تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 485 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 485

484

16- "والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له" أي يخاصمون في دين الله من بعد ما استجاب الناس له ودخلوا فيه. قال مجاهد: من بعد ما أسلم الناس. قال: وهؤلاء قوم توهموا أن الجاهلية تعود. وقال قتادة: هم اليهود والنصارى ومحاجتهم قولهم: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، وكانوا يرون لأنفسهم الفضيلة بأنهم أهل كتاب وأنهم أولاد الأنبياء، وكان المشركون يقولون "أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً"؟ فنزلت هذه الآية، والموصول مبتدأ، وخبره الجملة بعده وهي "حجتهم داحضة عند ربهم" أي لا ثبات لها كالشيء الذي يزول عن موضعه، يقال: دحضت حجته دحوضاً: بطلت، والإدحاض: الإزلاق، ومكان دحض: أي زلق، ودحضت رجله: زلقت. وقيل الضمير في له راجع إلى الله. وقيل راجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم. والأول أولى. "وعليهم غضب" أي غضب عظيم من الله لمجادلتهم بالباطل "ولهم عذاب شديد" في الآخرة.
17- "الله الذي أنزل الكتاب بالحق" المراد بالكتاب: الجنس فيشمل جميع الكتب المنزلة على الرسل. وقيل المراد به القرآن خاصة، وبالحق متعلق بمحذوف: أي ملتبساً بالحق وهو الصدق "و" المراد بـ "الميزان" العدل، كذا قال أكثر المفسرين، قالوا وسمي العدل ميزاناً لأن الميزان آلة الإنصاف والتسوية بين الخلق. وقيل: الميزان ما بين في الكتب المنزلة مما يجب على كل إنسان أن يعمل به. وقيل: هو الجزاء على الطاعة والثواب، وعلى المعصية بالعقاب. وقيل إنه الميزان نفسه أنزله الله من السماء وعلم العباد الوزن به لئلا يكون بينهم تظالم وتباخس كما في قوله: "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط" وقيل هو محمد صلى الله عليه وسلم "وما يدريك لعل الساعة قريب" أي أي شيء يجعلك دارياً بها. عالماً بوقتها لعلها شيء قريب أو قريب مجيئها أو ذات قرب. وقال قريب ولم يقل قريبة لأن تأنيثها غير حقيقي. قال الزجاج: المعنى لعل البعث أو لعل مجيء الساعة قريب. وقال الكسائي: قريب نعت ينعت به المؤنث والمذكر كما في قوله: "إن رحمة الله قريب من المحسنين". ومنه قول الشاعر: وكنا قريباً والديار بعيدة فلما وصلنا نصب أعينهم غبنا قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الساعة وعنده قوم من المشركين، فقالوا متى تكون الساعة؟ تكذيباً لها فأنزل الله الآية.
ويدل على هذا قوله: 18- "يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها" استعجال استهزاء منهم بها وتكذيباً بمجيئها "والذين آمنوا مشفقون منها" أي خائفون وجلون من مجيئها. قال مقاتل: لأنهم لا يدرون على ما يهجمون عليه. وقال الزجاج: لأنه يعلمون أنهم محاسبون ومجزيون "ويعلمون أنها الحق" أي أنها آتية لا ريب فيها، ومثل هذا قوله: "والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون". ثم بين ضلال الممارين فيها فقال: "ألا إن الذين يمارون في الساعة" أي يخاصمون فيها مخاصمة شك وريبة، من الممارة وهي المخاصمة والمجادلة، أو من المرية وهي الشك والريبة "لفي ضلال بعيد" عن الحق لأنهم لم يتفكروا في الموجبات للإيمان بها من الدلائل التي هي مشاهدة لهم منصوبة لأعينهم مفهومة لعقولهم،ولو تفكروا لعلموا أن الذي خلقهم ابتداءً قادر على الإعادة. وقد أخرج ابن جرير عن السدي "أن أقيموا الدين" قال: اعملوا به. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله: "أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه" قال: ألا تعلموا أن الفرقة هلكة وأن الجماعة ثقفة "كبر على المشركين ما تدعوهم إليه". قال: استكبر المشركون أن قيل لهم: لا إله إلا الله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد "الله يجتبي إليه من يشاء" قال: يخلص لنفسه من يشاء. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له" قال: هم أهل الكتاب كانوا يجادلون المسلمين ويصدونهم عن الهدى من بعد ما استجابوا لله. وقال: هم قوم من أهل الضلالة وكانوا يتربصون بأن تأتيهم الجاهلية. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله: "والذين يحاجون في الله" الآية. قال: هم اليهود والنصارى. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن نحوه. وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: لما نزلت "إذا جاء نصر الله والفتح" قال المشركون لمن بين أظهرهم من المؤمنين: قد دخل الناس في دين الله أفواجاً فاخرجوا من بين أظهرنا فنزلت "والذين يحاجون في الله" الآية.
