تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 535 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 535

535- تفسير الصفحة رقم535 من المصحف
الآية: 17 - 26 {يطوف عليهم ولدان مخلدون، بأكواب وأباريق وكأس من معين، لا يصدعون عنها ولا ينزفون، وفاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، وحور عين، كأمثال اللؤلؤ المكنون، جزاء بما كانوا يعملون، لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما، إلا قيلا سلاما سلام}
قوله تعالى: "يطوف عليهم ولدان مخلدون" أي غلمان لا يموتون، قال مجاهد. الحسن والكلبي: لا يهرمون ولا يتغيرون، ومنه قول امرئ القيس:
وهل ينعمن إلا سعيد مخلد قليل الهموم ما يبيت بأوجال
وقال سعيد بن جبير: مخلدون مقرطون، يقال للقرط الخلدة ولجماعة الحلي الخلدة. وقيل: مسورون ونحوه عن الفراء، قال الشاعر:
ومخلدات باللجين كأنما أعجازهن أقاوز الكثبان
وقيل: مقرطون يعني ممنطقون من المناطق. وقال عكرمة: "مخلدون" منعمون. وقيل: على سن واحدة أنشأهم الله لأهل الجنة يطوفون عليهم كما شاء من غير ولادة. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن البصري: الولدان ها هنا ولدان المسلمين الذين يموتون صغارا ولا حسنة لهم ولا سيئة. وقال سلمان الفارسي: أطفال المشركين هم خدم أهل الجنة. قال الحسن: لم يكن لهم حسنات يجزون بها، ولا سيئات يعاقبون عليها، فوضعوا في هذا الموضع. والمقصود: أن أهل الجنة على أتم السرور والنعمة، والنعمة إنما تتم باحتفاف الخدم والولدان بالإنسان. "بأكواب وأباريق" أكواب جمع كوب وقد مضى في "الزخرف" وهي الآنية التي لا عرى لها ولا خراطيم، والأباريق التي لها عرى وخراطيم واحدها إبريق، سمي بذلك لأنه يبرق لونه من صفائه. "وكأس من معين" مضى في "والصافات" القول فيه. والمعين الجاري من ماء أو خمر، غير أن المراد في هذا الموضع الخمر الجارية من العيون. وقيل: الظاهرة لعيون فيكون "معين" مفعولا من المعاينة. وقيل: هو فعيل من المعن وهو الكثرة. وبين أنها ليست كخمر الدنيا التي تستخرج بعصر وتكلف ومعالجة.
قوله تعالى: "لا يصدعون عنها" أي لا تنصدع رؤوسهم من شربها، أي إنها لذة بلا أذى بخلاف شراب الدنيا. "ولا ينزفون" تقدم في "والصافات" أي لا يسكرون فتذهب. عقولهم. وقرأ مجاهد: "لا يصدعون" بمعنى لا يتصدعون أي لا يتفرقون، كقوله تعالى: "يومئذ يصدعون" [الروم: 43]. وقرأ أهل الكوفة "ينزفون" بكسر الزاي، أي لا ينفد شرابهم ولا تقنى خمرهم، ومنه قول الشاعر:
لعمري لئن أنزفتم أوصحوتم لبئس الندامى كنتم آل أبجرا
وروى الضحاك عن ابن عباس قال: في الخمر أربع خصال: السكر والصداع والقيء والبول، وقد ذكر الله تعالى خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال.
قوله تعالى: "وفاكهة مما يتخيرون" أي يتخيرون ما شاؤوا لكثرتها. وقيل: وفاكهة متخيرة مرضية، والتخير الاختيار. "ولحم طير مما يشتهون" روى الترمذي عن أنس بن مالك قال:سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الكوثر؟ قال: (ذاك نهر أعطانيه الله تعالى - يعني في الجنة - أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل فيه طير أعناقها كأعناق الجزُر) قال عمر: إن هذه لناعمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكتلها أحسن منها) قال: حديث حسن. وخرجه الثعلبي من حديث أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة طيرا مثل أعناق البخت تصطف على يد ولي الله فيقول أحدها يا ولي الله رعيت في مروج تحت العرش وشربت من عيون التسنيم فكل مني فلا يزلن يفتخرن بين يديه حتى يخطر على قلبه أكل أحدها فتخر بين يديه على ألوان مختلفة فيأكل منها ما أراد فإذا شبع تجمع عظام الطائر فطار يرعى في الجنة حيث شاء) فقال عمر: يا نبي الله إنها لناعمة. فقال: (أكلها أنعم منها). وروي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة لطيرا في الطائر منها سبعون ألف ريشة فيقع على صحفة الرجل من أهل الجنة ثم ينتفض فيخرج من كل ريشة لون طعام أبيض من الثلج وأبرد وألين من الزبد وأعذب من الشهد ليس فيه لون يشبه صاحبه فيأكل منه ما أراد ثم يذهب فيطير).
