تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 518 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 518

518- تفسير الصفحة رقم518 من المصحف
سورة ق
مقدمة السورة
مكية كلها في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر. قال ابن عباس وقتادة: إلا آية، وهي قوله تعالى: "ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب" [ق: 38]. وفي صحيح مسلم عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: لقد كان تنورنا وتنور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا سنتين - أو سنة وبعض سنة - وما أخذت "ق والقرآن المجيد" إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبا واقد الليثي ما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في لأضحى والفطر؟ فقال: كان يقرأ فيهما بـ "ق والقرآن المجيد" و"اقتربت الساعة وانشق القمر". وعن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بـ "ق والقرآن المجيد" وكانت صلاته بعد تخفيفا.
الآية: 1 - 5 {ق والقرآن المجيد، بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب، أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد، قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ، بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج}
قوله تعالى: "ق والقرآن المجيد" قرأ العامة "قاف" بالجزم. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم "قاف" بكسر الفاء؛ لأن الكسر أخو الجزم، فلما سكن آخره حركوه بحركة الخفض. وقرأ عيسى الثقفي بفتح الفاء حركه إلى أخف الحركات. وقرأ هارون ومحمد بن السميقع "قاف" بالضم؛ لأنه في غالب الأمر حركة البناء نحو منذ وقد وقبل وبعد. واختلف في معنى "قاف" ما هو؟ فقال ابن زيد وعكرمة والضحاك: هو جبل محيط بالأرض من زمردة خضراء أخضرت السماء منه، وعليه طرفا السماء والسماء عليه مقبية، وما أصاب الناس من زمرد كان مما تساقط من ذلك الجبل. ورواه أبو الجوزاء عن عبدالله بن عباس. قال الفراء: كان يجب على هذا أن يظهر الإعراب في "ق"؛ لأنه اسم وليس بهجاء. قال: ولعل القاف وحدها ذكرت من اسمه؛ كقوله القائل:
قلت لها قفي فقالت قاف
أي أنا واقفة. وهذا وجه حسن وقد تقدم أول "البقرة". وقال وهب: أشرف ذو القرنين على جبل قاف فرأى تحته جبالا صغارا، فقال له: ما أنت؟ قال: أنا قاف، قال: فما هذه الجبال حولك ؟ قال: هي عروقي وما من مدينة إلا وفيها عرق من عروقي، فإذا أراد الله أن يزلزل مدينة أمرني فحركت عرقي ذلك فتزلزلت تلك الأرض؛ فقال له: يا قاف أخبرني بشيء من عظمة الله؛ قال: إن شأن ربنا لعظيم، وإن ورائي أرضا مسيرة خمسمائة عام في خمسمائة عام من جبال ثلج يحطم به بعضها بعضا، لولا هي لاحترقت من حر جهنم. فهذا يدل على أن جهنم على وجه الأرض والله أعلم بموضعها؛ وأين هي من الأرض. قال: زدني، قال: إن جبريل عليه السلام واقف بين يدي الله ترعد فرائصه، يخلق الله من كل رعدة مائة ألف ملك، فأولئك الملائكة وقوف بين يدي الله تعالى منكسو رؤوسهم، فاذا أذن الله لهم في الكلام قالوا: لا إله إلا الله؛ وهو قوله تعالى: "يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا" [النبأ: 38] يعني قوله: لا إله إلا الله.
وقال الزجاج: قوله "ق" أي قضي الأمر، كما قيل في "حم" أي حم الأمر. وقال ابن عباس: "ق" اسم من أسماء الله تعالى أقسم به. وعنه أيضا: أنه اسم من أسماء القرآن. وهو قول قتادة. وقال القرظي: افتتاح أسماء الله تعالى قدير وقاهر وقريب وقاض وقابض. وقال الشعبي: فاتحة السورة. وقال أبوبكر الوراق: معناه قف عند أمرنا ونهينا ولا تعدهما. وقال محمد بن عاصم الأنطاكي: هو قرب الله من عباده، بيانه "ونحن أقرب إليه من حبل الوريد" [ق: 16] وقال ابن عطاء: أقسم الله بقوة قلب حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم، حيث حمل الخطاب ولم يؤثر ذلك فيه لعلو حاله.
قوله تعالى: "والقرآن المجيد" أي الرفيع القدر. وقيل: الكريم؛ قاله الحسن. وقيل: الكثير؛ مأخوذ من كثرة القدر والمنزلة لا من كثرة العدد، من قولهم: كثير فلان في النفوس؛ ومنه قول العرب في المثل السائر: "كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار". أي استكثر هذان النوعان من النار فزادا على سائر الشجر؛ قال ابن بحر. وجواب القسم قيل هو: "قد علمنا ما تنقص الأرض منهم" على إرادة اللام؛ أي لقد علمنا. وقيل: هو"إن في ذلك لذكرى" وهو اختيار الترمذي محمد بن علي قال: "ق" قسم باسم هو أعظم الأسماء التي خرجت إلى العباد وهو القدرة، وأقسم أيضا بالقرآن المجيد، ثم اقتص ما خرج من القدرة من خلق السموات والأرضين وأرزاق العباد، وخلق الآدميين، وصفة يوم القيامة والجنة والنار، ثم قال: "إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب" [ق: 37] فوقع القسم على هذه الكلمة كأنه قال: "ق" أي بالقدرة والقرآن المجيد أقسمت أن فيما أقتصصت في هذه السورة"لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد" [ق: 37]. وقال ابن كيسان: جوابه "ما يلفظ من قول ". وقال أهل الكوفة: جواب هذا القسم "بل عجبوا". وقال الأخفش: جوابه محذوف كأنه قال: "ق والقرآن المجيد"لتبعثن؛ يدل عليه "أئذا متنا وكنا ترابا ".
