تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 519 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 519

519- تفسير الصفحة رقم519 من المصحف
الآية: 16 - 19 {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد، إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد}
قوله تعالى: "ولقد خلقنا الإنسان" يعني الناس، وقيل آدم. "ونعلم ما توسوس به نفسه" أي ما يختلج في سره وقلبه وضميره، وفي هذا زجر عن المعاصي التي يستخفي بها. ومن قال: إن المراد بالإنسان آدم؛ فالذي وسوست به نفسه هو الأكل من الشجرة، ثم هو عام لولده. والوسوسة حديث النفس بمنزلة الكلام الخفي. قال الأعشى:
تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت كما استعان بريح عشرق زجل
وقد مضى في "الأعراف". "ونحن أقرب إليه من حبل الوريد" هو حبل العاتق وهو ممتد من ناحية حلقه إلى عاتقه، وهما وريدان عن يمين وشمال. روي معناه عن ابن عباس وغيره وهو المعروف في اللغة. والحبل هو الوريد فأضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين. وقال الحسن: الوريد الوتين وهو عرق معلق بالقلب. وهذا تمثيل للقرب؛ أي نحن أقرب إليه من حبل وريده الذي هو منه، وليس على وجه قرب المسافة. وقيل: أي ونحن أملك به من حبل وريده مع استيلائه عليه. وقيل: أي ونحن أعلم بما توسوس به نفسه من حبل وريده الذي هو من نفسه، لأنه عرق يخالط القلب، فعلم الرب أقرب إليه من علم القلب، روي معناه عن مقاتل قال: الوريد عرق يخالط القلب، وهذا القرب قرب العلم والقدرة، وأبعاض الإنسان يحجب البعض البعض ولا يحجب علم الله شيء.
قوله تعالى: "إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد" أي نحن أقرب إليه من حبل وريده حين يتلقى المتلقيان، وهما الملكان الموكلان به، أي نحن أعلم بأحواله فلا نحتاج إلى ملك يخبر، ولكنهما وكلا به إلزاما للحجة، وتوكيدا للأمر عليه. وقال الحسن ومجاهد وقتادة: "المتلقيان" ملكان يتلقيان عملك: أحدهما عن يمينك يكتب حسناتك، والآخر عن شمالك يكب سيئاتك. قال الحسن: حتى إذا مت طويت صحيفة عملك وقيل لك يوم القيامة: "اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا" [الإسراء: 14] عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك. وقال مجاهد: وكل الله بالإنسان مع علمه بأحوال ملكين بالليل وملكين بالنهار يحفظان عمله، ويكتبان أثره إلزاما للحجة: أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات، والآخر عن شماله يكتب السيئات، فذلك قوله تعالى: "عن اليمين وعن الشمال قعيد". وقال سفيان: بلغني أن كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا أذنب العبد قال لا تعجل لعله يستغفر الله. وروي معناه من حديث أبي أمامة؛ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يساره وكاتب الحسنات أمين علي كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر). وروي من حديث علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن مقعد ملكيك على ثنيتك لسانك قلمهما وريقك مدادهما وأنت تجري فيما لا يعنيك فلا تستحي من الله ولا منهما). وقال الضحاك: مجلسهما تحت الثغر. على الحنك. ورواه عوف عن الحسن قال: وكان الحسن يعجبه أن ينظف عنفقته. وإنما قال: "قعيد"ولم يقل قعيدان وهما أثنان؛ لأن المراد عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد فحذف الأول لدلالة الثاني عليه. قاله سيبويه؛ ومنه قول الشاعر: نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف وقال الفرزدق:
إني ضمنت لمن أتاني ما جنى وأبى فكان وكنت غير غدور
ولم يقل راضيان ولا غدورين. ومذهب المبرد: أن الذي في التلاوة أول أخر اتساعا، وحذف الثاني لدلالة الأول عليه. ومذهب الأخفش والفراء: أن الذي في التلاوة يؤدي عن الاثنين والجمع ولا حذف في الكلام. و"قعيد" بمعنى قاعد كالسميع والعليم والقدير والشهيد. وقيل: "قعيد" بمعنى مقاعد مثل أكيل ونديم بمعنى مؤاكل ومنادم.