قوله تعالى: "وحور عين" قرئ بالرفع والنصب والجر، فمن جر وهو حمزة والكسائي وغيرهما جاز أن يكون معطوفا على "بأكواب" وهو محمول على المعنى، لأن المعنى يتنعمون بأكواب وفاكهة ولحم وحور، قال الزجاج. وجاز أن يكون معطوفا على "جنات" أي هم في "جنات النعيم" وفي حور على تقدير حذف المضاف، كأنه قال: وفي معاشرة حور. الفراء: الجر على الإتباع في اللفظ وإن اختلفا في المعنى، لأن الحور لا يطاف بهن، قال الشاعر:
إذا ما الغانيات برزن يوما وزججن الحواجب والعيونا
والعين لا تزجج وإنما تكحل. وقال آخر:
ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا
وقال قطرب: هو معطوف على الأكواب والأباريق من غير حمل على المعنى. قال: ولا ينكر أن يطاف عليهم بالحور ويكون لهم في ذلك لذة. ومن نصب وهو الأشهب العقيلي والنخعي وعيسى بن عمر الثقفي وكذلك هو في مصحف أبي، فهو على تقدير إضمار فعل، كأنه قال: ويزوجون حورا عينا. والحمل في النصب على المعنى أيضا حسن، لأن معنى يطاف عليهم به يعطونه. ومن رفع وهم الجمهور - وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم - فعلى معنى وعندهم حور عين، لأنه لا يطاف عليهم بالحور. وقال الكسائي: ومن قال: "وحور عين" بالرفع وعلل بأنه لا يطاف بهن يلزمه ذلك في فاكهة ولحم، لأن ذلك لا يطاف به وليس يطاف إلا بالخمر وحدها. وقال الأخفش: يجوز أن يكون محمولا على المعنى لهم أكواب ولهم حور عين. وجاز أن يكون معطوفا على "ثلة" و"ثلة" ابتداء وخبره "على سرر موضونة" وكذلك "وحور عين" وابتدأ بالنكرة لتخصيصها بالصفة. "كأمثال" أي مثل أمثال "اللؤلؤ المكنون" أي الذي لم تمسه الأيدي ولم يقع عليه الغبار فهو أشد ما يكون صفاء وتلألؤا، أي هن في تشاكل أجسادهن في الحسن من جميع جوانبهن كما قال الشاعر:
كأنما خلقت في قشر لؤلؤة فكل أكنافها وجه لمرصاد
"جزاء بما كانوا يعملون" أي ثوابا ونصبه على المفعول له. ويجوز أن يكون على المصدر، لأن معنى "يطوف عليهم ولدان مخلدون" يجازون. وقد مضى الكلام في الحور العين في "والطور" وغيرها. وقال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خلق الله الحور العين من الزعفران) وقال خالد بن الوليد: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الرجل من أهل الجنة ليمسك التفاحة من تفاح الجنة فتنفلق في يده فتخرج منها حوراء لو نظرت للشمس لأخجلت الشمس من حسنها من غير أن ينقص من التفاحة) فقال له رجل: يا أبا سليمان إن هذا لعجب ولا ينقص من التفاحة؟ قال: نعم كالسراج الذي يوقد منه سراج آخر وسرج ولا ينقص، والله على ما يشاء قدير. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: خلق الله الحور العين من أصابع رجليها إلى ركبتيها من الزعفران، ومن ركبتيها إلى ثدييها من المسك الأذفر، ومن ثدييها إلى عنقها من العنبر الأشهب، ومن عنقها إلى رأسها من الكافور الأبيض، عليها سبعون ألف حلة مثل شقائق النعمان، إذا أقبلت يتلألأ وجهها نورا ساطعا كما تتلألأ الشمس لأهل الدنيا، وإذا أدبرت يرى كبدها من رقة ثيابها وجلدها، في رأسها سبعون ألف ذؤابة من المسك الأذفر، لكل ذؤابة منها وصيفة ترفع ذيلها وهي تنادي: هذا ثواب الأولياء "جزاء بما كانوا يعملون" [السجدة: 17].