قوله تعالى: "بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم" "أن" في موضع نصب على تقدير لأن جاءهم منذر منهم، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم والضمير للكفار. وقيل: للمؤمنين والكفار جميعا. ثم ميز بينهم "فقال الكافرون" ولم يقل فقالوا، بل قبح حالهم وفعلهم ووصفهم بالكفر، كما تقول: جاءني فلان فأسمعني المكروه، وقال لي الفاسق أنت كذا وكذا. "هذا شيء عجيب" العجيب الأمر الذي يتعجب منه، وكذلك العجاب بالضم، والعجاب بالتشديد أكثر منه، وكذلك الأعجوبة. وقال قتادة: عجبهم أن دعوا إلى إله واحد. وقيل: من إنذارهم بالبعث والنشور. والذي نص عليه القرآن أولى.
قوله تعالى: "أئذا متنا وكنا ترابا" نبعث؛ ففيه إضمار. "ذلك رجع بعيد" الرجع الرد أي هو رد بعيد أي محال. يقال: رجعته أرجعه رجعا، ورجع هو يرجع رجوعا، وفيه إضمار آخر؛ أي وقالوا أنبعث إذا متنا. وذكر البعث وإن لم يجرها هنا فقد جرى في مواضع، والقرآن كالسورة الواحدة. وأيضا ذكر البعث منطو تحت قوله: "بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم" لأنه إنما ينذر بالعقاب والحساب في الآخرة. "قد علمنا ما تنقص الأرض منهم" أي ما تأكل من أجسادهم فلا يضل عنا شيء حتى تتعذر علينا الإعادة. وفي التنزيل: "قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى" [طه: 51]. وفي الصحيح: (كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق وفيه يركب) وقد تقدم. وثبت أن لأنبياء والأولياء والشهداء لا تأكل الأرض أجسادهم؛ حرم الله على الأرض أن تأكل أجسادهم. وقد بينا هذا في كتاب "التذكرة" وتقدم أيضا في هذا الكتاب. وقال السدي: النقص هنا الموت يقول قد علمنا منهم من يموت ومن يبقى؛ لأن من مات دفن فكأن الأرض تنقص من الناس. وعن ابن عباس:هو من يدخل في الإسلام من المشركين. "وعندنا كتاب حفيظ" أي بعدتهم وأسمائهم فهو فعيل بمعنى فاعل. وقيل: اللوح المحفوظ أي محفوظ من الشياطين أو محفوظ فيه كل شيء. وقيل: الكتاب عبارة عن العلم والإحصاء؛ كما تقول: كتبت عليك هذا أي حفظته؛ وهذا ترك الظاهر من غير ضرورة. وقيل: أي وعندنا كتاب حفيظ لأعمال بني آدم لنحاسبهم عليها.
قوله تعالى: "بل كذبوا بالحق" أي القرآن في قول الجميع؛ حكاه الماوردي. وقال الثعلبي: بالحق القرآن. وقيل: الإسلام. وقيل: محمد صلى الله عليه وسلم. "فهم في أمر مريج" أي مختلط. يقولون مرة ساحر ومرة شاعر ومرة كاهن؛ قاله الضحاك وابن زيد. وقال قتادة: مختلف. الحسن: ملتبس؛ والمعنى متقارب. وقال أبو هريرة: فاسد، ومنه مرجت أمانات الناس أي فسدت؛ ومرج الدين والأمر اختلط؛ قال أبو دواد:
مرج الدين فأعددت له مشرف الحارك محبوك الكتد
وقال ابن عباس: المريج الأمر المنكر. وقال عنه عمران بن أبي عطاء: "مريج" مختلط. وأنشد:
فجالت فالتمست به حشاها فخر كأنه خوط مريج
الخوط الغصن. وقال عنه العوفي: في أمر ضلالة وهو قولهم ساحر شاعر مجنون كاهن. وقيل: متغير. وأصل المرج الاضطراب والقلق؛ يقال: مرج أمر الناس ومرج أمر الدبن ومرج الخاتم في إصبعي إذا قلق من الهزال. وفي الحديث: (كيف بك يا عبدالله إذا كنت في قوم قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فكانوا هكذا وهكذا) وشبك بين أصابعه. أخرجه أبو داود وقد ذكرناه في كتاب "التذكرة"..
