تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 494 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 494

494- تفسير الصفحة رقم494 من المصحف
الآية: 61 - 62 {وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم، ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين}
قوله تعالى: "وإنه لعلم للساعة" قال الحسن وقتادة وسعيد بن جببر: يريد القرآن؛ لأنه يدل على قرب مجيء الساعة، أو به تعلم الساعة وأهوالها وأحوالها.
وقال ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدي وقتادة أيضا: إنه خروج عيسى عليه السلام، وذلك من أعلام الساعة. لأن الله ينزله من السماء قبيل قيام الساعة، كما أن خروج الدجال من أعلام الساعة. وقرأ ابن عباس وأبو هريرة وقتادة ومالك بن دينار والضحاك "وإنه لعلم للساعة" (بفتح العين واللام) أي أمارة. وقد روي عن عكرمة "وإنه للعلم" (بلامين) وذلك خلاف للمصاحف. وعن عبدالله بن مسعود. قال: لما كان ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم لقي إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام فتذاكروا الساعة فبدؤوا بإبراهيم فسألوه عنها فلم يكن عنده منها علم، ثم سألوا موسى فلم يكن عنده منها علم؛ فرد الحديث إلى عيسى ابن مريم قال: قد عهد إلي فيما دون وجبتها فأت وجبتها فلا يعلمها إلا الله عز وجل؛ فذكر خروج الدجال - قال: فأنزل فأقتله. وذكر الحديث، خرجه ابن ماجة في سننه. وفي صحيح مسلم [فبينما هو - يعني المسيح الدجال - إذ بعث الله المسيح بن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله...] الحديث...
وذكر الثعلبي والزمخشري وغيرهما من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ينزل عيسى بن مريم عليه السلام من السماء على ثنية من الأرض المقدسة يقال لها أفيق بين ممصرتين وشعر رأسه دهين وبيده حربة يقتل بها الدجال فيأتي بيت المقدس والناس في صلاة العصر والإمام يؤم بهم فيتأخر الإمام فيقدمه عيسى ويصلي خلفه على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ثم يقتل الخنازير ويكسر الصليب ويخرب البيع والكنائس ويقتل النصارى إلا من آمن به]. وروى خالد عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم إنه ليس بيني وبينه نبي وإنه أول نازل فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويقاتل الناس على الإسلام]. قال الماوردي: وحكى ابن عيسى عن قوم أنهم قالوا إذا نزل عيسى رفع التكليف لئلا يكون رسولا إلى ذلك الزمان يأمرهم عن الله تعالى وينهاهم. وهذا قول مردود لثلاثة أمور؛ منها الحديث، ولأن بقاء الدنيا يقتضي التكليف فيها، ولأنه ينزل آمرا بمعروف وناهيا عن منكر. وليس يستنكر أن يكون أمر الله تعالى له مقصورا على تأييد الإسلام والأمر به والدعاء إليه.
قلت: ثبت في صحيح مسلم وابن ماجة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لينزلن عيسى بن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد]. وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كيف أنتم إذا نزل،ابن مريم فيكم وإمامكم منكم] وفي رواية [فأمكم منكم] قال ابن أبي ذئب: تدري [ما أمكم منكم] ؟ قلت: تخبرني، قال: فأمكم بكتاب ربكم وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم. قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فهذا نص على أنه ينزل مجددا لدين النبي صلى الله عليه وسلم للذي درس منه، لا بشرع مبتدأ والتكليف باق؛ على ما بيناه هنا وفي كتاب التذكرة.
وقيل: "وإنه لعلم للساعة" أي وإن إحياء عيسى الموتى دليل على الساعة وبعث الموتى؛ قال ابن إسحاق.
