تفسير الطبري تفسير الصفحة 514 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 514
515
513
 الآية : 24
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَهُوَ الّذِي كَفّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً }.
يقول تعالى ذكره لرسوله صلى الله عليه وسلم: والذين بايعوا الرضوان, وهو الذي كف أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ يعني أن الله كفّ أيدي المشركين الذين كانوا خرجوا على عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم, بالحديبية يلتمسون غِرّتَهُمْ ليصيبوا منهم, فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى بهم أسرى, فخلى عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومن عليهم ولم يقتلهم فقال الله للمؤمنين: وهو الذي كفّ أيدي هؤلاء المشركين عنكم, وأيديكم عنهم ببطن مكة, من بعد أن أظفركم عليهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك جاءت الاَثار ذكر الرواية بذلك:
24413ـ حدثنا محمد بن عليّ بن الحسن بن شقيق, قال: سمعت أبي يقول: أخبرنا الحسين بن واقد, قال: ثني ثابت البناني, عن عبد الله بن مغفل, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا في أصل شجرة بالحُدَيبية, وعلى ظهره غصن من أغصان الشجرة فرفعتها عن ظهره, وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بين يديه وسهيل بن عمرو, وهو صاحب المشركين, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليّ: «اكْتُبْ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَن الرّحِيمِ», فأمسك سُهَيل بيده, فقال: ما نعرف الرحمن, اكتب في قضيتنا ما نعرف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اكْتُبْ باسْمِكَ اللّهُم», فكتب, فقال: «هذا ما صالح محمد رسول الله أهل مكة», وفأمسك سُهيل بيده, فقال: لقد ظلمناك إن كنت رسولاً, اكتب في قضيتنا ما نعرف قال: «اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب وأنا رسول الله», فخرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح, فثاروا في وجوهنا, فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأخذ الله بأبصارهم, فقمنا إليهم فأخذناهم, فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هَلْ خَرَجْتُمْ فِي أمان أحَد», قال: فخلى عنهم, قال: فأنزل الله وَهُوَ الّذِي كَفّ أيْدِيَهُم عَنْكُمْ وأيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكّةَ منْ بَعْدِ أنْ أظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا الحسين بن واقد, عن ثابت, عن عبد الله بن مغفل, قال: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم بالحُديبية في أصل الشجرة التي قال الله في القرآن, وكان غصن من أغصان تلك الشجرة على ظهر النبيّ صلى الله عليه وسلم, فرفعته عن ظهره, ثم ذكر نحو حديث محمد بن عليّ, عن أبيه.
24414ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق قال: ثني من لا أتهم. عن عكرِمة, مولى ابن عباس, أن قريشا كانوا بعثوا أربعين رجلاً منهم أو خمسين, وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم, ليصيبوا من أصحابه أحدا, فأخذوا أخذا, فأُتي بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وخلى سبيلهم, وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنبل. قال ابن حميد, قال سلمة, قال ابن إسحاق: ففي ذلك قال: وَهُوَ الّذِي كَفّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ... الآية.
24415ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: أقبل معتمرا نبي الله صلى الله عليه وسلم, فأخذ أصحابه ناسا من أهل الحرم غافلين, فأرسلهم النبيّ صلى الله عليه وسلم, فذلك الإظفار ببطن مكة.
24416ـ حدثنا محمد بن سنان القزّاز, قال: حدثنا عبيد الله ابن عائشة, قال: حدثنا حماد بن سلمة, عن ثابت, عن أنس بن مالك أن ثمانين رجلاً من أهل مكة, هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوهم, فأخذهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقهم, فأنزل الله وَهُوَ الّذِي كَفّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ... إلى آخر الآية.
وكان قتادة يقول في ذلك ما:
24417ـ حدثنا به بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَهُوَ الّذِي كَفّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ... الآية, قال: بطن مكة الحديبية يقال له رهم: اطلع الثنية من الحديبية, فرماه المشركون بسهم فقتلوه, فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً, فأتوه باثني عشر فارسا من الكفار, فقال لهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: «هل لكم عليّ عهد؟ هل لكم عليّ ذمة», قالوا: لا فأرسلهم, فأنزل الله في ذلك القرآن وَهُوَ الّذِي كَفّ أيْدِيَهُم عَنْكُمْ وأيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ... إلى قوله: بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرا.
وقال آخرون في ذلك ما:
24418ـ حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب القُمّيّ, عن جعفر, عن ابن أبزي, قال: لما خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم بالهدي, وانتهى إلى ذي الحليفة, قال له عمر: يا نبيّ الله, تدخل على قوم لك حرب بغير سلاح ولا كراع, قال: فبعث إلى المدينة فلم يدع بها كراعا ولا سلاحا إلا حمله فلما دنا من مكة منعوه أن يدخل, فسار حتى أتى منى, فنزل بمنى, فأتاه عينه أن عكرِمة بن أبي جهل قد خرج علينا في خمس مئة, فقال لخالد بن الوليد: «يا خالد هذا ابن عمك قد أتاك في الخيل», فقال خالد: أنا سيف الله وسيف رسوله, فيومئذٍ سُمي سيف الله, يا رسول الله, ارم بي حيث شئت, فبعثه على خيل, فلقي عكرِمة في الشّعب فهزمه حتى أدخله حيطان مكة, ثم عاد في الثانية فهزمه حتى أدخله حيطان مكة, ثم عاد في الثالثة حتى أدخله حيطان مكة, فأنزل الله وَهُوَ الّذي كَفّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ... إلى قوله عَذَابا أليما قال: فكفّ الله النبيّ عنهم من بعد أن أظفره عليهم لبقايا من المسلمين كانوا بقوا فيها من بعد أن أظفره عليهم كراهية أن تطأهم الخيل بغير علم.
وقوله: وكانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرا يقول تعالى ذكره: وكان الله بأعمالكم وأعمالهم بصيرا لا يخفى عليه منها شيء.
