سورة الفتح | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 514 من المصحف
الآية: 24 {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصير}
قوله تعالى: "وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة" وهي الحديبية. "من بعد أن أظفركم عليهم" روى يزيد بن هارون قال: أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأخذناهم سلما فاستحييناهم، فأنزل الله تعالى: "وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم". وقال عبدالله بن مغفل المزني: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله في القرآن، فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ الله بأبصارهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: [هل جئتم في عهد أحد أو هل جعل لكم أحد أمانا]. قالوا: اللهم لا، فخلى سبيلهم. فأنزل الله تعالى: "وهو الذي كف أيدهم عنكم" الآية. وذكر ابن هشام عن وكيع: وكانت قريش قد جاء منهم نحو سبعين رجلا أو ثمانين رجلا للإيقاع بالمسلمين وانتهاز الفرصة في أطرافهم، ففطن المسلمون لهم فأخذوهم أسرى، وكان ذلك والسفراء يمشون بينهم في الصلح، فأطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم الذين يسمون العتقاء، ومنهم معاوية وأبوه. وقال مجاهد: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم معتمرا، إذ أخذ أصحابه ناسا من الحرم غافلين فأرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك الإظفار ببطن مكة. وقال قتادة: ذكر لنا أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له زنيم، اطلع الثنية من الحديبية فرماه المشركون بسهم فقتلوه، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا فأتوا باثني عشر فارسا من الكفار، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: [هل لكم علي ذمة] قالوا لا؟ فأرسلهم فنزلت. وقال ابن أبزى والكلبي: هم أهل الحديبية، كف الله أيديهم عن المسلمين حتى وقع الصلح، وكانوا خرجوا بأجمعهم وقصدوا المسلمين، وكف أيدي المسلمين عنهم. وقد تقدم أن خالد بن الوليد كان في خيل المشركين. قال القشيري: فهذه رواية، والصحيح أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت. وقد قال سلمة بن الأكوع: كانوا في أمر الصلح إذ أقبل أبو سفيان، فإذا الوادي يسير بالرجال والسلاح، قال: فجئت بستة من المشركين أسوقهم متسلحين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، فأتيت بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان عمر قال في الطريق: يا رسول الله، نأتي قوما حربا وليس معنا سلاح ولا كراع؟ فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من الطريق فأتوه بكل سلاح وكراع كان فيها، وأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عكرمة بن أبي جهل خرج إليك في خمسمائة فارس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد: [هذا ابن عمك أتاك في خمسمائة]. فقال خالد: أنا سيف الله وسيف رسوله، فيومئذ سمي بسيف الله، فخرج ومعه خيل وهزم الكفار ودفعهم إلى حوائط مكة. وهذه الرواية أصح، وكان بينهم قتال بالحجارة، وقيل بالنبل والظفر. وقيل: أراد بكف اليد أنه شرط في الكتاب أن من جاءنا منهم فهو رد عليهم، فخرج أقوام من مكة مسلمون وخافوا أن يردهم الرسول عليه السلام إلى المشركين لحقوا بالساحل، ومنهم أبو بصير، وجعلوا يغيرون على الكفار ويأخذون عيرهم، حتى جاء كبار قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: اضممهم إليك حتى نأمن، ففعل. وقيل: همت غطفان وأسد منع المسلمين من يهود خيبر، لأنهم كانوا حلفاءهم فمنعهم الله عن ذلك، فهو كف اليد. "ببطن مكة" فيه قولان: أحدهما: يريد به مكة. الثاني: الحديبية، لأن بعضها مضاف إلى الحرم. قال الماوردي: وفي قوله: "من بعد أن أظفركم عليهم" بفتح مكة. تكون هذه نزلت بعد فتح مكة، وفيها دليل على أن مكة فتحت صلحا، لقوله عز وجل: "كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم".
قلت: الصحيح أن هذه الآية نزلت في الحديبية قبل فتح مكة، حسب ما قدمناه عن أهل التأويل من الصحابة والتابعين. وروى الترمذي قال: حدثنا عبد بن حميد قال حدثني سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس: أن ثمانين هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الصبح وهم يريدون أن يقتلوه، فأخذوا أخذا فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: "وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم" الآية. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وقد تقدم. وأما فتح مكة فالذي تدل عليه الأخبار أنها إنما فتحت عنوة، وقد مضى القول في ذلك في "الحج" وغيرها. "وكان الله بما تعملون بصيرا".
الآية: 25 {هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليم}
قوله تعالى: "هم الذين كفروا" يعني قريشا، منعوكم دخول المسجد الحرام عام الحديبية حين أحرم النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه بعمرة، ومنعوا الهدي وحبسوه عن أن يبلغ محله. وهذا كانوا لا يعتقدونه، ولكنه حملتهم الأنفة ودعتهم حمية الجاهلية إلى أن يفعلوا ما لا يعتقدونه دينا، فوبخهم الله على ذلك وتوعدهم عليه، وأدخل الأنس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيانه ووعده. "والهدي معكوفا" أي محبوسا. وقيل موقوفا. وقال أبو عمرو بن العلاء: مجموعا. الجوهري: عكفه أي حبسه ووقفه، يعكفه ويعكفه عكفا، ومنه قوله تعالى: "والهدي معكوفا"، يقال ما عكفك عن كذا. ومنه الاعتكاف في المسجد وهو الاحتباس. "أن يبلغ محله" أي منحره، قاله الفراء. وقال الشافعي رضي الله عنه: الحرم. وكذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه، المحصر محل هديه الحرم. والمحل (بكسر الحاء): غاية الشيء. (وبالفتح): هو الموضع الذي يحله الناس. وكان الهدي سبعين بدنة، ولكن الله بفضله جعل ذلك الموضع له محلا. وقد اختلف العلماء في هذا على ما تقدم بيانه في "البقرة" عند قوله تعالى: "فإن أحصرتم" والصحيح ما ذكرناه. وفي صحيح مسلم عن أبي الزبير عن جابر بن عبدالله قال: نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة. وعنه قال: اشتركنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج والعمرة كل سبعة في بدنة. فقال رجل لجابر: أيشترك في البدنة ما يشترك في الجزور؟ قال: ما هي إلا من البدن. وحضر جابر الحديبية قال: ونحرنا يومئذ سبعين بدنة، اشتركنا كل سبعة في بدنة. وفي البخاري عن ابن عمر قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمرين، فحال كفار قريش دون البيت، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنة وحلق رأسه. قيل: إن الذي حلق رأسه يومئذ خراش بن أمية بن أبي العيص الخزاعي، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن ينحروا ويحلوا، ففعلوا بعد توقف كان منهم أغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت له أم سلمة: لو نحرت لنحروا، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه ونحروا بنحره، وحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه ودعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة. ورأى كعب بن عجرة والقمل يسقط على وجهه، فقال: [أيؤذيك هوامك]؟ قال نعم، فأمره أن يحلق وهو بالحديبية. خرجه البخاري والدارقطني. وقد مضى في "البقرة".
