تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 493 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 493

493- تفسير الصفحة رقم493 من المصحف
قوله: "وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها" أي كانت آيات موسى من أكبر الآيات، وكانت كل واحدة أعظم مما قبلها. وقيل: "إلا وهي أكبر من أختها" لأن الأولى تقتضي علما والثانية تقتضي علما، فتضم الثانية إلى الأولى فيزداد الوضوح، ومعنى الأخوة المشاكلة المناسبة؛ كما يقال: هذه صاحبة هذه؛ أي قريبتان في المعنى. "وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون" أي على تكذيبهم بتلك الآيات؛ وهو كقوله تعالى: "ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات" [الأعراف:130]. والطوفان والجراد والقمل والضفادع. وكانت هذه الآيات الأخيرة عذابا لهم وآيات لموسى. "لعلهم يرجعون" من كفرهم.
قوله تعالى: "وقالوا يا أيها الساحر" لما عاينوا العذاب قالوا يا أيها الساحر؛ نادوه بما كانوا ينادونه به من قبل ذلك على حسب عادتهم. وقيل: كانوا يسمون العلماء سحرة فنادوه بذلك على سبيل التعظيم. قال ابن عباس: "يا أيها الساحر" يا أيها العالم، وكان الساحر فيهم عظيما يوقرونه؛ ولم يكن السحر صفة ذم. وقيل: يا أيها الذي غلبنا بسحره؛ يقال: ساحرته فسحرته؛ أي غلبته بالسحر؛ كقول العرب: خاصمته فخصمته أي غلبته بالخصومة، وفاضلته ففضلته، ونحوها. ويحتمل أن يكون أرادوا به الساحر على الحقيقة على معنى الاستفهام، فلم يلمهم على ذلك رجاء أن يؤمنوا. وقرأ ابن عامر وأبو حيوة ويحيى بن ثابت "وأيهُ الساحر" بغير ألف والهاء مضمومة؛ وعلتها أن الهاء خلطت بما قبلها وألزمت ضم الياء الذي أوجبه النداء المفرد. وأنشد الفراء:
يأيه القلب اللجوج النفس أفق عن البيض الحسان اللعس
فضم الهاء حملا على ضم الياء؛ وقد مضى في "النور" معنى هذا. ووقف أبو عمرو وابن أبي إسحاق ويحيى والكسائي "أيها" بالألف على الأصل. الباقون بغير ألف؛ لأنها كذلك وقعت في المصحف. "ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون" "ادع لنا ربك بما عهد عندك" أي بما أخبرنا عن عهده إليك إنا إن آمنا كشف عنا؛ فسله يكشف عنا "إننا لمهتدون" أي فيما يستقبل. "فلما كشفنا عنهم العذاب" أي فدعا فكشفنا. "إذا هم ينكثون" أي ينقضون العهد على أنفسهم فلم يؤمنوا. وقيل:قولهم: "إننا لمهتدون" إخبار منهم عن أنفسهم بالإيمان؛ فلما كشف عنهم العذاب ارتدوا.
قوله تعالى: "ونادى فرعون في قومه" قيل: لما رأى تلك الآيات خاف ميل القوم إليه فجمع قومه فقال: فنادى بمعنى قال؛ قاله أبو مالك. فيجوز أن يكون عنده عظماء القبط فرفع صوته بذلك فيما بينهم ثم ينشر عنه في جموع القبط؛ وكأنه نودي بينهم. وقيل: إنه أمر من ينادي في قومه؛ قاله ابن جريج. "قال يا قوم أليس لي ملك مصر" أي لا ينازعني فيه أحد. قيل: إنه ملك منها أربعين فرسخا في مثلها؛ حكاه النقاش. وقيل أراد بالملك هنا الإسكندرية. "وهذه الأنهار تجري من تحتي" يعني أنهار النيل، ومعظمها أربعة: نهر الملك ونهر طولون ونهر دمياط ونهر تنيس. وقال قتادة: كانت جنانا وأنهارا تجري من تحت قصوره. وقيل: من تحت سريره. وقيل: "من تحتي" قال القشيري: ويجوز ظهور خوارق العادة على مدعي الربوبية؛ إذ لا حاجة في التمييز الإله من غير الإله إلى فعل خارق للعادة. وقيل معنى "وهذه الأنهار تجري من تحتي" أي القواد والرؤساء والجبابرة يسيرون من تحت لوائي؛ قاله الضحاك. وقيل: أراد بالأنهار الأموال، وعبر عنها بالأنهار لكثرتها وظهورها. وقوله: "تجري من تحتي" أي أفرقها على من يتبعني؛ لأن الترغيب والقدرة في الأموال دون الأنهار. "أفلا تبصرون" عظمتي وقوتي وضعف موسى. وقيل: قدرتي على نفقتكم وعجز موسى. والواو في "وهذه" يجوز أن تكون عاطفة للأنهار على "ملك مصر" و"تجري" نصب على الحال منها. ويجوز أن تكون واو الحال، واسم الإشارة مبتدأ، و"الأنهار" صفة لاسم الإشارة، و"تجري" خبر للمبتدأ. وفتح الياء من "تحتي" أهل المدينة والبزي وأبو عمرو، وأسكن الباقون. وعن الرشيد أنه لما قرأها قال: لأولينها أحسن عبيدي، فولاها الخصيب، وكان على وضوئه. وعن عبدالله بن طاهر أنه وليها فخرج إليها شارفها ووقع عليها بصره قال: أهذه القرية التي افتخر بها فرعون حتى قال: "أليس لي ملك مصر" ؟ ! والله لهي عندي أقل من أن أدخلها ! فثنى عنانه. ثم صرح بحاله فقال: "أم أنا خير" قال أبو عبيدة السدي: "أم" بمعنى "بل" وليست بحرف عطف؛ على قول أكثر المفسرين. والمعنى: قال فرعون لقومه بل أنا خير"من هذا الذي هو مهين" أي لا عزله فهو يمتهن نفسه في حاجاته لحقارته وضعفه "ولا يكاد يبين" يعني ما كان في لسانه من العقدة؛ على ما تقدم في "طه" وقال الفراء:في "أم" وجهان: إن شئت جعلتها من الاستفهام الذي جعل بأم لاتصاله بكلام قبله، وإن شئت جعلتها نسقا على قوله: "أليس لي ملك مصر". وقيل: هي زائدة. وروى أبو زيد عن العرب أنهم يجعلون "أم" زائدة؛ والمعنى أنا خير من هذا الذي هو مهين. وقال الأخفش: في الكلام حذف، والمعنى: أفلا تبصرون أم تبصرون؛ كما قال:
أيا ظبية الوعساء بين جلاجل وبين النقا آأنت أم أم سالم
أي أنت أحسن أم أم سالم. ثم ابتداء فقال: (أنا خير). وقال الخليل وسيبويه: المعنى "أفلا تبصرون"، أم أنتم بصراء، فعطف بـ "أم" على "أفلا تبصرون" لأن معنى "أم أنا خير" أم أي تبصرون؛ وذلك أنهم إذا قالوا له أنت خير منه كانوا عنده بصراء.
وروي عن عيسى الثقفي ويعقوب الحضرمي أنهما وقفا على "أم" على أن يكون التقدير أفلا تبصرون أم تبصرون؛ فحذف تبصرون الثاني. وقيل من وقف على "أم" جعلها زائدة، وكأنه وقف على "تبصرون" من قوله: "أفلا تبصرون". ولا يتم الكلام على "تبصرون" عند الخليل وسيبويه؛ لأن "أم" تقتضي الاتصال بما قبلها. وقال قوم: الوقف على قوله: "أفلا تبصرون" ثم ابتدأ "أم أنا خير" بمعنى بل أنا؛ وأنشد الفراء:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى وصورتها أم أنت في العين أملح
فمعناه: بل أنت أملح. وذكر الفراء أن بعض القراء قرأ "أما أنا خير"؛ ومعنى هذا ألست خيرا. وروي عن مجاهد أنه وقف على "أم" ثم يبتدئ "أنا خير" وقد ذكر.
الآية: 53 {فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين}
قوله تعالى: "فلولا" أي هلا "ألقي عليه أساورة من ذهب" إنما قال ذلك لأنه كان عادة الوقت وزي أهل الشرف. وقرأ حفص "أسورة" جمع سوار، كخمار وأخمرة. وقرأ أبي "أساور" جمع إسوار. وابن مسعود "أساوير". الباقون "أساورة" جمع الأسورة فهو جمع الجمع. ويجوز أن يكون "أساورة" جمع "إسوار" وألحقت الهاء في الجمع عوضا من الياء؛ فهو مثل زناديق وزنادقة، وبطاريق وبطارقة، وشبهه. وقال أبو عمرو بن العلاء: واحد الأساورة والأساور والأساوير إسوار، وهي لغة في سوار. قال مجاهد: كانوا إذا سوروا رجلا سوروه بسوارين وطوقوه بطوق ذهب علامة لسيادته، فقال فرعون: هلا ألقى رب موسى عليه أساورة من ذهب إن كان صادقا ! "أو جاء معه الملائكة مقترنين" يعني متتابعين؛ في قول قتادة. مجاهد: يمشون معا. ابن عباس: يعاونونه على من خالفه؛ والمعنى: هلا ضم إليه الملائكة التي يزعم أنها عند ربه حتى يتكثر بهم ويصرفهم على أمره ونهيه؛ فيكون ذلك أهيب في القلوب. فأوهم قومه أن رسل الله ينبغي أن يكونوا كرسل الملوك في الشاهد، ولم يعلم أن رسل الله إنما أيدوا بالجنود السماوية؛ وكل عاقل يعلم أن حفظ الله موسى مع تفرده ووحدته من فرعون مع كثرة أتباعه، وإمداد موسى بالعصا واليد البيضاء كان أبلغ من أن يكون له أسورة أو ملائكة يكونون معه أعوانا - في قول مقاتل - أو دليلا على صدقه - في قول الكلبي - وليس يلزم هذا لأن الإعجاز كان، وقد كان في الجائز أن يكذب مع مجيء الملائكة كما كذب مع ظهور الآيات. وذكر فرعون الملائكة حكاية عن لفظ موسى؛ لأنه لا يؤمن بالملائكة من لا يعرف خالقهم.
الآية: 54 {فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين}
قوله تعالى: "فاستخف قومه" قال ابن الأعرابي: المعنى فاستجهل قومه "فأطاعوه" لخفة أحلامهم وقلة عقولهم؛ يقال: استخفه الفرح أي أزعجه، واستخفه أي حمله على الجهل؛ ومنه: "ولا يستخفنك الذين لا يوقنون" [الروم: 60]. وقيل: استفزهم بالقول فأطاعوه على، التكذيب. وقيل: استخف قومه أي وجدهم خفاف الأول. وهذا لا يدل على أنه يجب أن يطيعوه، فلا بد من إضمار بعيد تقديره وجدهم خفاف العقول فدعاهم إلى الغواية فأطاعوه. وقيل: استخف قومه وقهرهم حتى أتبعوه؛ يقال: استخفه خلاف استثقله، واستخف به أهانه. "إنهم كانوا قوما فاسقين" أي خارجين عن طاعة الله.
الآية: 55 {فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين}
قوله تعالى: "فلما آسفونا انتقمنا منهم" روى الضحاك عن ابن عباس: أي غاظونا وأغضبونا. وروى عنه علي بن أبي طلحة: أي أسخطونا. قال الماوردي: ومعناها مختلف، والفرق بينهما أن السخط إظهار الكراهة. والغضب إرادة الانتقام. القشيري: والأسف ها هنا بمعنى الغضب؛ والغضب من الله إما إرادة العقوبة فيكون من صفات الذات، وإما عين العقوبة فيكون من صفات الفعل؛ وهو معنى قول الماوردي.
