تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 460 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 460

460- تفسير الصفحة رقم460 من المصحف
الآية: 11 - 16 {قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين، وأمرت لأن أكون أول المسلمين، قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم، قل الله أعبد مخلصا له ديني، فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين، لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون}
قوله تعالى: "قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين" تقدم. "وأمرت لأن أكون أول المسلمين" من هذه الأمة، وكذلك كان؛ فإنه كان أول من خالف دين آبائه؛ وخلع الأصنام وحطمها، وأسلم لله وآمن به، ودعا إليه صلى الله عليه وسلم. واللام في قوله: "لأن أكون" صلة زائدة قال الجرجاني وغيره. وقيل: لام أجل. وفي الكلام حذف أي أمرت بالعبادة "لأن أكون أول المسلمين".
قوله تعالى: "قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم" يريد عذاب يوم القيامة وقال حين دعاه قومه إلى دين آبائه؛ قال أكثر أهل التفسير. وقال أبو حمزة الثمالي وابن المسيب: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: "ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر" [الفتح: 2] فكانت هذه الآية من قبل أن يغفر ذنب النبي صلى الله عليه وسلم. "قل الله أعبد" "الله" نصب بـ "أعبد"، "مخلصا له ديني" طاعتي وعبادتي. "فاعبدوا ما شئتم من دونه" أمر تهديد ووعيد وتوبيخ؛ كقوله تعالى: "اعملوا ما شئتم" [فصلت: 40]. وقيل: منسوخة بآية السيف.
قوله تعالى: "قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين" قال ميمون بن مهران عن ابن عباس: ليس من أحد إلا وقد خلق الله له زوجة في الجنة، فإذا دخل النار خسر نفسه وأهله. في رواية عن ابن عباس: فمن عمل بطاعة الله كان له ذلك المنزل والأهل إلا ما كان له قبل ذلك، وهو قوله تعالى: "أولئك هم الوارثون" [المؤمنون: 10]. "لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل" سمى ما تحتهم ظللا؛ لأنها تظل من تحتهم، وهذه الآية نظير قوله تعالى: "لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش" [الأعراف: 41] وقوله: "يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم". [العنكبوت: 55]. "ذلك يخوف الله به عباده" قال ابن عباس: أولياءه. "ياعباد فاتقوني" أي يا أوليائي فخافون. وقيل: هو عام في المؤمن والكافر. وقيل: خاص بالكفار.
الآية: 17 - 18 {والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب}
قوله تعالى: "والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها" قال الأخفش: الطاغوت جمع ويجوز أن تكون واحدة مؤنثة. وقد تقدم. أي تباعدوا من الطاغوت وكانوا منها على جانب فلم يعبدوها. قال مجاهد وابن زيد: هو الشيطان. وقال الضحاك والسدي: هو الأوثان. وقيل: إنه الكاهن. وقيل إنه اسم أعجمي مثل طالوت وجالوت وهاروت وماروت. وقيل: إنه اسم عربي مشتق من الطغيان، و"أن" في موضع نصب بدلا من الطاغوت، تقديره: والذين أجتنبوا عبادة الطاغوت. "وأنابوا إلى الله" أي رجعوا إلى عبادته وطاعته. "لهم البشرى فبشر عباد" "لهم البشرى" في الحياة الدنيا بالجنة في العقبى. روي أنها نزلت في عثمان وعبدالرحمن بن عوف وسعد وسعيد وطلحة والزبير رضي الله عنهم؛ سألوا أبا بكر رضي الله عنه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا. وقيل: نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر وغيرهما ممن وحد الله تعالى قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: "الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه" قال ابن عباس: هو الرجل يسمع الحسن والقبيح فيتحدث بالحسن وينكف عن القبيح فلا يتحدث به. وقيل: يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن. وقيل: يستمعون القرآن وأقوال الرسول فيتبعون أحسنه أي محكمه فيعملون به. وقيل: يستمعون عزما وترخيصا فيأخذون بالعزم دون الترخيص. وقيل: يستمعون العقوبة الواجبة لهم والعفو فيأخذون بالعفو. وقيل: إن أحسن القول على من جعل الآية فيمن وحد الله قبل الإسلام "لا إله إلا الله". وقال عبدالرحمن بن زيد: نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي، اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها في جاهليتهم، واتبعوا أحسن ما صار من القول إليهم. "أولئك الذين هداهم الله" لما يرضاه. "وأولئك هم أولو الألباب" أي أصحاب العقول من المؤمنين الذين انتفعوا بعقولهم.