قلت: ويحتمل أن يكون المعنى "وإنه" وإن محمدا صلى الله عليه وسلم لعلم للساعة؛ بدليل قوله عليه السلام: [بعثت أنا والساعة كهاتين] وضم السبابة والوسطى؛ خرجه البخاري ومسلم. وقال الحسن: أول أشراطها محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: "فلا تمترن بها واتبعوني هذا صراط مستقيم" "فلا تمترون بها" فلا تشكون فيها؛ يعني في الساعة؛ قاله يحيى بن سلام. وقال السدي: فلا تكذبون بها، ولا تجادلون فيها فإنها كائنة لا محالة. "واتبعون" أي في التوحيد وفيما أبلغكم عن الله. "هذا صراط مستقيم" أي طريق قويم إلى الله، أي إلى جنته. وأثبت الياء يعقوب في قوله: "واتبعون" في الحالين، وكذلك "وأطيعون". وأبو عمرو وإسماعيل عن نافع في الوصل دون الوقف، وحذف الباقون في الحالين. "ولا يصدنكم الشيطان" أي لا تغتروا بوساوسه وشبه الكفار. المجادلين؛ فإن شرائع الأنبياء لم تختلف في التوحيد ولا فيما أخبروا به من علم الساعة وغيرها بما تضمنته من جنه أو نار. "إنه لكم عدو مبين" تقدم.
الآية: 63 - 64 {ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون، إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم}
قوله تعالى: "ولما جاء عيسى بالبينات" قال ابن عباس: يريد إحياء الموتى وإبراء الأسقام، وخلق الطير، والمائدة وغيرها، والإخبار بكثير من الغيوب. وقال قتادة: البينات هنا الإنجيل. "قال قد جئتكم بالحكمة" أي النبوة؛ قاله السدي. ابن عباس: علم ما يؤدي إلى الجميل ويكف عن القبيح. وقيل الإنجيل؛ ذكره القشيري والماوردي. "ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه" قال مجاهد: من تبديل التوراة. الزجاج: المعنى لأبين لكم في الإنجيل بعض الذي تختلفون فيه من تبديل التوراة.
قال مجاهد: وبين لهم في غير الإنجيل ما احتاجوا إليه. وقيل: بين لهم بعض الذي اختلفوا فيه من أحكام التوراة على قدر ما سألوه. ويجوز أن يختلفوا في أشياء غير ذلك لم يسألوه عنها. وقيل: إن بني إسرائيل اختلفوا بعد موت موسى في أشياء من أمر دينهم وأشياء من أمر دنياهم فبين لهم أمر دينهم. ومذهب أبي عبيدة أن البعض بمعنى الكل؛ ومنه قوله تعالى: "يصبكم بعض الذي يعدكم" [غافر: 28]. وأنشد الأخفش قول لبيد:
سراك أمكنة إذا لم أرضها وتعتلق بعض النفوس حمامها
والموت لا يعتلق بعض النفوس دون بعض. ويقال للمنية: علوق وعلاقة. قال المفضل البكري:
وسائلة بثعلبة بن سير وقد علقت بثعلبة العلوق
وقال مقاتل: هو كقول: "ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم" [آل عمران: 50]. يعني ما أحل في الإنجيل مما كان محرما في التوراة؛ كلحم الإبل والشحم من كل حيوان وصيد السمك يوم السبت. "فاتقوا الله" أي اتقوا الشرك ولا تعبدوا إلا الله وحده؛ وإذا كان هذا قول عيسى فكيف يجوز أن يكون إلها أو ابن إله. "وأطيعون" فيما أدعوكم إليه من التوحيد وغيره. "إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم" أي عبادة الله صراط مستقيم، وما سواه معوج لا يؤدي سالكه إلى الحق.
الآية: 65 - 66 {فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم، هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون}
قوله تعالى: "فاختلف الأحزاب من بينهم" قال قتادة: يعني ما بينهم، وفيهم قولان: أحدهما: أنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، خالف بعضهم بعضا، قال مجاهد والسدي. الثاني: فرق النصارى من النسطورية والملكية واليعاقبة، اختلفوا في عيسى؛ فقال النسطورية: هو ابن الله. وقالت اليعاقبة: هو الله. وقالت الملكية: ثالث ثلاثة أحدهم الله؛ قال الكلبي ومقاتل، وقد مضى هذا في سورة "مريم". "فويل للذين ظلموا" أي كفروا وأشركوا؛ كما في سورة "مريم". "من عذاب يوم أليم" أي أليم عذابه؛ مثله: ليل نائم؛ أي ينام فيه. "هل ينظرون" يريد الأحزاب لا ينتظرون. "إلا الساعة أن تأتيهم بغتة" "إلا الساعة" يريد القيامة. "أن تأتيهم بغتة" أي فجأة. "وهم لا يشعرون" يفطنون. وقد مضى في غير موضع. وقيل: المعنى لا ينتظر مشركو العرب إلا الساعة. ويكون "الأحزاب" على هذا، الذين تحزبوا على النبي صلى الله عليه وسلم وكذبوه من المشركين. ويتصل هذا بقوله تعالى: "ما ضربوه لك إلا جدلا" [الزخرف: 58].
