تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 514 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 514

513

24- "وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم" أي كف أيدي المشركين عن المسلمين وأيدي المسلمين عن المشركين لما جاءوا يصدقون رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه عن البيت عام الحديبية، وهي المراد ببطن مكة. وقيل إن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم من قبل جبل التنعيم متسلحين يريدون غرة النبي صلى الله عليه وسلم فأخذهم المسلمون ثم تركوهم. وفي رواية اختلاف سيأتي بيانه آخر البحث إن شاء الله " وكان الله بما تعملون بصيرا " لا يخفى عليه من ذلك شيء. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: "أولي بأس شديد" يقول: فارس. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أنهم الأكراد. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: فارس والروم. وأخرج الفريابي وابن مردويه عنه قال: هوازن وبني حنيفة. وأخرج الطبراني. قال السيوطي بسند حسن عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإني لواضع القلم على أذني إذ أمر بالقتال إذ جاء أعمى فقال: "كيف لي وأنا ذاهب البصر؟ فنزلت "ليس على الأعمى حرج" الآية". قال هذا في الجهاد، وليس عليهم من جهاد إذا لم يطيقوا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سلمة بن الأكوع قال: "بينا نحن قائلون إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس البيعة البيعة نزل روح القدس، فثرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت شجرة سمرة فبايعناه، فذلك قول الله تعالى: "لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة" فبايع لعثمان إحدى يديه على الأخرى، فقال الناس هنيئاً لابن عفان يطوف بالبيت ونحن هاهنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو [مكث] كذا وكذا سنة ما طاف حتى أطوف". وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن نافع قال: بلغ عمر بن الخطاب أن ناساً يأتون الشجرة التي بويع تحتها فأمر بها فقطعت. وأخرج البخاري عن سلمة بن الأكوع قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، قيل على أي شيء كتنم تبايعونه يومئذ؟ قال: على الموت. وأخرج مسلم وغيره عن جابر قال: بايعناه على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت. وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة". وأخرج مسلم من حديثه مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "فأنزل السكينة عليهم" قال: إنما أنزلت السكينة على من علم منه الوفاء. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه "فعجل لكم هذه" يعني الفتح. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً "فعجل لكم هذه" يعني خيبر "وكف أيدي الناس عنكم" يعني أهل مكة أن يستحلوا حرم الله ويستحل بكم وأنتم حرم "ولتكون آية للمؤمنين" قال سنة لمن بعدكم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عنه أيضاً في قوله: "وأخرى لم تقدروا عليه" قال: هذه الفتوح التي تفتح إلى اليوم، وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه أيضاً "وأخرى لم تقدروا عليها" قال: هي خيبر. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أنس قال: لما كان يوم الحديبية، هبط على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثمانون رجلاً من أهل مكة في السلاح من قبل جبال التنعيم يريدون غرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا عليهم فأخذوا فعفا عنهم، فنزلت هذه الآية "وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم" وفي صحيح مسلم وغيره: أنها نزلت في نفر أسرهم سلمة بن الأكوع يوم الحديبية. وأخرج أحمد والنسائي والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو النعيم في الدلائل في سبب نزول الآية "أن ثلاثين شاباً من المشركين خرجوا يوم الحديبية على المسلمين في السلاح فثاروا في وجوههم، فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الله بأسماعهم، ولفظ الحاكم بأبصارهم، فقام إليهم المسلمون فأخذوهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل جئتم في عهد أحد، أو هل جعل لكم أحد أماناً؟ فقالوا لا، فخلى سبيلهم فنزلت هذه الآية".
