تفسير الطبري تفسير الصفحة 481 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 481
482
480
 الآية : 39
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزّتْ وَرَبَتْ إِنّ الّذِيَ أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَىَ إِنّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
يقول تعالى ذكره: ومن حجج الله أيضا وأدلته على قدرته على نشر الموتى من بعد بلاها, وإعادتها لهيئتها كما كانت من بعد فنائها أنك يا محمد ترى الأرض دارسة غبراء, لا نبات بها ولا زرع, كما:
23576ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَمِنْ آياتِهِ أنّكَ تَرَى الأرْضَ خاشِعَةً: أي غبراء متهشمة.
23577ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السدي وَمِنْ آياتِهِ أنّكَ تَرَى الأرْضَ خاشِعَةً قال: يابسة متهمشة.
فإذَا أنْزَلْنا عَلَيْها المَاءَ اهْتَزّتْ يقول تعالى ذكره: فإذا أنزلنا من السماء غيثا على هذه الأرض الخاشعة اهتزت بالنبات, يقول: تحرّكت به, كما:
23578ـ حدثنا محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: اهتّزت قال: بالنبات.
وَرَبَتْ يقول: انتفخت, كما:
23579ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ وَرَبَتْ انتفخت.
23580ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فإذَا أنْزَلْنا عَلَيْها المَاءَ اهْتَزّتْ وَرَبَتْ يعرف الغيث في سحتها وربوها.
23581ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد وَرَبَتْ للنبات, قال: ارتفعت قبل أن تنبت.
وقوله: إنّ الّذِي أحْياها لَمُحْيِ المَوْتَى يقول تعالى ذكره: إن الذي أحيا هذه الأرض الدارسة فأخرج منها النبات, وجعلها تهتزّ بالزرع من بعد يبسها ودثورها بالمطر الذي أنزل عليها, القادر أن يحيي أموات بني آدم من بعد مماتهم بالماء الذي ينزل من السماء لإحيائهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23582ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قال: كما يحيي الأرض بالمطر, كذلك يحيي الموتى بالماء يوم القيامة بين النفختين.
يعني بذلك تأويل قوله: إنّ الّذِي أحْياها لَمُحْيِ المَوْتى.
وقوله: إنّهُ على كُلّ شَيُءٍ قَدِيرٌ يقول تعالى ذكره: إن ربك يا محمد على إحياء خلقه بعد مماتهم وعلى كل ما يشاء ذو قدرة لا يعجز شيء أراده, ولا يتعذّر عليه فعل شيء شاءه.
الآية : 40
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {إِنّ الّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيَ آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ أَفَمَن يُلْقَىَ فِي النّارِ خَيْرٌ أَم مّن يَأْتِيَ آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }.
يعني جلّ ثناؤه بقوله: إنّ الّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا إن الذين يميلون عن الحقّ في حججنا وأدلتنا, ويعدلون عنها تكذيبا بها وجحودا لها. وقد بيّنت فيما مضى معنى اللحد بشواهده المغنية عن إعادتها في هذا الموضع.
وسنذكر بعض اختلاف المختلفين في المراد به من معناه في هذا الموضع. اختلف أهل التأويل في المراد به من معنى الإلحاد في هذا الموضع, فقال بعضهم: أريد به معارضة المشركين القرآن باللغط والصفير استهزاء به. ذكر من قال ذلك:
23583ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى: وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: إنّ الّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا قال: المُكَاء وما ذكر معه.
وقال بعضهم: أريد به الخبر عن كذبهم في آيات الله. ذكر من قال ذلك:
23584ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة إنّ الّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِناقال: يكذّبون في آياتنا.
وقال آخرون: أريد به يعاندون. ذكر من قال ذلك:
23585ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ إنّ الّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا قال: يشاقّون: يعاندون.
وقال آخرون: أريد به الكفر والشرك. ذكر من قال ذلك:
23586ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: إنّ الّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا قال: هؤلاء أهل الشرك وقال: الإلحاد: الكفر والشرك.
وقال آخرون: أريد به الخبر عن تبديلهم معاني كتاب الله. ذكر من قال ذلك:
23587ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: إنّ الّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا قال: هو أن يوضع الكلام على غير موضعه.
وكلّ هذه الأقوال التي ذكرناها في تأويل ذلك قريبات المعاني, وذلك أن اللحد والإلحاد: هو الميل, وقد يكون ميلاً عن آيات الله, وعدولاً عنها بالتكذيب بها, ويكون بالاستهزاء مُكاء وتَصْدِية, ويكون مفارقة لها وعنادا, ويكون تحريفا لها وتغييرا لمعانيها.
ولا قول أولى بالصحة في ذلك مما قلنا, وأن يعم الخبر عنهم بأنهم ألحدوا في آيات الله, كما عمّ ذلك ربنا تبارك وتعالى.
وقوله: لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا يقول تعالى ذكره: نحن بهم عالمون لا يخفون علينا, ونحن لهم بالمرصاد إذا وردوا علينا, وذلك تهديد من الله جلّ ثناؤه لهم بقوله: سيعلمون عند ورودهم علينا ماذا يلقون من أليم عذابنا, ثم أخبر جلّ ثناؤه عما هو فاعل بهم عند ورودهم عليه, فقال: أفمَنْ يُلْقَى فِي النّار خَيْر أمْ مَنْ يأْتِي آمِنا يَوْمَ القِيَامَةِ يقول تعالى ذكره لهؤلاء الذين يُلحدون في آياتنا اليوم في الدنيا يوم القيامة عذاب النار, ثم قال الله: أفهذا الذي يلقى في النار خير, أم الذي يأتي يوم القيامة آمنا من عذاب الله لإيمانه بالله جلّ جلاله؟ هذا الكافر, إنه إن آمن بآيات الله, واتبع أمر الله ونهيه, أمّنه يوم القيامة مما حذّره منه من عقابه إن ورد عليه يومئذ به كافرا.
وقوله: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ وهذا أيضا وعيد لهم من الله خرج مخرج الأمر, وكذلك كان مجاهد يقول:
23588ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح عن مجاهد اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ قال: هذا وعيد.
وقوله: إنّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يقول جلّ ثناؤه: إن الله أيها الناس بأعمالكم التي تعملونها ذو خبرة وعلم لا يخفى عليه منها, ولا من غيرها شيء.
الآية : 41-42
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ بِالذّكْرِ لَمّا جَآءَهُمْ وَإِنّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ }.
يقول تعالى ذكره: إن الذين جحدوا هذا القرآن وكذّبوا به لما جاءهم, وعنى بالذكر القرآن, كما:
23589ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: إنّ الّذِينَ كَفَرُوا بالذّكْرِ لَمّا جاءَهُمْ كفروا بالقرآن.
وقوله: وَإنّهُ لَكِتاب عَزِيزٌ يقول تعالى ذكره: وإن هذا الذكر لكتاب عزيز بإعزاز الله إياه, وحفظه من كلّ من أراد له تبديلاً, أو تحريفا, أو تغييرا, من إنسي وجني وشيطان مارد. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23590ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَإنّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ يقول: أعزّه الله لأنه كلامه, وحفظه من الباطل.
23591ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ وَإنّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ قال: عزيز من الشيطان.
وقوله: لا يأتِيهِ الباطِلُ مِنْ بَينِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ اختلف أهل التأويل في تأويله فقال بعضهم: معناه: لا يأتيه النكير من بين يديه ولا من خلفه. ذكر من قال ذلك:
23592ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن يمان, عن أشعث, عن جعفر, عن سعيد لا يَأْتِيهِ الباطِلُ مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ قال: النكير من بين يديه ولا من خلفه.
وقال آخرون: معنى ذلك: لا يستطيع الشيطان أن ينقص منه حقا, ولا يزيد فيه باطلاً, قالوا: والباطل هو الشيطان.
وقوله: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ من قِبَل الحقّ وَلا مِنْ خَلْفِهِ من قِبلَ الباطل. ذكر من قال ذلك:
23593ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة لا يَأْتِيهِ الباطِلُ مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ الباطل: إبليس لا يستطيع أن ينقص منه حقا, ولا يزيد فيه باطلاً.
وقال آخرون: معناه: إن الباطل لا يطيق أن يزيد فيه شيئا من الحروف ولا ينقص منه شيئا منها. ذكر من قال ذلك:
23594ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ لا يَأْتِيهِ الباطِلُ مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ قال: الباطل: هو الشيطان لا يستطيع أن يزيد فيه حرفا ولا ينقص.