وقال عمر بن ذر: يا أهل معاصي الله، لا تغتروا بطول حلم الله عنكم، واحذروا أسفه؛ فإنه قال: "فلما آسفونا انتقمنا منهم". وقيل: "آسفونا" أي أغضبوا رسلنا وأولياءنا المؤمنين؛ نحو السحرة وبني إسرائيل. وهو كقوله تعالى: "يؤذون الله" [الأحزاب: 57] و"يحاربون الله" [المائدة: 33] أي أولياءه ورسله.
الآية: 56 {فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين}
قوله تعالى: "فجعلناهم سلفا" أي جعلنا قوم فرعون سلفا. قال أبو مِجْلَز: "سلفا" لمن عمل عملهم، و"مثلا" لمن يعمل عملهم. وقال مجاهد: "سلفا" إخبارا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، "ومثلا" أي عبرة لهم. وعنه أيضا "سلفا" لكفار قومك يتقدمونهم إلى النار. قتادة: "سلفا" إلى النار، "ومثلا" عظة لمن يأتي بعدهم. والسلف المتقدم؛ يقال: سلف يسلف سلفا؛ مثل طلب طلبا؛ أي تقدم ومضى. وسلف له عمل صالح أي تقدم. والقوم السلاف المتقدمون. وسلف الرجل: آباؤه المتقدمون؛ والجمع أسلاف وسلاف. وقراءة العامة "سلفا" (بفتح السين واللام) جمع سالف؛ كخادم وخدم، وراصد ورصد، وحارس وحرس. وقرأ حمزة والكسائي "سلفا" (بضم السين واللام). قال الفراء هو جمع سليف، نحو سرير وسرر. وقال أبو حاتم: هو جمع سلف؛ نحو خشب وخشب، وثمر وثمر؛ ومعناهما واحد. وقرأ علي وابن مسعود وعلقمة وأبو وائل والنخعي وحميد بن قيس "سلفا" (بضم السين وفتح اللام) جمع سلفة، أي فرقة متقدمة. قال المؤرج والنضر بن شميل: "سلفا" جمع سلفة، نحو غرفة وغرف، وطرفة وطرف، وظلمة وظلم.
الآية: 57 {ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون}
لما قال تعالى: "وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون" [الزخرف: 45] تعلق المشركون بأمر عيسى وقالوا: ما يريد محمد إلا أن نتخذه إلها كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم الها؛ قال قتادة. ونحوه عن مجاهد قال: إن قريشا قالت إن محمدا يريد أن نعبده كما عبد قوم عيسى عيسى؛ فأنزل الله هذه الآية. وقال ابن عباس: أراد به مناظرة عبدالله بن الزبعرى مع النبي صلى الله عليه وسلم في شأن عيسى، وأن الضارب لهذا المثل هو عبدالله بن الزبعرى اسهمي حالة كفره لما قالت له قريش إن محمدا يتلو: "إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم" [الأنبياء: 98] الآية، فقال: لو حضرته لرددت عليه؛ قالوا: وما كنت تقول له ؟ قال: كنت أقول له هذا المسيح تعبده النصارى، واليهود تعبد عزيرا، أفهما من حصب جهنم ؟ فعجبت قريش من مقالته ورأوا أنه قد خصم؛ وذلك معنى قوله: "يصدون" فما نزل الله تعالى: "إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون" [الأنبياء: 101]. ولو تأمل ابن الزبعرى الآية ما أعترض عليها؛ لأنه قال: "وما تعبدون" ولم يقل ومن تعبدون وإنما أراد الأصنام ونحوها مما لا يعقل، ولم يرد المسيح ولا الملائكة وإن كانوا معبودين. وقد مضى هذا في آخر سورة "الأنبياء".
