تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 485 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 485

485- تفسير الصفحة رقم485 من المصحف
الآية: 16 {والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد}
قوله تعالى: "والذين يحاجون في الله"رجع إلى المشركين. "من بعد ما استجيب له" قال مجاهد: من بعد ما أسلم الناس. قال: وهؤلاء قد توهموا أن الجاهلية تعود. وقال قتادة: الذين يحاجون في الله اليهود والنصارى، ومحاجتهم قولهم نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم؛ وكانوا يرون لأنفسهم الفضيلة بأنهم أهل الكتاب وأنهم أولاد الأنبياء. وكان المشركون يقولون: "أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا" [مريم: 73] فقال الله تعالى: "والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم" أي لا ثبات لها كالشيء الذي يزل عن موضعه. والهاء في "له" يجوز أن يكون لله عز وجل؛ أي من بعد ما وحدوا الله وشهدوا له بالوحدانية. ويجوز أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي من بعد ما استجيب محمد صلى الله عليه وسلم في دعوته من أهل بدر ونصر الله المؤمنين. يقال: دحضت حجته دحوضا بطلت. وأدحضها الله. والإدحاض: الإزلاق. ومكان دَحْضَ ودَحَض أيضا (بالتحريك) أي زلق. ودحضت رجله تدحض دحضا زلقت. ودحضت الشمس عن كبد السماء زالت. "وعليهم غضب" يريد في الدنيا. "ولهم عذاب شديد" يريد في الآخرة عذاب دائم.
الآية: 17 {الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب}
قوله تعالى : "الله الذي أنزل الكتاب" وما يريدك لعل الساعة قريب يعني القرآن وسائر الكتب المنزلة. "بالحق" أي بالصدق. "والميزان" أي العدل؛ قال ابن عباس وأكثر المفسرين. والعدل يسمى ميزانا؛ لأن الميزان آله الإنصاف والعدل. وقيل: الميزان ما بين في الكتب مما يجب على الإنسان أن يعمل به. وقال قتاده: الميزان العدل فيما أمر به ونهي عنه. وهذه الأقوال متقاربة المعنى. وقيل: هو الجزاء على الطاعة بالثواب وعلى المعصية بالعقاب. وقيل: إنه الميزان نفسه الذي يوزن به، أنزله من السماء وعلم العباد الوزن به؛ لئلا يكون بينهم تظالم وتباخس؛ قال الله تعالى: "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط" [الحديد: 25]. قال مجاهد: هو الذي يوزن به. ومعنى أنزل الميزان. هو إلهامه للخلق أن يعملوه ويعملوا به. وقيل: الميزان محمد صلى الله عليه وسلم يقضي بينكم بكتاب الله. "وما يدريك لعل الساعة قريب" فلم يخبره بها. يحضه على العمل بالكتاب والعدل والسوية، والعمل بالشرائع قبل أن يفاجئ اليوم الذي يكون فيه المحاسبة ووزن الأعمال، فيوفى لمن أوفى ويطفف لمن طفف. فـ "لعل الساعة قريب"أي منك وأنت لا تدري. وقال: "قريب" ولم يقل قريبة؛ لأن تأنيثها غير حقيقي لأنها كالوقت؛ قاله الزجاج. والمعنى: لعل البعث أو لعل مجيء الساعة قريب. وقال الكسائي: "قريب" نعت ينعت به المذكر والمؤنث والجمع بمعنى ولفظ واحد؛ قال الله تعالى: "إن رحمة الله قريب من المحسنين" [الأعراف: 56] قال الشاعر:
وكنا قريبا والديار بعيدة فلما وصلنا نصب أعينهم غبنا
الآية: 18 {يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد}
قوله تعالى: "يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها" يعني على طريق الاستهزاء، ظنا منهم أنها غير آتية، أو إيهاما للضعفة أنها لا تكون. "والذين آمنوا مشفقون منها" أي خائفون وجلون لاستقصارهم أنفسهم مع الجهد في الطاعة؛ كما قال: "والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون" [المؤمنون: 60]. "ويعلمون أنها الحق" أي التي لا شك فيها. "ألا إن الذين يمارون في الساعة" أي يشكون ويخاصمون في قيام الساعة. "لفي ضلال بعيد" أي عن الحق وطريق الاعتبار؛ إذ لو تذكروا لعلموا أن الذي أنشأهم من تراب ثم من نطفة إلى أن بلغوا ما بلغوا، قادر على أن يبعثهم.
الآية: 19 {الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز}
قوله تعالى: "الله لطيف بعباده" قال ابن عباس: حفي بهم. وقال عكرمة: بار بهم. وقال السدي: رفيق بهم. وقال مقاتل: لطيف بالبر والفاجر؛ حيث لم يقتلهم جوعا بمعاصيهم. وقال القرظي: لطيف، بهم في العرض والمحاسبة. قال:
غدا عند مولى الخلق للخلق موقف يسائلهم فيه الجليل ويلطف
وقال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين: يلطف بهم في الرزق من وجهين: أحدهما: أنه جعل ورزقك من الطيبات. والثاني: أنه لم يدفعه إليك مرة واحدة فتبذوه. وقال الحسين بن الفضل: لطيف بهم في القرآن وتفصيله وتفسيره. وقال الجنيد: لطيف بأوليائه حتى عرفوه، ولو لطف بأعدائه لما جحدوه. وقال محمد بن علي الكتاني: اللطيف بمن لجأ إليه من عباده إذا يئس من الخلق توكل ورجع إليه، فحينئذ يقبله ويقبل عليه. وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يطلع على القبور الدوارس فيقول جل وعز امحت آثارهم واضمحلت صورهم وبقي عليهم العذاب وأنا اللطيف وأنا أرحم الراحمين خففوا عنهم العذاب فيخفف عنهم العذاب). قال أبو علي الثقفي رضي الله عنه:
أمر بأفناء القبور كأنني أخو فطنة والثواب فيه نحيف
ومن شق فاه الله قدر رزقه وربي بمن يلجأ إليه لطيف
وقيل: اللطيف الذي ينشر من عباده المناقب ويستر عليهم المثالب؛ وعلى هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا من أظهر الجميل وستر القبيح). وقيل: هو الذي يقبل القليل ويبذل الجزيل. وقيل: هو الذي يجبر الكسير وييسر العسير. وقيل: هو الذي لا يخاف إلا عدله ولا يرجى إلا فضله. وقيل: هو الذي يبذل لعبده النعمة فوق الهمة ويكفله الطاعة فوق الطاقة؛ قال تعالى: "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها" [النحل: 18] "وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة" [لقمان: 20]، وقال: "وما جعل عليكم في الدين من حرج" [الحج:78]، "يريد الله أن يخفف عنكم" [النساء: 28]. وقيل: هو الذي يعين على الخدمة ويكثر المدحة. وقيل: هو الذي لا يعاجل من عصاه ولا يخيب من رجاه. وقيل: هو الذي لا يرد سائله يوئس آمله. وقيل: هو الذي يعفو عمن يهفو. وقيل: هو الذي يرحم من لا يرحم نفسه. وقيل. هو الذي أوقد في أسرار العارفين من المشاهدة سراجا، وجعل الصراط المستقيم لهم منهاجا، وأجزل لهم من سحائب بره ماء ثجاجا. وقد مضى في "الأنعام" قول أبي العالية والجنيد أيضا. وقد ذكرنا جميع هذا في (الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى) عند اسمه اللطيف، والحمد لله. "يرزق من يشاء" ويحرم من يشاء. وفي تفضيل قوم بالمال حكمة؛ ليحتاج البعض إلى البعض؛ كما قال: "ليتخذ بعضهم بعضا سخريا" [الزخرف: 32]، فكان هذا لطفا بالعباد. وأيضا ليمتحن الغني بالفقير والفقير بالغني؛ كما قال: "وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون" [الفرقان: 20] على ما تقدم بيانه. "وهو القوي العزيز"
الآية: 20 {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب}
قوله تعالى: "من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه" الحرث العمل والكسب. ومنه قول عبدالله بن عمر: واحرث لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا. ومنه سمي الرجل حارثا. والمعنى أي من طلب بما رزقناه حرثا لآخرته، فأدى حقوق الله وأنفق في إعزاز الدين؛ فإنما نعطيه ثواب ذلك للواحد عشرا إلى سبعمائة فأكثر. "ومن كان يريد حرث الدنيا" أي طلب بالمال الذي آتاه الله رياسة الدنيا والصل إلى المحظورات، فإنا لا نحرمه الرزق أصلا، ولكن لا حظ به في الآخرة من ماله؛ قال الله تعالى: "من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا" [الإسراء: 18]. وقيل: "نزد له في حرثه" نوفقه للعبادة ونسهلها عليه. وقيل: حرث الآخرة الطاعة؛ أي من أطاع فله الثواب. قيل: "نزد له في حرثه" أي نعطه الدنيا مع الآخرة. وقيل: الآية في الغزو؛ أي من أراد بغزوه الآخرة أوتى الثواب، ومن أراد بغزوه الغنيمة أوتي منها. قال القشيري: والظاهر أن الآية في الكافر؛ يوسع له في الدنيا؛ أي لا ينبغي له أن يغتر بذ لك لأن الدنيا لا تبقى. وقال قتادة: إن الله يعطي على نية الآخرة ما شاء من أمر الدنيا، ولا يعطي على نية الدنيا إلا الدنيا. وقال أيضا: يقول الله تعالى: (من عمل لآخرته زدناه في عمله وأعطيناه من الدنيا ما كتبنا له ومن أثر دنياه على آخرته لم نجعل له نصيبا في الآخرة إلا النار ولم يصب من الدنيا إلا رزقا قد قسمناه له لا بد أن كان يؤتاه مع إيثار أو غير إيثار). وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: وقوله عز وجل: "من كان يريد حرث الآخرة" من كال من الأبرار يريد بعمله الصالح ثواب الآخرة "نزد له في حرثه" أي في حسناته. "ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب
"ومن كان يريد حرث الدنيا" أي من كان من الفجار يريد بعمله الحسن الدنيا "نؤته منها" ثم نسخ ذلك في الإسراء: "من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد" [الإسراء. 18]. والصواب أن هذا ليس بنسخ؛ لأن هذا خبر الأشياء كلها بإرادة الله عز وجل. ألا ترى أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت). وقد قال قتادة ما تقدم ذكره، وهو يبين لك أن لا نسخ. وقد ذكرنا في "هود" أن هذا من باب المطلق والمقيد، وأن النسخ لا يدخل في الأخبار. والله المستعان.
مسألة: هذه الآية تبطل مذهب أبي حنيفة في قوله:إنه من توضأ تبردا أنه يجزيه عن فريضة الوضوء الموظف عليه؛ فإن فريضة الوضوء من حرث الآخرة والتبرد من حرث الدنيا، فلا يدخل أحدهما على الآخر، ولا تجزي نيته عنه بظاهر هذه الآية؛ قاله ابن العربي.
الآية: 21 {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم}
قوله تعالى: "أم لهم شركاء"والميم صلة والهمزة للتقريع. وهذا متصل بقوله: "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا" [الشورى: 13]، وقوله تعالى: "الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان" [الشورى: 17] كانوا لا يؤمنون به، فهل لهم آلهة شرعوا لهم الشرك الذي لم يأذن به الله! وإذا استحال هذا فالله لم يشرع الشرك، فمن أين يدينون به. "ولولا كلمة الفصل" القيامة حيث قال: "بل الساعة موعدهم" [القمر: 46]. "لقضي بينهم" في الدنيا، فعاجل الظالم بالعقوبة وأثاب الطائع. "وإن الظالمين" أي المشركين. "لهم عذاب أليم" في الدنيا القتل والأسر والقهر، وفي الآخرة عذاب النار. وقرأ ابن هرمز "وأن" بفتح الهمزة على العطف "ولولا كلمة" والفصل بين المعطوف عليه بجواب "لولا" جائز. ويجوز أن يكون موضع "أن" رفعا على تقدير: وجب أن الظالمين لهم عذاب أليم، فيكون منقطعا مما قبله كقراءة الكسر؛ فاعلمه.
الآية: 22 {ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير}
قوله تعالى: "ترى الظالمين مشفقين" أي خائفين "مما كسبوا" أي من جزاء ما كسبوا. والظالمون ها هنا الكافرون؛ بدليل التقسيم بين المؤمن والكافر. "وهو واقع بهم" أي نازل بهم. "والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات" الروضة: الموضع النزه الكثير الخضرة. وقد مضى في "الروم". "لهم ما يشاؤون عند ربهم" أي من النعيم والثواب الجزيل. "ذلك هو الفضل الكبير" أي لا يوصف ولا تهتدي العقول إلى كنه صفته؛ لأن الحق إذا قال كبير فمن ذا الذي يقدر قدره.