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: معناه: لا يستطيع ذو باطل بكيده تغييره بكيده, وتبديل شيء من معانيه عما هو به, وذلك هو الإتيان من بين يديه, ولا إلحاق ما ليس منه فيه, وذلك إتيانه من خلفه.
وقوله: تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حِمِيدٍ يقول تعالى ذكره: هو تنزيل من عندي ذي حكمة بتدبير عباده, وصرفهم فيما فيه مصالحهم, حميد يقول: محمود على نعمه عليهم بأياديه عندهم.
الآية : 43
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {مّا يُقَالُ لَكَ إِلاّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنّ رَبّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ما يقول لك هؤلاء المشركون المكذّبون ما جئتهم به من عند ربك إلا ما قد قاله من قبلهم من الأمم الذين كانوا من قبلك, يقول له: فاصبر على ما نالك من أذى منهم, كما صبر أولو العزم من الرسل, وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الحُوتِ, وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23595ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة ما يُقالُ لَكَ إلاّ ما قَدْ قِيلَ للرّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ يعزّي نبيه صلى الله عليه وسلم كما تسمعون, يقول: كَذَلكَ ما أتَى الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إلاّ قالُوا ساحِرٌ أوْ مَجْنُونٌ.
23596ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ في قوله: ما يُقالُ لَكَ إلاّ ما قَدْ قِيلَ للرّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ قال: ما يقولون إلا ما قد قال المشركون للرسل من قبلك.
وقوله: إنّ رَبّك لَذُو مَغْفِرَةٍ يقول: إن ربك لذو مغفرة لذنوب التائبين إليه من ذنوبهم بالصفح عنهم وَذُو عِقابٍ ألِيمٍ يقول: وهو ذو عقاب مؤلم لمن أصر على كفره وذنوبه, فمات على الإصرار على ذلك قبل التوبة منه.
الآية : 44
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لّقَالُواْ لَوْلاَ فُصّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيّ وَعَرَبِيّ قُلْ هُوَ لِلّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيَ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَـَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مّكَانٍ بَعِيدٍ }.
يقول تعالى ذكره: ولو جعلنا هذا القرآن الذي أنزلناه يا محمد أعجميا لقال قومك من قريش: لَوْلا فُصّلَتْ آياتُهُ يعني: هلا بينت أدلته وما فيه من آية, فنفقهه ونعلم ما هو وما فيه, أأعجميّ, يعني أنهم كانوا يقولون إنكارا له: أأعجمي هذا القرآن ولسان الذي أُنزل عليه عربيّ؟ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23597ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير أنه قال في هذه الاَية لَوْلا فُصّلَتْ آياتُهُ أأعْجَمِيّ وَعَرَبِيّ قال: لو كان هذا القرآن أعجميا لقالوا: القرآن أعجميّ, ومحمد عربي.
حدثنا محمد بن المثنى, قال: ثني محمد بن أبي عديّ, عن داود بن أبي هند, عن جعفر بن أبي وحشية عن سعيد بن جبير في هذه الاَية: لَوْلا فُصّلَتْ آياتُهُ أأعْجَمِيّ وَعَرَبِيّ قال: الرسول عربيّ, واللسان أعجمي.
حدثنا ابن المثنى, قال: ثني عبد الأعلى, قال: حدثنا أبو داود عن سعيد بن جبير في قوله: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآنا أعْجَمِيّا لَقالُوا لَوْلا فُصّلَتْ آياتُهُ أأعْجَمِيّ وَعَرَبِيّ قرآن أعجميّ ولسان عربيّ.
23598ـ حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا عبد الأعلى, قال: حدثنا داود, عن محمد بن أبي موسى, عن عبد الله بن مطيع بنحوه.
23599ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: لَوْلا فُصّلَتْ آياتُهُ فجعل عربيا, أعجمي الكلام وعربيّ الرجل.
23600ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, في قوله: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآنا أعْجَمِيّا لَقالُوا لَوْلا فُصّلَتْ آياتُهُ يقول: بُينت آياته, أأعجميّ وعربيّ, نحن قوم عرب مالنا وللعُجْمة.