الآية : 25
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {هُمُ الّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مّؤْمِنَاتٌ لّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مّنْهُمْ مّعَرّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لّيُدْخِلَ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيّلُواْ لَعَذّبْنَا الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }.
يقول تعالى ذكره: هؤلاء المشركون من قريش هم الذين جحدوا توحيد الله, وصدّوكم أيها المؤمنون بالله عن دخول المسجد الحرام, وصدّوا الهَدي معكوفا: يقول: محبوسا عن أن يبلغ مَحِلّه. فموضع «أن» نصب لتعلقه إن شئت بمعكوف, وإن شئت بصدّوا. وكان بعض نحويي البصرة يقول في ذلك: وصدّوا الهدي معكوفا كراهية أن يبلغ محله.
وعنى بقوله تعالى ذكره: أنْ يَبْلُغَ مَحِلّهُ أن يبلغ محلّ نحره, وذلك دخول الحرم, والموضع الذي إذا صار إليه حلّ نحره, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ساق معه حين خرج إلى مكة في سَفرته تلك سبعين بدنة.
24419ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, قال: ثني محمد بن إسحاق, عن محمد بن مسلم الزهري, عن عروة بن الزبير, عن المِسْوَر بن مخرمة ومروان بن الحكم أنهما حدّثاه, قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحُديبية يريد زيارة البيت, لا يريد قتالاً, وساق الهَدي معه سبعين بدنة وكان الناس سبعَ مئة رجل, فكانت كلّ بدنة عن عشرة.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: هُمُ الّذِينَ كَفَرُوا وَصَدّوكُمْ عَن المَسْجدِ الحَرَام, وَالهَدْيَ مَعْكُوفا أنْ يَبْلُغَ مَحِلّهُ قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24420ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: هُمُ الّذِينَ كَفَرُوا وَصَدوكْم عَن المَسْجدِ الْحَرَامِ والهَدْيَ مَعْكُوفا: أي محبوسا أنْ يَبْلُغَ مَحِلّهُ وأقبل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه معتمرين في ذي القعدة, ومعهم الهدي, حتى إذا كانوا بالحُديبية, صدّهم المشركون, فصالحهم نبيّ صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم على أن يرجع من عامه ذلك, ثم يرجع من العام المقبل, فيكون بمكة ثلاث ليال, ولا يدخلها إلا بسلاح الراكب, ولا يخرج بأحد من أهلها, فنحروا الهدي, وحلقوا, وقصّروا, حتى إذا كان من العام المقبل, أقبل نبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى دخلوا مكة معتمرين في ذي القعدة, فأقام بها ثلاث ليال, وكان المشركون قد فجروا عليه حين ردّوه, فأقصه الله منهم فأدخله مكة في ذلك الشهر الذي كانوا ردّوه فيه, فأنزل الله الشّهْرُ الْحَرَامُ بالشّهْرِ الحَرَامِ والحُرُماتُ قِصَاصٌ.
24421ـ حدثني محمد بن عمارة الأسديّ وأحمد بن منصور الرمادي, واللفظ لابن عمارة, قالا: حدثنا عبيد الله بن موسى, قال: أخبرنا موسى بن عبيدة, عن إياس بن سلمة بن الأكوع, عن أبيه, قال: بعثت قريش سُهَيل بن عمرو, وحويطب بن عبد العُزّى, وحفص بن فلان إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ليصالحوه فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم سُهَيل بن عمرو, قال: «قد سهّل الله لكم من أمركم, القوم ماتّون إليكم بأرحامهم وسائلوكم الصلح, فابعثوا الهَدي, وأظهروا التلبية, لعلّ ذلك يلين قلوبهم», فلبوا من نواحي العسكر حتى ارتجّت أصواتهم بالتّلبية, فجاؤوا فسألوه الصلح قال: فبينما الناس قد توادعوا وفي المسلمين ناس من المشركين, قال: فقيل به أبو سفيان قال: وإذا الوادي يسيل بالرجال قال: قال إياس, قال سلمة: فجئت بستة من المشركين متسلحين أسوقهم, لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرّا, فأتيت بهم النبيّ صلى الله عليه وسلم, فلم يسلب ولم يقتل وعفا قال: فشددنا على من في أيدي المشركين منا, فما تركنا في أيديهم منا رجلاً إلا استنقذناه قال: وغلبنا على من في أيدينا منهم ثم إن قريشا بعثوا سُهَيل بن عمرو, وحويطبا, فولوا صلحهم, وبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم عليا في صلحه فكتب عليّ بينهم: بسم الله الرحمن الرحيم, هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا, صالحهم على أنه لا إهلال ولا امتلال, وعلى أنه من قَدِم مكة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حاجا أو معتمرا, أو يبتغي من فضل الله, فهو آمن على دمه وماله ومن قَدِم المدينة من قريش مجتازا إلى مصر أو إلى الشام يبتغي من فضل الله, فهو آمن على دمه وماله وعلى أنه من جاء محمدا صلى الله عليه وسلم من قريش فهو إليهم رَدّ, ومن جاءهم من أصحاب محمد فهو لهم. فاشتدّ ذلك على المسلمين, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ جاءَهُمْ مِنّا فأَبْعَدَهُ اللّهُ, وَمَنْ جاءَنا مِنْهُمْ فَرَدَدْناه إلَيْهِمْ فَعَلِمَ اللّهُ الإسْلامَ مِنْ نَفْسِهِ, جَعَلَ لَهُ مَخْرَجا». فصالحوه على أنه يعتمر في عام قابل في هذا الشهر, لا يدخل علينا بخيل ولا سلاح, إلا ما يحمل المسافر في قِرابه, يثوي فينا ثلاث ليال, وعلى أن هذا الهَدْي حيثما حبسناه محّله لا يقدمه علينا. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نَحْن نَسُوقُهُ وأنْتُمْ تَرُدونَ وُجُوهَهُ», فسار رسول الله مع الهدي وسار الناس.