قوله: 25- "هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام" يعني كفار مكة، ومعنى صدهم عن المسجد الحرام: أنهم منعوهم أن يطوفوا به ويحلوا عن عمرتهم "والهدي معكوفاً" قرأ الجمهور بنصب "الهدي" عطفاً على الضمير المنصوب في صدوكم، وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بالجر عطفاً على المسجد، ولا بد من تقدير مضاف: أي عن نحر الهدي، وقرئ بالرفع على تقدير وصد الهدي وقرأ الجمهور بفتح الهاء من الهدي وسكون الدال، وروي عن أبي عمرو عاصم بكسر الدال وتشديد الياء: وانتصاب معكوفاً على الحال من الهدي: أي محبوساً.قال الجوهري عكفه: أي حبسه ووقفه، ومنه "والهدي معكوفاً" ومنه الاعتكاف في المسجد وهو الاحتباس. وقال أبو عمرو بن العلاء: معكوفاً مجموعاً، وقوله: "أن يبلغ محله" أي عن أن يبلغ محله، أو هو مفعول لأجله، والمعنى: صدوا الهدي كراهة أن يبلغ محله، أو هو بدل من الهدي بدل اشتمال، ومحله منحره، وهو حيث يحل نحره من الحرم، وكان الهدي سبعين بدنة، ورخص الله سبحانه لهم بجعل ذلك الموضع الذي وصلوا إليه وهو الحديبية محلاً للنحر. وللعلماء في هذا كلام معروف في كتب الفروع "ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم" يعني المستضعفين من المؤمنين بمكة، ومعنى: لم تعلموهم لم تعرفوهم، وقيل لم تعلموا أنهم مؤمنون " أن تطئوهم " يجوز أن يكون بدلاً من رجال ونساء، ولكنه غلب الذكور، وأن يكون بدلاً من مفعول تعلموهم، والمعنى أن تطأوهم بالقتل والإيقاع بهم، يقال وطئت القوم: أي أوقعت بهم، وذلك أنهم لو كسبوا مكة وأخذوها عنوة بالسيف لم يتميز المؤمنون الذين هم فيها من الكفار، وعند ذلك لا يأمنوا أن يقتلوا المؤمنين فتلزمهم الكفارة وتلحقهم سبة، وهو معنى قوله: "فتصيبكم منهم" أي من جهتهم "معرة" أي مشقة بما يلزمهم في قتلهم من كفارة وعيب، وأصل المعرة: العيب مأخوذة من العر، وهو الجرب، وذلك أن المشركين سيقولون: إن المسلمين قد قتلوا أهل دينهم. قال الزجاج: لولا أن تقتلوا رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات فتصيبكم منهم معرة: أي إثم. وكذا قال الجوهري [وبه] قال ابن زيد. وقال الكلبي ومقاتل وغيرهما: المعرة كفارة قتل الخطأ كما في قوله "فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة" وقال ابن إسحاق: المعرة غرم الدية. وقال قطرب: المعرة الشدة، وقيل الغم، و "بغير علم" متعلق بأن تطأوهم: أي غير عالمين، وجواب لولا محذوف، والتقدير: لأذن الله لكم أو لما كف أيديكم عنهم، واللام في "ليدخل الله في رحمته من يشاء" متعلقة بما يدل عليه الجواب المقدر أي ولكن لم يأذن لكم، أو كف أيديكم ليدخل الله في رحمته بذلك من يشاء من عباده وهم المؤمنين والمؤمنات الذين كانوا في مكة، فيتمم لهم أجورهم بإخراجهم من بين ظهراني الكفار ويفك أسرهم، ويرفع ما كان ينزل بهم من العذاب. وقيل اللام متعلقة بمحذوف غير ما ذكر، وتقديره: لو قلتموهم لأدخلهم الله في رحمته، والأول أولى. وقيل إن من يشاء عباده ممن رغب في الإسلام من المشركين "لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً" التزيل: التميز: أي لو تميز الذين آمنوا من الذين كفروا منهم لغذبنا الذين كفروا، وقيل التزيل: التفرق: أي لو تفرق هؤلاء من هؤلاء، وقيل لو زال المؤمنون من بين أظهرهم، والمعاني متقاربة، والعذاب الأليم هو القتل والأسر والقهر.
والظرف في قوله: 26- "إذ جعل الذين كفروا" منصوب بفعل مقدر: أي اذكر وقت جعل الذين كفروا "في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية" وقيل متعلق بعذبنا، والحمية: الأنفة، يقال فلان ذو حمية: أي ذو أنفة وغضب: أي جعلوها ثابتة راسخة في قلوبهم، والجعل بمعنى الإلقاء، وحمية الجاهلية بدل من الحمية. قال مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيان، قال أهل مكة: قد قتلوا أبناءنا وإخواننا ويدخلون علينا في منازلنا، فتتحدث العرب أنهم قد دخلوا علينا على رغم أنفنا، واللات والعزى لا يدخلونها علينا، فهذه الحمية هي حمية الجاهلية التي دخلت قلوبهم. وقال الزهري. حميتهم أنفتهم من الإقرار للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة. قرأ الجمهور "لو تزيلوا" وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة وابن عون لو تزايلوا والتزايل التباين "فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين" أي أنزل الطمأنينة والوقار على رسوله وعلى المؤمنين حيث لم يدخلهم ما دخل أهل الكفر من الحمية، وقيل ثبتهم على الرضى والتسليم "وألزمهم كلمة التقوى" وهي لا إله إلا الله كذا قال الجمهور، وزاد بعضهم محمد رسول الله وزاد بعضهم وحده لا شريك له. وقال الزهري في كتاب الصلح الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت ذلك في كتب الحديث والسير، فخص الله بهذه الكلمة المؤمنين وألزمهم بها، والأول أولى، لأن كلمة التوحيد هي التي يتقي بها الشرك بالله، وقيل كلمة التقوى هي الوفاء بالعهد والثبات عليه "وكانوا أحق بها وأهلها" أي وكان المؤمنون أحق بهذه الكلمة من الكفار والمستأهلين لها دونهم، لأن الله سبحانه أهلهم لدينه وصحبة رسوله صلى الله عليه وسلم.
