تفسير الطبري تفسير الصفحة 461 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 461
462
460
 الآية : 22
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{أَفَمَن شَرَحَ اللّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىَ نُورٍ مّن رّبّهِ فَوَيْلٌ لّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ اللّهِ أُوْلَـَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ }.
يقول تعالـى ذكره: أفمن فَسَح الله قلبه لـمعرفته, والإقرار بوحدانـيته, والإذعان لربوبـيته, والـخضوع لطاعته فَهُوَ عَلـى نُورٍ مِنْ رَبّهِ يقول: فهو علـى بصيرة مـما هو علـيه ويقـين, بتنوير الـحقّ فـي قلبه, فهو لذلك لأمر الله متبع, وعما نهاه عنه منته فـيـما يرضيه, كمن أقسى الله قلبه, وأخلاه من ذكره, وضيّقه عن استـماع الـحق, واتّبـاع الهدى, والعمل بـالصواب؟ وترك ذكر الذي أقسى الله قلبه, وجوابَ الاستفهام اجتزاء بـمعرفة السامعين الـمراد من الكلام, إذ ذكر أحد الصنفـين, وجعل مكان ذكر الصنف الاَخر الـخبر عنه بقوله: فَوَيْـلٌ للْقاسِيَةِ قُلُوبُهمْ مِنْ ذِكْرِ اللّهِ. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
23173ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: أَفَمَنْ شَرَحَ اللّهُ صَدْرَهُ للإسْلامِ فَهُوَ عَلـى نُورٍ مِنْ رَبّهِ يعنـي: كتاب الله, هو الـمؤمن به يأخذ, وإلـيه ينتهي.
23174ـ حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قوله: أَفَمَنْ شَرَحَ اللّهُ صَدْرَهُ للإسْلامِ قال: وسع صدره للإسلام, والنور: الهُدَى.
23175ـ حُدثت عن ابن أبـي زائدة عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد أَفَمَنْ شَرَحَ اللّهُ صَدْرَهُ للإسْلامِ قال: لـيس الـمنشرح صدره مثل القاسي قلبه.
قوله: فَوَيْـلٌ للقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللّهِ يقول تعالـى ذكره: فويـل للذين جَفَت قلوبهم ونأت عن ذكر الله وأعرضت, يعنـي عن القرآن الذي أنزله تعالـى ذكره, مذكّرا به عبـاده, فلـم يؤمن به, ولـم يصدّق بـما فـيه. وقـيـل: مِنْ ذِكْرِ اللّهِ والـمعنى: عن ذكر الله, فوضعت «من» مكان «عن», كما يقال فـي الكلام: أتـخمت من طعام أكلته, وعن طعام أكلته بـمعنى واحد.
وقوله: أُولَئِكَ فِـي ضَلالٍ مُبِـينٍ يقول تعالـى ذكره: هؤلاء القاسية قلوبهم من ذكر الله فـي ضلال مُبـين, لـمن تأمّله وتدبّره بفهم أنه فـي ضلال عن الـحقّ جائر.
الآية : 23
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {اللّهُ نَزّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مّتَشَابِهاً مّثَانِيَ تَقْشَعِرّ مِنْهُ جُلُودُ الّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهُمْ ثُمّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىَ ذِكْرِ اللّهِ ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }.
يقول تعالـى ذكره: اللّهُ نَزّلَ أحْسَنَ الـحَدِيثِ كِتابـا يعنـي به القرآن مُتَشابِها يقول: يشبه بعضه بعضا, لا اختلاف فـيه, ولا تضادّ, كما:
23176ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: اللّهُ نَزّلَ أحْسَنَ الـحَدِيثِ كِتابـا مُتَشابِها... الاَية تشبه الاَية, والـحرف يشبه الـحرف.
23177ـ حدثنا مـحمّد قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ كِتابـا مُتَشابِها قال: الـمتشابه: يشبه بعضه بعضا.
23178ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن يعقوب, عن جعفر, عن سعيد بن جُبَـير, فـي قوله: كِتابـا مُتَشابِها قال: يشبه بعضه بعضا, ويصدّق بعضه بعضا, ويدلّ بعضه علـى بعض.
وقوله: مَثانِـيَ يقول: تُثْنَـي فـيه الأنبـاء والأخبـار والقضاء والأحكام والـحُجَج. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
23179ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن عُلَـية, عن أبـي رجاء, عن الـحسن, فـي قوله: اللّهُ نَزّلَ أحْسَنَ الـحَدِيثِ كِتابـا مُتَشابِها مَثانِـيَ قال: ثنى الله فـيه القضاء, تكون السورة فـيها الاَية فـي سورة أخرى آية تشبهها, وسُئل عنها عكرمة.