24422ـ حدثني محمد بن عمارة, قال: حدثنا عبيد الله بن موسى, قال: أخبرنا موسى, قال: أخبرني أبو مُرّة مولى أمّ هانىء, عن ابن عمر, قال: «كان الهدي دون الجبال التي تطلع على وادي الثنية عرض له المشركون, فردّوا وجوهه قال: فنحر النبيّ صلى الله عليه وسلم الهدي حين حبسوه, وهي الحُديبية, وحلق, وتأسّى به أُناس حين رأوه حلق, وتربّص آخرون, فقالوا: لعلنا نطوف بالبيت, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رَحِمَ اللّهُ المُحَلّقِينَ», قيل: والمقصرين, قال: «رَحِمَ اللّهُ المُحَلّقِينَ», قيل: والمقصرين, قال: «والمُقَصّرِينَ».
24423ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا الحكم بن بشير, قال: حدثنا عمر بن ذَرّ الهمداني, عن مجاهد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث عمر, كلها في ذي القعدة, يرجع في كلها إلى المدينة, منها العمرة التي صدّ فيها الهدي, فنحره في محله, عند الشجرة, وشارطوه أن يأتي في العام المقبل معتمرا, فيدخل مكة, فيطوف بالبيت ثلاثة أيام, ثم يخرج, ولا يحبسون عنه أحدا قدم معه, ولا يخرج من مكة بأحد كان فيها قبل قدومه من المسلمين فلما كان من العام المقبل دخل مكة, فأقام بها ثلاثا يطوف بالبيت فلما كان اليوم الثالث قريبا من الظهر, أرسلوا إليه: إن قومك قد آذاهم مقامك, فنُودي في الناس: لا تغرب الشمس وفيها أحد من المسلمين قَدم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
24424ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن الزهريّ, عن عروة بن الزبير, عن المسور بن مخرمة, قال: خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم زمن الحُديبية في بضع عشرة مئة من أصحابه, حتى إذا كانوا بذي الحُلَيْفة قلّد الهدي وأشعره, وأحرم بالعمرة, وبعث بين يديه عينا له من خُزاعة يخبره عن قريش, وسار النبيّ صلى الله عليه وسلم, حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريبا من قُعَيقعان, أتاه عينه الخزاعيّ, فقال: إني تركت كعب بن لؤيّ وعامر بن لؤيّ قد جمعوا لك الأحابيش, وجمعوا لك جموعا, وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشِيرُوا عَليّ, أتَرَوْنَ أنْ نَمِيلَ على ذَرَارِي هَؤُلاءِ الّذِينَ أعانُوهُمْ فَنُصِيبَهُمْ, فإنْ قَعَدُوا قَعَدُوا مَوْتُورِينَ مَحْزُونِين وإنْ لحّوا تَكنْ عُنُقا قَطَعَها اللّهُ؟ أمْ تَرَوْنَ أنّا نَؤُمّ البَيْتَ, فمَنْ صَدّنا عَنْهُ قاتَلْناهُ؟» فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله: إنا لم نأت لقتال أحد, ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «فَروّحُوا إذًا» وكان أبو هريرة يقول: ما رأيت أحدا قطّ كان أكثر مُشاورة لأصحابه من النبيّ صلى الله عليه وسلم, فراحوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق, قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ خالِدَ بنَ الوَلِيدِ بالغَمِيم في خَيْل لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةً, فخُذُوا ذَاتَ اليْمِينِ», فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هو بُقْترة الجيش, فانطلق يركض نذيرا لقريش, وسار النبيّ صلى الله عليه وسلم, حتى إذا كان بالثنية التي يُهبْط عليهم منها, بركت به راحلته فقال الناس: حَلْ حَل, فقال: ما حَلْ؟ فقالوا: خَلأَتِ القَصْواء, فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما خَلأَتْ وَما ذَاكَ لَهَا بخُلُقٍ, ولَكِنّها حَبَسَها حابِسُ الفِيلِ», ثم قال: «والّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يَسألُونِي خُطّةً يُعَظّمُونَ بها حُرُماتِ اللّهِ إلاّ أعْطَيْتُهُم إيّاها», ثم زُجِرت فوثبت فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحُديبية على ثمد قليل الماء, إنما يتبرّضه الناس تبرّضا, فلم يلبث الناس أن نزحوه, فشُكِي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش, فنزع سهما من كنانته, ثم أمرهم أن يجعلوه فيه, فوالله ما زال يجيش لهم بالرّيّ حتى صدروا عنه, فبينما هم كذلك جاء بُدَيل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خُزاعة, وكانوا عَيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة, فقال: إني تركت كعب بن لُؤَيّ, وعامر بن لُؤَيّ, قد نزلوا أعداد مياه الحُديبية معهم العوْذ المطافيل, وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت, فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّا لَمْ نأْتِ لِقِتال أَحَدٍ, وَلَكِنّا جِئْنا مُعْتَمِرِينَ, وإنّ قُرَيْشا قَدْ نَهَكَتْهُمُ الحَرْبُ, وأَضَرّتْ بِهمْ, فإنْ شاؤوُا مادَدْناهُمْ مُدّةً, ويُخْلُوا بَيْنِي وَبَينَ النّاسِ, فإنْ أظْهَرْ فإنْ شاؤوا أن يَدْخُلُوا فِيما دَخَلَ فِيهِ النّاسُ فَعَلُوا, وَإلاّ فَقَدْ جَمّوا وَإنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالّذي نَفْسي بِيَدِهِ لأَقُاتِلَنّهُمْ عَلى أمْرِي هَذَا حتى تَنْفَرِدَ سالِفَتِي, أوْ لَيُنْفِذَن اللّهُ أمْرَهُ» فقال بديل: سنبلغهم ما تقول, فانطلق حتى أتى قريشا, فقال: إنا جئناكم من عند هذا الرجل, وسمعناه يقول قولاً فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا قال سفهاؤهم: لا حاجة لنا في أن تحدّثنا عنه بشيء, وقال ذوو الرأي منهم هات ما سمعته يقول: قال سمعته يقول كذا وكذا, فحدثهم بما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم, فقام عُروة بن مسعود الثقفي, فقال: أيْ قوم, ألستم بالولد؟ قالوا: بلى أو لست بالوالد؟ قالوا: بلى قال: فهل أنتم تتهموني؟ قالوا: لا قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ, فلما بلحوا عليّ جئتكم بأهلي وَولدِي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى قال: فإن هذا الرجل قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها, ودعوني آته فقالوا: ائته, فأتاه, فجعل يكلم النبيّ صلى الله عليه وسلم, فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوا من مقالته لبُديل فقال عروة عند ذلك: أي محمد, أرأيت إن استأصلت قومك, فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك0وإن تكن الأخرى فوالله إني لأرى وجوها وأوباشا من الناس خليقا أن يفرّوا ويدعوك, فقال أبو بكر: امصَصْ بظر اللات, واللاتُ: طاغية ثقيف الذي كانوا يعبدون, أنحن نفرّ وندعه؟ فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو بكر, فقال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك وجعل يكلم النبيّ صلى الله عليه وسلم, فكلما كلمه أخذ بلحيته, والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعه السيف, وعليه المغفر فكلما أهوى عروة إلى لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم, ضرب يده بنصل السيف, وقال: أخّر يدك عن لحيته, فرفع رأسه فقال: من هذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة, قال: أي غُدَرُ أو لست أسعى في غدرتك. وكان المُغيرة بن شعبة صحب قوما في الجاهلية, فقتلهم وأخذ أموالهم, ثم جاء فأسلم, فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أمّا الإسْلامُ فَقَدْ قَبِلْناهُ, وأمّا المَالُ فإنّه مالُ غَدْرٍ لا حاجَةَ لَنا فِيهِ». وإن عُروة جعل يرمق أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بعينه, فوالله إن تنخم النبيّ صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كفّ رجل منهم, فدلك بها وجهه وجلده, وإذا أمرهم ابتدروا أمره, وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه, وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده, وما يحدّون النظر إليه تعظيما له, فرجع عروة إلى أصحابه, فقال: أي قوم, والله لقد وفدت على الملوك, ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشيّ, والله ما رأيت مَلِكا قطّ يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كفّ رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده, وإذا أمرهم ابتدروا أمره, وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه, وإذا تكلموا عنده خفضوا أصواتهم, وما يحدّون النظر إليه تعظيما له, وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.
فقال رجل من كنانة: دعوني آته, فقالوا: ائته فلما أشرف على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه, قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «هَذَا فُلانٌ, وهو من قوم يعظمون البدن, فابعثوها له», فبعثت له, واستقبله قوم يلبون فلما رأى ذلك قال سبحان الله, ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت, فقام رجل منهم يقال له مِكْرز بن حفص, فقال: دعوني آته, فقالوا ائته, فلما أشرف على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه, قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «هَذَا مِكْرِز بْنُ حَفْصٍ, وَهُوَ رَجُلٌ فاجِرٌ» فجاء فجعل يكلم النبيّ صلى الله عليه وسلم, فبينما هو يكلمه, إذ جاء سُهَيل بن عمرو, قال أيوب, قال عكرِمة: إنه لما جاء سُهَيل, قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «قد سهل لكم من أمركم». قال الزهري. فجاء سهيل بن عمرو, فقال: هات نكتب بيننا وبينك كتابا فدعا الكاتب فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «اكْتُبْ: بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ», فقال: ما الرحمن؟ فوالله ما أدري ما هو, ولكن اكتب: باسمك اللهم كما كنت تكتب, فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم, فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «اكْتُبْ: باسْمِكَ اللّهُمّ» ثم قال: «اكْتُبْ: هَذَا ما قاضَى عَلَيْهِ مُحَمّدٌ رَسُولُ االلّهِ», فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت, ولا قاتلناك, ولكن اكتب: محمد بن عبد الله, فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «وَاللّهِ إنّي لَرَسُولُ اللّهِ وَإنْ كَذّبْتُمُوني, ولَكِنِ اكْتُبْ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ» قال الزهري: وذلك لقوله: «وَاللّهِ لا يَسأَلُوني خُطّةً يُعَظّمُونَ بِها حُرُماتِ اللّهِ إلاّ أعْطَيْتُهُمْ إيّاها» فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «عَلى أنْ تُخَلّوا بَيْنَنا وَبَينَ البَيْتِ, فَنَطُوفُ بِهِ» قال سُهيل: والله لا تتحدّث العرب أُنا أُخِذنا ضغطة, ولكن لك من العام المقبل, فكتب فقال سهيل, وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا, فقال المسلمون: سبحان الله, وكيف يُرَدّ إلى المشركين وقد جاء مسلما؟ فبينما هم كذلك, إذا جاء أبو جَنْدل بن سُهيل بن عمرو يوسُف في قيوده, قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين, فقال سهيل: هذا يا محمد أوّل من أقاضيك عليه أن تردّه إلينا, فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «فَأَجِرْهُ لي», فقال: ما أنا بمجيره لك, قال: «بلى فافعل», قال: ما أنا بفاعل قال صاحبه مِكْرزٍ وسهيل إلى جنبه: قد أجرناه لك فقال أبو جندل أي معاشر المسلمين, أأُردّ إلى المشركين وقد جئتُ مسلما؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ كان قد عُذّب عذابا شديدا في الله.
