فإن الإنابة إنما هي أعمال البر؛ لأن دار الخلود إنما وضعت جزاء لأعمال البر، ألا ترى كيف ذكره الله في مواضع في تنزيله ثم قال بعقب ذلك: "جزاء بما كانوا يعملون" [الواقعة: 24] فالجنة جزاء الأعمال؛ فإذا انكمش العبد في أعمال البر فهو إنابته إلى دار الخلود، وإذا خمد حرصه عن الدنيا، ولها عن طلبها، وأقبل على ما يغنيه منها فاكتفى به وقنع، فقد تجافى عن دار الغرور. وإذا أحكم أموره بالتقوى فكان ناظرا في كل أمر، واقفا متأدبا متثبتا حذرا يتورع عما يريبه إلى ما لا يريبه، فقد استعد للموت. فهذه علامتهم في الظاهر. وإنما صار هكذا لرؤية الموت، ورؤية صرف الآخرة عن الدنيا، ورؤية الدنيا أنها دار الغرور، وإنما صارت له هذه الرؤية بالنور الذي ولج القلب. وقوله: "فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله" قيل: المراد أبو لهب وولده؛ ومعنى: "من ذكر الله" أن قلوبهم تزداد قسوة من سماع ذكره. وقيل: إن "من" بمعنى عن، والمعنى قست عن قبول ذكر الله. وهذا اختيار الطبري. وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى اطلبوا الحوائج من السمحاء فإني جعلت فيهم رحمتي ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم فإني جعلت فيهم سخطي). وقال مالك بن دينار: ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب، وما غضب الله على قوم إلا نزع الرحمة من قلوبهم.
الآية: 23 {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد}
قوله تعالى: "الله نزل أحسن الحديث" يعني القرآن لما قال: "فيتبعون أحسنه" [الزمر: 18] بين أن أحسن ما يسمع ما أنزله الله وهو القرآن. قال سعد بن أبي وقاص قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو حدثتنا فأنزل الله عز وجل: "الله نزل أحسن الحديث" فقالوا: لو قصصت علينا فنزل: "نحن نقص عليك أحسن القصص" [يوسف: 3] فقالوا: لو ذكرتنا فنزل: "ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله" [الحديد: 16] الآية. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا ملة فقالوا له: حدثنا فنزلت. والحديث ما يحدث به المحدث. وسمي القرآن حديثا؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدث به أصحابه وقومه، وهو كقوله: "فبأي حديث بعده يؤمنون" [المرسلات: 50] وقوله: "أفمن هذا الحديث تعجبون" [النجم: 59] وقوله: "إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا" [الكهف: 6] وقوله: "ومن أصدق من الله حديثا" [النساء: 87] وقوله: "فذرني ومن يكذب بهذا الحديث" [القلم: 44] قال القشيري: وتوهم قوم أن الحديث من الحدوث فيدل على أن كلامه محدث وهو وهم؛ لأنه لا يريد لفظ الحديث على ما في قوله: "ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث" وقد قالوا: إن الحدوث يرجع إلى التلاوة لا إلى المتلو، وهو كالذكر مع المذكور إذا ذكرنا أسماء الرب تعالى. "كتابا" نصب على البدل من "أحسن الحديث" ويحتمل أن يكون حالا منه. "متشابها" يشبه بعضه بعضا في الحسن والحكمة ويصدق بعضه بعضا، ليس فيه تناقض ولا اختلاف. وقال قتادة: يشبه بعضه بعضا في الآي والحروف. وقيل: يشبه كتب الله المنزلة على أنبيائه؛ لما يتضمنه من أمر ونهي وترغيب وترهيب وإن كان أعم وأعجز. "مثاني" تثنى فيه القصص والمواعظ والأحكام وثنى للتلاوة فلا يمل. "تقشعر" تضطرب وتتحرك بالخوف مما فيه من الوعيد. "ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله" أي عند آية الرحمة. وقيل: إلى العمل بكتاب الله والتصديق به. وقيل: "إلى ذكر الله" يعني الإسلام.