وقال الجوهري: فعيل وفعول مما يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع؛ كقوله تعالى: "إنا رسول رب العالمين" [الشعراء: 16] وقوله: "والملائكة بعد ذلك ظهير" [التحريم: 4]. وقال الشاعر في الجمع، أنشده الثعلبي:
ألكني إليها وخير الرسو ل أعلمهم بنواحي الخبر
والمراد بالقعيد ها هنا الملازم الثابت لا ضد القائم.
قوله تعالى: "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد" أي ما يتكلم بشيء إلا كتب عليه؛ مأخوذ من لفظ الطعام وهو إخراجه من الفم. وفي الرقيب ثلاثة أوجه: أحدها أنه المتبع للأمور. الثاني أنه الحافظ، قال السدي. الثالث أنه الشاهد، قال الضحاك. وفي العتيد وجهان: أحدهما أنه الحاضر الذي لا يغيب. الثاني أنه الحافظ المعد إما للحفظ وإما للشهادة. قال الجوهري: العتيد الشيء الحاضر المهيأ؛ وقد عتده تعتيدا وأعتده إعتادا أي أعده ليوم، ومنه قوله تعالى: "وأعتدت لهن متكأ" [يوسف: 31] وفرس عَتَد وعتِد بفتح التاء وكسرها المعد للجري.
قلت وكله يرجع إلى معنى الحضور، ومنه قول الشاعر:
لئن كنت مني في العيان مغيبا فذكرك عندي في الفؤاد عتيد
قال أبو الجوزاء ومجاهد: يكتب على الإنسان كل شيء حتى الأنين في مرضه. وقال عكرمة: لا يكتب إلا ما يؤجر به أو يؤزر عليه. وقيل: يكتب عليه كل ما يتكلم به، فإذا كان آخر النهار محي عنه ما كان مباحا، نحو أنطلق أقعد كل مما لا يتعلق به أجر ولا وزر، والله أعلم. وروي عن أبي هريرة وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من حافظين يرفعان إلى الله ما حفظا فيرى الله في أول الصحيفة خيرا وفي آخرها خيرا إلا قال الله تعالى لملائكته اشهدوا أني قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة). وقال علي رضي الله عنه: (إن لله ملائكة معهم صحف بيض فأملوا في أولها وفي أخرها خيرا يغفر لكم ما بين ذلك). وأخرج أبو نعيم الحافظ قال حدثنا أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق بن خزيمة قال حدثنا جدي محمد بن إسحاق قال حدثنا محمد بن موسى الحرشي قال حدثنا سهيل بن عبدالله قال: سمعت الأعمش يحدث عن زيد بن وهب عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الحافظين إذا نزلا على العبد أو الأمة منهما كتاب مختوم فيكتبان ما يلفظ به العبد أو الأمة فإذا أرادا أن ينهضا قال أحدهما للأخر فك الكتاب المختوم الذي معك فيفكه له فاذا فيه ما كتب سواء فذلك قوله تعالى "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد" غريب، من حديث الأعمش عن زيد، لم يروه عنه إلا سهيل. وروي من حديث أنس أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله وكل بعبده ملكين يكتبان عمله فإذا مات قالا ربنا قد مات فلان فأذن لنا أن نصعد إلى السماء فيقول الله تعالى إن، إن سمواتي مملوءة من ملائكتي يسبحونني فيقولان ربنا نقيم في الأرض فيقول الله تعالى إن أرضي مملوءة من خلقي يسبحونني فيقولان يا رب فأين نكون فيقول الله تعالى كونا على قبر عبدي فكبراني وهللاني وسبحاني واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة).
قوله تعالى: "وجاءت سكرة الموت بالحق" أي غمرته شدته؛ فالإنسان ما دام حيا تكتب عليه أقوال وأفعال ليحاسب عليها، ثم يجيئه الموت وهو ما يراه عند المعاينة من ظهور الحق فيما كان الله تعالى وعده وأوعده. وقيل: الحق هو الموت سمي حقا إما لاستحقاقه وإما لانتقاله إلي دار الحق؛ فعلى هذا يكون في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره وجاءت سكرة الحق بالموت، وكذلك في قراءة أبي بكر وابن مسعود رضي الله عنهما؛ لأن السكرة هي الحق فأضيفت إلى نفسها لاختلاف اللفظين. وقيل: يجوز أن يكون الحق على هذه القراءة هو الله تعالى؛ أي جاءت سكرة أمر الله تعالى بالموت. وقيل: الحق هو الموت والمعنى وجاءت سكرة الموت بالموت؛ ذكره المهدوي. وقد زعم من طعن على القرآن فقال: أخالف المصحف كما خالف أبو بكر الصديق فقرأ: وجاءت سكرة الحق بالموت. فاحتج عليه بأن أبا بكر رويت عنه روايتان: إحداهما موافقة للمصحف فعليها العمل، والأخرى مرفوضة تجري مجرى النسيان منه إن كان قالها، أو الغلط من بعض من نقل الحديث. قال أبوبكر الأنباري: حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا علي بن عبدالله حدثنا جرير عن منصور عن أبي وائل عن مسروق قال: لما احتضر أبو بكر أرسل إلى عائشة فلما. دخلت عليه قالت: هذا كما قال الشاعر:
إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
فقال أبو بكر: هلا قلت كما قال الله: "وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد" وذكر الحديث. والسكرة واحدة السكرات. وفي الصحيح عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بين يديه ركوة - أوعلبة - فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء، فيمسح بهما وجهه ويقول: (لا إله إلا الله إن للموت سكرات) ثم نصب يده فجعل يقول: (في الرفيق الأعلى) حتى قبض ومالت يده. خرجه البخاري. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العبد الصالح ليعالج الموت وسكراته وإن مفاصله ليسلم بعضها على بعض تقول السلام عليك تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة). وقال عيسى ابن مريم: "يا معشر الحواريين ادعوا الله أن يهون عليكم هذه السكرة" يعني سكرات الموت. وروي: (إن الموت أشد من ضرب بالسيوف ونشر بالمناشير وقرض بالمقاريض). "ذلك ما كنت منه تحيد" أي يقال لمن جاءته سكرة الموت ذلك ما كنت تفر منه وتميل عنه. يقال: حاد عن الشيء يحيد حيودا وحيدة وحيدودة مال عنه وعدل. وأصله حيدودة بتحريك الياء فسكنت؛ لأنه ليس في الكلام فعلول غير صعفوق. وتقول في الأخبار عن نفسك: حدت عن الشيء أحيد حيدا ومحيدا إذا ملت عنه؛ قال طرفة:
أبا منذر رمت الوفاء فهبته وحدت كما حاد البعير عن الدحض
الآية: 20 - 22 {ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد، وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد، لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد}
قوله تعالى: "ونفخ في الصور" هي النفخة الآخرة للبعث "ذلك يوم الوعيد" الذي وعده الله للكفار أن يعذبهم فيه. وقد مضى الكلام في النفخ في الصور مستوفى والحمد لله.
قوله تعالى: "وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد" اختلف في السائق والشهيد؛ فقال ابن عباس: السائق من الملائكة والشهيد من أنفسهم الأيدي والأرجل؛ رواه العوفي عن ابن عباس. وقال أبو هريرة: السائق الملك والشهيد العمل. وقال الحسن وقتادة: المعنى سائق يسوقها وشاهد يشهد عليها بعملها. وقال ابن مسلم: السائق قرينها من الشياطين سمي سائقا لأنه يتبعها وإن لم يحثها. وقال مجاهد: السائق والشهيد ملكان. وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال وهو على المنبر: "وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد" سائق: ملك يسوقها إلى أمر الله، وشهيد: يشهد عليها بعملها.