قال عمر بن الخطاب: والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذٍ, فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم, فقلت: ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟ قال: «بلى», قلت: فلِم نعطَى الدنية في ديننا إذن؟ قال: «إنّي رَسُولُ اللّهِ, وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهُوَ ناصِري», قلت: ألست تحدّثنا أنا سنأتي البيت, فنطوف به؟ قال: «بَلى», قال: «فأخبرتك أنك تأتيه العام»؟ قلت: لا قال: «فإنّكَ آتِيهِ وَمُتَطَوّفٌ به» قال: ثم أتيت أبا بكر, فقلت: أليس هذا نبيّ الله حقا؟ قال: بلى, قلت: ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟ قال: بلى, قلت: فلم نعطَى الدنية في ديننا إذا؟ قال أيها الرجل إنه رسول الله, وليس يعصِي ربه, فاستمسك بغرزه حتى تموت, فوالله إنه لعلى الحقّ قلت: أو ليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى, أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قال: لا, قال: فإنك آتيه ومتطوّف به. قال الزُهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالاً فلما فرغ من قصته, قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «قُومُوا فانْحَرُوا ثُمّ احْلِقُوا», قال: فوالله ما قام منا رجل حتى قال ذلك ثلاث مرّات فلما لم يقم منهم أحد, قام فدخل على أمّ سلمة, فذكر لها ما لقي من الناس, فقالت أمّ سلمة: يا رسول الله أتحبّ ذلك؟ اخرج, ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحرُ بُدْنَك, وتدعو حالقك فيحلقك, فقام فخرج فلم يكلم أحدا منهم كلمة, حتى نحر بدنه, ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا, وجعل بعضهم يحلق بعضا, حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما ثم جاءه نسوة مؤمنات, فأنزل الله عزّ وجلّ عليه: يا أَيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا جاءَكُمُ المُؤْمِناتُ مُهاجِرَاتٍ حتى بلغ بعِصَم الكَوَافِرِ قال: فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك قال: فنهاهم أن يردوهنّ, وأمرهم أن يردّوا الصداق حينئذٍ قال رجل للزهريّ: أمن أجل الفروج؟ قال: نعم, فتزوّج إحداهما معاوية بن أبي سفيان, والأخرى صفوان بن أمية, ثم رجع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة, فجاءه أبو بصير, رجل من قريش, وهو مسلم, فأرسل في طلبه رجلان, فقالا: العهد الذي جعلت لنا, فدفعه إلى الرجلين, فخرجا به, حتى إذا بلغا ذا الحليفة, فنزلوا يأكلون من تمر لهم, فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا, فاستله الاَخر فقال: والله إنه لجيد, لقد جربت به وجربت فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه فأمكنه منه, فضربه به حتى برد وفرّ الاَخر حتى أتى المدينة, فدخل المسجد يعدو, فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «رأى هَذَا ذُعْرا», فقال: والله قتل صاحبي, وإني والله لمقتول, فجاء أبو بصير فقال: قد والله أوفى الله ذمتك ورددتني إليهم, ثم أغاثني الله منهم, فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «وَيْلُ امّهِ مِسْعَرُ حَرْب لَوْ كانَ لَهُ أحَدٌ» فلما سمع عرف أنه سيردّه إليهم قال: فخرج حتى أتى سيف البحر, وتفلّت أبو جندل بن سهيل بن عمرو, فلحق بأبي بصير, فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير, حتى اجتمعت منهم عصابة, فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشأم إلا اعترضوا لهم فقتلوهم, وأخذوا أموالهم, فأرسلت قريش إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يناشدونه الله والرحم لما أرسل إليهم, فمن أتاه فهو آمن فأنزل الله وَهُوَ الّذِي كَفّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ حتى بلغ حميَةَ الجَاهِليّةِ وكانت حميتهم أنهم لم يقرّوا أنه نبيّ, ولم يقرّوا ببسم الله الرحمن الرحيم, وحالوا بينهم وبين البيت.
24425ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا يحيى بن سعيد, قال: حدثنا عبد الله بن المبارك, قال: أخبرنا معمر, عن الزهريّ, عن عروة, عن المسور بن مخرمة, ومروان بن الحكم, قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحُديبية في بضع عشرة مئة, ثم ذكر نحوه, إلا أنه قال في حديثه, قال الزهريّ, فحدثني القاسم بن محمد, أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم, فقلت: ألست برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: «بَلى», قال أيضا: وخرج أبو بصير والذين أسلموا من الذين رَدّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى لحقوا بالساحل على طريق عير قريش, فقتلوا من فيها من الكفار وتغنّموها فلما رأى ذلك كفار قريش, ركبٍ نفر منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالوا له: إنها لا تغني مدتك شيئا, ونحنُ نقتل وتُنهب أموالُنا, وإنا نسألك أن تدخل هؤلاء في الذين أسلموا منا في صلحك وتمنعهم, وتحجز عنا قتالهم, ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله: وَهُوَ الّذِي كَفّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ, ثم ساق الحديث إلى آخره, نحو حديث ابن عبد الأعلى.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهريّ, عن عروة بن الزبير, عن المسور بن مخرمة, ومروان بن الحكم أنهما حدّثاه, قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحُديبية, يريد زيارة البيت, لا يريد قتالاً, وساق معه هديه سبعين بدنة, حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبيّ, فقال له: يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك, فخرجوا معهم العوذُ المطافيلُ قد لبسوا جلود النمور, ونزلوا بذي طوى يعاهدون الله, لا تدخلها عليهم أبدا, وهذا خالد بن الوليد في خيلهم, قد قدموها إلى كراع الغميم قال: فقال صلى الله عليه وسلم: «يا وَيْحَ قُرَيْشٍ لَقَدْ أهْلَكَتْهُمُ الحَرْبُ, ماذَا عَلَيْهمْ لَوْ خَلّوا بَيْنِي وَبَيَنَ سائِرِ العَرَب فإنْ هُمْ أصابُونِي كانَ ذلكَ الّذِي أرَادُوا, وَإنْ أظْهَرَنِي اللّهُ عَلَيْهِم دَخَلُوا في الإسْلامِ دَاخِرِينَ» ثم ذكر نحو حديث معمر بزيادات فيه كثيرة, على حديث معمر تركت ذكرها.