قوله تعالى: "والهدي" والهَديُ والهَدِيّ لغتان. وقرئ "حتى يبلغ الهَدْيُ محله" [البقرة: 196] بالتخفيف والتشديد، الواحدة هدية. وقد مضى في "البقرة" أيضا. وهو معطوف على الكاف والميم من "صدوكم". و"معكوفا" حال، وموضع "أن" من قوله: "أن يبلغ محله" نصب على تقدير الحمل على "صدوكم" أي صدوكم وصدوا الهدي عن أن يبلغ. ويجوز أن يكون مفعولا له، كأنه قال: وصدوا الهدي كراهية أن يبلغ محله. أبو علي: لا يصح حمله على العكف، لأنا لا نعلم "عكف" جاء متعديا، ومجيء "معكوفا" في الآية يجوز أن يكون محمولا على المعنى، كأنه لما كان حبسا حمل المعنى على ذلك، كما حمل الرفث على معنى الإفضاء فعدي بإلى، فإن حمل على ذلك كان موضعه نصبا على قياس قول سيبويه، وجرا على قياس قول الخليل. أو يكون مفعولا له، كأنه قال: محبوسا كراهية أن يبلغ محله. ويجوز تقدير الجر في "أن" لأن عن تقدمت، فكأنه قال: وصدوكم عن المسجد الحرام، وصدوا الهدي "عن" أن يبلغ محله. ومثله ما حكاه سيبويه عن يونس: مررت برجل إن زيد وإن عمرو، فأضمر الجار لتقدم ذكره.
قوله تعالى: "ولولا رجال مؤمنون" يعني المستضعفين من المؤمنين بمكة وسط الكفار، كسلمه بن هشام وعياش بن أبي ربيعة وأبي جندل بن سهيل، وأشباههم. "لم تعلموهم" أي تعرفوهم. وقيل لم تعلموهم أنهم مؤمنون. "أن تطؤوهم" بالقتل والإيقاع بهم، يقال: وطئت القوم، أي أوقعت بهم. و"أن" يجوز أن يكون رفعا على البدل من رجال، ونساء كأنه قال ولولا وطؤكم رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات. ويجوز أن يكون نصبا على البدل من الهاء والميم في "تعلموهم"، فيكون التقدير: لم تعلموا وطأهم، وهو في الوجهين بدل الاشتمال. "لم تعلموهم" نعت لـ "رجال" و"نساء". وجواب "لولا" محذوف، والتقدير: ولو أن تطؤوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم لأذن الله لكم في دخول مكة، ولسلطكم عليهم، ولكنا صنا من كان فيها يكثم إيمانه. وقال الضحاك: لولا من في أصلاب الكفار وأرحام نسائهم من رجال مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموا أن تطؤوا آباءهم فتهلك أبناؤهم.
قوله تعالى: "فتصيبكم منهم معرة" المعرة العيب، وهي مفعلة من العر وهو الجرب، أي يقول المشركون: قد قتلوا أهل دينهم. وقيل: المعنى يصيبكم من قتلهم ما يلزمكم من أجله كفارة قتل الخطأ، لأن الله تعالى إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها ولم يعلم بإيمانه الكفارة دون الدية في قوله: "فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة" [النساء: 92] قاله الكلبي ومقاتل وغيرهما. وقد مضى في "النساء" القول فيه. وقال ابن زيد: "معرة" إثم. وقال الجوهري وابن إسحاق: غرم الدية. قطرب: شدة. وقيل غم. "بغير علم" تفضيل للصحابة وإخبار عن صفتهم الكريمة من العفة عن المعصية والعصمة عن التعدي، حتى لو أنهم أصابوا من ذلك أحدا لكان عن غير قصد. وهذا كما وصفت النملة عن جنه سليمان عليه السلام في قولها: "لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون" [النمل: 18].
قوله تعالى: "ليدخل الله في رحمته من يشاء" اللام في "ليدخل" متعلقة بمحذوف، أي لو قتلتموهم لأدخلهم الله في رحمته. ويجوز أن تتعلق بالإيمان. ولا تحمل على مؤمنين دون مؤمنات ولا على مؤمنات دون مؤمنين لأن الجميع يدخلون في الرحمة. وقيل: المعنى لم يأذن الله لكم في قتال المشركين ليسلم بعد الصلح من قضى أن يسلم من أهل مكة، وكذلك كان أسلم الكثير منهم وحسن إسلامه، ودخلوا في رحمته، أي جنته.
قوله تعالى: "لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما" أي تميزوا، قاله القتبي. وقيل: لو تفرقوا، قاله الكلبي. وقيل: لو زال المؤمنون من بين أظهر الكفار لعذب الكفار بالسيف، قاله الضحاك. ولكن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار. وقال علي رضي الله عنه: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية "لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا" فقال: [هم المشركون من أجداد نبي الله ومن كان بعدهم وفي عصرهم كان في أصلابهم قوم مؤمنون فلو تزيل المؤمنون عن أصلاب الكافرين لعذب الله تعالى الكافرين عذابا أليما].