الآية: 67 {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين}
قوله تعالى: "الأخلاء يومئذ" يريد يوم القيامة. "بعضهم لبعض عدو" أي أعداء، يعادي بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا. "إلا المتقين" فإنهم أخلاء في الدنيا والآخرة؛ قال معناه ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في أمية بن خلف الجمحي وعقبة بن أبي معيط، كانا خليلين؛ وكان عقبة يجالس النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: قد صبأ عقبة بن أبي معيط؛ فقال له أمية: وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمدا ولم تتفل في وجهه؛ ففعل عقبة ذلك؛ فنذر النبي صلى الله عليه وسلم قتله فقتله يوم بدر صبرا، وقتل أمية في المعركة؛ وفيهم نزلت هذه الآية. وذكر الثعلبي رضي الله عنه في هذه الآية قال: كان خليلان مؤمنان وخليلان كافران، فمات أحد المؤمنين فقال: يا رب، إن فلانا كان يأمرني بطاعتك، وطاعة رسولك، وكان يأمرني بالخير وينهاني عن الشر. ويخبرني أني ملاقيك، يا رب فلا تضله بعدي، وأهده كما هديتني، وأكرمه كما أكرمتني. فإذا مات خليله المؤمن جمع الله ببنهما، فيقول الله تعالى: ليثن كل واحد منكما على صاحبه، فيقول: يا رب، إنه كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر، ويخبرني أني ملاقيك، فيقول الله تعالى: نعم الخليل ونعم الأخ ونعم الصاحب كان. قال: ويموت أحد الكافرين فيقول: يا رب، إن فلانا كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير، ويخبرني أني غير ملاقيك، فأسألك يا رب ألا تهده بعدي، وأن تضله كما أضللتني، وأن تهينه كما أهنتني؛ فإذا مات خليله الكافر قال الله تعالى لهما: لثين كل واحد منكما على صاحبه، فيقول: يا رب، إنه كان يأمرني بمعصيتك ومعصية رسولك، ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير ويخبرني أني غير ملاقيك، فأسألك أن تضاعف عليه العذاب؛ فيقول الله تعالى: بئس الصاحب والأخ والخليل كنت. فيلعن كل واحد منهما صاحبه.
قلت: والآية عامة في كل مؤمن ومتق وكافر ومضل.
الآية: 68 {يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون}
قال مقاتل ورواه المعتمر بن سليمان عن أببه: ينادي مناد في العرصات "يا عبادي لا خوف عيكم اليوم"، فيرفع أهل العرصة رؤوسهم، فيقول المنادي: "الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين" فينكس أهل الأديان رؤوسهم غير المسلمين.
وذكر المحاسبي في الرعاية: وقد روي في هذا الحديث أن المنادي ينادي يوم القيامة: "يا عبادي لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون" فيرفع الخلائق رؤوسهم، يقولون: نحن عباد الله. ثم ينادي الثانية: "الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين" فينكس الكفار رؤوسهم ويبقى الموحدون رافعي رؤوسهم. ثم ينادي الثالث: "الذين آمنوا وكانوا يتقون" [يونس: 63] فينكس أهل الكبائر رؤوسهم، ويبقى أهل التقوى رافعي رؤوسهم، قد أزال عنهم الخوف والحزن كما وعدهم؛ لأنه أكرم الأكرمين، لا يخذل وليه ولا يسلمه عند الهلكة. وقرئ "يا عباد". وقرأ أبو بكر وزر بن حبيش "يا عبادي" بفتح الياء وإثباتها في الحالين؛ ولذلك أثبتها نافع وابن عامر وأبو عمرو ورويس ساكنة في الحالين. وحذفها الباقون في الحالين؛ لأنهما وقعت مثبتة في مصاحف أهل الشام والمدينة لا غير.