وقد خالف هذا القول الذي ذكرناه عن هؤلاء آخرون, فقالوا: معنى ذلك لَوْلا فُصّلَتْ آياتُهُ بعضها عربيّ, وبعضها عجميّ. وهذا التأويل على تأويل من قرأ أعْجَمِيّ بترك الاستفهام فيه, وجعله خبرا من الله تعالى عن قيل المشركين ذلك, يعني: هلا فصّلت آياته, منها عجميّ تعرفه العجم, ومنها عربي تفقهه العرب. ذكر من قال ذلك:
23601ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب, عن جعفر, عن سعيد, قال: قالت قريش: لولا أنزل هذا القرآن أعجميا وعربيا, فأنزل الله وقَالُوا لَوْلا فُصّلَتْ آياتُهُ أعْجَمِيّ وَعَربِيّ, قُلْ هُوَ للّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفاءً فأنزل الله بعد هذه الاَية كل لسان, فيه حِجارَةٍ مِنْ سِجّيلٍ قال: فارسية, أعربت: سنك وكَلّ.
وقرأت قرّاء الأمصار: أأعْجَمِيّ وَعَرَبِيّ على وجه الاستفهام, وذُكر عن الحسن البصري أنه قرأ ذلك: أعجمي بهمزة واحدة على غير مذهب الاستفهام, على المعنى الذي ذكرناه عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جبير.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا القراءة التي عليها قرّاء الأمصار لإجماع الحجة عليها على مذهب الاستفهام.
وقوله: قُلْ هُوَ للّذِينَ آمَنُوا هُدًى وشِفاءٌ يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهم: هو, ويعني بقوله هُوَ القرآن لِلّذِينَ آمَنُوا بالله ورسوله, وصدّقوا بما جاءهم به من عند ربهم هُدًى يعني بيان للحقّ وَشِفاءٌ يعني أنه شفاء من الجهل. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23602ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قُلْ هُوَ لِلّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشفاءٌ قال: جعله الله نورا وبركة وشفاء للمؤمنين.
23603ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السدي قُلْ هُوَ لِلّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشفاءٌ قال: القرآن.
وقوله: والّذِينَ لا يُوءْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى يقول تعالى ذكره: والذين لا يؤمنون بالله ورسوله, وما جاءهم به من عند الله في آذانهم ثقل عن استماع هذا القرآن, وصمم لا يستمعونه ولكنهم يعرضون عنه, وهو عليهم عمًى يقول: وهذا القرآن على قلوب هؤلاء المكذّبين به عمًى عنه, فلا يبصرون حججه عليهم, وما فيه من مواعظه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23604ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة والّذِينَ لا يُوءْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى عموا وصموا عن القرآن, فلا ينتفعون به, ولا يرغبون فيه.
23605ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ والّذِينَ لا يُوءْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ قال: صمم وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى قال: عميت قلوبهم عنه.
23606ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى قال: العمى: الكفر.
وقرأت قرّاء الأمصار: وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى بفتح الميم. وذُكر عن ابن عباس أنه قرأ: «وهو عليهم عَمٍ» بكسر الميم على وجه النعت للقرآن.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار.
وقوله: أُولَئكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ اختلف أهل التأويل في معناه, فقال بعضهم: معنى ذلك: تشبيه من الله جلّ ثناؤه, لعمى قلوبهم عن فهم ما أنزل في القرآن من حججه ومواعظه ببعيد, فهم سامع مع صوت من بعيد نودي, فلم يفهم ما نودي, كقول العرب للرجل القليل الفهم: إنك لُتنَادَى من بعيد, وكقولهم للفَهِم: إنك لتأخذ الأمور من قريب. ذكر من قال ذلك:
23607ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن ابن جريج, عن بعض أصحابه, عن مجاهد أُولَئكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ قال: بعيد من قلوبهم.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفيان, عن ابن جريج عن مجاهد, بنحوه.
23608ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: أُولَئكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ قال: ضيّعوا أن يقبلوا الأمر من قريب, يتوبون ويؤمنون, فيقبل منهم, فأبوا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إنهم ينادون يوم القيامة من مكان بعيد منهم بأشنع أسمائهم. ذكر من قال ذلك:
23609ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفيان, عن أجلح, عن الضحاك بن مزاحم أُولَئكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ قال: ينادَى الرجل بأشنع اسمه.