هذه الآية دليل على مراعاة الكافر في حرمة المؤمن، إذ لا يمكن أذية الكافر إلا بأذية المؤمن. قال أبو زيد قلت لابن القاسم: أرأيت لو أن قوما من المشركين في حصن من حصونهم، حصرهم أهل الإسلام وفيهم قوم من المسلمين أسارى في أيديهم، أيحرق هذا الحصن أم لا؟ قال: سمعت مالكا وسئل عن قوم من المشركين في مراكبهم: أنرمي في مراكبهم بالنار ومعهم الأسارى في مراكبهم؟ قال: فقال مالك لا أرى ذلك، لقوله تعالى لأهل مكة: "لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما". وكذلك لو تترس كافر بمسلم لم يجز رميه. وإن فعل ذلك فاعل فأتلف أحدا من المسلمين فعليه الدية والكفارة. فإن لم يعلموا فلا دية ولا كفارة، وذلك أنهم إذا علموا فليس لهم أن يرموا، فإذا فعلوه صاروا قتلة خطأ والدية على عواقلهم. فإن لم يعلموا فلهم أن يرموا. وإذا أبيحوا الفعل لم يجز أن يبقى عليهم فيها تباعة. قال ابن العربي: وقد قال جماعة إن معناه لو تزيلوا عن بطون النساء وأصلاب الرجال. وهذا ضعيف، لأن من في الصلب أو في البطن لا يوطأ ولا تصيب منه معرة. وهو سبحانه قد صرح فقال: "ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم" وذلك لا ينطلق على من في بطن المرأة وصلب الرجال، وإنما ينطلق على مثل الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، وأبي جندل بن سهيل. وكذلك قال مالك: وقد حاصرنا مدينة الروم فحبس عنهم الماء، فكانوا ينزلون الأسارى يستقون لهم الماء، فلا يقدر أحد على رميهم بالنبل، فيحصل لهم الماء بغير اختيارنا. وقد جوز أبو حنيفة وأصحابه والثوري الرمي في حصون المشركين وإن كان فيهم أسارى من المسلمين وأطفالهم. ولو تترس كافر بولد مسلم رمي المشرك، وإن أصيب أحد من المسلمين فلا دية فيه ولا كفارة. وقال الثوري: فيه الكفارة ولا دية. وقال الشافعي بقولنا. وهذا ظاهر، فإن التوصل إلى المباح بالمحظور لا يجوز، سيما بروح المسلم، فلا قول إلا ما قاله مالك رضي الله عنه. والله أعلم.
قلت: قد يجوز قتل الترس، ولا يكون فيه اختلاف إن شاء الله، وذلك إذا كانت المصلحة ضرورية كلية قطعية. فمعنى كونها ضرورية: أنها لا يحصل الوصول إلى الكفار إلا بقتل الترس. ومعنى أنها كلية: أنها قاطعة لكل الأمة، حتى يحصل من قتل الترس مصلحة كل المسلمين، فإن لم يفعل قتل الكفار الترس واستولوا على كل الأمة. ومعنى كونها قطعية: أن تلك المصلحة حاصلة من قتل الترس قطعا. قال علماؤنا: وهذه المصلحة بهذه القيود لا ينبغي أن يختلف في اعتبارها، لأن الفرض أن الترس مقتول قطعا، فإما بأيدي العدو فتحصل المفسدة العظيمة التي هي استيلاء العدو على كل المسلمين. وإما بأيدي المسلمين فيهلك العدو وينجو المسلمون أجمعون. ولا يتأتى لعاقل أن يقول: لا يقتل الترس في هذه الصورة بوجه، لأنه يلزم منه ذهاب الترس والإسلام والمسلمين، لكن لما كانت هذه المصلحة غير خالية من المفسدة، نفرت منها نفس من لم يمعن النظر فيها، فإن تلك المفسدة بالنسبة إلى ما حصل منها عدم أو كالعدم. والله أعلم.
قراءة العامة "لو تزيلوا" إلا أبا حيوة فإنه قرأ "تزايلوا" وهو مثل "تزيلوا" في المعنى. والتزايل: التباين. و"تزيلوا" تفعلوا، من زلت. وقيل: هي تفيعلوا. "لعذبنا الذين كفروا" قيل: اللام جواب لكلامين، أحدهما: "لولا رجال" والثاني: "لو تزيلوا". وقيل جواب "لولا" محذوف، وقد تقدم. "ولو تزيلوا" ابتداء كلام.
الآية: 26 {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليم}
قوله تعالى: "إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية" العامل في "إذ" قوله تعالى: "لعذبنا" أي لعذبناهم إذ جعلوا هذا. أو فعل مضمر تقديره واذكروا. "الحمية" فعيلة وهي الأنفة. يقال: حميت عن كذا حمية (بالتشديد) ومحمية إذا أنفت منه وداخلك عار وأنفة أن تفعله. ومنه قول المتلمس:
ألا إنني منهم وعرضي عرضهم كذي الأنف يحمي أنفه أن يكشما
أي يمنع. قال الزهري: حميتهم أنفتهم من الإقرار للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة والاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم، ومنعهم من دخول مكة. وكان الذي امتنع من كتابة بسم الله الرحمن الرحيم ومحمد رسول الله: سهيل بن عمرو، على ما تقدم. وقال ابن بحر: حميتهم عصبيتهم لآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى، والأنفة من أن يعبدوا غيرها. وقيل: "حمية الجاهلية" إنهم قالوا: قتلوا أبناءنا وإخواننا ثم يدخلون علينا في منازلنا، واللات والعزى لا يدخلها أبدا. "فأنزل الله سكينته" أي الطمأنينة والوقار. "على رسوله وعلى المؤمنين" وقيل: ثبتهم على الرضا والتسليم، ولم يدخل قلوبهم ما أدخل قلوب أولئك من الحمية.