الآية: 6 - 11 {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج، والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج، تبصرة وذكرى لكل عبد منيب، ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد، والنخل باسقات لها طلع نضيد، رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج}
قوله تعالى: "أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم" نظر اعتبار وتفكر، وأن القادر على إيجادها قادر على الإعادة. "كيف بنيناها" فرفعناها بلا عمد "وزيناها" بالنجوم "وما لها من فروج" جمع فرج وهو الشق؛ ومنه قول امرىء القيس:
تسد به فرجها من دبر
وقال الكسائي: ليس فيها تفاوت ولا اختلاف ولا فتوق. "والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي" تقدم في "الرعد. "وأنبتنا فيها من كل زوج" أي من كل نوع من النبات "بهيج" أي حسن يسر الناظرين؛ وقد تقدم في "الحج" بيانه. "تبصرة " أي جعلنا ذلك تبصرة لندل به على كمال قدرتنا. وقال أبو حاتم: نصب على المصدر؛ يعني جعلنا ذلك تبصيرا وتنبيها على قدرتنا "وذكرى" معطوف عليه. "لكل عبد منيب" راجع إلى الله تعالى، مفكر في قدرته.
قوله تعالى: "وأنزلنا من السماء" أي من السحاب "ماء مباركا" أي كثير البركة. "فأنبتنا به جنات وحب الحصيد" التقدير: وحب النبت الحصيد وهو كل ما يحصد. هذا قول البصريين. وقال الكوفيون: هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه، كما يقال: مسجد الجامع وربيع الأول وحق اليقين وحبل الوريد ونحوها؛ قال الفراء. والأصل الحب الحصيد فحذفت الألف واللام وأضيف المنعوت إلى النعت. وقال الضحاك: حب الحصيد البر والشعير. وقيل: كل حب يحصد ويدخر ويقتات. "والنخل باسقات" نصب على الحال ردا على قوله: "وحب الحصيد" و"باسقات" حال. والباسقات الطوال؛ قال مجاهد وعكرمة. وقال قتادة وعبدالله بن شداد: بسوقها استقامتها في الطول. وقال سعيد بن جبير: مستويات. وقال الحسن وعكرمة أيضا والفراء: مواقير حوامل؛ يقال للشاة بسقت إذا ولدت، قال الشاعر:
فلما تركنا الدار ظلت منيفة بقران فيه الباسقات المواقر
والأول في اللغة أكثر وأشهر؛ يقال بسق النخل بسوقا إذا طال. قال:
لنا خمر وليست خمر كرم ولكن من نتاج الباسقات
كرام في السماء ذهبن طولا وفات ثمارها أيدي الجناة
ويقال: بسق فلان على أصحابه أي علاهم، وأبسقت الناقة إذا وقع في ضرعها للبن قبل النتاج فهي مبسق ونوق مباسيق. وقال قطبة بن مالك: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ "باصقات" بالصاد؛ ذكره الثعلبي.
قلت: الذي في صحيح مسلم عن قطبة بن مالك قال: صليت وصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ "ق والقرآن المجيد" حتى قرأ "والنخل باسقات" قال فجعلت أرددها ولا أدري ما قال؛ إلا أنه لا يجوز إبدال الصاد من السين لأجل القاف. "لها طلع نضيد" الطلع هو أول ما يخرج من ثمر النخل؛ يقال: طلع الطلع طلوعا وأطلعت النخلة، وطلعها كفراها قبل أن ينشق. "نضيد"أي متراكب قد نضد بعضه على بعض. وفي البخاري "النضيد" الكفري ما دام في أكمامه ومعناه منضود بعضه على بعض؛ فإذا خرج من أكمامه فليس بنضيد. "رزقا للعباد" أي رزقناهم رزقا، أوعلى معنى أنبتناها رزقا؛ لأن الإنبات في معنى الرزق، أو على أنه مفعول له أي أنبتناها لرزقهم، والرزق ما كان مهيأ للانتفاع به. وقد تقدم القول فيه. "وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج" أي من القبور أي كما أحيا الله هذه الأرض الميتة فكذلك يخرجكم أحياء بعد موتكم؛ فالكاف في محل رفع على الابتداء. وقد مضى هذا المعنى في غير موضع. وقال "مبتا"لأن المقصود المكان ولو قال ميتة لجاز.
الآية: 12 - 15 {كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود، وعاد وفرعون وإخوان لوط، وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد، أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد}
قوله تعالى: "كذبت قبلهم قوم نوح" أي كما كذب هؤلاء فكذلك كذب أولئك فحل بهم العقاب؛ ذكرهم نبأ من كان قبلهم من المكذبين وخوفهم ما أخذهم. وقد ذكرنا قصصهم في غير موضع عند ذكرهم. "كل كذب الرسل" من هذه الأمم المكذبة. "فحق وعيد" أي فحق عليهم وعيدي وعقابي.
قوله تعالى: "أفعيينا بالخلق الأول" أي أفعيينا به فنعيا بالبعث. وهذا توبيخ لمنكري البعث وجواب قولهم: "ذلك رجع بعيد" [ق: 3]. يقال: عييت بالأمر إذا لم تعرف وجهه. "بل هم في لبس من خلق جديد" أي في حيرة من البعث منهم مصدق ومنهم مكذب؛ يقال: لبس عليه الأمر يلبسه لبسا.