الآية: 69 - 70 {الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين، ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون}
قال الزجاج: "الذين" نصب على النعت لـ "عبادي" لأن "عبادي" منادى مضاف. وقيل: "الذين آمنوا" خبر لمبتدأ محذوف أو ابتداء وخبره محذوف؛ تقديره هم الذين آمنوا، يقال لهم: "ادخلوا الجنة" أو يا عبادي الذين آمنوا ادخلوا الجنة. "أنتم وأزواجكم" المسلمات في الدنيا. وقيل: قرناؤكم من المؤمنين. وقيل: زوجاتكم من الحور العين. "تحبرون" تكرمون؛ قاله ابن عباس؛ والكرامة في المنزلة. الحسن: تفرحون. والفرح في القلب. قتادة: ينعمون؛ والنعيم في البدن. مجاهد؛ تسرون؛ والسرور في العين. ابن أبي نجيح: تعجبون؛ والعجب ها هنا درك ما يستطرف يحي بن أبي كثير: هو التلذذ بالسماع. وقد مضى.
الآية: 71 {يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون}
قوله تعالى: "يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب" أي لهم في الجنة أطعمة وأشربة يطاف بها عليهم في صحاف من ذهب وأكواب. ولم يذكر الأطعمة والأشربة؛ لأنه يعلم أنه لا معنى للإطافة بالصحاف والأكواب عليهم من غير أن يكون فيها شيء. وذكر الذهب في الصحاف واستغنى به عن الإعادة في الأكواب؛ كقوله تعالى: "والذاكرين الله كثيرا والذاكرات" [الأحزاب: 35]. وفي الصحيحين عن حذيفة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة]. وقد مضى في سورة "الحج" أن من أكل فيهما في الدنيا أو لبس الحرير في الدنيا ولم يتب حرم ذلك في الآخرة تحريما مؤيدا. والله أعلم. وقال المفسرون: يطوف على أدناهم في الجنة منزلة سبعون ألف غلام بسبعين ألف صحفة من ذهب، يغدى عليها بها، في كل واحدة منها لون ليس في صاحبتها، يأكل من آخرها كما يأكل من أولها، ويجد طعم آخرها كما يجد طعم أولها، لا يشبه بعضه بعضا، ويراح عليه بمثلها. ويطوف على أرفعهم درجة كل يوم سبعمائة ألف غلام، مع كل غلام صحفة من ذهب، فيها لون من الطعام ليس في صاحبتها، يأكل من آخرها كما يأكل من أولها، ويجد طعم آخرها كما يجد طعم أولها، لا يشبه بعضه بعضا.
"وأكواب" أي ويطاف عليهم بأكواب؛ كما قال تعالى: "ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب" [الإنسان: 15].
وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا معمر عن رجل عن أبي قلابة قال: يؤتون بالطعام والشراب، فإذا كان في آخر ذلك أوتوا بالشراب الطهور فتضمر لذلك بطونهم، ويفيض عرقا من جلودهم أطيب من ريح المسك؛ ثم قرأ "شرابا طهورا" [الإنسان: 21]. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون قالوا فما بال الطعام ؟ قال: جشاء ورشح كرشح المسك يلهمون التسبيح والتحميد والتكبير - في رواية - كما يلهمون النفس].
روى الأئمة من حديث أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) وقال: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها) وهذا يقتضي التحريم، ولا خلاف في ذلك. واختلف الناس في استعمالها في غير ذلك. قال ابن العربي: والصحيح أنه لا يجوز للرجال استعمالها في شي لقول النبي صلى الله عليه وسلم الذهب والحرير: (هذان حرام لذكور أمتي حل لإناثها). والنهي عن الأكل والشرب فيها يدل علن تحريم استعمالها؛ لأنه نوع من المتاع فلم يجز. أصله الأكل والشرب، ولأن العلة في ذلك استعجال أمر الآخرة، وذلك يستوي فيه الأكل والشرب وسائر أجزاء الانتفاع؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم قال: (هي لهم في الدنيا ولنا في الآخرة) فلم يجعل لنا فيها حظا في الدنيا.
إذا كان الإناء مضببا بهما أو فيه حلقة منهما؛ فقال مالك: لا يعجبني أن يشرب فيه، وكذلك المرأة تكون فيها الحلقة من الفضة ولا يعجبني أن ينظر فيها وجهه.
وقد كان عند أنس إناء مضبب بفضة وقال: لقد سقيت فيه النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن سيرين: كانت فيه حلقة حديد فأراد أنس أن يجعل فيه حلقة فضة؛ فقال أبو طلحة: لا أغير شيئا مما صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتركه.