قلت: هذا أصح فإن في حديث جابر بن عبدالله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن ابن آدم لفي غفلة عما خلقه الله عز وجل له إن الله لا اله غيره إذا أراد خلقه قال للملك اكتب رزقه وأثره وأجله واكتبه شقيا أو سعيدا ثم يرتفع ذلك الملك ويبعث الله ملكا آخر فيحفظه حتى يدرك ثم يبعث الله ملكين يكتبان حسناته وسيئاته فإذا جاءه الموت ارتفع ذلك الملكان ثم جاء ملك الموت عليه السلام فيقبض روحه فإذا أودخل حفرته رد الروح في جسده ثم يرتفع ملك الموت ثم جاءه ملكا القبر فامتحناه ثم يرتفعان فاذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات فأنشطا كتابا معقودا في عنقه ثم حضرا معه واحد سائق والآخر شهيد ثم قال الله تعالى "لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتركبن طبقا عن طبق قال: (حالا بعد حال) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن قدامكم أمرا عظيما فاستعينوا بالله العظيم) خرجه أبو نعيم الحافظ من حديث جعفر بن محمد بن علي عن جابر وقال فيه: هذا حديث غريب من حديث جعفر، وحديث جابر تفرد به عنه جابر الجعفي وعنه المفضل. ثم في الآية قولان: أحدهما أنها عامة في المسلم والكافر وهو قول الجمهور. الثاني أنها خاصة في الكافر؛ قاله الضحاك.
قوله تعالى: "لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك" قال ابن زيد: المراد به النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي لقد كنت يا محمد في غفلة من الرسالة في قريش في جاهليتهم. وقال ابن عباس والضحاك: إن المراد به المشركون أي كانوا في غفلة من عواقب أمورهم. وقال أكثر المفسرين: إن المراد به البر والفاجر. وهو اختيار الطبري. وقيل: أي لقد كنت أيها الإنسان في غفلة عن أن كل نفس معها سائق وشهيد؛ لأن هذا لا يعرف إلا بالنصوص الإلهية. "فكشفنا عنك غطاءك "أي عماك؛ وفيه أربعة أوجه: أحدها إذ كان في بطن أمه فولد؛ قاله السدي. الثاني إذا كان في القبر فنشر. وهذا معنى قول ابن عباس. الثالث وقت العرض في القيامة؛ قاله مجاهد. الرابع أنه نزول الوحي وتحمل الرسالة. وهذا معنى قول ابن زيد. "فبصرك اليوم حديد"قيل: يراد به. بصر القلب كما يقال هو بصير بالفقه؛ فبصر القلب وبصيرته تبصرته شواهد الأفكار ونتائج الاعتبار، كما تبصر العين ما قابلها من الأشخاص والأجسام. وقيل: المراد به بصر العين وهو الظاهر أي بصر عينك اليوم حديد؛ أي قوي نافذ يرى ما كان محجوبا عنك. قال مجاهد: "فبصرك اليوم حديد" يعني نظرك إلى لسان ميزانك حين توزن سيئاتك وحسناتك. وقال الضحاك. وقيل: يعاين ما يصير إليه من ثواب وعقاب. وهو معنى قول ابن عباس. وقيل: يعني أن الكافر يحشر وبصره حديد ثم يزرق ويعمى. وقرئ "لقد كنت" "عنك" "فبصرك" بالكسر على خطاب النفس.
الآية: 23 - 26 {وقال قرينه هذا ما لدي عتيد، ألقيا في جهنم كل كفار عنيد، مناع للخير معتد مريب، الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد}
قوله تعالى: "وقال قرينه" يعني الملك الموكل به في قول الحسن وقتادة والضحاك. "هذا ما لدي عتيد" أي هذا ما عندي من كتابة عمله معد محفوظ. وقال مجاهد: يقول هذا الذي وكلتني به من بني آدم قد أحضرته وأحضرت ديوان عمله. وقيل: المعنى هذا ما عندي من العذاب حاضر. وعن مجاهد أيضا: قرينه الذي قيض له من الشياطين. "ألقيا في جهنم" قال ابن زيد في رواية ابن وهب عنه: إنه قرينه من الإنس، فيقول الله تعالى لقرينه: "ألقيا في جهنم" قال الخليل والأخفش: هذا كلام العرب الفصيح أن تخاطب الواحد بلفظ الاثنين فتقول: ويلك ارحلاها وازجراها، وخذاه وأطلقاه للواحد. قال الفراء: تقول للواحد قوما عنا، وأصل ذلك أن أدنى، أعوان الرجل في إبله وغنمه ورفقته في سفره أثنان فجرى كلام الرجل على صاحبيه، ومنه قولهم للواحد في الشعر: خليلي، ثم يقول: يا صاح. قال امرؤ القيس:
