تفسير السعدي تفسير الصفحة 481 من المصحف


وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 39 ) .
( وَمِنْ آيَاتِهِ ) الدالة على كمال قدرته، وانفراده بالملك والتدبير والوحدانية، ( أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً ) أي: لا نبات فيها ( فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ ) أي: المطر ( اهْتَزَّتْ ) أي: تحركت بالنبات ( وَرَبَتْ ) ثم: أنبتت من كل زوج بهيج، فيحيي به العباد والبلاد.
( إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا ) بعد موتها وهمودها، ( لَمُحْيِي الْمَوْتَى ) من قبورهم إلى يوم بعثهم، ونشورهم ( إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) فكما لم تعجز قدرته عن إحياء الأرض بعد موتها، لا تعجز عن إحياء الموتى.
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 40 ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ( 41 ) لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ( 42 ) .
الإلحاد في آيات الله: الميل بها عن الصواب، بأي وجه كان: إما بإنكارها وجحودها، وتكذيب من جاء بها، وإما بتحريفها وتصريفها عن معناها الحقيقي، وإثبات معان لها، ما أرادها الله منها.
فتوعَّد تعالى من ألحد فيها بأنه لا يخفى عليه، بل هو مطلع على ظاهره وباطنه، وسيجازيه على إلحاده بما كان يعمل، ولهذا قال: ( أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ ) مثل الملحد بآيات الله ( خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) من عذاب الله مستحقًا لثوابه؟ من المعلوم أن هذا خير.
لما تبين الحق من الباطل، والطريق المنجي من عذابه من الطريق المهلك قال: ( اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ) إن شئتم، فاسلكوا طريق الرشد الموصلة إلى رضا ربكم وجنته، وإن شئتم، فاسلكوا طريق الغيِّ المسخطة لربكم، الموصلة إلى دار الشقاء.
( إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) يجازيكم بحسب أحوالكم وأعمالكم، كقوله تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ
ثم قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ ) أي: يجحدون القرآن الكريم المذكر للعباد جميع مصالحهم الدينية والدنيوية والأخروية، المُعلي لقدر من اتبعه، ( لَمَّا جَاءَهُمْ ) نعمة من ربهم على يد أفضل الخلق وأكملهم. ( و ) الحال ( إِنَّهُ لَكِتَابٌ ) جامع لأوصاف الكمال ( عَزِيزٌ ) أي: منيع من كل من أراده بتحريف أو سوء، ولهذا قال: ( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ) أي: لا يقربه شيطان من شياطين الإنس والجن، لا بسرقة، ولا بإدخال ما ليس منه به، ولا بزيادة ولا نقص، فهو محفوظ في تنزيله، محفوظة ألفاظه ومعانيه، قد تكفل من أنزله بحفظه كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
( تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ ) في خلقه وأمره، يضع كل شيء موضعه، وينزله منزله. ( حَمِيدٌ ) على ما له من صفات الكمال، ونعوت الجلال، وعلى ما له من العدل والإفضال، فلهذا كان كتابه، مشتملا على تمام الحكمة، وعلى تحصيل المصالح والمنافع، ودفع المفاسد والمضار، التي يحمد عليها.
مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ( 43 ) .
أي: ( مَا يُقَالُ لَكَ ) أيها الرسول من الأقوال الصادرة، ممن كذبك وعاندك ( إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ) أي: من جنسها، بل ربما إنهم تكلموا بكلام واحد، كتعجب جميع الأمم المكذبة للرسل، من دعوتهم إلى الإخلاص للّه وعبادته وحده لا شريك له، وردهم هذا بكل طريق يقدرون عليه، وقولهم: مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا
واقتراحهم على رسلهم الآيات، التي لا يلزمهم الإتيان بها، ونحو ذلك من أقوال أهل التكذيب، لما تشابهت قلوبهم في الكفر، تشابهت أقوالهم، وصبر الرسل عليهم السلام على أذاهم وتكذيبهم، فاصبر كما صبر من قبلك.
ثم دعاهم إلى التوبة والإتيان بأسباب المغفرة، وحذرهم من الاستمرار على الغيّ فقال: ( إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ ) أي: عظيمة، يمحو بها كل ذنب لمن أقلع وتاب ( وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ) لمن: أصر واستكبر.
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ( 44 ) .
يخبر تعالى عن فضله وكرمه، حيث أنزل كتابا عربيًا، على الرسول العربي، بلسان قومه، ليبين لهم، وهذا مما يوجب لهم زيادة الاغتناء به، والتلقي له والتسليم، وأنه لو جعله قرآنا أعجميًا، بلغة غير العرب، لاعترض، المكذبون وقالوا: ( لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ) أي: هلا بينت آياته، ووضحت وفسرت. ( أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ) أي: كيف يكون محمد عربيًا، والكتاب أعجمي؟ هذا لا يكون فنفى الله تعالى كل أمر، يكون فيه شبهة لأهل الباطل، عن كتابه، ووصفه بكل وصف، يوجب لهم الانقياد، ولكن المؤمنون الموفقون، انتفعوا به، وارتفعوا، وغيرهم بالعكس من أحوالهم.
ولهذا قال: ( قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ) أي: يهديهم لطريق الرشد والصراط المستقيم، ويعلمهم من العلوم النافعة، ما به تحصل الهداية التامة وشفاء لهم من الأسقام البدنية، والأسقام القلبية، لأنه يزجر عن مساوئ الأخلاق وأقبح الأعمال، ويحث على التوبة النصوح، التي تغسل الذنوب وتشفي القلب.
( وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) بالقرآن ( فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ ) أي: صمم عن استماعه وإعراض، ( وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ) أي: لا يبصرون به رشدًا، ولا يهتدون به، ولا يزيدهم إلا ضلالا فإنهم إذا ردوا الحق، ازدادوا عمى إلى عماهم، وغيًّا إلى غيَّهم.
( أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) أي: ينادون إلى الإيمان، ويدعون إليه، فلا يستجيبون، بمنزلة الذي ينادي، وهو في مكان بعيد، لا يسمع داعيًا ولا يجيب مناديًا. والمقصود: أن الذين لا يؤمنون بالقرآن، لا ينتفعون بهداه، ولا يبصرون بنوره، ولا يستفيدون منه خيرًا، لأنهم سدوا على أنفسهم أبواب الهدى، بإعراضهم وكفرهم.
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ( 45 ) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ ( 46 ) .
يقول تعالى: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ) كما آتيناك الكتاب، فصنع به الناس ما صنعوا معك، اختلفوا فيه: فمنهم من آمن به واهتدى وانتفع، ومنهم من كذبه ولم ينتفع به، وإن اللّه تعالى، لولا حلمه وكلمته السابقة، بتأخير العذاب إلى أجل مسمى لا يتقدم عليه ولا يتأخر ( لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) بمجرد ما يتميز المؤمنون من الكافرين، بإهلاك الكافرين في الحال، لأن سبب الهلاك قد وجب وحق. ( وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ) أي: قد بلغ بهم إلى الريب الذي يقلقهم، فلذلك كذبوه وجحدوه.
( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا ) وهو العمل الذي أمر اللّه به، ورسوله ( فَلِنَفْسِهِ ) نفعه وثوابه في الدنيا والآخرة ( وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ) ضرره وعقابه، في الدنيا والآخرة، وفي هذا، حثٌّ على فعل الخير، وترك الشر، وانتفاع العاملين، بأعمالهم الحسنة، وضررهم بأعمالهم السيئة، وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى. ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ ) فَيُحمِّل أحدًا فوق سيئاتهم.