واختلف أهل العربية في موضع تمام قوله: إنّ الّذِينَ كَفَرُوا بالذّكْر لَمّا جاءَهُمْ فقال بعضهم: تمامه: أُولَئكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ وجعل قائلوا هذا القول خبر إنّ الّذِينَ كَفَرُوا بالذّكْر أُولَئكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ وقال بعض نحويي البصرة: ذلك ويجوز أن يكون على الأخبار التي في القرآن يستغنى بها, كما استغنت أشياء عن الخبر إذا قال الكلام, وعرف المعنى, نحو قوله: وَلَوْ أنّ قُرْآنا سُيّرَتْ بِهِ الجِبالُ أوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرْضُ وما أشبه ذلك.
23610ـ قال: وحدثني شيخ أهل العلم, قال: سمعت عيسى بن عمر يسأل عمرو بن عبيد إنّ الّذِينَ كَفَرُوا بالذّكْرِ لَمّا جاءَهُمْ أين خبره؟ فقال عمرو: معناه في التفسير: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم كفروا به وإنّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ فقال عيسى: أجدت يا أبا عثمان.
وكان بعض نحويي الكوفة يقول: إن شئت جعلت جواب إنّ الّذِينَ كَفَرُوا بالذّكْر أُولَئكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ وإن شئت كان جوابه في قوله: وإنّهُ لَكِتابٌ عَزيزٌ, فيكون جوابه معلوما, فترك فيكون أعرب الوجهين وأشبهه بما جاء في القرآن.
وقال آخرون: بل ذلك مما انصرف عن الخبر عما ابتدىء به إلى الخبر عن الذي بعده من الذكر فعلى هذا القول ترك الخبر عن الذين كفروا بالذكر, وجعل الخبر عن الذكر فتمامه على هذا القول وإنه لكتاب عزيز فكان معنى الكلام عند قائل هذا القول: إن الذكر الذي كفر به هؤلاء المشركون لما جاءهم, وإنه لكتاب عزيز, وشبهه بقوله: وَالّذِينَ يُتَوَفّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أزْوَاجا يَتَربّصْنَ بأنْفُسِهِنّ.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: هو مما ترك خبره اكتفاء بمعرفة السامعين بمعناه لما تطاول الكلام.
الآية : 45
القول فـي تأويـل قوله تعالى:
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رّبّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنّهُمْ لَفِي شَكّ مّنْهُ مُرِيبٍ .
يقول تعالى ذكره: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الكِتابَ يا محمد, يعني التوراة, كما آتيناك الفرقان, فاخْتُلِفَ فِيهِ يقول: فاختلف في العمل بما فيه الذين أوتوه من اليهود وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبّكَ لَقُضِيَ بَيْنِهُمْ يقول: ولولا ما سبق من قضاء الله وحكمه فيهم أنه أخر عذابهم إلى يوم القيامة لقضي بينهم يقول: لعجل الفصل بينهم فيما اختلفوا فيه بإهلاكه المبطلين منهم, كما:
23611ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, في قوله: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبّكَ قال: أخروا إلى يوم القيامة.
وقوله: وإنّهُمْ لَفِي شَكّ مِنْهُ مُرِيبٍ يقول: وإن الفريق المبطل منهم لفي شكّ مما قالوا فيه مُريب يقول: يريبهم قولهم فيه ما قالوا, لأنهم قالوا بغير ثبت, وإنما قالوه ظنّا.
الآية : 46
القول فـي تأويـل قوله تعالى:
مّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبّكَ بِظَلاّمٍ لّلْعَبِيدِ .
يقول تعالى ذكره: من عمل بطاعة الله في هذه الدنيا, فأتمر لأمره, وانتهى عما نهاه عنه فَلِنَفْسِهِ يقول: فلنفسه عمل ذلك الصالح من العمل, لأنه يجازى عليه جزاءه, فيستوجب في المعاد من الله الجنة, والنجاة من النار, وَمَنْ أساءَ فَعَلَيْها يقول: ومن عمل بمعاصي الله فيها, فعلى نفسه جنى, لأنه أكسبها بذلك سخط الله, والعقاب الأليم وَما رَبّكَ بِظَلاّمٍ للْعَبيدِ يقول تعالى ذكره: وما ربك يا محمد بحامل عقوبة ذنب مذنب على غير مكتسبه, بل لا يعاقب أحداً إلا على جرمه الذي اكتسبه في الدنيا, أو على سبب استحقه به منه, والله أعلم