تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 481 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 481

481- تفسير الصفحة رقم481 من المصحف
قوله تعالى: "ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة" الخطاب لكل عاقل أي "ومن آياته" الدالة على أنه يحيي الموتى "أنك ترى الأرض خاشعة" أي يابسة جدبة؛ هذا وصف الأرض بالخشوع؛ قال النابغة:
رماد ككحل العين لأيا أبينه ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع
والأرض الخاشعة؛ الغبراء التي تنبت. وبلدة خاشعة: أي مغبرة لا منزل بها. ومكان خاشع. "فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت" أي بالنبات؛ قال مجاهد. يقال: اهتز الإنسان أي تحرك؛ ومنه:
تراه كنصل السيف يهتز للندى إذا لم تجد عند امرئ السوء مطمعا
"وربت" أي انتفخت وعلت قبل أن تنبت؛ قال مجاهد. أي تصعدت عن النبات بعد موتها. وعلى هذا التقدير يكون في الكلام تقديم وتأخير وتقديره: ربت واهتزت. والاهتزاز والربو قد يكونان قبل الخروج من الأرض؛ وقد يكونان بعد خروج النبات إلى وجه الأرض؛ فربوها ارتفاعها. ويقال للموضع المرتفع: ربوة ورابية؛ فالنبات يتحرك للبروز ثم يزداد في جسمه بالكبر طولا وعرضا. وقرأ أبو جعفر وخالد "وربأت" ومعناه عظمت؛ من الربيئة. وقيل: "اهتزت" أي استبشرت بالمطر "وربت" أي انتفخت بالنبات. والأرض إذا انشقت بالنبات: وصفت بالضحك، فيجوز وصفها بالاستبشار أيضا. ويجوز أن يقال الربو والاهتزاز واحد؛ وهي حالة خروج النبات. وقد مضى هذا المعنى في "الحج" "إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير" تقدم في غير موضع.
الآية: 40 - 43 {إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير، إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم}
قوله تعالى: "إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا" أي يميلون عن الحق في أدلتنا. والإلحاد: الميل والعدول. ومنه اللحد في القبر؛ لأنه أميل إلى ناحية منه. يقال: ألحد في دين الله أي حاد عنه وعدل. ولحد لغة فيه. وهذا يرجع إلى الذين قالوا: "لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه" وهم الذين ألحدوا في آياته ومالوا عن الحق فقالوا: ليس القرآن من عند الله، أو هو شعر أو سحر؛ فالآيات آيات القرآن. قال مجاهد: "يلحدون في آياتنا" أي عند تلاوة القرآن بالمكاء والتصدية واللغو والغناء. وقال ابن عباس: هو تبديل الكلام ووضعه في غير موضعه. وقال قتادة: "يلحدون في آياتنا" يكذبون في آياتنا. وقال السدي: يعاندون ويشاقون. وقال ابن زيد: يشركون ويكذبون. والمعنى متقارب. وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل. وقيل: الآيات المعجزات، وهو يرجع إلى الأول فإن القرآن معجز. "أفمن يلقى في النار" على وجهه وهو أبو جهل في قول ابن عباس وغيره. "خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة" قيل: النبي صلى الله عليه وسلم؛ قاله مقاتل. وقيل: عمار بن ياسر. وقيل: حمزة. وقيل: عمر بن الخطاب. وقيل: أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي. وقيل: المؤمنون. وقيل: إنها على العموم؛ فالذي يلقى في النار الكافر، والذي يأتي آمنا يوم القيامة المؤمن؛ قاله ابن بحر. "اعملوا ما شئتم" أمر تهديد؛ أي بعد ما علمتم أنهما لا يستويان فلا بد لكم من الجزاء. "إنه بما تعملون بصير" وعيد بتهديد وتوعد.