خليلي مرا بي على أم جندب نقض لبانات الفؤاد المعذب
وقال أيضا:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
وقال آخر:
فإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا
وقيل: جاء كذلك لأن القرين يقع للجماعة والاثنين. وقال المازني: قوله "ألقيا" يدل على ألق ألق. وقال المبرد: هي تثنية على التوكيد، المعنى ألق ألق فناب "ألقيا" مناب التكرار. ويجوز أن يكون "ألقيا" تثنية على خطاب الحقيقة من قول الله تعالى يخاطب به الملكين. وقيل: هو مخاطبة للسائق والحافظ. وقيل: إن الأصل القين بالنون الخفيفة تقلب في الوقف ألفا فحمل الوصل على الوقف. وقرأ الحسن "ألقين" بالنون الخفيفة نحو قوله: "وليكونا من الصاغرين" [يوسف: 32] وقوله: "لنسفعا" [العلق: 15]. "كل كفار عنيد" أي معاند؛ قال مجاهد وعكرمة. وقال بعضهم: العنيد المعرض عن الحق؛ يقال عند يعند بالكسر عنودا أي خالف ورد الحق وهو يعرفه فهو عنيد وعاند، وجمع العنيد عند مثل رغيف ورغف. "مناع للخير" يعني الزكاة المفروضة وكل حق واجب. "معتد" في منطقه وسيرته وأمره؛ ظالم. "مريب" شاك في التوحيد؛ قاله الحسن وقتادة. يقال: أراب الرجل فهو مريب إذا جاء بالريبة. وهو المشرك يدل عليه قوله تعالى: "الذي جعل مع الله إلها آخر" وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة. وأراد بقوله: "مناع للخير "أنه كان يمنع بني أخيه من الإسلام. "فألقياه في العذاب الشديد" تأكيد للأمر الأول.
الآية: 27 - 29 {قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد، قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد، ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد}
قوله تعالى: "قال قرينه ربنا ما أطغيته" يعني الشيطان الذي قيض لهذا الكافر العنيد تبرأ منه وكذبه. "ولكن كان في ضلال بعيد" عن الحق وكان طاغيا باختياره وإنما دعوته فاستجاب لي. وقرينه هنا هو شيطانه بغير أختلاف. حكاه المهدوي. وحكى الثعلبي قال ابن عباس ومقاتل: قرينه الملك؛ وذلك أن الوليد بن المغيرة يقول للملك الذي كان يكتب سيئاته: رب إنه أعجلني، فيقول الملك: ربنا ما أطغيته أي ما أعجلته. وقال سعيد بن جبير: يقول الكافر رب إنه زاد علي في الكتابة، فيقول الملك: ربنا ما أطغيته أي ما زدت عليه في الكتابة؛ فحينئذ يقول الله تعالى: "قال لا تختصموا لدي" يعني الكافرين وقرناءهم من الشياطين. قال القشيري: وهذا يدل على أن القرين الشيطان. "وقد قدمت إليكم بالوعيد" أي أرسلت الرسل. وقيل: هذا خطاب لكل من اختصم. وقيل: هو للاثنين وجاء بلفظ الجمع. "ما يبدل القول لدي" قيل هو قوله: "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها" [الأنعام: 160] وقيل هو قوله: "لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين" [السجدة: 13]. وقال الفراء: ما يكذب عندي أي ما يزاد في القول ولا ينقص لعلمي بالغيب. "وما أنا بظلام للعبيد" أي ما أنا بمعذب من لم يجرم؛ قال ابن عباس. وقد مضى القول في معناه في "الحج" وغيرها.