24426ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: «والهَدْيَ مَعْكُوفا أنْ يَبْلُغَ محِلّهُ» قال: كان الهدي بذي طوى, والحُديبية خارجة من الحرم, نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غَوّرت قريش عليه الماء.
وقوله: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتَ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أنْ تَطُئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِنْهُمْ مَعَرّةٌ بغَيرِ عِلْمٍ يقول تعالى ذكره: ولولا رجال من أهل الإيمان ونساء منهم أيها المؤمنون بالله أن تطئوهم بخيلكم ورجلكم لم تعلموهم بمكة, وقد حبسهم المشركون بها عنكم, فلا يستطيعون من أجل ذلك الخروج إليكم فتقتلوهم. كما:
24427ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤمِناتٌ... حتى بلغ بِغَيرِ عِلْمٍ هذا حين ردّ محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يدخلوا مكة, فكان بها رجال مؤمنون ونساء مؤمنات, فكره الله أن يؤذوا أو يوطئوا بغير علم, فتصيبكم منهم معرّة بغير علم.
واختلف أهل التأويل في المعرة التي عناها الله في هذا الموضع, فقال بعضهم: عنى بها الإثم. ذكر من قال ذلك:
24428ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرّةٌ بغَيرِ عِلْمٍ قال: إثم بغير علم.
وقال آخرون: عنى بها غرم الدية. ذكر من قال ذلك:
24429ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرّةٌ بغَيرِ عِلْمٍ فتخرجوا ديته, فأما إثم فلم يحسبه عليهم. والمعرّة: هي المفعلة من العرّ, وهو الجرب. وإنما المعنى: فتصيبكم من قبلهم معرّة تعرّون بها, يلزمكم من أجلها كفّارة قتل الخطأ, وذلك عتق رقبة مؤمنة, من أطاق ذلك, ومن لم يطق فصيام شهرين.
وإنما اخترت هذا القول دون القول الذي قاله ابن إسحاق, لأن الله إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها, ولم يكن قاتله علم إيمانه الكفارة دون الدية, فقال: وإنْ كانَ مِنْ قَوْم عَدُوَ لَكُمْ وهُوَ مُؤْمِنٌ, فَتَحْرِيرُ رقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ» لم يوجب على قاتله خطأ ديته, فلذلك قلنا: عنى بالمعرّة في هذا الموضع الكفارة, وأن من قوله: أنْ تَطَئُوهُمْ في موضع رفع ردّا على الرجال, لأن معنى الكلام: ولولا أن تطئوا رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم, فتصيبكم منهم معرّة بغير علم لأذن الله لكم أيها المؤمنون في دخول مكة, ولكنه حال بينكم وبين ذلك لِيُدْخِلَ اللّهُ في رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ يقول: ليدخل في الإسلام من أهل مكة من يشاء قبل أن تدخلوها, وحذف جواب لولا استغناء بدلالة الكلام عليه.
وقوله: لَوْ تَزَيّلوا يقول: لو تميز الذين في مشركي مكة من الرجال المؤمنين والنساء المؤمنات الذين لم تعلموهم منهم, ففارقوهم وخرجوا من بين أظهرهم لَعَذّبْنا الّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُم عَذَابا ألِيما يقول: لقتلنا من بقي فيها بالسيف, أو لأهلكناهم ببعض ما يؤلمهم من عذابنا العاجل. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24430ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: لَوْ تَزَيّلُوا... الآية, إن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار.
24431ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله لَوْ تَزَيّلُوا لَعَذّبْنا الّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ يعني أهل مكة كان فيهم مؤمنون مستضعفون: يقول الله لولا أولئك المستضعفون لو قد تزيّلوا, لعذّبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما.
24432ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: لَوْ تَزَيّلُوا لو تفرّقوا, فتفرّق المؤمن من الكافر, لعذّبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما.
الآية : 26
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ الّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيّةَ حَمِيّةَ الْجَاهِلِيّةِ فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىَ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَىَ وَكَانُوَاْ أَحَقّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيماً }.
يعني تعالى ذكره بقوله: إذْ جَعَلَ الّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِم الْحَمِيّةَ حَمِيّةَ الجاهِلِيّةِ حين جعل سُهيل بن عمرو في قلبه الحمية, فامتنع أن يكتب في كتاب المقاضاة الذي كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين: بسم الله الرحمن الرحيم, وأن يكتب فيه: محمد رسول الله, وامتنع هو وقومه من دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم عامه ذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24433ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الزهريّ, قال: كانت حميتهم التي ذكر الله, إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية, حمية الجاهلية, أنهم لم يقرّوا «بسم الله الرحمن الرحيم» وحالوا بينهم وبين البيت.
حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا يحيى بن سعيد, قال: حدثنا عبد الله بن المبارك, عن معمر, عن الزهري بنحوه.
24434ـ حدثني عمرو بن محمد العثماني, قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس, قال: ثني أخي, عن سليمان, عن يحيى بن سعيد, عن ابن شهاب, عن سعيد بن المسيب, أن أبا هريرة أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ النّاسَ حتى يَقُولُوا لا إلَهَ إلاّ اللّهُ, فَمَنْ قال لا إلَه إلاّ اللّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنّي مالَهُ وَنَفْسَهُ إلاّ بِحَقّهِ وَحِسابُهُ على الله». وأنزل الله في كتابه, فذكر قوما استكبروا فقال: إنّهُمْ كانُوا إذَا قِيلَ لَهُمْ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ يَسْتَكْبِرُون وقال الله: إذْ جَعَلَ الّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيّةَ حَمِيّةَ الجاهِلِيّة فأنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رسَوُلِهِ وَعَلى المُؤْمِنينَ وألْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى وكانُوا أحَقّ بِها وأهْلَها وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله, استكبر عنها المشركون يوم الحُديبية, يوم كاتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قضية المدّة.