قوله تعالى: "وألزمهم كلمة التقوى" قيل: لا إله إلا الله. روي مرفوعا من حديث أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهو قول علي وابن عمر وابن عباس، وعمرو بن ميمون ومجاهد وقتادة وعكرمة والضحاك، وسلمة بن كهيل وعبيد بن عمير وطلحة بن مصرف، والربيع والسدي وابن زيد. وقال عطاء الخرساني، وزاد "محمد رسول الله". وعن علي وابن عمر أيضا هي لا إله إلا الله والله أكبر. وقال عطاء بن أبي رباح ومجاهد أيضا: هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وقال الزهري: بسم الله الرحمن الرحيم. يعني أن المشركين لم يقروا بهذه الكلمة، فخص الله بها المؤمنين. و"كلمة التقوى" هي التي يتقى بها من الشرك. وعن مجاهد أيضا أن "كلمة التقوى" الإخلاص. "وكانوا أحق بها وأهلها" أي أحق بها من كفار مكة، لأن الله تعالى اختارهم لدينه وصحبة نبيه. "وكان الله بكل شيء عليما".
الآية: 27 {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريب}
قوله تعالى: "لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق" قال قتادة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه يدخل مكة على هذه الصفة، فلما صالح قريشا بالحديبية ارتاب المنافقون حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه يدخل مكة، فأنزل الله تعالى: "لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق" فأعلمهم أنهم سيدخلون في غير ذلك العام، وأن رؤياه صلى الله عليه وسلم حق. وقيل: إن أبا بكر هو الذي قال إن المنام لم يكن مؤقتا بوقت، وأنه سيدخل. وروي أن الرؤيا كانت بالحديبية، وأن رؤيا الأنبياء حق. والرؤيا أحد وجوه الوحي إلى الأنبياء. "لتدخلن" أي في العام القابل "المسجد الحرام إن شاء الله" قال ابن كيسان: إنه حكاية ما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم في منامه، خوطب في منامه بما جرت به العادة، فأخبر الله عن رسول أنه قال ذلك ولهذا استثنى، تأدب بأدب الله تعالى حيث قال تعالى: "ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله" [الكهف: 23]. وقيل: خاطب الله العباد بما يحب أن يقولوه، كما قال: "ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله". وقيل: استثنى فيما يعلم ليستثني الخلق فيما لا يعلمون، قاله ثعلب. وقيل: كان الله علم أنه يميت بعض هؤلاء الذين كانوا معه بالحديبية فوقع الاستثناء لهذا المعنى، قال الحسين بن الفضل. وقيل: الاستثناء من "آمنين"، وذلك راجع إلى مخاطبة العباد على ما جرت به العادة. وقيل: معنى "إن شاء الله" إن أمركم الله بالدخول. وقيل: أي إن سهل الله. وقيل: "إن شاء الله" أي كما شاء الله. وقال أبو عبيدة: "إن" بمعنى "إذ"، أي إذ شاء الله، كقوله تعالى: "اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين" [البقرة: 278] أي إذ كنتم. وفيه بعد، لأن "إذ" في الماضي من الفعل، و"إذا" في المستقبل، وهذا الدخول في المستقبل، فوعدهم دخول المسجد الحرام وعلقه بشرط المشيئة، وذلك عام الحديبية، فأخبر أصحابه بذلك فاستبشروا، ثم تأخر ذلك عن العام الذي طمعوا فيه فساءهم ذلك واشتد عليهم وصالحهم ورجع، ثم أذن الله في العام المقبل فأنزل الله: "لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق". وإنما قيل له في المنام: "لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله" فحكى في التنزيل ما قيل له في المنام، فليس هنا شك كما زعم بعضهم أن الاستثناء يدل على الشك، والله تعالى لا يشك، و"لتدخلن" تحقيق فكيف يكون شك. فـ "إن" بمعنى "إذا". "آمنين" أي من العدو. "محلقين رؤوسكم ومقصرين" والتحليق والتقصير جميعا للرجال، ولذلك غلب المذكر على المؤنث. والحلق أفضل، وليس للنساء إلا التقصير. وقد مضى القول في هذا في "البقرة". وفي الصحيح أن معاوية أخذ من شعر النبي صلى الله عليه وسلم على المروة بمشقص. وهذا كان في العمرة لا في الحج، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حلق في حجته. "لا تخافون" حال من المحلقين والمقصرين، والتقدير: غير خائفين. "فعلم ما لم تعلموا" أي علم ما في تأخير الدخول من الخير والصلاح ما لم تعلموه أنتم. وذلك أنه عليه السلام لما رجع مضى منها إلى خيبر فافتتحها، ورجع بأموال خيبر وأخذ من العدة والقوة أضعاف ما كان فيه في ذلك العام، وأقبل إلى مكة على أهبة وقوة وعدة بأضعاف ذلك. وقال الكلبي: أي علم أن دخولها إلى سنة ولم تعلموه أنتم. وقيل: علم أن بمكة رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم.
قوله تعالى: "فجعل من دون ذلك فتحا قريبا" أي من دون رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم فتح خيبر، قال ابن زيد والضحاك. وقيل فتح مكة. وقال مجاهد: هو صلح الحديبية، وقاله أكثر المفسرين. قال الزهري: ما فتح الله في الإسلام أعظم من صلح الحديبية، لأنه إنما كان القتال حين تلتقي الناس، فلما كانت الهدنة وضعت الحرب أوزارها وأمن الناس بعضهم بعضا، فالتقوا وتفاوضوا الحديث والمناظرة. فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، فلقد دخل تينك السنتين في الإسلام مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر. يدلك على ذلك أنهم كانوا سنة ست يوم الحديبية ألفا وأربعمائة، وكانوا بعد عام الحديبية سنة ثمان في عشرة آلاف.
الآية: 28 {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيد}
قوله تعالى: "هو الذي أرسل رسوله" يعني محمدا صلى الله عليه وسلم "ليظهره على الدين كله" أي يعليه على كل الأديان. فالدين اسم بمعنى المصدر، ويستوي لفظ الواحد والجمع فيه. وقيل: أي ليظهر رسول على الدين كله، أي على الدين الذي هو شرعه بالحجة ثم باليد والسيف، ونسخ ما عداه. "وكفى بالله شهيدا" "شهيدا" نصب على التفسير، والباء زائدة، أي كفى الله شهيدا لنبيه صلى الله عليه وسلم، وشهادته له تبين صحة نبوته بالمعجزات. وقيل: "شهيدا" على ما أرسل به، لأن الكفار أبوا أن يكتبوا: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله.
تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 514
514- تفسير الصفحة رقم514 من المصحفالآية: 24 {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصير}
قوله تعالى: "وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة" وهي الحديبية. "من بعد أن أظفركم عليهم" روى يزيد بن هارون قال: أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأخذناهم سلما فاستحييناهم، فأنزل الله تعالى: "وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم". وقال عبدالله بن مغفل المزني: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله في القرآن، فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ الله بأبصارهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: [هل جئتم في عهد أحد أو هل جعل لكم أحد أمانا]. قالوا: اللهم لا، فخلى سبيلهم. فأنزل الله تعالى: "وهو الذي كف أيدهم عنكم" الآية. وذكر ابن هشام عن وكيع: وكانت قريش قد جاء منهم نحو سبعين رجلا أو ثمانين رجلا للإيقاع بالمسلمين وانتهاز الفرصة في أطرافهم، ففطن المسلمون لهم فأخذوهم أسرى، وكان ذلك والسفراء يمشون بينهم في الصلح، فأطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم الذين يسمون العتقاء، ومنهم معاوية وأبوه. وقال مجاهد: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم معتمرا، إذ أخذ أصحابه ناسا من الحرم غافلين فأرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك الإظفار ببطن مكة. وقال قتادة: ذكر لنا أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له زنيم، اطلع الثنية من الحديبية فرماه المشركون بسهم فقتلوه، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا فأتوا باثني عشر فارسا من الكفار، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: [هل لكم علي ذمة] قالوا لا؟ فأرسلهم فنزلت. وقال ابن أبزى والكلبي: هم أهل الحديبية، كف الله أيديهم عن المسلمين حتى وقع الصلح، وكانوا خرجوا بأجمعهم وقصدوا المسلمين، وكف أيدي المسلمين عنهم. وقد تقدم أن خالد بن الوليد كان في خيل المشركين. قال القشيري: فهذه رواية، والصحيح أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت. وقد قال سلمة بن الأكوع: كانوا في أمر الصلح إذ أقبل أبو سفيان، فإذا الوادي يسير بالرجال والسلاح، قال: فجئت بستة من المشركين أسوقهم متسلحين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، فأتيت بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان عمر قال في الطريق: يا رسول الله، نأتي قوما حربا وليس معنا سلاح ولا كراع؟ فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من الطريق فأتوه بكل سلاح وكراع كان فيها، وأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عكرمة بن أبي جهل خرج إليك في خمسمائة فارس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد: [هذا ابن عمك أتاك في خمسمائة]. فقال خالد: أنا سيف الله وسيف رسوله، فيومئذ سمي بسيف الله، فخرج ومعه خيل وهزم الكفار ودفعهم إلى حوائط مكة. وهذه الرواية أصح، وكان بينهم قتال بالحجارة، وقيل بالنبل والظفر. وقيل: أراد بكف اليد أنه شرط في الكتاب أن من جاءنا منهم فهو رد عليهم، فخرج أقوام من مكة مسلمون وخافوا أن يردهم الرسول عليه السلام إلى المشركين لحقوا بالساحل، ومنهم أبو بصير، وجعلوا يغيرون على الكفار ويأخذون عيرهم، حتى جاء كبار قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: اضممهم إليك حتى نأمن، ففعل. وقيل: همت غطفان وأسد منع المسلمين من يهود خيبر، لأنهم كانوا حلفاءهم فمنعهم الله عن ذلك، فهو كف اليد. "ببطن مكة" فيه قولان: أحدهما: يريد به مكة. الثاني: الحديبية، لأن بعضها مضاف إلى الحرم. قال الماوردي: وفي قوله: "من بعد أن أظفركم عليهم" بفتح مكة. تكون هذه نزلت بعد فتح مكة، وفيها دليل على أن مكة فتحت صلحا، لقوله عز وجل: "كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم".
قلت: الصحيح أن هذه الآية نزلت في الحديبية قبل فتح مكة، حسب ما قدمناه عن أهل التأويل من الصحابة والتابعين. وروى الترمذي قال: حدثنا عبد بن حميد قال حدثني سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس: أن ثمانين هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الصبح وهم يريدون أن يقتلوه، فأخذوا أخذا فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: "وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم" الآية. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وقد تقدم. وأما فتح مكة فالذي تدل عليه الأخبار أنها إنما فتحت عنوة، وقد مضى القول في ذلك في "الحج" وغيرها. "وكان الله بما تعملون بصيرا".
الآية: 25 {هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليم}
قوله تعالى: "هم الذين كفروا" يعني قريشا، منعوكم دخول المسجد الحرام عام الحديبية حين أحرم النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه بعمرة، ومنعوا الهدي وحبسوه عن أن يبلغ محله. وهذا كانوا لا يعتقدونه، ولكنه حملتهم الأنفة ودعتهم حمية الجاهلية إلى أن يفعلوا ما لا يعتقدونه دينا، فوبخهم الله على ذلك وتوعدهم عليه، وأدخل الأنس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيانه ووعده. "والهدي معكوفا" أي محبوسا. وقيل موقوفا. وقال أبو عمرو بن العلاء: مجموعا. الجوهري: عكفه أي حبسه ووقفه، يعكفه ويعكفه عكفا، ومنه قوله تعالى: "والهدي معكوفا"، يقال ما عكفك عن كذا. ومنه الاعتكاف في المسجد وهو الاحتباس. "أن يبلغ محله" أي منحره، قاله الفراء. وقال الشافعي رضي الله عنه: الحرم. وكذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه، المحصر محل هديه الحرم. والمحل (بكسر الحاء): غاية الشيء. (وبالفتح): هو الموضع الذي يحله الناس. وكان الهدي سبعين بدنة، ولكن الله بفضله جعل ذلك الموضع له محلا. وقد اختلف العلماء في هذا على ما تقدم بيانه في "البقرة" عند قوله تعالى: "فإن أحصرتم" والصحيح ما ذكرناه. وفي صحيح مسلم عن أبي الزبير عن جابر بن عبدالله قال: نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة. وعنه قال: اشتركنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج والعمرة كل سبعة في بدنة. فقال رجل لجابر: أيشترك في البدنة ما يشترك في الجزور؟ قال: ما هي إلا من البدن. وحضر جابر الحديبية قال: ونحرنا يومئذ سبعين بدنة، اشتركنا كل سبعة في بدنة. وفي البخاري عن ابن عمر قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمرين، فحال كفار قريش دون البيت، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنة وحلق رأسه. قيل: إن الذي حلق رأسه يومئذ خراش بن أمية بن أبي العيص الخزاعي، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن ينحروا ويحلوا، ففعلوا بعد توقف كان منهم أغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت له أم سلمة: لو نحرت لنحروا، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه ونحروا بنحره، وحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه ودعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة. ورأى كعب بن عجرة والقمل يسقط على وجهه، فقال: [أيؤذيك هوامك]؟ قال نعم، فأمره أن يحلق وهو بالحديبية. خرجه البخاري والدارقطني. وقد مضى في "البقرة".