الآية: 30 - 35 {يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد، وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد، هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ، من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب، ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود، لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد}
قوله تعالى: "يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد" قرأ نافع وأبو بكر "يوم يقول" بالياء أعتبارا بقوله: "لا تختصموا لدي". الباقون بالنون على الخطاب من الله تعالى وهي نون العظمة. وقرأ الحسن "يوم أقول". وعن ابن مسعود وغيره "يوم يقال". وأنتصب "يوم" علي معنى ما يبدل القول لدي يوم. وقيل: بفعل مقدر معناه: وأنذرهم "يوم نقول لجهنم هل أمتلات" لما سبق من وعده إياها أنه يملؤها. وهذا الاستفهام على سبيل التصديق لخبره، والتحقيق لوعده، والتقريع لأعدائه، والتنبيه لجميع عباده. "وتقول" جهنم "هل من مزيد "أي ما بقي في موضع للزيادة؛ كقوله عليه السلام: (هل ترك لنا عقيل من ربع أومنزل) أي ما ترك؛ بمعنى الكلام الجحد. ويحتمل أن يكون استفهاما بمعنى الاستزادة؛ أي هل من مزيد فأزداد؟. وإنما صلح هذا للوجهين؛ لأن في الاستفهام ضربا من الجحد. وقيل: ليس ثم قول وإنما هو على طريق، المثل؛ أي إنها فيما يظهر من حالها بمنزلة الناطقة بذلك؛ كما قال الشاعر:
امتلأ الحوض وقال قَطني مهلا رويدا قد ملأتَ بطني
وهذا تفسير مجاهد وغيره. أي هل في من مسلك قد امتلأت. وقيل: ينطق الله النار حتى تقول هذا كما تنطق الجوارح. وهذا أصح على ما بيناه في سورة "الفرقان" وفي صحيح مسلم والبخاري والترمذي عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط به بعزتك وكرمك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة) لفظ مسلم. وفي رواية أخرى من حديث أبي هريرة: (وأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله عليها رجله يقول لها قط قط فهنالك تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض فلا يظلم الله من خلقه أحدا وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا). علماؤنا رحمهم الله: أما معنى القدم هنا فهم قوم يقدمهم الله إلى النار، وقد سبق في علمه أنهم من أهل النار. وكذلك الرجل وهو العدد الكثير من الناس وغيرهم؛ يقال:رأيت رجلا من الناس ورجلا من جراد، فال الشاعر:
فمر بنا رجل من الناس وانزوى إليهم من الحي اليماني أرجل
قبائل من لخم وعكل وحمير على ابني نزار بالعداوة أحفل
وبين هذا المعنى ما روي عن ابن مسعود أنه قال: ما في النار بيت ولا سلسلة ولا مقمع ولا تابوت إلا وعليه اسم صاحبه، فكل واحد من الخزنة ينتظر صاحبه الذي قد عرف اسمه وصفته، فإذا استوفى كل واحد منهم ما أمر به وما ينتظره ولم يبق منهم أحد قال الخزنة: قط قط حسبنا حسبنا! أي اكتفينا اكتفينا، وحينئذ تنزوي جهنم على من فيها وتنطبق إذ لم يبق أحد ينتظر. فعبر عن ذلك الجمع المنتظر بالرجل والقدم؛ ويشهد لهذا التأويل قوله في نفس الحديث: (ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة) وقد زدنا هذا المعنى بيانا ومهدناه في كتاب الأسماء والصفات من الكتاب الأسنى والحمد لله. وقال النضر بن شميل في معنى قوله عليه السلام: (حتى يضع الجبار فيها قدمه) أي من سبق في علمه أنه من أهل النار.
قوله تعالى: "وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد" أي قربت منهم. وقيل: هذا قبل الدخول في الدنيا؛ أي قربت من قلوبهم حين قيل لهم اجتنبوا المعاصي. وقيل: بعد الدخول قربت لهم مواضعهم فيها فلا تبعد. "غير بعيد" أي منهم وهذا تأكيد. "هذا ما توعدون" أي ويقال لهم هذا الجزاء الذي وعدتم في الدنيا على ألسنة الرسل. وقراءة العامة "توعدون" بالتاء على الخطاب. وقرأ ابن كثير بالياء على الخبر؛ لأنه أتى بعد ذكر المتقين. "لكل أواب حفيظ" أواب أي رجاع إلى الله عن المعاصي، ثم يرجع يذنب ثم يرج هكذا قاله الضحاك وغيره. وقال ابن عباس وعطاء: الأواب المسبح من قوله: "يا جبال أوبي معه" [سبأ: 10]. وقال الحكم بن عتيبة: هو الذاكر لله تعالى في الخلوة. وقال الشعبي ومجاهد: هو الذي يذكر ذنوبه في الخلوة فيستغفر الله منها. وهو قول ابن مسعود. وقال عبيد بن عمير: هو الذي لا يجلس مجلسا حتى يستغفر الله تعالى فيه. وعنه قال: كنا نحدث أن الأواب الحفيظ الذي إذا قام من مجلسه قال سبحان الله وبحمده، اللهم إني أستغفرك مما أصبت في مجلسي هذا. وفي الحديث: (من قال إذا قام من مجلسه سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك غفر الله له ما كان في ذلك المجلس). وهكذا كان النبي صلى صلى الله عليه وسلم يقول. وقال بعض العلماء: أنا أحب أن أقول أستغفرك وأسألك التوبة، ولا أحب أن أقول وأتوب إليك إلا على حقيقته.