إذا لم يجز استعمالها لم يجز اقتناؤها؛ لأن ما لا يجوز استعماله لا يجوز اقتناؤه كالصنم والطنبور. وفي كتب علمائنا أنه يلزم الغرم في قيمتها لمن كسرها، وهو معنى فاسد، فإن كسره واجب فلا ثمن لقيمتها. ولا يجوز تقويمها في الزكاة بحال. وغير هذا لا يلتفت إليه.
قوله تعالى: "بصحاف" قال الجوهري: الصحفة كالقصعة والجمع صحاف. قال الكسائي: أعظم القصاع الجفنة ثم القصعة طيها تشبع العشرة، ثم الصحفة تشبع الخمسة، ثم المئكلة تشبع الرجلين والثلاثة، ثم الصحيفة تشبع الرجل. والصحيفة الكتاب والجمع صحف وصحائف. "وأكواب" قال الجوهري: الكوب كوز لا عروة له، والجمع أكواب قال الأعشى يصف الخمر:
صريفية طيب طعمها لها زبد بين كوب ودن
وقال آخر:
متكئا تصفق أبوابه يسعى عليه العبد بالكوب
وقال قتادة: الكوب المدور القصير العنق القصير العروة. والإبريق: المستطيل العنق الطويل العروة. وقال الأخفش: الأكواب الأباريق التي لا خراطيم لها. وهي الأباريق التي ليست لها عرى. وقال مجاهد: إنها الآنية المدورة الأفواه. السدي: هي التي لا آذان لها. ابن عزيز: "أكواب" أباريق لا عرى لها ولا خراطيم؛ واحدها كوب.
قلت: وهو معنى قول مجاهد والسدي، وهو مذهب أهل اللغة أنها التي لا آذان لها ولا عرى.
قوله تعالى: "وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين" روى الترمذي عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله،هل في الجنة من خيل ؟ قال: [إن الله أدخلك الجنة فلا تشاء أن تحمل فيها على فرس من ياقوتة حمراء يطير بك في الجنة حيث شئت]. قال: وسأله رجلا فقال يا رسول الله، هل في الجنة من إبل ؟ قال: فلم يقل له مثل ما قال لصاحبه قال: [إن أدخلك الله الجنة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك]. وقرأ أهل المدينة، ابن عامر وأهل الشام "وفيها ما تشتهيه الأنفس"، الباقون "تشتهي الأنفس" أي تشتهيه الأنفس؛ تقول الذي ضربت زيد، أي الذي ضربته زيد. "وتلذ الأعين" تقول: لذ الشيء يلذ لذاذا، ولذاذة. ولذذت. بالشيء ألذ (بالكسر في الماضي والفتح في المستقبل) لذاذا ولذاذة؛ أي وجدته لذيذا. والتذذت به وتلذذت به بمعنى. أي في الجنة ما تستلذه العين فكان حسن المنظر. وقال سعيد بن جبير: "وتلذ الأعين" النظر إلى الله عز وجل؛ كما في الخبر: [أسألك لذة النظر إلى وجهك]. "وأنتم فيها خالدون" باقون دائمون؛ لأنها لو انقطعت لتبغضت.
الآية: 72 {وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون}
قوله تعالى: "وتلك الجنة" أي يقال لهم هذه تلك الجنة التي كانت توصف لكم في الدنيا. وقال ابن خالَويه: أشار تعالى إلى الجنة بتلك وإلى جهنم بهذه؛ ليخوف بجهنم ويؤكد التحذير منها. وجعلها بالإشارة القريبة كالحاضرة التي ينظر إليها. "التي أورثتموها بما كنتم تعملون" قال ابن عباس: خلق الله لكل نفس جنة ونارا؛ فالكافر يرث نار المسلم، والمسلم يرث جنة الكافر؛ وقد تقدم هذا مرفوعا في "قد أفلح المؤمنون" [المؤمنون: 1] من حديث أبي هريرة، وفي "الأعراف" أيضا.
الآية: 73 {لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون}
الفاكهة معروفة، وأجناسها الفواكه، والفاكِهاني الذي يبيعها. وقال ابن عباس: هي الثمار كلها، رطبها وطيبا؛ أي لهم في الجنة سوى الطعام والشراب فاكهة كثيرة يأكلون منها.