تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 512 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 512

512- تفسير الصفحة رقم512 من المصحف
الآية: 10 {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيم}
قوله تعالى: "إن الذين يبايعونك" بالحديبية يا محمد. "إنما يبايعون الله" بين أن بيعتهم لنبيه إنما هي بيعة الله، كما قال تعالى: "من يطع الرسول فقد أطاع الله" [النساء: 80]. وهذه المبايعة هي بيعة الرضوان، على ما يأتي بيانها في هذه السورة إن شاء الله تعالى. "يد الله فوق أيديهم" قيل: يده في الثواب فوق أيديهم في الوفاء، ويده في المنة عليهم بالهداية فوق أيديهم في الطاعة. وقال الكلبي: معناه نعمة الله عليهم فوق ما صنعوا من البيعة. وقال ابن كيسان: قوه الله ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم. "فمن نكث" بعد البيعة. "فإنما ينكث على نفسه" أي يرجع ضرر النكث عليه، لأنه حرم نفسه الثواب وألزمها العقاب. "ومن أوفى بما عاهد عليه الله" قيل في البيعة. وقيل في إيمانه. وقرأ حفص والزهري "عليه" بضم الهاء. وجرها الباقون. "فسيؤتيه أجرا عظيما" يعني في الجنة. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر "فسنؤتيه" بالنون. واختاره الفراء وأبو معاذ. وقرأ الباقون بالياء. وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، لقرب اسم الله منه.
الآية: 11 {سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبير}
قوله تعالى: "سيقول لك المخلفون من الأعراب" قال مجاهد وابن عباس: يعني أعراب غفار ومزينة وجهينة وأسلم وأشجع والديل، وهم الأعراب الذين كانوا حول المدينة، تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد السفر إلى مكة عام الفتح، بعد أن كان استنفرهم ليخرجوا معه حذرا من قريش، وأحرم بعمرة وساق معه الهدي، ليعلم الناس أنه لا يريد حربا فتثاقلوا عنه واعتلوا بالشغل، فنزلت. وإنما قال: "المخلفون" لأن الله خلفهم عن صحبة نبيه. والمخلف المتروك. وقد مضى في "التوبة". "شغلتنا أموالنا وأهلونا" أي ليس لنا من يقوم بهما. "فاستغفر لنا" جاؤوا يطلبون الاستغفار واعتقادهم بخلاف ظاهرهم، ففضحهم الله تعالى بقوله: "يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم" وهذا هو النفاق المحض.
قوله تعالى: "قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا" قرأ حمزة والكسائي "ضرا" بضم الضاد هنا فقط، أي أمرا يضركم. وقال ابن عباس: الهزيمة. الباقون بالفتح، وهو مصدر ضررته ضرا. وبالضم اسم لما ينال الإنسان من الهزال وسوء الحال. والمصدر يؤدي عن المرة وأكثر. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قالا: لأنه قابله بالنفع وهو ضد الضر. وقيل: هما لغتان بمعنى، كالفقر والفقر والضعف والضعف. "أو أراد بكم نفعا" أي نصرا وغنيمة. وهذا رد عليهم حين ظنوا أن التخلف عن الرسول يدفع عنهم الضر ويعجل لهم النفع.
الآية: 12 {بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بور}
قوله تعالى: "بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا" وذلك أنهم قالوا: إن محمدا وأصحابه أكلة رأس لا يرجعون. "وزين ذلك" أي النفاق. "في قلوبكم" وهذا التزيين من الشيطان، أو يخلق الله ذلك في قلوبهم. "وظننتم ظن السوء" أن الله لا ينصر رسوله. "وكنتم قوما بورا" أي هلكى، قاله مجاهد. وقال قتادة: فاسدين لا يصلحون لشيء من الخير. قال الجوهري: البور: الرجل الفاسد الهالك الذي لا خير فيه. قال عبدالله بن الزبعرى السهمي:
يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت إذ أنا بور
وامرأة بور أيضا، حكاه أبو عبيد. وقوم بور هلكى. قال تعالى: "وكنتم قوما بورا" وهو جمع بائر، مثل حائل وحول. وقد بار فلان أي هلك. وأباره الله أي أهلكه. وقيل: "بورا" أشرارا، قاله ابن بحر. وقال حسان بن ثابت:
لا ينفع الطول من نوك الرجال وقد يهدي الإله سبيل المعشر البور
أي الهالك.
الآية: 13 {ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعير}
وعيد لهم، وبيان أنهم كفروا بالنفاق.
الآية: 14 {ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيم}
أي هو غني عن عباده، وإنما ابتلاهم بالتكليف ليثيب من آمن ويعاقب من كفر وعصى.
الآية: 15 {سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليل}
قوله تعالى: "سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها" يعني مغانم خيبر، لأن الله عز وجل وعد أهل الحديبية فتح خيبر، وأنها لهم خاصة من غاب منهم ومن حضر. ولم يغب منهم عنها غير جابر بن عبدالله فقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم كسهم من حضر. قال ابن إسحاق: وكان المتولي للقسمة بخيبر جبار بن صخر الأنصاري من بني سلمة، وزيد بن ثابت من بني النجار، كانا حاسبين قاسمين. "ذرونا نتبعكم" أي دعونا. تقول: ذره، أي دعه. وهو يذره، أي يدعه. وأصله وذره يذره مثال وسعه يسعه. وقد أميت صدره، لا يقال: وذره ولا واذر، ولكن تركه وهو تارك. قال مجاهد: تخلفوا عن الخروج إلى مكة، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ قوما ووجه بهم قالوا ذرونا نتبعكم فنقاتل معكم. "يريدون أن يبدلوا كلام الله" أي يغيروا. قال ابن زيد: هو قوله تعالى: "فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا" [التوبة: 83] الآية. وأنكر هذا القول الطبري وغيره، بسبب أن غزوة تبوك كانت بعد فتح خيبر وبعد فتح مكة. وقيل: المعنى يريدون أن يغيروا وعد الله الذي وعد لأهل الحديبية، وذلك أن الله تعالى جعل لهم غنائم خيبر عوضا عن فتح مكة إذ رجعوا من الحديبية على صلح، قاله مجاهد وقتادة، واختاره الطبري وعليه عامة أهل التأويل. وقرأ حمزة والكسائي "كلم" بإسقاط الألف وكسر اللام جمع كلمة، نحو سلمة وسلم. الباقون "كلام" على المصدر. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، اعتبارا بقوله: "إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي" [الأعراف: 144]. والكلام: ما استقل بنفسه من الجمل. قال الجوهري: الكلام اسم جنس يقع على القليل والكثير. والكلم لا يكون أقل من ثلاث كلمات لأنه جمع كلمة، مثل نبقة ونبق. ولهذا قال سيبويه: (هذا باب علم ما الكلم من العربية) ولم يقل ما الكلام، لأنه أراد نفس ثلاثة أشياء: الاسم والفعل والحرف، فجاء بما لا يكون إلا جمعا، وترك ما يمكن أن يقع على الواحد والجماعة. وتميم تقول: هي كلمة، بكسر الكاف، وقد مضى في "التوبة" القول فيها.
قوله تعالى: "كذلكم قال الله من قبل" أي من قبل رجوعنا من الحديبية إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية خاصة. "فسيقولون بل تحسدوننا" أن نصيب معكم من الغنائم. وقيل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، [إن خرجتم لم أمنعكم إلا أنه لا سهم لكم]. فقالوا: هذا حسد. فقال المسلمون: قد أخبرنا الله في الحديبية بما سيقولونه وهو قوله تعالى: "فسيقولون بل تحسدوننا" فقال الله تعالى: "بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا" يعني لا يعلمون إلا أمر الدنيا. وقيل: لا يفقهون من أمر الدين إلا قليلا، وهو ترك القتال.