وروى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقريش: [يا معشر قريش لا خير في أحد يعبد من دون الله]. قالوا: أليس تزعم أن عيسى كان عبدا نبيا وعبدا صالحا، فإن كان كما تزعم فقد كان يعبد من دون الله !. فأنزل الله تعالى: "ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك يصدون" أي يضجون كضجيج الإبل عند حمل الأثقال. وقرأ نافع وابن عامر والكسائي "يصدون" (بضم الصاد) ومعناه يعرضون؛ قاله النخعي، وكسر الباقون. قال الكسائي: هما لغتان؛ مثل يعرشون ويعرشون وينمون وينمون، ومعناه يضجون. قال الجوهري: وصد يصد صديدا؛ أي ضج. وقيل: إنه بالضم من الصدود وهو الإعراض، وبالكسر من الضجيج؛ قال قطرب. قال أبو عبيد: لو كانت من الصدود عن الحق لكانت: إذا قومك عنه يصدون. الفراء: هما سواء؛ منه وعنه. ابن المسيب: يصدون يضجون. الضحاك يعجون. ابن عباس: يضحكون. أبو عبيدة: من ضم فمعناه يعدلون؛ فيكون المعنى: من أجل الميل يعدلون. ولا يعدى "يصدون" بمن، ومن كسر فمعناه يضجون؛ فـ "من" متصلة بـ "يصدون" والمعنى يضجون منه.
الآية: 58 {وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون}
قوله تعالى: "وقالوا أآلهتنا خير أم هو" أي ألهتنا خير أم عيسى ؟ قال السدي. وقال: خاصموه وقالوا إن كل من عبد من دون الله في النار، فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى والملائكة وعزير، فأنزل الله تعالى: "إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون" [الأنبياء: 101] الآية. وقال قتادة: "أم هو" يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم. وفي قراءة ابن مسعود "ألهتنا خير أم هذا". وهو يقوي قول قتادة، فهو استفهام تقرير في أن آلهتهم خير. وقرأ الكوفيون ويعقوب "أألهتنا" بتحقيق الهمزتين، ولين الباقون. وقد تقدم. "ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون" "ما ضربوه لك إلا جدلا" حال؛ أي جدلين. يعني ما ضربوا لك هذا المثل إلا إرادة الجدل؛ لأنهم علموا أن المراد بحصب جهنم ما اتخذوه من الموت "بل هم قوم خصمون" مجادلون بالباطل. وفي صحيح الترمذي عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل - ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية - "ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون"].
الآية: 59 - 60 {إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل، ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون}
قوله تعالى: "إن هو إلا عبد أنعمنا عليه" أي ما عيسى إلا عبد أنعم الله عليه بالنبوة، وجعله مثلا لبني إسرائيل؛ أي آية وعبرة يستدل بها. على قدرة الله تعالى؛ فإن عيسى كان من غير أب، ثم جعل الله من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والأسقام كلها ما لم يجعل لغيره في زمانه، مع أن بني إسرائيل كانوا يومئذ خير الخلق وأحبه إلى الله عز وجل، والناس دونهم، ليس أحد عند الله عز وجل مثلهم.
وقيل المراد بالعبد المنعم عليه محمد صلى الله عليه وسلم؛ والأول أظهر. "ولو نشاء لجعلنا منكم" أي بدلا منكم "ملائكة" يكونون خلفا عنكم؛ قال السدي. ونحوه عن مجاهد قال: ملائكة يعمرون الأرض بدلا منكم. وقال الأزهري: إن "من" قد تكون للبدل؛ بدليل هذه الآية.
قلت: قدم تقدم هذا المعنى في "التوبة" وغيرها. وقيل: لو نشاء لجعلنا من الإنس ملائكة وإن لم تجر العادة بذلك، والجواهر جنس واحد والاختلاف بالأوصاف؛ والمعنى: لو نشاء لأسكنا الأرض الملائكة، وليس في إسكاننا إياهم السماء شرف حتى يعبدوا، أو يقال لهم بنات الله. ومعنى "يخلفون" يخلف بعضهم بعضا؛ قاله ابن عباس.