تفسير الطبري تفسير الصفحة 494 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 494
495
493
 الآية : 61-62
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنّهُ لَعِلْمٌ لّلسّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنّ بِهَا وَاتّبِعُونِ هَـَذَا صِرَاطٌ مّسْتَقِيمٌ * وَلاَ يَصُدّنّكُمُ الشّيْطَانُ إِنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مّبِينٌ }.
اختلف أهل التأويل في الهاء التي في قوله: وإنّهُ وما المعنيّ بها, ومن ذكر ما هي, فقال بعضهم: هي من ذكر عيسى, وهي عائدة عليه. وقالوا: معنى الكلام: وإن عيسى ظهوره علم يعلم به مجيء الساعة, لأن ظهوره من أشراطها ونزوله إلى الأرض دليل على فناء الدنيا, وإقبال الاَخرة. ذكر من قال ذلك:
23927ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن عاصم, عن أبي رزين, عن يحيى, عن ابن عباس, «وَإنّهُ لَعَلَمٌ للِسّاعَةِ» قال: خروج عيسى بن مريم.
حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا ابن أبي عديّ, عن شعبة, عن عاصم, عن أبي رزين, عن ابن عباس بمثله, إلا أنه قال: نزول عيسى بن مريم.
حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسيّ, قال: حدثنا غالب بن قائد, قال: حدثنا قيس, عن عاصم, عن أبي رزين, عن ابن عباس, أنه كان يقرأ «وَإنّهُ لَعَلَمٌ للسّاعَةِ» قال: نزول عيسى بن مريم.
حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا ابن عطية, عن فضيل بن مرزوق, عن جابر, قال: كان ابن عباس يقول: ما أدري علم الناس بتفسير هذه الاَية, أم لم يفطنوا لها؟ «وَإنّهُ لَعَلَمٌ للسّاعَةِ» قال: نزول عيسى ابن مريم.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: «وَإنّهُ لَعَلَمٌ للسّاعَةِ» قال: نزول عيسى ابن مريم.
23928ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا حصين, عن أبي مالك وعوف عن الحسن أنهما قالا في قوله: وَإنّهُ لَعِلْمٌ للسّاعَةِ قالا: نزول عيسى ابن مريم وقرأها أحدهما «وإنّهُ لَعَلَمٌ للسّاعَةِ».
23929ـ حدثنا محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: وَإنّهُ لَعِلْمٌ للسّاعَةِ قال: آية للساعة خروج عيسى ابن مريم قبل يوم القيامة.
23930ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة «وَإنّهُ لَعَلَمٌ للسّاعَةِ قال: نزول عيسى ابن مريم علم للساعة: القيامة.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: «وَإنّهُ لَعَلَمٌ للسّاعَة» قال: نزول عيسى ابن مريم علم للساعة.
23931ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ وَإنّهُ لَعِلْمٌ للسّاعَةِ قال: خروج عيسى ابن مريم قبل يوم القيامة.
23932ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وَإنّهُ لَعِلْمٌ للسّاعَةِ يعني خروج عيسى ابن مريم ونزوله من السماء قبل يوم القيامة.
23933ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَإنّهُ لَعِلْمٌ للسّاعَة قال: نزول عيسى ابن مريم علم للساعة حين ينزل.
وقال آخرون: الهاء التي في قوله: وَإنّهُ من ذكر القرآن, وقالوا: معنى الكلام: وإن هذا القرآن لعلم للساعة يعلمكم بقيامها, ويخبركم عنها وعن أهوالها. ذكر من قال ذلك:
23934ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: كان الحسن يقول: «وَإنّهُ لَعَلَمٌ للسّاعَةِ» هذا القرآن.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة قال: كان ناس يقولون: القرآن علم للساعة. واجتمعت قرّاء الأمصار في قراءة قوله: وَإنّهُ لَعِلْمٌ للسّاعَةِ على كسر العين من العلم. ورُوي عن ابن عباس ما ذكرت عنه في فتحها, وعن قتادة والضحاك.
والصواب من القراءة في ذلك: الكسر في العين, لإجماع الحجة من القرّاء عليه. وقد ذُكر أن ذلك في قراءة أُبيّ, وإنه لذكر الساعة, فذلك مصحح قراءة الذين قرأوا بكسر العين من قوله: لَعِلْمٌ.
وقوله: فَلا تَمْتَرُنّ بِها يقول: فلا تشكنّ فيها وفي مجيئها أيها الناس. كما:
23935ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ فَلا تَمْتَرُنّ بِها قال: تشكون فيها.
وقوله: وَاتّبِعُونِ يقول تعالى ذكره: وأطيعون فاعملوا بما أمرتكم به, وانتهوا عما نهيتكم عنه, وَهَذا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ يقول: اتباعكم إياي أيها الناس في أمري ونهيي صراط مستقيم, يقول: طريق لا اعوجاج فيه, بل هو قويم.
وقوله: وَلايَصُدّنّكُمُ الشّيْطانُ يقول جل ثناؤه: ولا يعدلنكم الشيطان عن طاعتي فيما آمركم وأنهاكم, فتخالفوه إلى غيره, وتجوروا عن الصراط المستقيم فتضلوا إنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مُبِينٌ يقول: إن الشيطان لكم عدوّ يدعوكم إلى ما فيه هلاككم, ويصدّكم عن قصد السبيل, ليوردكم المهالك, مبين قد أبان لكم عداوته, بامتناعه من السجود لأبيكم آدم, وإدلائه بالغرور حتى أخرجه من الجنة حسدا وبغيا.
الآية : 63-64
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَمّا جَآءَ عِيسَىَ بِالْبَيّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلاُبَيّنَ لَكُم بَعْضَ الّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنّ اللّهَ هُوَ رَبّي وَرَبّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـَذَا صِرَاطٌ مّسْتَقِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره: ولما جاء عيسى بني إسرائيل بالبيّنات, يعني بالواضحات من الأدلة. وقيل: عُني بالبيّنات: الإنجيل. ذكر من قال ذلك:
23936ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَلَمّا جاءَ عِيسَى بالبَيّناتِ أي بالإنجيل. وقوله: قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بالْحِكْمَةِ قيل: عُني بالحكمة في هذا الموضع: النبوّة. ذكر من قال ذلك:
23937ـ حدثني محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بالْحِكْمَةِ قال: النبوّة.
وقد بيّنت معنى الحكمة فيما مضى من كتابنا هذا بشواهده, وذكرت اختلاف المختلفين في تأويله, فأغنى ذلك عن إعادته.
وقوله: وَلاِبَيّنَ لَكُمْ بَعْضَ الّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ يقول: ولأبين لكم معشر بني إسرائيل بعض الذي تختلفون فيه من أحكام التوراة. كما:
23938ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: وَلأَبَيّنَ لَكُمْ بَعْضَ الّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ قال: من تبديل التوراة.
وقد قيل: معنى البعض في هذا الموضع بمعنى الكلّ, وجعلوا ذلك نظير قول لبيد:
تَرّاكُ أمْكِنَةٍ إذَا لَمْ أَرْضهاأوْ يَعْتَلِقْ بَعْضَ النّفُوسِ حِمامُها
قالوا: الموت لا يعتلق بعض النفوس, وإنما المعنى: أو يعتلق النفوس حمامها, وليس لما قال هذا القائل كبير معنى, لأن عيسى إنما قال لهم: وَلاِبَيّنَ لَكُمْ بَعْض الّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ, لأنه قد كان بينهم اختلاف كثير في أسباب دينهم ودنياهم, فقال لهم: أبين لكم بعض ذلك, وهو أمر دينهم دون ما هم فيه مختلفون من أمر دنياهم, فلذلك خصّ ما أخبرهم أنه يبينه لهم. وأما قول لبيد: «أو يعتلق بعض النفوس», فإنه إنما قال ذلك أيضا كذلك, لأنه أراد: أو يعتلق نفسه حمامها, فنفسه من بين النفوس لا شكّ أنها بعض لا كلّ.
وقوله: فاتّقُوا اللّهَ وأطِيعُونِ يقول: فاتقوا ربكم أيها الناس بطاعته, وخافوه باجتناب معاصيه, وأطيعون فيما أمرتكم به من اتقاء الله واتباع أمره, وقبول نصيحتي لكم.