23180ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: كِتابـا مُتَشابِها مَثانِـيَ قال: فـي القرآن كله.
23181ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة مَثانِـيَ قال: ثَنَى الله فـيه الفرائض, والقضاء, والـحدود.
23182ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: مَثانِـيَ قال: كتاب الله مثانـي, ثَنَى فـيه الأمرَ مرارا.
23183ـ حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, فـي قوله: مَثَانِـيَ قال: كتاب الله مثانـي, ثَنَى فـيه الأمر مرارا.
حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, فـي قوله: مَثَانِـيَ ثنى فـي غير مكان.
23184ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: مَثانِـيَ مردّد, ردّد موسى فـي القرآن وصالـح وهود والأنبـياء فـي أمكنة كثـيرة.
وقوله: تَقْشَعِر مِنْهُ جُلُودُ الّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهُمْ يقول تعالـى ذكره: تقشعرّ من سمَاعه إذا تُلـي علـيهم جلودُ الذين يخافون ربهم ثُمّ تَلِـينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلـى ذِكْرِ اللّهِ يعنـي إلـى العمل بـما فـي كتاب الله, والتصديق به.
وذُكر أن هذه الاَية نزلت علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أن أصحابه سألوه الـحديث. ذكر الرواية بذلك:
23185ـ حدثنا نصر بن عبد الرحمن الأَوْديّ, قال: حدثنا حَكام بن سلـم, عن أيوب بن موسى, عن عمرو الـمَلَئي عن ابن عبـاس, قالوا: يا رسول الله لو حدثتنا؟ قال: فنزلت: اللّهُ نَزّلَ أحْسَنَ الـحَدِيثِ.
23186ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن أيوب بن سيار أبـي عبد الرحمن, عن عمرو بن قـيس, قال: قالوا: يا نبـيّ الله, فذكر مثله.
ذلكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ يقول تعالـى ذكره: هذا الذي يصيب هؤلاء القوم الذين وصفت صفتهم عند سماعهم القرآن من اقشعرار جلودهم, ثم لـينها ولـين قلوبهم إلـى ذكر الله من بعد ذلك, هُدَى اللّهِ يعنـي: توفـيق الله إياهم وفّقهم له يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ يقول: يهدي تبـارك وتعالـى بـالقرآن من يشاء من عبـاده.
وقد يتوجّه معنى قوله: ذلكَ هُدَى إلـى أن يكون ذلك من ذكر القرآن, فـيكون معنى الكلام: هذا القرآن بـيان الله يهدي به من يشاء, يوفق للإيـمان به من يشاء.
وقوله: وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هادٍ يقول تعالـى ذكره: ومن يخذلْه الله عن الإيـمان بهذا القرآن والتصديق بـما فـيه, فـيضله عنه, فَما له من هاد يقول: فما له من مُوَفّق له, ومسدد يسدده فـي اتبـاعه.
الآية : 24-25
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَفَمَن يَتّقِي بِوَجْهِهِ سُوَءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظّالِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ * كَذّبَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَـذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ }.
اختلف أهل التأويـل فـي صفة اتقاء هذا الضالّ بوجهه سُوء العذاب, فقال بعضهم: هو أن يُرْمَى به فـي جهنـم مكبوبـا علـى وجهه, فذلك اتقاؤه إياه. ذكر من قال ذلك:
23187ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: أَفَمَنْ يَتّقِـي بِوَجْهِهِ سُوءَ العَذَابِ قال: يَخِرّ علـى وجهه فـي النار, يقول: هو مثل أَفَمَنْ يُـلْقَـى فِـي النّارِ خَيْرٌ أمْ مَنْ يَأتِـي آمنا يَوْمَ القِـيامَةِ؟.
وقال آخرون: هو أن ينطلق به إلـى النار مكتوفـا, ثم يرمَى به فـيها, فأوّل ما تـمسّ النار وجهه وهذا قول يُذكر عن ابن عبـاس من وجه كرهت أن أذكره لضعف سنده وهذا أيضا مـما ترك جوابه استغناء بدلالة ما ذكر من الكلام علـيه عنه. ومعنى الكلام: أفمن يتقـي بوجهه سوء العذاب يوم القـيامة خير, أم من ينعم فـي الـجنان؟.
وقوله: وَقِـيـلَ للظّالِـمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُـمْ تَكْسِبُونَ يقول: ويقال يومئذٍ للظالـمين أنفسهم بإكسابهم إياها سخط الله. ذوقوا الـيوم أيها القوم وَبـالَ ما كنتـم فـي الدنـيا تكسبون من معاصي الله.