قوله تعالى: "لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما" قال ابن عباس: باطلا ولا كذبا. واللغو ما يلغى من الكلام، والتأثيم مصدر أثمته أي قلت له أثمت. محمد بن كعب: "ولا تأثيما" أي لا يؤثم بعضهم بعضا. مجاهد: "لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما" شتما ولا مأثما. "إلا قيلا سلاما سلاما" "قيلا" منصوب بـ "يسمعون" أو استئناء منقطع أي لكن يقولون قيلا أويسمعون. و"سلاما سلاما" منصوبان بالقول، أي إلا أنهم يقولون الخير. أو على المصدر أي إلا أن يقول بعضهم لبعض سلاما. أو يكون وصف لـ " قيلا"، والسلام الثابي بدل من الأول، والمعنى إلا قيلا يسلم فيه من اللغو. ويجوز الرفع على تقدير سلام عليكم. قال ابن عباس: أي يحيي بعضهم بعضا. وقيل: تحييهم الملائكة أو يحييهم ربهم عز وجل.
الآية: 27 - 40 {وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين، في سدر مخضود، وطلح منضود، وظل ممدود، وماء مسكوب، وفاكهة كثيرة، لا مقطوعة ولا ممنوعة، وفرش مرفوعة، إنا أنشأناهن إنشاء، فجعلناهن أبكارا، عربا أترابا، لأصحاب اليمين، ثلة من الأولين، وثلة من الآخرين}
قوله تعالى: "وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين" رجع إلى ذكر منازل أصحاب الميمنة وهم السابقون على ما تقدم، والتكرير لتعظيم شأن النعيم الذي هم فيه. "في سدر مخضود" أي في نبق قد خضد شوكه أي قطع، قال ابن عباس وغيره. وذكر ابن المبارك: حدثنا صفوان عن سليم بن عامر قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: إنه لينفعنا الأعراب ومسائلهم، قال: أقبل أعرابي يوما، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد ذكر الله في القرآن شجرة مؤذية، وما كنت أرى في الجنة شجرة توذي صاحبها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما هي) قال: السدر فإن له شوكا مؤذيا، فقال صلى الله عليه وسلم (أو ليس يقول "في سدر مخضود" خضد الله شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة فإنها تنبت ثمرا يفتق الثمر منها عن اثنين وسبعين لونا من الطعام ما فيه لون يشبه الآخر). وقال أبو العالية والضحال: نظر المسلمون إلى وج (وهو واد بالطائف مخصب) فأعجبهم سدره، فقالوا: يا ليت لنا مثل هذا، فنزلت. قال أمية بن أبي الصلت يصف الجنة:
إن الحدائق في الجنان ظليلة فيها الكواعب سدرها مخضود
وقال الضحاك ومجاهد ومقاتل بن حيان: "في سدر مخضود" وهو الموقر حملا. وهو قريب مما ذكرنا في الخبر. سعيد بن جبير: ثمرها أعظم من القلال. وقد مضى هذا في سورة "النجم" عند قوله تعالى: "عند سدرة المنتهى" [النجم: 14] وأن ثمرها مثل قلال هجر من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: "وطلح منضود" الطلح شجر الموز واحده طلحة. قال أكثر المفسرين علي وابن عباس وغيرهم. وقال الحسن: ليس هو موز ولكنه شجر له ظل بارد رطب. وقال الفراء وأبو عبيدة: شجر عظام له شوك، قال بعض الحداة وهو الجعدي:
بشرها دليلها وقالا غدا ترين الطلح والأحبالا
فالطلح كل شجر عظيم كثير الشوك. الزجاج: يجوز أن يكون في الجنة وقد أزيل شوكه. وقال الزجاج أيضا: كشجر أم غيلان له نور طيب جدا فخوطبوا ووعدوا بما يحبون مثله، إلا أن فضله على ما في الدنيا كفضل سائر ما في الجنة على ما في الدنيا. وقال السدي: طلح الجنة يشبه طلح الدنيا لكن له ثمر أحلى من العسل. وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "طلع منضود" بالعين وتلا هذه الآية "ونخل طلعها هضيم" [الشعراء: 148] وهو خلاف المصحف. في رواية أنه قرئ بين يديه "وطلح منضود" فقال: ما شأن الطلح؟ إنما هو "وطلع منضود" ثم قال: "لها طلع نضيد" [ق: 10] فقيل له: أفلا نحولها؟ فقال: لا ينبغي أن يهاج القرآن ولا يحول. فقد اختار هذه القراءة ولم ير إثباتها في المصحف لمخالفة ما رسمه مجمع عليه. قال القشيري. وأسنده أبو بكر الأنباري قال: حدثني أبي قال حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا عيسى بن يونس عن مجالد عن الحسن بن سعد عن قيس بن عباد قال: قرأت عند علي أو قرئت عند علي - شك مجالد - "وطلح منضود" فقال علي رضي الله عنه: ما بال الطلح؟ أما تقرأ "وطلع" ثم قال: "لها طلع نضيد" [ق: 10] فقال له: يا أمير المؤمنين أنحكها من المصحف؟ فقال: لا لا يهاج القرآن اليوم. قال أبو بكر: ومعنى هذا أنه رجع إلى ما في المصحف وعلم أنه هو الصواب، وأبطل الذي كان فرط من قول. والمنضود المتراكب الذي قد نضد أوله وآخره بالحمل، ليست له سوق بارزة بل هو مرصوص، والنضد هو الرص والمنضد المرصوص، قال النابغة:
خلت سبيل أتى كان يحسبه ورفعته إلى السجفين فالنضد
وقال مسروق: أشجار الجنة من عروقها إلى أفنانها نضيدة ثمر كله، كلما أكل ثمرة عاد مكانها أحسن منها.