وقوله: إنّ اللّهَ هُوَ رَبّي وَرَبّكُم فاعْبُدُوهُ يقول: إن الله الذي يستوجب علينا إفراده بالألوهية وإخلاص الطاعة له, ربي وربكم جميعا, فاعبدوه وحده, لا تشركوا معه في عبادته شيئا, فإنه لا يصلح, ولا ينبغي أن يُعبد شيء سواه.
وقوله: هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ يقول: هذا الذي أمرتكم به من اتقاء الله وطاعتي, وإفراد الله بالألوهة, هو الطريق المستقيم, وهو دين الله الذي لا يقبل من أحد من عباده غيره.
الآية : 65-66
القول في تأويل قوله تعالى: {فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لّلّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ السّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }.
اختلف أهل التأويل في المعنيين بالأحزاب, الذين ذكرهم الله في هذا الموضع, فقال بعضهم: عنى بذلك: الجماعة التي تناظرت في أمر عيسى, واختلفت فيه. ذكر من قال ذلك:
23939ـ حدثنا ابن عبد الأعلى قال, حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: فاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهمْ قال: هم الأربعة الذين أخرجهم بنو إسرائيل يقولون في عيسى. وقال آخرون: بل هم اليهود والنصارى. ذكر من قال ذلك:
23940ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, في قوله: فاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ قال: اليهود والنصارى.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: معنى ذلك: فاختلف الفِرَق المختلفون في عيسى بن مريم من بين من دعاهم عيسى إلى ما دعاهم إليه من اتقاء الله والعمل بطاعته, وهم اليهود والنصارى, ومن اختلف فيه من النصارى, لأن جميعهم كانوا أحزابا مبتسلين, مختلفي الأهواء مع بيانه لهم أمر نفسه, وقوله لهم: إنّ الله هُوَ رَبّي وَرَبّكُمْ فاعْبَدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ.
وقوله: فَوَيْلٌ لِلّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَاب يَوْم ألِيمٍ يقول تعالى ذكره فالوادي السائل من القيح والصديد في جهنم للذين كفروا بالله, الذين قالوا في عيسى بن مريم بخلاف ما وصف عيسى به نفسه في هذه الاَية مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ ألِيمٍ يقول: من عذاب يوم مؤلم, ووصف اليوم بالإيلام, إذ كان العذاب الذي يؤلمهم فيه, وذلك يوم القيامة. كما:
23941ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ ألِيمٍ قال: من عذاب يوم القيامة.
وقوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ السّاعَةَ أنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً يقول: هل ينظر هؤلاء الأحزاب المختلفون في عيسى بن مريم, القائلون فيه الباطل من القول, إلاّ الساعة التي فيها تقوم القيامة فجأة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يقول: وهم لا يعلمون بمجيئها.
الآية : 67-68
القول في تأويل قوله تعالى: {الأخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ إِلاّ الْمُتّقِينَ * يَعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ }.
يقول تعالى ذكره: المتخالّون يوم القيامة على معاصي الله في الدنيا, بعضهم لبعض عدوّ, يتبرأ بعضهم من بعض, إلاّ الذين كانوا تخالّوا فيها على تقوى الله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23942ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: الأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ إلاّ المُتّقِينَ فكلّ خلة على معصية الله في الدنيا متعادون.
23943ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: الأخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ إلاّ المُتّقِينَ فكل خُلّة هي عداوة إلاّ خُلّة المتقين.
23944ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن أبي إسحاق, أن عليا رضي الله عنه قال: خليلان مؤمنان, وخليلان كافران, فمات أحد المؤمنَين فقال: يا ربّ إن فلانا كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك, ويأمرني بالخير, وينهاني عن الشرّ ويخبرني أني ملاقيك يا ربّ فلا تضله بعدي واهده كما هديتني وأكرمه كما أكرمتني, فإذا مات خليله المؤمن جمع بينهما فيقول: ليثن أحدكما على صاحبه فيقول: يا ربّ إنه كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك, ويأمرني بالخير, وينهاني عن الشرّ, ويخبرني أني ملاقيك, فيقول: نعم الخليل, ونعم الأخ, ونعم الصاحب قال: ويموت أحد الكافرين فيقول: يا ربّ إن فلانا كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك, ويأمرني بالشرّ, وينهاني عن الخير, ويخبرني أني غير ملاقيك, فيقول: بئس الأخ, وبئس الخليل, وبئس الصاحب.