وقوله: كَذّبَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يقول تعالـى ذكره: كذب الذين من قبل هؤلاء الـمشركين من قُريش من الأمـم الذين مضوا فـي الدهور الـخالـية رسلهم فَأتاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعَرُونَ يقول: فجاءهم عذاب الله من الـموضع الذي لا يشعرون: أي لا يعلـمون بـمـجيئه منه.
الآية : 26
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَأَذَاقَهُمُ اللّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَلَعَذَابُ الاَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: فعجل الله لهؤلاء الأمـم الذين كذّبوا رسلهم الهوان فـي الدنـيا, والعذاب قبل الاَخرة, ولـم ينظِرهم إذ عتوا عن أمر ربهم وَلَعَذابُ الاَخِرَةِ أكْبَرُ يقول: ولعذاب الله إياهم فـي الاَخرة إذا أدخـلهم النار, فعذّبهم بها, أكبر من العذاب الذي عذّبهم به فـي الدنـيا, لو كانوا يعلـمون يقول: لو علـم هؤلاء الـمشركون من قريش ذلك.
الآية : 27-28
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنّاسِ فِي هَـَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلّ مَثَلٍ لّعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ * قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لّعَلّهُمْ يَتّقُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: ولقد مثّلنا لهؤلاء الـمشركين بـالله من كلّ مثل من أمثال القرون للأمـم الـخالـية, تـخويفـا منّا لهم وتـحذيرا لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ يقول: لـيتذكروا فـينزجروا عما هم علـيه مقـيـمون من الكفر بـالله.
وقوله: قُرآنا عَرَبِـيّا يقول تعالـى ذكره: لقد ضربنا للناس فـي هذا القرآن من كلّ مثل قرآنا عربـيا غيرَ ذِي عِوَجٍ يعنـي: ذي لبس, كما:
23188ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا رقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد قُرآنا عَرَبـيّا غيرَ ذِي عِوَجٍ: غير ذي لبس.
ونصب قوله: قُرآنا عَرَبـيّا علـى الـحال من قوله: هذا القرآن, لأن القرآن معرفة, وقوله قُرآنا عَرَبِـيّا نكرة.
وقوله: لَعَلّهُمْ يَتّقُونَ يقول: جعلنا قرآنا عربـيا إذ كانوا عربـا, لـيفهموا ما فـيه من الـمواعظ, حتـى يتقوا ما حذّرهم الله فـيه من بأسه وسطوته, فـينـيبوا إلـى عبـادته وإفراد الألوهة له, ويتبّرؤوا من الأنداد والاَلهة.
الآية : 29
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: مثّل الله مثلاً للكافر بـالله الذي يعبد آلهة شَتّـى, ويطيع جماعة من الشياطين, والـمؤمن الذي لا يعبُد إلا الله الواحد, يقول تعالـى ذكره: ضرب الله مثلاً لهذا الكافر رجلاً فـيه شركاء. يقول: هو بـين جماعة مالكين متشاكسين, يعنـي مختلفـين متنازعين, سيئة أخلاقهم, من قولهم: رجل شَكس: إذا كان سيىء الـخـلق, وكل واحد منهم يستـخدمه بقدر نصيبه ومِلْكه فـيه, ورجلاً سَلَـما لرجل, يقول: ورجلاً خُـلُوصا لرجل يعنـي الـمؤمن الـموحد الذي أخـلص عبـادته لله, لا يعبد غيره ولا يدين لشيء سواه بـالربوبـية.
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: وَرَجُلاً سَلَـما فقرأ ذلك بعض قرّاء أهل مكة والبصرة: «وَرَجُلاً سالِـمَا» وتأوّلوه بـمعنى: رجلاً خالصا لرجل. وقد رُوي ذلك أيضا عن ابن عبـاس.
23189ـ حدثنا أحمد بن يوسف, قال: حدثنا القاسم, قال: حدثنا حجاج, عن هارون, عن جرير بن حازم, عن حميد, عن مـجاهد, عن ابن عبـاس أنه قرأها: «سالِـمَا لِرَجُلٍ» يعنـي بـالألف, وقال: لـيس فـيه لأحد شيء.
وقرأ ذلك عامة قرّاء الـمدينة والكوفة: وَرَجُلاً سَلَـما لِرَجُلٍ بـمعنى: صلـحا.