وعن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إذا قرئ عليهم القرآن كما نعتهم الله تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم. قيل لها: فإن أناسا اليوم إذا قرئ عليهم القرآن خر أحدهم مغشيا عليه. فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وقال سعيد بن عبدالرحمن الجمحي: مر ابن عمر برجل من أهل القرآن ساقط فقال: ما بال هذا؟ قالوا: إنه إذا قرئ عليه القرآن وسمع ذكر الله سقط. فقال ابن عمر: إنا لنخشى الله وما نسقط. ثم قال: إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم؛ ما كان هذا صنيع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقال عمر بن عبدالعزيز: ذكر عند ابن سيرين الذين يصرعون إذا قرئ عليهم القرآن، فقال: بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطا رجليه، ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره فإن رمى بنفسه فهو صادق. وقال أبو عمران الجوني: وعظ موسى عليه السلام بني إسرائيل ذات يوم فشق رجل قميصه، فأوحى الله إلى موسى: قل لصاحب القميص لا يشق قميصه فإني لا أحب المبذرين؛ يشرح لي عن قلبه.
وقال زيد بن أسلم: ذرأ أبي بن كعب عند النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه فرقوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اغتنموا الدعاء عند الرقة فإنها رحمة). وعن العباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا اقشعر جلد المؤمن من مخافة الله تحاتت عنه خطاياه كما يتحات عن الشجرة البالية ورقها). وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما اقشعر جلد عبد من خشية الله إلا حرمه الله على النار). وعن شهر بن حوشب عن أم الدرداء قالت: إنما الوجل في قلب الرجل كاحتراق السعفة، أما تجد إلا قشعريرة؟ قلت: بلى؛ قالت: فادع الله فإن الدعاء عند ذلك مستجاب. وعن ثابت البناني قال: قال فلان: إني لأعلم متى يستجاب لي. قالوا: ومن أين تعلم ذلك؟ قال: إذا اقشعر جلدي، ووجل قلبي، وفاضت عيناي، فذلك حين يستجاب لي. يقال: اقشعر جلد الرجل أقشعرارا فهو مقشعر والجمع قشاعر فتحذف الميم، لأنها زائدة؛ يقال أخذته قشعريرة. قال امرؤ القيس:
فبت أكابد ليل التمام والقلب من خشية مقشعر
وقيل: إن القرآن لما كان في غاية الجزالة والبلاغة، فكانوا إذا رأوا عجزهم عن معارضته، اقشعرت الجلود منه إعظاما له، وتعجبا من حسن ترصيعه وتهيبا لما فيه؛ وهو كقوله تعالى: "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله" [الحشر: 21] فالتصدع قريب من الاقشعرار، والخشوع قريب من قوله:"ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله" ومعنى لين القلب رقته وطمأنينته وسكونه. "ذلك هدى الله " أي القرآن هدى الله. وقيل: أي الذي وهبه الله لهؤلاء من خشية عقابه ورجاء ثوابه هدى الله. "ومن يضلل الله فما له من هاد" أي من خذله فلا مرشد له. وهو يرد على القدرية وغيرهم. وقد مضى معنى هذا كله مستوفى في غير موضع والحمد لله. ووقف ابن كثير وابن محيصن على قوله: "هاد" في الموضعين بالياء، الباقون بغير ياء.
الآية: 24 - 26 {أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون، كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون، فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون}
قوله تعالى: "أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب" قال عطاء وابن زيد: يرمى به مكتوفا في النار فأول شيء تمس منه النار وجهه. وقال مجاهد: يجر على وجهه في النار. وقال مقاتل: هو أن الكافر يرمى به في النار مغلولة يداه إلى عنقه، وفي عنقه صخرة عظيمة كالجبل العظيم من الكبريت، فتشتعل النار في الحجر وهو معلق في عنقه، فحرها ووهجها على وجهه؛ لا يطيق دفعها عن وجهه من أجل الأغلال. والخبر محذوف. قال الأخفش: أي "أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب" أفضل أم من سعد، مثل: "أفمن يلقى في النار خير أمن يأتي آمنا يوم القيامة" [فصلت: 40]. "وقيل للظالمين" أي وتقول الخزنة للكافرين "ذوقوا ما كنتم تكسبون" أي جزاء كسبكم من المعاصي. ومثله "هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون" [التوبة:35].
قوله تعالى: "كذب الذين من قبلهم" أي كذب قبلهم أقوام كانوا أشد من هؤلاء بطشا وأكثر أموالا وأولادا وأوسع عيشا، فأهلكتهم كثمود وعاد. "فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون. فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا" تقدم معناه. وقال المبرد: يقال لكل ما نال الجارحة من شيء قد ذاقته،أي وصل إليها كما تصل الحلاوة والمرارة إلى الذائق لهما. قال: والخزي من المكروه والخزاية من الاستحياء "ولعذاب الآخرة أكبر" أي مما أصابهم في الدنيا "لو كانوا يعلمون".
الآية: 27 - 28 {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون، قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون}
قوله تعالى: "ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل" أي من كل مثل يحتاجون إليه؛ مثل قوله تعالى: "ما فرطنا في الكتاب من شيء" [الأنعام: 38] وقيل: أي ما ذكرناه من إهلاك الأمم السالفة مثل لهؤلاء. "لعلهم يتذكرون" يتعظون. "قرآنا عربيا" نصب على الحال. مال الأخفش: لأن قوله جل وعز: "في هذا القرآن" معرفة. وقال علي بن سليمان: "عربيا" نصب على الحال و"قرآنا" توطئة للحال كما تقول مررت بزيد رجلا صالحا فقولك صالحا هو المنصوب على الحال. وقال الزجاج: "عربيا" منصوب على الحال و"قرآنا" توكيد. "غير ذي عوج" النحاس: أحسن ما قيل فيه قول الضحاك، قال: غير مختلف. وهو قول ابن عباس، ذكره الثعلبي. وعن ابن عباس أيضا غير مخلوق، ذكره المهدوي وقاله السدي فيما ذكره الثعلبي. وقال عثمان بن عفان: غير متضاد. وقال مجاهد: غير ذي لبس. وقال بكر بن عبدالله المزني: غير ذي لحن. وقيل: غير ذي شك. قال السدي فيما ذكره الماوردي. قال:
وقـد أتاك يقين غير ذي عوج من الإله وقول غير مكذوب
"لعلهم يتقون" الكفر والكذب.
الآية: 29 {ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون}
قوله تعالى: "ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون" قال الكسائي: نصب "رجلا" لأنه ترجمة للمثل وتفسير له، وإن شئت نصبته بنزع الخافض، مجازه: ضرب الله مثلا برجل "فيه شركاء متشاكسون" قال الفراء: أي مختلفون. وقال المبرد: أي متعاسرون من شكس يشكس شكسا بوزن قفل فهو شكس مثل عسر يعسر عسرا فهو عسر، يقال: رجل شكس وشرس وضرس وضبس. ويقال: رجل ضبس وضبيس أي شرس عسر شكس؛ قاله الجوهري. الزمخشري: والتشاكس والتشاخس الاختلاف. يقال: تشاكست أحواله وتشاخست أسنانه. ويقال: شاكسني فلان أي ماكسني وشاحني في حقي. قال الجوهري: رجل شكس بالتسكين أي صعب الخلق. قال الراجز:
شكس عبوس عنبس عذور
وقوم شكس مثال رجل صدق وقوم صدق. وقد شكس بالكسر شكاسة. وحكى الفراء: رجل شكس. وهو القياس، وهذا مثل من عبد آلهة كثيرة. "ورجلا سلما لرجل" أي خالصا لسيد واحد، وهو مثل من يعبد الله وحده. "هل يستويان مثلا" هذا الذي يخدم جماعة شركاء أخلاقهم مختلفة، ونياتهم متباينة، لا يلقاه رجل إلا جره واستخدمه؛ فهو يلقى منهم العناء والنصب والتعب العظيم، وهو مع ذلك كله لا يرضي واحدا منهم بخدمته لكثرة الحقوق في رقبته، والذي يخدم واحدا لا ينازعه فيه أحد، إذا أطاعه وحده عرف ذلك له، وإن أخطأ صفح عن خطأه، فأيهما أقل تعبا أو على هدى مستقيم. وقرأ أهل الكوفة وأهل المدينة: "ورجلا سالما" وقرأ ابن عباس ومجاهد والحسن وعاصم الجحدري وأبو عمرو وابن كثير ويعقوب: "ورجلا سالما" واختاره أبو عبيد لصحة التفسير فيه. قال: لأن السالم الخالص ضد المشترك، والسلم ضد الحرب ولا موضع للحرب هنا. النحاس: وهذا الاحتجاج لا يلزم؛ لأن الحرف إذا كان له معنيان لم يحمل إلا على أولاهما، فهذا وإن كان السلم ضد الحرب فله موضع آخر؛ كما يقال لك في هذا المنزل شركاء فصار سلما لك. ويلزمه أيضا في سالم ما ألزم غيره؛ لأنه يقال شيء سالم أي لا عاهة به. والقراءتان حسنتان قرأ بهما الأئمة. واختار أبو حاتم قراءة أهل المدينة "سلما" قال وهذا الذي لا تنازع فيه. وقرأ سعيد بن جبير وعكرمة وأبو العالية ونصر "سلما" بكسر السين وسكون اللام. وسلما وسلما مصدران؛ والتقدير: ورجلا ذا سلم فحذف المضاف و"مثلا" صفة على التمييز، والمعنى هل تستوي صفاتهما وحالاهما. وإنما اقتصر في التمييز على الواحد لبيان الجنس. "الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون" أي لا يعلمون الحق فيتبعونه.
الآية: 30 - 31 {إنك ميت وإنهم ميتون، ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون}
قوله تعالى: "إنك ميت وإنهم ميتون" قرأ ابن محيصن وابن أبي عبلة وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق "إنك مائت وإنهم مائتون" وهي قراءة حسنة وبها قرأ عبدالله بن الزبير. النحاس: ومثل هذه الألف تحذف في الشواذ و"مائت" في المستقبل كثير في كلام العرب؛ ومثله ما كان مريضا وإنه لمارض من هذا الطعام. وقال الحسن والفراء والكسائي: الميت بالتشديد من لم يمت وسيموت، والميت بالتخفيف من فارقته الروح؛ فلذلك لم تخفف هنا. قال قتادة: نعيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، ونعيت إليكم أنفسكم. وقال ثابت البناني: نعى رجل إلى صلة بن أشيم أخا له فوافقه يأكل، فقال: ادن فكل فقد نعي إلي أخي منذ حين؛ قال: وكيف وأنا أول من أتاك بالخبر. قال إن الله تعالى نعاه إلي فقال: "إنك ميت وإنهم ميتون". وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أخبره بموته وموتهم؛ فاحتمل خمسة أوجه: أحدها: أن يكون ذلك تحذيرا من الآخرة. الثاني: أن يذكره حثا على العمل. الثالث: أن يذكره توطئة للموت. الرابع: لئلا يختلفوا في موته كما اختلفت الأمم في غيره، حتى أن عمر رضي الله عنه لما أنكر موته احتج أبو بكر رضي الله عنه بهذه الآية فأمسك. الخامس: ليعلمه أن الله تعالى قد سوى فيه بين خلقه مع تفاضلهم في غيره؛ لتكثر فيه السلوة وتقل فيه الحسرة.
قوله تعالى: "ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون" يعني تخاصم الكافر والمؤمن والظالم والمظلوم؛ قال ابن عباس وغيره. وفي خبر فيه طول: إن الخصومة تبلغ يوم القيامة إلى أن يحاج الروح الجسد. وقال الزبير: لما نزلت هذه الآية قلنا: يا رسول الله أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ قال: (نعم ليكررن عليكم حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه) فقال الزبير: والله إن الأمر لشديد. وقال ابن عمر: لقد عشنا برهة من دهرنا ونحن نرى هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين: "ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون" فقلنا: وكيف نختصم ونبينا واحد وديننا واحد، حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف؛ فعرفت أنها فينا نزلت. وقال أبو سعيد الخدري: (كنا نقول ربنا واحد وديننا واحد ونبينا واحد فما هذه الخصومة فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا نعم هو هذا). وقال إبراهيم النخعي: لما نزلت هذه الآية جعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: ما خصومتنا بيننا؟ فلما قتل عثمان رضي الله عنه قالوا: هذه خصومتنا بيننا. وقيل تخاصمهم هو تحاكمهم إلى الله تعالى، فيستوفي من حسنات الظالم بقدر مظلمته، ويردها في حسنات من وجبت له. وهذا عام في جميع المظالم كما في حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتدرون من المفلس) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. قال: (إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار) خرجه مسلم. وقد مضى المعنى مجودا في "آل عمران" وفي البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه) وفي الحديث المسند (أول ما تقع الخصومات في الدنيا) وقد ذكرنا هذا الباب كله في التذكرة مستوفى.