وقوله: يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ وَلا أنْتُمْ تَحْزَنُونَ وفي هذا الكلام محذوف استغني بدلالة ما ذكر عليه. ومعنى الكلام: الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدوّ إلاّ المتقين, فإنهم يقال لهم: يا عبادي لا خوف عليكم اليوم من عقابي, فإني قد أمنتكم منه برضاي عنكم, ولا أنتم تحزنون على فراق الدنيا فإن الذي قدمتم عليه خير لكم مما فارقتموه منها.
وذُكر أن الناس ينادون هذا النداء يوم القيامة, فيطمع فيها من ليس من أهلها حتى يسمع قوله: الّذِينَ آمَنُوا بآياتِنا وكانُوا مُسْلِمِينَ فييأس منها عند ذلك.
23945ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, قال: حدثنا المعتمر, عن أبيه, قال سمعت أن الناس حين يبعثون ليس منهم أحد إلاّ فزع, فينادي منادٍ: يا عباد الله لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون, فيرجوها الناس كلهم, قال: فيتبعها الّذِينَ آمَنُوا بآياتِنا وكانُوا مُسْلِمِينَ قال: فييأس الناس منها غير المسلمين.
الآية : 69-70
القول في تأويل قوله تعالى: {الّذِينَ آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ * ادْخُلُواْ الْجَنّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ }.
وقوله: الّذِينَ آمَنُوا بآياتِنا يقول تعالى ذكره: يا عبادي الذين آمنوا وهم الذين صدّقوا بكتاب الله ورسله, وعملوا بما جاءتهم به رسلهم, وكانوا مسلمين, يقول: وكانوا أهل خضوع لله بقلوبهم, وقبول منهم لما جاءتهم به رسلهم عن ربهم على دين إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم, حنفاء لا يهود ولا نصارى, ولا أهل أوثان.
وقوله: ادْخُلُوا الجَنّةَ أنْتُمْ وأزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ يقول جلّ ثناؤه: ادخلوا الجنة أنتم أيها المؤمنون وأزواجكم مغبوطين بكرامة الله, مسرورين بما أعطاكم اليوم ربكم.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: تُحْبَرُونَ وقد ذكرنا ما قد قيل في ذلك فيما مضى, وبيّنا الصحيح من القول فيه عندنا بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع, غير أنا نذكر بعض ما لم يُذكر هنالك من أقوال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23946ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة ادْخُلُوا الجَنّةَ أنْتُمْ وأزْوَاجُكُم تُحْبَرُونَ: أي تَنْعَمون.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, قوله: تُحْبَرُونَ قال: تنعمون.
23947ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, في قوله: تُحْبَرُونَ قال: تكرمون.
23948ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: أنْتُمْ وأزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ قال: تنعمون.
الآية : 71
القول في تأويل قوله تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذّ الأعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }.
يقول تعالى ذكره: يُطاف على هؤلاء الذين آمنوا بآياته في الدنيا إذا دخلوا الجنة في الاَخرة بصحاف من ذهب, وهي جمع للكثير من الصّحْفة, والصّحْفة: القصعة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23949ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ قال: القِصاع.
23950ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن يمان, عن أشعث بن إسحاق, عن جعفر, عن شعبة, قال: «إنّ أدنى أهل الجنة منزلة, من له قصر فيه سبعون ألف خادم, في يد كل خادم صحفة سوى ما في يد صاحبها, لو فتح بابه فضافه أهل الدنيا لأوسعهم».
23951ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب القميّ, عن جعفر, عن سعيد, قال: «إن أخسّ أهل الجنة منزلاً من له سبعون ألف خادم, مع كل خادم صحفة من ذهب, لو نزل به جميع أهل الأرض لأوسعهم, لا يستعين عليهم بشيء من غيره, وذلك في قول الله تبارك وتعالى: لَهُمْ ما يَشاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنا مَزيدٌ ولهم فِيها ما تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ, وَتَلَذّ الاْءَعْينُ».
23952ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن أبي أيوب الأزديّ, عن عبد الله بن عمرو, قال: «ما أحد من أهل الجنة إلاّ يسعى عليه ألف غلام, كلّ غلام على عمل ما عليه صاحبه».