و «إذ» من قوله: إذْ جَعَلَ الّذِينَ كَفَرُوا من صلة قوله: لعذّبنا. وتأويل الكلام: لعذّبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما, حين جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية, والحمية فعيلة من قول القائل: حمى فلان أنفه حمية ومحمية ومنه قول المتلمس:
ألا إنّنِي مِنْهُمْ وَعِرْضِي عِرْضُهُمْكَذا الرأس يَحْمي أنْفَهُ أنْ يُكَشّما
يعني بقوله: «يحمي»: يمنع. وقال حَمِيّةَ الجاهِلِيّةِ لأن الذي فعلوا من ذلك كان جميعه من أخلاق أهل الكفر, ولم يكن شيء منه مما أذن الله لهم به, ولا أحد من رسله.
وقوله: فَأَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعلى المُؤْمِنِينَ يقول تعالى ذكره فأنزل الله الصبر والطمأنينة والوقار على رسوله وعلى المؤمنين, إذ حمى الذين كفروا حمية الجاهلية, ومنعوهم من الطواف بالبيت, وأبوا أن يكتبوا في الكتاب بينه وبينهم بسم الله الرحمن الرحيم, ومحمد رسول الله وألْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى يقال: ألزمهم قول لا إله إلا الله التي يتقون بها النار, وأليم العذاب. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف في ذلك منهم, ورُوي به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر قائلي ذلك بما قلنا فيه, والخبر الذي ذكرناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
24435ـ حدثنا الحسن بن قزعة الباهلي, قال: حدثنا سفيان بن حبيب, قال: حدثنا شعبة, عن ثور بن أبي فاختة, عن أبيه, عن الطفيل, عن أبيه, سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: وألْزَمَهُمْ كَلمَةَ التّقْوَى قال: «لا إلَهَ إلاّ اللّهُ».
24436ـ حدثني محمد بن خالد بن خداش العَتَكِيّ, قال: سمعت سالما, سمع شعبة, سمعَ سَلَمة بن كُهَيل, سمعِ عبَايَة, سمع عليا رضي الله عنه في قوله: وألْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى قال: لا إله إلا الله.
حدثني ابن بشار, قال: حدثنا يحيى وعبد الرحمن, قالا: حدثنا سفيان, عن سلمة, عن عباية بن ربعي, عن عليّ رضي الله عنه, في قوله: وألْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى قال: لا إله إلاّ الله, والله أكبر.
حدثني محمد بن عيسى الدامغاني, قال: حدثنا ابن المبارك, عن سفيان وشعبة, عن سلمة بن كهيل, عن رجل, عن عليّ رضي الله عنه قال: لا إله إلاّ الله, والله أكبر.
حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا وهب بن جرير, عن شعبة, عن سلمة, عن عبايه, عن رجل من بني تميم عن عليّ رضي الله عنه وألْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى قال: لا إله إلاّ الله.
24437ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: وألْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى يقول: شهادة أن لا إله إلاّ الله, فهي كلمة التقوى, يقول: فهي رأس التقوى.
24438ـ حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, قال: سمعت أبا إسحاق يحدّث عن عمرو بن ميمون أنه كان يقول في هذه الآية وألْزَمَهُم كَلِمَةَ التّقْوَى قال: لا إله إلاّ الله.
حدثني محمد بن عيسى, قال: أخبرنا ابن المبارك, قال: أخبرني سفيان, عن أبي إسحاق, عن عمرو بن ميمون, مثله.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن عمرو بن ميمون وأَلْزَمَهَمْ كَلِمَةَ التّقْوَى قال: لا إله إلاّ الله.
24439ـ قال: ثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد وألْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى وقال: لا إله إلاّ الله.
24440ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وألْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى وهي: شهادة أن لا إله إلا الله.
24441ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وألْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى قال: هي لا إله إلاّ الله.
24442ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله وألْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى هي لا إله إلاّ الله.
24443ـ حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم, قال: حدثنا حفص بن عمر, قال: حدثنا الحكم بن أبان, عن عكرمة, في قوله: وألْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى قال: شهادة أن لا إله إلاّ الله.
24444ـ حدثني ابن البرقيّ, قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة, عن سعيد بن عبد العزيز, عن عطاء الخراسانيّ وألْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى قال: لا إله إلاّ الله محمد رسول الله.
24445ـ حدثني الصواريّ محمد بن إسماعيل, قال: حدثنا محمد بن سوار, قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن يزيد بن أبي خالد المكي, عن عليّ الأزديّ, قال: كنت مع ابن عمر بين مكة ومنى بالمأزمين, فسمع الناس يقولون: لا إله إلاّ الله, والله أكبر, فقال: هي هي, فقلت: ما هي؟ قال: وألْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى الإخلاص وكَانُوا أَحَقّ بِها وَأَهْلَهَا.
وقال آخرون: بل: هي كلمة التقوى, الإخلاص. ذكر من قال ذلك:
24446ـ حدثني عليّ بن الحسين الأزديّ, قال: حدثنا يحيى بن يمان, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد وألْزَمَهُمْ كَلِمَةً التّقْوَى قال: الإخلاص.
حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد كَلِمَةَ التّقْوَى كلمة الإخلاص.
وقال آخرون: هي قوله: بسم الله الرحمن الرحيم. ذكر من قال ذلك:
24447ـ حدثني محمد بن عيسى, قال: حدثنا ابن المبارك, عن معمر, عن الزهريّ, في قوله: وألْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى قال: بسم الله الرحمن الرحيم.
وقال آخرون: هي قول لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد, وهو على كل شيء قدير. ذكر من قال ذلك:
24448ـ حدثنا أبو كُرّيب, قال: حدثنا ابن يمان, قال: أخبرنا ابن جُرَيج, عن مجاهد وعطاء وألْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى قال: أحدهما الإخلاص, وقال الاَخر: كلمة التقوى: لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له له المُلك وله الحمد, وهو على كلّ شيء قدير.