قوله تعالى: "إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم" الذكر ها هنا القرآن في قول الجميع؛ لأن فيه ذكر ما يحتاج إليه من الأحكام. والخبر محذوف تقديره هالكون أومعذبون. وقيل: الخبر "أولئك ينادون من مكان بعيد" [فصلت: 44] واعترض قوله: "ما يقال لك" ثم رجع إلى الذكر فقال: "ولو جعلناه قرآنا أعجميا" ثم قال: "أولئك ينادون" [فصلت: 44] والأول الاختيار؛ قال النحاس: عند النحويين جميعا فيما علمت. "وإنه لكتاب عزيز" أي عزيز على الله؛ قاله ابن عباس؛ وعنه: عزيز من عند الله. وقيل: كريم على الله. وقيل: "عزيز" أي أعزه الله فلا يتطرق إليه باطل. وقيل: ينبغي أن يعز ويجل وألا يلغى فيه. وقيل: "عزيز" من الشيطان أن يبدله؛ قاله السدي. مقاتل: منع من الشيطان والباطل. السدي: غير مخلوق فلا مثل له. وقال ابن عباس أيضا: "عزيز" أي ممتنع عن الناس أن يقولوا مثله. "لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه" أي لا يكذبه شيء مما أنزل الله من قبل ولا ينزل من بعده يبطله وينسخه؛ قال الكلبي. وقال السدي وقتادة: "لا يأتيه الباطل" يعني الشيطان "من بين يديه ولا من خلفه" لا يستطيع أن يغير ولا يزيد ولا ينقص. وقال سعيد بن جبير: لا يأتيه التكذيب "من بين يديه ولا من خلفه". ابن جريج: "لا يأتيه الباطل" فيما أخبر عما مضى ولا فيما أخبر عما يكون. وعن ابن عباس: "من بين يديه" من الله تعالى: "ولا من خلفه" يريد من جبريل صلى الله عليه وسلم، ولا من محمد صلى الله عليه وسلم. "تنزيل من حكيم حميد" ابن عباس: "حكيم" في خلقه "حميد" إليهم. قتادة: "حكيم" في أمره "حميد" إلى خلقه.
قوله تعالى: "ما يقال لك" أي من الأذى والتكذيب "إلا ما قد قيل للرسل من قبلك" يعزي نبيه ويسليه "إن ربك لذو مغفرة" لك ولأصحابك "وذو عقاب أليم" يريد لأعدائك وجيعا. وقيل: أي ما يقال لك من إخلاص العبادة لله إلا ما قد أوحي إلى من قبلك، ولا خلاف بين الشرائع فيما يتعلق بالتوحيد، وهو كقوله: "ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك" [الزمر: 65] أي لم تدعهم إلا ما تدعو إليه جميع الأنبياء، فلا معنى لإنكارهم عليك. قيل: هو استفهام، أي أي شيء يقال لك "إلا ما قد قيل للرسل من قبلك". وقيل: "إن ربك" كلام مبتدأ وما قبله كلام تام إذا كان الخبر مضمرا. وقيل: هو متصل بـ "ما يقال لك"."إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم" أي إنما أمرت بالإنذار والتبشير.
الآية: 44 {ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد}
قوله تعالى: "ولو جعلناه قرآنا أعجميا" أي بلغة غير العرب "لقالوا لولا فصلت آياته" أي بينت بلغتنا فإننا عرب لا نفهم الأعجمية. فبين أنه أنزل بلسانهم ليتقرر به معنى الإعجاز؛ إذ هم أعلم الناس بأنواع الكلام نظما ونثرا. وإذا عجزوا عن معارضته كان من أدل الدليل على أنه من عند الله، ولو كان بلسان العجم لقالوا لا علم لنا بهذا اللسان.
وإذا ثبت هذا ففيه دليل على أن القرآن عربي، وأنه نزل بلغة العرب، وأنه ليس أعجميا، وأنه إذا نقل عنها إلى غيرها لم يكن قرآنا.
قوله تعالى: "أأعجمي وعربي" وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي "اَاَعجمي وعربي" بهمزتين مخففتين، والعجمي الذي ليس من العرب كان فصيحا أوغير فصيح، والأعجمي الذي لا يفصح كان من العرب أو من العجم، فالأعجم ضد الفصيح وهو الذي لا يبين كلامه. ويقال للحيوان غير الناطق أعجم، ومنه (صلاة النهار عجماء) أي لا يجهر فيها بالقراءة فكانت النسبة إلى الأعجم آكد، لأن الرجل العجمي الذي ليس من العرب قد يكون فصيحا بالعربية، والعربي قد يكون غير فصيح؛ فالنسبة إلى الأعجمي آكد في البيان. والمعنى أقرآن أعجمي، ونبي عربي؟ وهو استفهام إنكار. وقرأ الحسن وأبو العالية ونصر بن عاصم والمغيرة وهشام عن ابن عامر" أعجمي"بهمزة واحدة على الخبر. والمعنى "لولا فصلت آياته" فكان منها عربي يفهمه العرب، وأعجمي يفهمه العجم. وروى سعيد بن جبير قال: قالت قريش: لولا أنزل القرآن أعجميا وعربيا فيكون بعض آياته عجميا وبعض آياته عربيا فنزلت الآية. وأنزل في القرآن من كل لغة فمنه "السجيل" وهي فارسية وأصلها سنك كيل؛ أي طين وحجر، ومنه "الفردوس" رومية وكذلك "القسطاس" وقرأ أهل الحجاز وأبو عمرو وابن ذكوان وحفص على الاستفهام، إلا أنهم لينوا الهمزة على أصولهم. والقراءة الصحيحة قراءة الاستفهام. والله أعلم.