وقوله: وأكْوَابٍ وهي جمع كوب, والكوب: الإبريق المستدير الرأس, الذي لا أذن له ولا خرطوم, وإياه عنى الأعشى بقوله:
صَرِيفَيّةٌ طَيّبٌ طَعْمُهالَهَا زَبَدٌ بينَ كُوب وَدَنّ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23953ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ وأكْوَابٍ قال: الأكواب التي ليست لها آذان. ومعنى الكلام: يطاف عليهم فيها بالطعام في صِحاف من ذهب, وبالشراب في أكواب من ذهب, فاستغنى بذكر الصّحاف والأكواب من ذكر الطعام والشراب, الذي يكون فيها لمعرفة السامعين بمعناه «وَفِيها ما تَشْتَهي الأَنْفُسُ وَتَلَذّ الأَعْيُنُ» يقول تعالى ذكره: لكم في الجنة ما تشتهي نفوسكم أيها المؤمنون, وتلذّ أعينكم وأنْتُمْ فِيها خالِدُونَ يقول: وأنتم فيها ماكثون, لا تخرجون منها أبدا. كما:
23954ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن علقمة بن مرثد, عن ابن سابط أن رجلاً قال: يا رسول الله إني أُحبّ الخيل, فهل في الجنة خيل؟ فقال: «إنْ يُدْخِلْكَ الجَنّةَ إنْ شاءَ, فَلا تَشاءُ أنْ تَرْكَبَ فَرَسا مِنْ ياقُوتَةٍ حَمْرَاءَ تَطِيرُ بِكَ فِي أيّ الجَنّةِ شِئْتَ إلاّ فَعَلَتْ», فقال أعرابيّ: يا رسول الله إني أحبّ الإبل, فهل في الجنة إبل؟ فقال: «يا أعرابيّ إنْ يُدْخِلْكَ اللّهُ الجَنّةَ إن شاءَ اللّهُ, فَفِيها ما اشْتَهَتْ نَفْسُكَ, وَلَذّت عَيْناكَ».
23955ـ حدثنا الحسن بن عرفة, قال: حدثنا عمر بن عبد الرحمن الأبار, عن محمد بن سعد الأنصاري, عن أبي ظبية السلفي, قال: إن السرب من أهل الجنة لتظلهم السحابة, قال: فتقول: ما أُمْطِرُكُمْ؟ قال: فما يدعو داعٍ من القوم بشيء إلاّ أمطرتهم, حتى إن القائل منهم ليقول: أمطرينا كواعب أترابا.
23956ـ حدثنا ابن عرفة, قال: حدثنا مروان بن معاوية, عن عليّ بن أبي الوليد, قال: قيل لمجاهد في الجنة سماع؟ قال: إن فيها لشجرا يقال له العيص, له سماع لم يسمع السامعون إلى مثله.
23957ـ حدثني موسى بن عبد الرحمن, قال: حدثنا زيد بن حباب, قال: أخبرنا معاوية بن صالح, قال: ثني سليمان بن عامر, قال: سمعت أبا أُمامة, يقول: «إن الرجل من أهل الجنة ليشتهي الطائر وهو يطير, فيقع متفلقا نضيجا في كفه, فيأكل منه حتى تنتهي نفسه, ثم يطير, ويشتهي الشراب, فيقع الإبريق في يده, ويشرب منه ما يريد, ثم يرجع إلى مكانه.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ فقرأته عامة قرّاء المدينة والشام: ما تَشْتَهِيهِ بزيادة هاء, وكذلك ذلك في مصاحفهم. وقرأ ذلك عامة قرّاء العراق «تَشْتَهِي» بغير هاء, وكذلك هو في مصاحفهم.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان بمعنى واحد, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.
الآية : 72-73
القول في تأويل قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنّةُ الّتِيَ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مّنْهَا تَأْكُلُونَ }.
يقول تعالى ذكره: يقال لهم: وهذه الجنة التي أورثكموها الله عن أهل النار الذين أدخلهم جهنم بما كنتم في الدنيا تعملون من الخيرات لَكُمْ فِيها يقول: لكم في الجنة فاكهة كثيرة من كلّ نوع مِنْها تَأْكُلُونَ يقول: من الفاكهة تأكلون ما اشتهيتم