وقوله: وكانُوا أحَقّ بِها وأهْلَها يقول تعالى ذكره: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم: والمؤمنون أحقّ بكلمة التقوى من المشركين وأهلها: يقول: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون أهل كلمة التقوى دون المشركين. وذُكر أنها في قراءة عبد الله «وكانُوا أهْلَها وأحَقّ بِها». وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24449ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وكانُوا أَحَقّ بها وأهْلَها وكان المسلمون أحقّ بها, وكانوا أهلها: أي التوحيد, وشهادة أن لا إله إلاّ الله, وأن محمدا عبده ورسوله.
وقوله: وكانَ اللّهُ بكُلّ شَيْءٍ عَلِيما يقول تعالى ذكره: ولم يزل الله بكل شيء ذا علم, لا يخفى عليه شيء هو كائن, ولعلمه أيها الناس بما يحدث من دخولكم مكة وبها رجال مؤمنون, ونساء مؤمنات لم تعلموهم, لم يأذن لكم بدخولكم مكة في سفرتكم هذه.
الآية : 27
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {لّقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيَا بِالْحَقّ لَتَدْخُلُنّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً }.
يقول تعالى ذكره: لقد صدق الله رسوله محمدا رؤياه التي أراها إياه أنه يدخل هو وأصحابه بيت الله الحرام آمنين, لا يخافون أهل الشرك, مقصّرا بعضهم رأسه, ومحلّقا بعضهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24450ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيا بالحَقّ لَتَدْخُلُنّ المَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شاءَ اللّهِ آمِنِينَ قال هو دخول محمد صلى الله عليه وسلم البيت والمؤمنون, محلقين رؤوسهم ومقصرين.
24451ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: الرّؤْيا بالحَقّ قال: أُرِيَ بالحدُيبية أنه يدخل مكة وأصحابه محلقين, فقال أصحابه حين نحر بالحُديبية: أين رؤيا محمد صلى الله عليه وسلم؟
24452ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيا بالحَقّ قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يطوف بالبيت وأصحابه, فصدّق الله رؤياه, فقال: لَتَدْخُلُنّ المَسّجِدَ الحَرَام إنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ... حتى بلغ لا تَخافُونَ.
24453ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيا بالحَقّ قال: أُرِيَ في المنام أنهم يدخلون المسجد الحرام, وأنهم آمنون محلّقين رؤوسهم ومقصّرين.
24454ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيا بالحَقّ.. إلى آخر الآية. قال: قال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّي قَدْ رأيْتُ أنّكُمْ سَتَدْخُلُونَ المَسْجِدَ الحَرَام مُحَلّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ» فلما نزل بالحُديبية ولم يدخل ذلك العام طعن المنافقون في ذلك, فقالوا: أين رؤياه؟ فقال الله لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيا بالحَقّ فقرأ حتى بلغ وَمُقَصّرِينَ لا تَخافُونَ إني لم أره يدخلها هذا العام, وليكوننّ ذلك.
24455ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيا بالحَقّ... إلى قوله: إنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أُرِيَها أنه سيدخل مكة آمنا لا يخاف, يقول: محلقين ومقصرين لا تخافون.
وقوله: فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا يقول تعالى ذكره: فعلم الله جلّ ثناؤه ما لم تعلموا, وذلك علمه تعالى ذكره بما بمكة من الرجال والنساء المؤمنين, الذين لم يعلمهم المؤمنون, ولو دخلوها في ذلك العام لوطئوهم بالخيل والرّجل, فأصابتهم منهم معرّة بغير علم, فردّهم الله عن مكة من أجل ذلك وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24456ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلمُوا قال: ردّه لمكان من بين أظهرهم من المؤمنين والمؤمنات, وأخره ليدخل الله في رحمته من يشاء من يريد أن يهديه.
وقوله: فجَعَلَ مِنْ دُون ذلكَ فَتْحا قَرِيبا اختلف أهل التأويل في الفتح القريب, الذي جعله الله للمؤمنين دون دخولهم المسجد الحرام محلّقين رؤوسهم ومقصّرين, فقال بعضهم: هو الصلح الذي جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش. ذكر من قال ذلك:
24457ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: مِنْ دُونِ ذلكَ فَتْحا قَرِيبا قال: النحر بالحُديبية, ورجعوا فافتتحوا خَيبر, ثم اعتمر بعد ذلك, فكان تصديق رؤياه في السنة القابلة.
24458ـ حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن الزهريّ, قوله: فجعَلَ مِنْ دُونِ ذلكَ فَتْحا قَرِيبا يعني: صلح الحُديبية, وما فتح في الإسلام فتح كان أعظم منه, إنما كان القتال حيث التقى الناس فلما كانت الهدنة وضعت الحرب, وأمن الناس كلهم بعضهم بعضا, فالتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة, فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه, فلقد دخل في تينك السنتين في الإسلام مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر.
24459ـ حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق فجعَلَ مِنْ دُونِ ذلكَ فَتْحا قَرِيبا قال: صلح الحُديبية.
وقال آخرون: عنى بالفتح القريب في هذا الموضع: فتح خيبر. ذكر من قال ذلك:
24460ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلكَ فَتْحا قَرِيبا قال: خيبر حين رجعوا من الحُديبية, فتحها الله عليهم, فقسمها على أهل الحديبية كلهم إلا رجلاً واحدا من الأنصار, يقال له: أبو دجانة سماك بن خرشة, كان قد شهد الحُديبية وغاب عن خَيبر.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنه جعل لرسوله والذين كانوا معه من أهل بيعة الرضوان فتحا قريبا من دون دخولهم المسجد الحرام, ودون تصديقه رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان صلح الحُديبية وفتح خيبر دون ذلك, ولم يخصص الله تعالى ذكره خبره ذلك عن فتح من ذلك دون فتح, بل عمّ ذلك, وذلك كله فتح جعله الله من دون ذلك.
والصواب أن يعم كما عمه, فيقال: جعل الله من دون تصديقه رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدخوله وأصحابه المسجد الحرام محلّقين رؤوسهم ومقصّرين, لا يخافون المشركين صلح الحُديبية وفتح خيبر