قوله: 19- "الله لطيف بعباده" أي كثير اللطف بهم بالغ الرأفة لهم. قال مقاتل: لطيف بالبار والفاجر حيث لم يقتلهم جوعاً بمعاصيهم. قال عكرمة: بار بهم. وقال السدي: رفيق بهم، وقيل حفي بهم. وقال القرطبي: لطيف بهم في العرض والمحاسبة، وقيل غير ذلك. والمعنى: أنه يجري لطفه على عباده في كل أمورهم، ومن جملة ذلك الرزق الذي يعيشون به في الدنيا، وهو معنى قوله: "يرزق من يشاء" منهم كيف يشاء، فيوسع هذا ويضيق على هذا "وهو القوي" العظيم القوة الباهرة القادرة "العزيز" الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء.
20- "من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه" الحرث في اللغة: الكسب، يقال هو يحرث لعياله ويحترث: أي يكتسب. ومنه سمي الرجل حارثاً، وأصل معنى الحرث: إلقاء البذر في الأرض، فأطلق على ثمرات الأعمال وفوائدها بطريق الاستعارة: والمعنى: من كان يريد أعماله وكسبه ثواب الآخرة يضاعف الله له ذلك الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف. وقيل: معناه يزيد في توفيقه وإعانته وتسهيل سبل الخير له "ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها" أي من كان يريد بأعماله وكسبه ثواب الدنيا وهو متاعها، وما يرزق الله به عباده منها نعطه منها ما قضت به مشيئتنا وقسم له في قضائنا. قال قتادة أيضاً: إن الله يعطي على نية الآخرة ما شاء من أمر الدنيا، ولا يعطي على نية الدنيا إلا الدنيا قال القشيري: والظاهر أن الآية في الكافر، وهو تخصيص بغير مخصص. ثم بين سبحانه أن هذا الذي يريد بعمله الدنيا لا نصيب له في الآخرة فقال: "وما له في الآخرة من نصيب" لأنه لم يعمل للآخرة فلا نصيب له فيها، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة الإسراء.
21- "أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله" لما بين سبحانه القانون في أمر الدنيا والآخرة أردفه ببيان ما هو الذنب العظيم الموجب للنار، والهمزة لاستفهام التقرير والتقريع، وضمير شرعوا عائد إلى الشركاء، وضمير لهم إلى الكفار، وقيل العكس، والأول أولى. ومعنى "ما لم يأذن به الله" ما لم يأذن به من الشرك والمعاصي "ولولا كلمة الفصل" وهي تأخير عذابهم حيث قال "بل الساعة موعدهم"، " لقضي بينهم " في الدنيا فعوجلوا بالعقوبة، والضمير في بينهم راجع إلى المؤمنين والمشركين، أو إلى المشركين وشركائهم " وإن الظالمين لهم عذاب أليم " أي المشركين والمكذبين لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة. قرأ الجمهور "وإن الظالمين" بكسر الهمزة على الاستئناف. وقرأ مسلم والأعرج وابن هرمز بفتحها عطفاً على كلمة الفصل.
22- "ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا" أي خائفين وجلين مما كسبوا من السيئات، وذلك الخوف والوجل يوم القيامة "وهو واقع بهم" الضمير راجع إلى ما كسبوا بتقدير مضاف قاله الزجاج: أي وجزاء ما كسبوا واقع منهم نازل عليهم لا محالة أشفقوا أو لم يشفقوا، والجملة في محل نصب على الحال. ولما ذكر حال الظالمين ذكر حال المؤمنين فقال "والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات" روضات جمع روضة. قال أبو حيان: اللغة الكثيرة تسكين الواو، ولغة هذيل فتحها، والروضة: الموضع النزه الكثير الخضرة، وقد مضى بيان هذا في سورة الروم، وروضة الجنة: أطيب مساكنها كما أنها في الدنيا لأحسن أمكنتها " لهم ما يشاؤون عند ربهم " من صنوف النعم وأنواع المستلذات، والعامل في عند ربهم يشاءون، أو العامل في روضات الجنات وهو الاستقرار، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى ما ذكر للمؤمنين قبله، وخبره الجملة المذكورة بعده وهي "هو الفضل الكبير" أي الذي لا يوصف ولا تهتدي العقول إلى معرفة حقيقته.