27- "لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق" قال الواحدي: قال المفسرون: إن الله سبحانه أرى نبيه صلى الله عليه وسلم في المدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية كأنه هو وأصحابه حلقوا وقصروا، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا وحسبوا أنهم سيدخلون مكة عامهم ذلك، فلما رجعوا من الحديبية ولم يدخلوا مكة قال المنافقون: والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا دخلنا المسجد الحرام، فأنزل الله هذه الآية، وقيل إن الرؤيا كانت بالحديبية، وقوله بالحق صفة لمصدر محذوف: أي صدقاً ملتبساً بالحق، وجواب القسم المحذوف المدلول عليه باللام الموطئة هو قوله: "لتدخلن المسجد الحرام" أي في العام القابل، وقوله: "إن شاء الله" تعليق للعدة بالمشيئة لتعليم العباد لما يجب أن يقولوه كما في قوله: " ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله " قال ثعلب: إن الله استثنى فيما يعلم ليستثني الخلق فيما لا يعلمون. وقيل كان الله سبحانه علم أنه يموت بعض هؤلاء الذين كانوا معه في الحديبية، فوقع الاستثناء لهذا المعنى قاله الحسن بن الفضل. وقيل معنى إن شاء الله: كما شاء الله. وقال أبو عبيدة: إن بمعنى إذ: يعني إذ شاء الله حيث أرى رسوله ذلك، وانتصاب "آمنين" على الحال من فاعل لتدخلن، وكذا "محلقين رؤوسكم ومقصرين" أي آمنين من العدو، ومحلقاً بعضكم ومقصراً بعضكم، والحلق والتقصير خاص بالرجال، والحلق أفضل من التقصير كما يدل على ذلك الحديث الصحيح في استغفاره صلى الله عليه وسلم للمحلقين في المرة الأولى والثانية، والقائل يقول له وللمقصرين، فقال في الثالثة وللمقصرين، وقوله: "لا تخافون" في محل نصب على الحال أو مستأنف، وفيه زيادة تأكيد لما قد فهم من قوله آمنين "فعلم ما لم تعلموا" أي ما لم تعلموا من المصلحة في الصلح لما في دخولكم في عام الحديبية من الضرر على المستضعفين من المؤمنين، وهو معطوف على صدق: أي صدق رسوله الرؤيا، فعلم ما لم تعلموا به "فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً" أي فجعل من دون دخولكم مكة كما أرى رسوله فتحاً قريباً. قال أكثر المفسرين: هو صلح الحديبية. وقال ابن زيد والضحاك: فتح خيبر. وقال الزهري: لا فتح في الإسلام كان أعظم من صلح الحديبية. ولقد دخل في تلك السنتين في الإسلام مثل من كان قد دخل فيه قبل ذلك بل أكثر، فإن المسلمين كانوا في سنة ست، وهي سنة الحديبية ألفاً وأربعمائة وكانوا فس سنة ثمان عشرة آلاف.
28- "هو الذي أرسل رسوله بالهدى" أي إرسالاً ملتبساً بالهدى "ودين الحق" وهو الإسلام "ليظهره على الدين كله" أي يعليه على كل الأديان كما يفيده تأكيد الجنس، وقيل ليظهر رسوله، والأول أولى. وقد كان ذلك بحمد الله، فإن دين الإسلام قد ظهر على جميع الأديان وانقهر له كل أهل الملل "وكفى بالله شهيداً" الباء زائدة كما تقدم في غير موضع: أي كفى الله شهيداً على هذا الإظهار الذي وعد المسلمين به وعلى صحة نبوة نبيه صلى الله عليه وسلم.