والصواب من القول فـي ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان, قد قرأ بكل واحدة منهما علـماء من القرّاء, متقاربتا الـمعنى, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب وذلك أن السّلَـم مصدر من قول القائل: سَلِـيـم فلان لله سَلَـما بـمعنى: خَـلَص له خُـلوصا, تقول العرب: ربح فلان فـي تـجارته رِبْحا ورَبَحا, وسَلِـم سِلْـما وسَلَـما وسلامة, وأن السالـم من صفة الرجل, وسلـم مصدر من ذلك. وأما الذي توهمه من رغب من قراءة ذلك سَلَـما من أن معناه صلـحا, فلا وجه للصلـح فـي هذا الـموضع, لأن الذي تقدم من صفة الاَخر, إنـما تقدّم بـالـخبر عن اشتراك جماعة فـيه دون الـخبر عن حربه بشيء من الأشياء, فـالواجب أن يكون الـخبر عن مخالفه بخـلوصه لواحد لا شريك له, ولا موضع للـخبر عن الـحرب والصلـح فـي هذا الـموضع. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
23190ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: «رَجُلاً فِـيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سالِـما لِرَجُلٍ» قال: هذا مثل إله البـاطل وإله الـحقّ.
23191ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِـيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ قال: هذا الـمشرك تتنازعه الشياطين, لا يقرّبه بعضهم لبعض «وَرَجُلاً سالِـما لِرَجُلٍ» قال: هو الـمؤمن أخـلص الدعوة والعبـادة.
23192ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِـيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ... إلـى قوله: بَلْ أكْثَرُهُمْ لا يَعْلَـمُونَ قال: الشركاء الـمتشاكسون: الرجل الذي يعبد آلهة شتـى كلّ قوم يعبدون إلها يرضونه ويكفرون بـما سواه من الاَلهة, فضرب الله هذا الـمثل لهم, وضرب لنفسه مثلاً, يقول: رجلا سَلِـمَ لرجل يقول: يعبدون إلها واحدا لا يختلفون فـيه.
23193ـ حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, فـي قوله: ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِـيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ قال: مثل لأوثانهم التـي كانوا يعبدون.
23194ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: «ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِـيهِ شُرَكاءُ مُتشاكِسُونَ وَرَجُلاً سالِـما لِرَجُلٍ» قال: أرأيت الرجل الذي فـيه شركاء متشاكسون كلهم سيىء الـخـلق, لـيس منهم واحد إلا تلقاه آخذا بطرف من مال لاستـخدامه أسواؤُهم, والذي لا يـملكه إلا واحد, فإنـما هذا مثل ضربه الله لهؤلاء الذين يعبدون الاَلهة, وجعلوا لها فـي أعناقهم حقوقا, فضربه الله مثلاً لهم, وللذي يعبده وحده هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الـحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أكْثَرُهُمْ لا يَعْلَـمُونَ. وفـي قوله: «وَرَجُلاً سالِـمَا لِرَجُلٍ» يقول: لـيس معه شرك.
وقوله: هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً يقول تعالـى ذكره: هل يستوي مثلُ هذا الذي يخدمُ جماعة شركاء سيئة أخلاقهم مختلفة فـيه لـخدمته مع منازعته شركاءه فـيه والذي يخدم واحدا لا ينازعه فـيه منازع إذا أطاعه عرف له موضع طاعته وأكرمه, وإذا أخطأ صفح له عن خطئه, يقول: فأيّ هذين أحسن حالاً وأروح جسما وأقلّ تعبـا ونصبـا؟ كما:
23195ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس هَلْ يَسْتِويانِ مَثَلاً الـحَمْدَ لِلّهِ بَلْ أكْثَرُهُمْ لا يَعْلَـمُونَ يقول: من اختُلف فـيه خير, أم من لـم يُخْتلَف فـيه؟.
وقوله: الـحَمْدِ لِلّهِ يقول: الشكر الكامل, والـحمدُ التامّ لله وحده دون كلّ معبود سواه. وقوله: بَلْ أكْثَرُهُمْ لا يَعْلَـمُونَ يقول جل ثناؤه: وما يستوي هذا الـمشترك فـيه, والذي هو منفرد ملكه لواحد, بل أكثر هؤلاء الـمشركين بـالله لا يعلـمون أنهما لا يستويان, فهم بجهلهم بذلك يعبدون آلهة شتـى من دون الله. وقـيـل: هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً ولـم يقل: مثلـين لأنهما كلاهما ضُربـا مثلاً واحدا, فجرى الـمثل بـالتوحيد, كما قال جلّ ثناؤه: وَجَعَلْنا ابْنَ مَرْيَـمَ وأُمّهُ آيَةً إذ كان معناهما واحدا فـي الاَية. والله أعلـم