قوله تعالى: "قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء" أعلم الله أن القرآن هدى وشفاء لكل من آمن به من الشك والريب والأوجاع. "والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر" أي صمم عن سماع القرآن. ولهذا تواصوا باللغو فيه. ونظير هذه الآية: "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا" [الإسراء: 82] وقد مضى مستوفى. وقراءة العامة "عمى" على المصدر. وقرأ ابن عباس وعبدالله بن الزبير وعمرو بن العاص ومعاوية وسليمان بن قتة "وهو عليهم عم" بكسر الميم أي لا يتبين لهم. واختار أبو عبيد القراءة الأولى؛ لإجماع الناس فيها؛ ولقوله أولا: "هدى وشفاء" ولوكان هاد وشاف لكان الكسر في "عمى" أجود؛ ليكون نعتا مثلهما؛ تقديره: "والذين لا يؤمنون" في ترك قبوله بمنزلة من في آذانهم "وقر". "وهو عليهم عمى" يعني القرآن "عليهم" ذو عمى، لأنهم لا يفقهون فحذف المضاف. وقيل المعنى والوقر عليهم عمى. "أولئك ينادون من مكان بعيد" يقال ذلك لمن لا يفهم من التمثيل. وحكى أهل اللغة أنه يقال للذي يفهم: أنت تسمع من قريب. ويقال للذي لا يفهم: أنت تنادى من بعيد. أي كأنه ينادى من موضع بعيد منه فهو لا يسمع النداء ولا يفهمه. وقال الضحاك: "ينادون" يوم القيامة بأقبح أسمائهم "من مكان بعيد" فيكون ذلك أشد لتوبيخهم وفضيحتهم. وقيل: أي من لم يتدبر القرآن صار كالأعمى الأصم، فهو ينادى من مكان بعيد فينقطع صوت المنادي عنه وهو لم يسمع. وقال علي رضي الله عنه ومجاهد: أي بعيد من قلوبهم. وفي التفسير: كأنما ينادون من السماء فلا يسمعون. وحكى معناه النقاش.
الآية: 45 - 46 {ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب، من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد}
قوله تعالى: "ولقد آتينا موسى الكتاب" يعني التوراة "فاختلف فيه" أي آمن به قوم وكذب به قوم. والكناية ترجع إلى الكتاب، وهو تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي لا يحزنك اختلاف قومك في كتابك، فقد اختلف من قبلهم في كتابهم. وقيل: الكناية ترجع إلى موسى. "ولولا كلمة سبقت من ربك" أي في إمهالهم. "لقضي بينهم" أي بتعجيل العذاب. "وإنهم لفي شك منه" من القرآن "مريب" أي شديد الريبة. وقد تقدم. وقال الكلبي في هذه الآية: لولا أن الله أخر عذاب هذه الأمة إلى يوم القيامة لآتاهم العذاب كما فعل بغيرهم من الأمم. وقيل: تأخير العذاب لما يخرج من أصلابهم من المؤمنين.
قوله تعالى: "من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها" شرط وجوابه "ومن أساء فعليها". والله جل وعز مستغن عن طاعة العباد، فمن أطاع فالثواب له، ومن أساء فالعقاب عليه. "وما ربك بظلام للعبيد" نفى الظلم عن نفسه جل وعز قليله وكثيره، وإذا انتفت المبالغة انتفى غيرها، دليله قوله الحق: "إن الله لا يظلم الناس شيئا" [يونس: 44] وروى العدول الثقات، والأئمة الأثبات، عن الزاهد العدل، عن أمين الأرض، عن أمين السماء، عن الرب جل جلاله: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا...) الحديث. وأيضا فهو الحكيم المالك، وما يفعله المالك في ملكه لا اعتراض عليه؛ إذ له التصرف في ملكه بما يريد.