قوله تعالى: "والهدي" والهَديُ والهَدِيّ لغتان. وقرئ "حتى يبلغ الهَدْيُ محله" [البقرة: 196] بالتخفيف والتشديد، الواحدة هدية. وقد مضى في "البقرة" أيضا. وهو معطوف على الكاف والميم من "صدوكم". و"معكوفا" حال، وموضع "أن" من قوله: "أن يبلغ محله" نصب على تقدير الحمل على "صدوكم" أي صدوكم وصدوا الهدي عن أن يبلغ. ويجوز أن يكون مفعولا له، كأنه قال: وصدوا الهدي كراهية أن يبلغ محله. أبو علي: لا يصح حمله على العكف، لأنا لا نعلم "عكف" جاء متعديا، ومجيء "معكوفا" في الآية يجوز أن يكون محمولا على المعنى، كأنه لما كان حبسا حمل المعنى على ذلك، كما حمل الرفث على معنى الإفضاء فعدي بإلى، فإن حمل على ذلك كان موضعه نصبا على قياس قول سيبويه، وجرا على قياس قول الخليل. أو يكون مفعولا له، كأنه قال: محبوسا كراهية أن يبلغ محله. ويجوز تقدير الجر في "أن" لأن عن تقدمت، فكأنه قال: وصدوكم عن المسجد الحرام، وصدوا الهدي "عن" أن يبلغ محله. ومثله ما حكاه سيبويه عن يونس: مررت برجل إن زيد وإن عمرو، فأضمر الجار لتقدم ذكره.
قوله تعالى: "ولولا رجال مؤمنون" يعني المستضعفين من المؤمنين بمكة وسط الكفار، كسلمه بن هشام وعياش بن أبي ربيعة وأبي جندل بن سهيل، وأشباههم. "لم تعلموهم" أي تعرفوهم. وقيل لم تعلموهم أنهم مؤمنون. "أن تطؤوهم" بالقتل والإيقاع بهم، يقال: وطئت القوم، أي أوقعت بهم. و"أن" يجوز أن يكون رفعا على البدل من رجال، ونساء كأنه قال ولولا وطؤكم رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات. ويجوز أن يكون نصبا على البدل من الهاء والميم في "تعلموهم"، فيكون التقدير: لم تعلموا وطأهم، وهو في الوجهين بدل الاشتمال. "لم تعلموهم" نعت لـ "رجال" و"نساء". وجواب "لولا" محذوف، والتقدير: ولو أن تطؤوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم لأذن الله لكم في دخول مكة، ولسلطكم عليهم، ولكنا صنا من كان فيها يكثم إيمانه. وقال الضحاك: لولا من في أصلاب الكفار وأرحام نسائهم من رجال مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموا أن تطؤوا آباءهم فتهلك أبناؤهم.
قوله تعالى: "فتصيبكم منهم معرة" المعرة العيب، وهي مفعلة من العر وهو الجرب، أي يقول المشركون: قد قتلوا أهل دينهم. وقيل: المعنى يصيبكم من قتلهم ما يلزمكم من أجله كفارة قتل الخطأ، لأن الله تعالى إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها ولم يعلم بإيمانه الكفارة دون الدية في قوله: "فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة" [النساء: 92] قاله الكلبي ومقاتل وغيرهما. وقد مضى في "النساء" القول فيه. وقال ابن زيد: "معرة" إثم. وقال الجوهري وابن إسحاق: غرم الدية. قطرب: شدة. وقيل غم. "بغير علم" تفضيل للصحابة وإخبار عن صفتهم الكريمة من العفة عن المعصية والعصمة عن التعدي، حتى لو أنهم أصابوا من ذلك أحدا لكان عن غير قصد. وهذا كما وصفت النملة عن جنه سليمان عليه السلام في قولها: "لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون" [النمل: 18].
قوله تعالى: "ليدخل الله في رحمته من يشاء" اللام في "ليدخل" متعلقة بمحذوف، أي لو قتلتموهم لأدخلهم الله في رحمته. ويجوز أن تتعلق بالإيمان. ولا تحمل على مؤمنين دون مؤمنات ولا على مؤمنات دون مؤمنين لأن الجميع يدخلون في الرحمة. وقيل: المعنى لم يأذن الله لكم في قتال المشركين ليسلم بعد الصلح من قضى أن يسلم من أهل مكة، وكذلك كان أسلم الكثير منهم وحسن إسلامه، ودخلوا في رحمته، أي جنته.
قوله تعالى: "لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما" أي تميزوا، قاله القتبي. وقيل: لو تفرقوا، قاله الكلبي. وقيل: لو زال المؤمنون من بين أظهر الكفار لعذب الكفار بالسيف، قاله الضحاك. ولكن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار. وقال علي رضي الله عنه: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية "لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا" فقال: [هم المشركون من أجداد نبي الله ومن كان بعدهم وفي عصرهم كان في أصلابهم قوم مؤمنون فلو تزيل المؤمنون عن أصلاب الكافرين لعذب الله تعالى الكافرين عذابا أليما].
هذه الآية دليل على مراعاة الكافر في حرمة المؤمن، إذ لا يمكن أذية الكافر إلا بأذية المؤمن. قال أبو زيد قلت لابن القاسم: أرأيت لو أن قوما من المشركين في حصن من حصونهم، حصرهم أهل الإسلام وفيهم قوم من المسلمين أسارى في أيديهم، أيحرق هذا الحصن أم لا؟ قال: سمعت مالكا وسئل عن قوم من المشركين في مراكبهم: أنرمي في مراكبهم بالنار ومعهم الأسارى في مراكبهم؟ قال: فقال مالك لا أرى ذلك، لقوله تعالى لأهل مكة: "لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما". وكذلك لو تترس كافر بمسلم لم يجز رميه. وإن فعل ذلك فاعل فأتلف أحدا من المسلمين فعليه الدية والكفارة. فإن لم يعلموا فلا دية ولا كفارة، وذلك أنهم إذا علموا فليس لهم أن يرموا، فإذا فعلوه صاروا قتلة خطأ والدية على عواقلهم. فإن لم يعلموا فلهم أن يرموا. وإذا أبيحوا الفعل لم يجز أن يبقى عليهم فيها تباعة. قال ابن العربي: وقد قال جماعة إن معناه لو تزيلوا عن بطون النساء وأصلاب الرجال. وهذا ضعيف، لأن من في الصلب أو في البطن لا يوطأ ولا تصيب منه معرة. وهو سبحانه قد صرح فقال: "ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم" وذلك لا ينطلق على من في بطن المرأة وصلب الرجال، وإنما ينطلق على مثل الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، وأبي جندل بن سهيل. وكذلك قال مالك: وقد حاصرنا مدينة الروم فحبس عنهم الماء، فكانوا ينزلون الأسارى يستقون لهم الماء، فلا يقدر أحد على رميهم بالنبل، فيحصل لهم الماء بغير اختيارنا. وقد جوز أبو حنيفة وأصحابه والثوري الرمي في حصون المشركين وإن كان فيهم أسارى من المسلمين وأطفالهم. ولو تترس كافر بولد مسلم رمي المشرك، وإن أصيب أحد من المسلمين فلا دية فيه ولا كفارة. وقال الثوري: فيه الكفارة ولا دية. وقال الشافعي بقولنا. وهذا ظاهر، فإن التوصل إلى المباح بالمحظور لا يجوز، سيما بروح المسلم، فلا قول إلا ما قاله مالك رضي الله عنه. والله أعلم.
قلت: قد يجوز قتل الترس، ولا يكون فيه اختلاف إن شاء الله، وذلك إذا كانت المصلحة ضرورية كلية قطعية. فمعنى كونها ضرورية: أنها لا يحصل الوصول إلى الكفار إلا بقتل الترس. ومعنى أنها كلية: أنها قاطعة لكل الأمة، حتى يحصل من قتل الترس مصلحة كل المسلمين، فإن لم يفعل قتل الكفار الترس واستولوا على كل الأمة. ومعنى كونها قطعية: أن تلك المصلحة حاصلة من قتل الترس قطعا. قال علماؤنا: وهذه المصلحة بهذه القيود لا ينبغي أن يختلف في اعتبارها، لأن الفرض أن الترس مقتول قطعا، فإما بأيدي العدو فتحصل المفسدة العظيمة التي هي استيلاء العدو على كل المسلمين. وإما بأيدي المسلمين فيهلك العدو وينجو المسلمون أجمعون. ولا يتأتى لعاقل أن يقول: لا يقتل الترس في هذه الصورة بوجه، لأنه يلزم منه ذهاب الترس والإسلام والمسلمين، لكن لما كانت هذه المصلحة غير خالية من المفسدة، نفرت منها نفس من لم يمعن النظر فيها، فإن تلك المفسدة بالنسبة إلى ما حصل منها عدم أو كالعدم. والله أعلم.
قراءة العامة "لو تزيلوا" إلا أبا حيوة فإنه قرأ "تزايلوا" وهو مثل "تزيلوا" في المعنى. والتزايل: التباين. و"تزيلوا" تفعلوا، من زلت. وقيل: هي تفيعلوا. "لعذبنا الذين كفروا" قيل: اللام جواب لكلامين، أحدهما: "لولا رجال" والثاني: "لو تزيلوا". وقيل جواب "لولا" محذوف، وقد تقدم. "ولو تزيلوا" ابتداء كلام.
الآية: 26 {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليم}
قوله تعالى: "إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية" العامل في "إذ" قوله تعالى: "لعذبنا" أي لعذبناهم إذ جعلوا هذا. أو فعل مضمر تقديره واذكروا. "الحمية" فعيلة وهي الأنفة. يقال: حميت عن كذا حمية (بالتشديد) ومحمية إذا أنفت منه وداخلك عار وأنفة أن تفعله. ومنه قول المتلمس:
ألا إنني منهم وعرضي عرضهم كذي الأنف يحمي أنفه أن يكشما
أي يمنع. قال الزهري: حميتهم أنفتهم من الإقرار للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة والاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم، ومنعهم من دخول مكة. وكان الذي امتنع من كتابة بسم الله الرحمن الرحيم ومحمد رسول الله: سهيل بن عمرو، على ما تقدم. وقال ابن بحر: حميتهم عصبيتهم لآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى، والأنفة من أن يعبدوا غيرها. وقيل: "حمية الجاهلية" إنهم قالوا: قتلوا أبناءنا وإخواننا ثم يدخلون علينا في منازلنا، واللات والعزى لا يدخلها أبدا. "فأنزل الله سكينته" أي الطمأنينة والوقار. "على رسوله وعلى المؤمنين" وقيل: ثبتهم على الرضا والتسليم، ولم يدخل قلوبهم ما أدخل قلوب أولئك من الحمية.