قلت: هذا استحسان واتباع الحديث أولى. وقال أبو بكر الوراق: هو المتوكل على الله في السراء والضراء. وقال القاسم: هو الذي لا يشتغل إلا بالله عز وجل. "حفيظ" قال ابن عباس: هو الذي حفظ ذنوبه حتى يرجع عنها. وقال قتادة: حفيظ لما استودعه الله من حقه ونعمته وأتمنه عليه. وعن ابن عباس أيضا: هو الحافظ لأمر الله. مجاهد: هو الحافظ لحق الله تعالى بالاعتراف ولنعمه بالشكر. قال الضحاك: هو الحافظ لوصية الله تعالى بالقبول. وروى مكحول عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حافظ على أربع ركعات من أول النهار كان أوابا حفيظا) ذكره الماوردي.
قوله تعالى: "من خشي الرحمن بالغيب" "من" في محل خفض على البدل من قوله: "لكل أواب حفيظ "أو في موضع الصفة لـ "أواب". ويجوز الرفع على الاستئناف، والخبر"ادخلوها" على تقدير حذف جواب الشرط والتقدير فيقال لهم: "ادخلوها". والخشية بالغيب أن تخافه ولم تره. وقال الضحاك والسدي: يعني في الخلوة حين يراه أحد. وقال الحسن: إذا أرخى الستر وأغلق الباب. "وجاء بقلب منيب" مقبل على الطاعة. وقيل: مخلص. وقال أبو بكر الوراق: علامة المنيب أن يكون عارفا لحرمته ومواليا له، متواضعا لجلاله تاركا لهوى نفسه. قلت: ويحتمل أن يكون القلب المنيب القلب السليم؛ كما قال تعالى: "إلا من أتى الله بقلب سليم" [الشعراء: 89] على ما تقدم؛ والله أعلم. "ادخلوها" أي يقال لأهل هذه الصفات: "ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود" أي بسلامة من العذاب. وقيل: بسلام من الله وملائكته عليهم. وقيل: بسلامة من زوال النعم. وقال: "أدخلوها" وفي أول الكلام "من خشي"؛ لأن "من" تكون بمعنى الجمع.
قوله تعالى: "لهم ما يشاؤون فيها" يعني ما تشتهيه أنفسهم وتلذ أعينهم. "ولدينا مزيد" من النعم مما لم يخطر على بالهم. وقال أنس وجابر: المزيد النظر إلى وجه الله تعالى بلا كيف. وقد ورد ذلك في أخبار مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: "للذين أحسنوا الحسنى وزيادة" [يونس: 26] قال: الزيادة النظر إلى وجه الله الكريم. وذكر ابن المبارك ويحيى بن سلام، قالا: أخبرنا المسعودي عن المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة بن عبدالله بن عتبة عن ابن مسعود قال: تسارعوا إلى الجمعة فإن الله تبارك وتعالى يبرز لأهل الجنة كل يوم جمعة في كثيب من كافور أبيض فيكونون منه في القرب. قال ابن المبارك: على قدر تسارعهم إلى الجمعة في الدنيا. وقال يحيى بن سلام: لمسارعتهم إلى الجمع في الدنيا، وزاد (فيحدث الله لهم من الكرامة شيئا لم يكونوا رأوه قبل ذلك). فال يحيى: وسمعت غير المسعودي يزيد فيه قوله تعالى: "ولدينا مزيد".
قلت: قوله (في كثيب) يريد أهل الجنة، أي وهم على كثب؛ كما في مرسل الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الجنة ينظرون ربهم في كل يوم جمعة على كثيب من كافور) الحديث وقد ذكرناه في كتاب "التذكرة". وقيل: إن المزيد ما يزوجون به من الحور العين؛ رواه أبو سعيد الخدري مرفوعا.