الآية: 19 {أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار}
قوله تعالى: "أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار" كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على إيمان قوم وقد سبقت لهم من الله الشقاوة فنزلت هذه الآية. قال ابن عباس: يريد أبا لهب وولده ومن تخلف من عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان. وكرر الاستفهام في قوله: "أفأنت" تأكيدا لطول الكلام، وكذا قال سيبويه في قوله تعالى: "أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون" [المؤمنون: 35] على ما تقدم. والمعنى: "أفمن حق عليه كلمة العذاب" أفأنت تنقذه. والكلام شرط وجوابه. وجيء بالاستفهام؛ ليدل على التوقيف والتقرير. وقال الفراء: المعنى أفأنت تنقذ من حقت عليه كلمة العذاب. والمعنى واحد. وقيل: إن في الكلام حذفا والتقدير: أفمن حق عليه كلمة العذاب ينجو منه، وما بعده مستأنف. وقال: "أفمن حق عليه" وقال في موضع آخر: "حقت كلمة العذاب" [الزمر: 71] لأن الفعل إذا تقدم ووقع بينه وبين الموصوف به حائل جاز التذكير والتأنيث، على أن التأنيث هنا ليس بحقيقي بل الكلمة في معنى الكلام والقول؛ أي أفمن حق عليه قول العذاب.
الآية: 20 {لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد}
قوله تعالى: "لكن الذين اتقوا ربهم" لما بين أن للكفار ظلا من النار من فوقهم ومن تحتهم بين أن للمتقين غرفا فوقها غرف؛ لأن الجنة درجات يعلو بعضها بعضا و"لكن" ليس للاستدرار؛ لأنه لم يأت نفي كقوله: ما رأيت زيدا لكن عمرا؛ بل هو لترك قصة إلى قصة مخالفة للأولى كقولك: جاءني زيد لكن عمرو لم يأت. "مبنية" قال ابن عباس: من زبرجد وياقوت "تجري من تحتها الأنهار" أي هي جامعة لأسباب النزهة. "وعد الله" نصب على المصدر؛ لأن معنى "لهم غرف" وعدهم الله ذلك وعدا. ويجوز الرفع بمعنى ذلك وعد الله. "لا يخلف الله الميعاد" أي ما وعد الفريقين.
الآية: 21 {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب}
قوله تعالى: "ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء" أي إنه لا يخلف الميعاد في إحياء الخلق، والتمييز بين المؤمن والكافر، وهو قادر على ذلك كما أنه قادر على إنزال الماء من السماء. "أنزل من السماء" أي من السحاب "ماء" أي المطر "فسلكه ينابيع في الأرض" أي فأدخله في الأرض وأسكنه فيها؛ كما قال: "فأسكناه في الأرض" [المؤمنون: 18]. "ينابيع" جمع ينبوع وهو يفعول من نبع ينبع وينبع وينبع بالرفع والنصب والخفض. النحاس: وحكى لنا ابن كيسان في قول الشاعر:
ينباع من ذفرى غضوب جسرة
أن معناه ينبع فأشبع الفتحة فصارت ألفا، نبوعا خرج. والينبوع عين الماء والجمع الينابيع. وقد مضى في "سبحان]. "ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه" ثم يخرج به أي بذلك الماء الخارج من ينابيع الأرض "زرعا" هو للجنس أي زروعا شتى لها ألوان مختلفة، حمرة وصفرة وزرقة وخضرة ونورا. قال الشعبي والضحاك: كل ماء في الأرض فمن السماء نزل، إنما ينزل من السماء إلى الصخرة، ثم تقسم منها العيون والركايا. "ثم يهيج" أي ييبس. "فتراه" أي بعد خضرته "مصفرا" قال المبرد قال الأصمعي: يقال هاجت الأرض تهيج إذا أدبر نبتها وولى. قال: كذلك هاج النبت. قال: وكذلك قال غير الأصمعي. وقال الجوهري: هاج النبت هياجا أي يبس. وأرض هائجة يبس بقلها أو اصفر، وأهاجت الريح النبت أيبسته، وأهيجنا الأرض أي وجدناها هائجة النبات، وهاج هائجه أي ثار غضبه، وهدأ هائجه أي سكنت فورته. "ثم يجعله حطاما" أي فتاتا مكسرا من تحطم العود إذا تفتت من اليبس. والمعنى أن من قدر على هذا قدر على الإعادة. وقيل: هو مثل ضربه الله للقرآن ولصدور من في الأرض، أي أنزل من السماء قرآنا فسلكه في قلوب المؤمنين "ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه" أي دينا مختلفا بعضه أفضل من بعض، فأما المؤمن فيزداد إيمانا ويقينا، وأما الذي في قلبه مرض فإنه يهيج كما يهيج الزرع. وقيل: هو مثل ضربه الله للدنيا؛ أي كما يتغير النبت الأخضر فيصفر كذلك الدنيا بعد بهجتها. "إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب".