تفسير الطبري تفسير الصفحة 485 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 485
486
484
 الآية : 16
القول فـي تأويـل قوله تعالى:
{وَالّذِينَ يُحَآجّونَ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ لَهُ حُجّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ }
يقول تعالى ذكره: والذين يخاصمون في دين الله الذي ابتعث به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم من بعد ما استجاب له الناس, فدخلوا فيه من الذين أورثوا الكتاب حُجّتُهُمْ داحِضَةٌ يقول: خصومتهم التي يخاصمون فيه باطلة ذاهبة عند ربهم وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ يقول: وعليهم من الله غضب, ولهم في الاَخرة عذاب شديد, وهو عذاب النار.
وذُكر أن هذه الاَية نزلت في قوم من اليهود خاصموا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في دينهم, وطمعوا أن يصدّوهم عنه, ويردّوهم عن الإسلام إلى الكفر. ذكر الرواية عمن ذكر ذلك عنه:
23664ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: وَالّذِينَ يُحاجّونَ فِي اللّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبّهِمْ, وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ, ولَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ قال: هم أهل الكتاب كانوا يجادلون المسلمين, ويصدّونهم عن الهدى من بعد ما استجابوا لله. وقال: هم أهل الضلالة كان استجيب لهم على ضلالتهم, وهم يتربصون بأن تأتيهم الجاهلية.
23665ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعاً, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد وَالّذِينَ يُحاجّونَ في اللّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ قال: طمع رجال بأن تعود الجاهلية.
23666ـ حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن منصور, عن مجاهد, أنه قال في هذه الاَية وَالّذِينَ يُحاجّونَ فِي اللّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتَجيبَ لَهُ قال: بعد ما دخل الناس في الإسلام.
23667ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة وَالّذِينَ يُحاجّونَ في الله مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجّتُهُمْ داحضَةٌ عِنْدَ رَبّهِمْ قال: هم اليهود والنصارى, قالوا: كتابنا قبل كتابكم, ونبينا قبل نبيكم, ونحن خير منكم.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَالّذِينَ يُحاجّونَ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ ما اسْتَجِيبَ لَهُ حُجّتُهُمْ داحِضَةٌ... الاَية, قال: هم اليهود والنصارى حاجوا أصحاب نبيّ الله صلى الله عليه وسلم, فقالوا: كتابنا قبل كتابكم, ونبينا قبل نبيكم, ونحن أولى بالله منكم.
23668ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَالّذِينَ يُحاجُونَ فِي اللّهِ... إلى آخر الاَية, قال: نهاه عن الخصومة.

الآية : 17-18
القول فـي تأويـل قوله تعالى:
{اللّهُ الّذِيَ أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلّ السّاعَةَ قَرِيبٌ * يَسْتَعْجِلُ بِهَا الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالّذِينَ آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنّهَا الْحَقّ أَلاَ إِنّ الّذِينَ يُمَارُونَ فَي السّاعَةِ لَفِي ضَلاَلَ بَعِيدٍ }
يقول تعالى ذكره: اللّهُ الّذِي أنْزَلَ هذا الكِتابَ يعني القرآن بالحَقّ والمِيزَانِ يقول: وأنزل الميزان وهو العدل, ليقضي بين الناس بالإنصاف, ويحكم فيهم بحكم الله الذي أمر به في كتابه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23669ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنا الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعاً, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: أنْزَلَ الكِتابَ بالحَقّ والمِيزَانَ قال: العدل.
23670ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: الّذِي أنْزَلَ الكِتابَ بالحَقّ والمِيزَان قال: الميزان: العدل.
وقوله: وَما يُدْرِيكَ لَعَلّ السّاعَةَ قَرِيبٌ يقول تعالى ذكره: وأيّ شيء يدريك ويعلمك, لعل الساعة التي تقوم فيها القيامة قريب, يَسْتَعْجِلُ بِهَا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها: يقول: يستعجلك يا محمد بمجيئها الذين لا يوقنون بمجيئها, ظناً منهم أنها غير جائية وَالّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا يقول: والذين صدّقوا بمجيئها, ووعد الله إياهم الحشر فيها, مشفقون منها: يقول: وَجِلون من مجيئها, خائفون من قيامها, لأنهم لا يدرون ما الله فاعل بهم فيها وَيَعْلَمُونَ أنّها الحَقّ يقول: ويوقنون أن مجيئها الحقّ اليقين, لا يمترون في مجيئها ألاَ إنّ الّذِينَ يُمارُونَ فِي السّاعَةِ يقول تعالى ذكره: ألا إن الذين يخاصمون في قيام الساعة ويجادلون فيه لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ يقول: لفي جَور عن طريق الهدى, وزيغ عن سبيل الحقّ والرشاد, بعيد من الصواب.

الآية : 19-20
القول فـي تأويـل قوله تعالى:
{اللّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْقَوِيّ الْعَزِيزُ * مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِن نّصِيبٍ }
يقول تعالى ذكره: الله ذو لطف بعباده, يرزق من يشاء فيوسع عليه ويقترّ على من يشاء منهم وَهُوَ القَوِيّ الذي لا يغلبه ذو أيدٍ لشدّته, ولا يمتنع عليه إذا أراد عقابه بقدرته العَزِيزُ في انتقامه إذا انتقم من أهل معاصيه مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ يقول تعالى ذكره: من كان يريد بعمله الاَخرة نزد له في حرثه: يقول: نزد له في عمله الحسن, فنجعل له بالواحدة عشراً, إلى ما شاء ربنا من الزيادة وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدّنيْا نُؤْتِهِ مِنْها يقول: ومن كان يريد بعمله الدنيا ولها يسعى لا للاَخرة, نؤته منها ما قسمنا له منها وما لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ يقول: وليس لمن طلب بعمله الدنيا, ولم يرد الله به في ثواب الله لأهل الأعمال التي أرادوه بأعمالهم في الدنيا حظّ. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23671ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاَخرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ... إلى وَما لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ قال: يقول: من كان إنما يعمل للدنيا نؤته منها.
23672ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاَخِرَةِ نَزِدْ له فِي حَرْثِهِ, وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدّنْيا... الاَية, يقول: من آثر دنياه على آخرته لم نجعل له نصيباً في الاَخرة إلا النار, ولم نزده بذلك من الدنيا شيئاً إلا رزقاً قد فرغ منه وقسم له.
23673ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ قال: من كان يريد الاَخرة وعملها نزد له في عمله وَمنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدّنيْا نُؤْتِهِ مِنْها... إلى آخر الاَية, قال: من أراد الدنيا وعملها آتيناه منها, ولم نجعل له في الاَخرة من نصيب الحرث العمل, من عمل للاَخرة أعطاه الله, ومن عمل للدنيا أعطاه الله.
23674ـ حدثني محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قوله: مَنْ كانَ يُرِدُ حَرْثَ الاَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ قال: من كان يريد عمل الاَخرة نزد له في عمله.
وقوله: وَما لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ قال: للكافر عذاب أليم.

الآية : 21
القول فـي تأويـل قوله تعالى:
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مّنَ الدّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنّ الظّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
يقول تعالى ذكره أم لهؤلاء المشركين بالله شركاء في شركهم وضلالتهم شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللّهُ يقول: ابتدعوا لهم من الدين ما لم يبح الله لهم ابتداعه وَلَوْلا كَلِمَةُ الفَصلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ يقول تعالى ذكره: ولولا السابق من الله في أنه لا يعجل لهم العذاب في الدنيا, وأنه مضى من قيله إنهم مؤخرون بالعقوبة إلى قيام الساعة, لفرغ من الحكم بينكم وبينهم بتعجيله العذاب لهم في الدنيا, ولكن لهم في الاَخرة من العذاب الأليم, كما قال جلّ ثناؤه: وَإنّ الظّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ يقول: وإن الكافرين بالله لهم يوم القيامة عذاب مؤلم مُوجِع.
الآية : 22
القول في تأويل قوله تعالى: {تَرَى الظّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنّاتِ لَهُمْ مّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ترى يا محمد الكافرين بالله يوم القيامة مُشْفِقِينَ مِمّا كَسَبُوا يقول: وَجِلِين خائفين من عقاب الله على ما كسبوا في الدنيا من أعمالهم الخبيثة. وَهُوَ وَاقِعٌ بهِمْ يقول: والذين هم مشفقون منه من عذاب الله نازل بهم, وهم ذائقوه لا محالة.
وقوله: وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ فِي رَوْضَاتِ الجَنّاتِ يقول تعالى ذكره: والذين آمنوا بالله وأطاعوه فيما أمر ونهى في الدنيا في روضات البساتين في الاَخرة. ويعني بالروضات: جمع روضة, وهي المكان الذي يكثر نبته, ولا تقول العرب لمواضع الأشجار رياض ومنه قول أبي النجم.
والنّغضَ مِثْلَ الأجْرَبِ المُدّجّلِحَدَائِقَ الرّوْضِ التي لَمْ تُحْلَلِ
يعني بالروض: جمع روضة. وإنما عنى جلّ ثناؤه بذلك: الخبر عما هم فيه من السرور والنعيم. كما:
23675ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ فِي رَوْضَاتِ الجَنّاتِ إلى آخر الاَية. قال في رياض الجنة ونعيمها.
وقوله: لَهمْ ما يَشاءُونَ عِنْدَ رَبّهِمْ يقول للذين آمنوا وعملوا الصالحات عند ربهم في الاَخرة ما تشتهيه أنفسهم, وتلذّه أعينهم, ذلك هو الفضل الكبير, يقول تعالى ذكره: هذا الذي أعطاهم الله من هذا النعيم, وهذه الكرامة في الاَخرة: هو الفضل من الله عليهم, الكبير الذي يفضل كلّ نعيم وكرامة في الدنيا من بعض أهلها على بعض