قوله تعالى: "وألزمهم كلمة التقوى" قيل: لا إله إلا الله. روي مرفوعا من حديث أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهو قول علي وابن عمر وابن عباس، وعمرو بن ميمون ومجاهد وقتادة وعكرمة والضحاك، وسلمة بن كهيل وعبيد بن عمير وطلحة بن مصرف، والربيع والسدي وابن زيد. وقال عطاء الخرساني، وزاد "محمد رسول الله". وعن علي وابن عمر أيضا هي لا إله إلا الله والله أكبر. وقال عطاء بن أبي رباح ومجاهد أيضا: هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وقال الزهري: بسم الله الرحمن الرحيم. يعني أن المشركين لم يقروا بهذه الكلمة، فخص الله بها المؤمنين. و"كلمة التقوى" هي التي يتقى بها من الشرك. وعن مجاهد أيضا أن "كلمة التقوى" الإخلاص. "وكانوا أحق بها وأهلها" أي أحق بها من كفار مكة، لأن الله تعالى اختارهم لدينه وصحبة نبيه. "وكان الله بكل شيء عليما".
الآية: 27 {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريب}
قوله تعالى: "لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق" قال قتادة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه يدخل مكة على هذه الصفة، فلما صالح قريشا بالحديبية ارتاب المنافقون حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه يدخل مكة، فأنزل الله تعالى: "لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق" فأعلمهم أنهم سيدخلون في غير ذلك العام، وأن رؤياه صلى الله عليه وسلم حق. وقيل: إن أبا بكر هو الذي قال إن المنام لم يكن مؤقتا بوقت، وأنه سيدخل. وروي أن الرؤيا كانت بالحديبية، وأن رؤيا الأنبياء حق. والرؤيا أحد وجوه الوحي إلى الأنبياء. "لتدخلن" أي في العام القابل "المسجد الحرام إن شاء الله" قال ابن كيسان: إنه حكاية ما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم في منامه، خوطب في منامه بما جرت به العادة، فأخبر الله عن رسول أنه قال ذلك ولهذا استثنى، تأدب بأدب الله تعالى حيث قال تعالى: "ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله" [الكهف: 23]. وقيل: خاطب الله العباد بما يحب أن يقولوه، كما قال: "ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله". وقيل: استثنى فيما يعلم ليستثني الخلق فيما لا يعلمون، قاله ثعلب. وقيل: كان الله علم أنه يميت بعض هؤلاء الذين كانوا معه بالحديبية فوقع الاستثناء لهذا المعنى، قال الحسين بن الفضل. وقيل: الاستثناء من "آمنين"، وذلك راجع إلى مخاطبة العباد على ما جرت به العادة. وقيل: معنى "إن شاء الله" إن أمركم الله بالدخول. وقيل: أي إن سهل الله. وقيل: "إن شاء الله" أي كما شاء الله. وقال أبو عبيدة: "إن" بمعنى "إذ"، أي إذ شاء الله، كقوله تعالى: "اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين" [البقرة: 278] أي إذ كنتم. وفيه بعد، لأن "إذ" في الماضي من الفعل، و"إذا" في المستقبل، وهذا الدخول في المستقبل، فوعدهم دخول المسجد الحرام وعلقه بشرط المشيئة، وذلك عام الحديبية، فأخبر أصحابه بذلك فاستبشروا، ثم تأخر ذلك عن العام الذي طمعوا فيه فساءهم ذلك واشتد عليهم وصالحهم ورجع، ثم أذن الله في العام المقبل فأنزل الله: "لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق". وإنما قيل له في المنام: "لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله" فحكى في التنزيل ما قيل له في المنام، فليس هنا شك كما زعم بعضهم أن الاستثناء يدل على الشك، والله تعالى لا يشك، و"لتدخلن" تحقيق فكيف يكون شك. فـ "إن" بمعنى "إذا". "آمنين" أي من العدو. "محلقين رؤوسكم ومقصرين" والتحليق والتقصير جميعا للرجال، ولذلك غلب المذكر على المؤنث. والحلق أفضل، وليس للنساء إلا التقصير. وقد مضى القول في هذا في "البقرة". وفي الصحيح أن معاوية أخذ من شعر النبي صلى الله عليه وسلم على المروة بمشقص. وهذا كان في العمرة لا في الحج، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حلق في حجته. "لا تخافون" حال من المحلقين والمقصرين، والتقدير: غير خائفين. "فعلم ما لم تعلموا" أي علم ما في تأخير الدخول من الخير والصلاح ما لم تعلموه أنتم. وذلك أنه عليه السلام لما رجع مضى منها إلى خيبر فافتتحها، ورجع بأموال خيبر وأخذ من العدة والقوة أضعاف ما كان فيه في ذلك العام، وأقبل إلى مكة على أهبة وقوة وعدة بأضعاف ذلك. وقال الكلبي: أي علم أن دخولها إلى سنة ولم تعلموه أنتم. وقيل: علم أن بمكة رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم.
قوله تعالى: "فجعل من دون ذلك فتحا قريبا" أي من دون رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم فتح خيبر، قال ابن زيد والضحاك. وقيل فتح مكة. وقال مجاهد: هو صلح الحديبية، وقاله أكثر المفسرين. قال الزهري: ما فتح الله في الإسلام أعظم من صلح الحديبية، لأنه إنما كان القتال حين تلتقي الناس، فلما كانت الهدنة وضعت الحرب أوزارها وأمن الناس بعضهم بعضا، فالتقوا وتفاوضوا الحديث والمناظرة. فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، فلقد دخل تينك السنتين في الإسلام مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر. يدلك على ذلك أنهم كانوا سنة ست يوم الحديبية ألفا وأربعمائة، وكانوا بعد عام الحديبية سنة ثمان في عشرة آلاف.
الآية: 28 {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيد}
قوله تعالى: "هو الذي أرسل رسوله" يعني محمدا صلى الله عليه وسلم "ليظهره على الدين كله" أي يعليه على كل الأديان. فالدين اسم بمعنى المصدر، ويستوي لفظ الواحد والجمع فيه. وقيل: أي ليظهر رسول على الدين كله، أي على الدين الذي هو شرعه بالحجة ثم باليد والسيف، ونسخ ما عداه. "وكفى بالله شهيدا" "شهيدا" نصب على التفسير، والباء زائدة، أي كفى الله شهيدا لنبيه صلى الله عليه وسلم، وشهادته له تبين صحة نبوته بالمعجزات. وقيل: "شهيدا" على ما أرسل به، لأن الكفار أبوا أن يكتبوا: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله.
الصفحة رقم 514 من المصحف تحميل و استماع mp3