قوله تعالى: "وظل ممدود" أي دائم باق لا يزول ولا تنسخه الشمس، كقوله تعالى:"ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا" [الفرقان: 45] وذلك بالغداة وهي ما بين الإسفار إلى طلوع الشمس حسب ما تقدم بيانه هناك. والجنة كلها ظل لا شمس معه. قال الربيع بن أنس: يعني ظل العرش. وقال عمر بن ميمون: مسيرة سبعين ألف سنة. وقال أبو عبيدة: تقول العرب للدهر الطويل والعمر الطويل والشيء الذي لا ينقطع ممدود، وقال لبيد:
غلب العزاء وكنت غير مغلب دهر طويل دائم ممدود
وفي صحيح الترمذي وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (وفي الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها واقرؤوا إن شئتم "وظل ممدود". "وماء مسكوب" أي جار لا ينقطع وأصل السكب الصب، يقال: سكبه سكبا، والسكوب أنصبابه. يقال: سكب سكوبا، وانسكب انسكابا، أي وماء مصبوب يجرى الليل والنهار في غير أخدود لا ينقطع عنهم. وكانت العرب أصحاب بادية وبلاد حارة، وكانت الأنهار في بلادهم عزيزة لا يصلون إلى الماء إلا بالدلو والرشاء فوعدوا في الجنة خلاف ذلك، ووصف لهم أسباب النزهة المعروفة في الدنيا، وهي الأشجار وظلالها والمياه والأنهار واطرادها.
قوله تعالى: "وفاكهة كثيرة" أي ليست بالقليلة العزيزة كما كانت في بلادهم "لا مقطوعة" أي في وقت من الأوقات كانقطاع فواكه الصيف في الشاء "ولا ممنوعة" أي لا يحظر عليها كثمار الدنيا. وقيل: "ولا ممنوعة" أي لا يمنع من أرادها بشوك ولا بعد ولا حائط، بل إذا أشتهاها العبد دنت منه حتى يأخذها، قال الله تعالى: "وذللت قطوفها تذليلا" [الإنسان: 14]. وقيل: ليست مقطوعة بالأزمان، ولا ممنوعة بالأثمان. والله أعلم.
قوله تعالى: "وفرش مرفوعة" روى الترمذي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: "وفرش مرفوعة" قال: (ارتفاعها لكما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة) قال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد. وقال بعض أهل العلم في تفسير هذا الحديث: الفرش في الدرجات، وما بين الدرجات كما بين السماء والأرض. وقيل: إن الفرش هنا كناية عن النساء اللواتي في الجنة ولم يتقدم لهن ذكر، ولكن قوله عز وجل:"وفرش مرفوعة" دال، لأنها محل النساء، فالمعنى ونساء مرتفعات الأقدار في حسنهن وكمالهن، دليله قوله تعالى: "إنا أنشأناهن إنشاء" أي خلقناهن خلقا وأبدعناهن إبداعا. والعرب تسمي المرأة فراشا ولباسا وإزارا، وقد قال تعالى: "هن لباس لكم". ثم قيل: على هذا هن الحور العين، أي خلقناهن من غير ولادة. وقيل: المراد نساء بني ادم، أي خلقناهن خلقا جديدا وهو الإعادة، أي أعدناهن إلى حال الشباب وكمال الجمال. والمعنى أنشأنا العجوز والصبية إنشاء واحدا، وأضمرن ولم يتقدم ذكرهن، لأنهن قد دخلن في أصحاب اليمين، ولأن الفرش كناية عن النساء كما تقدم. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: "إنا أنشأناهن إنشاء" قال: (منهن البكر والثيب). وقالت أم سلمة رضي الله تعالى عنها: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: "إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا" فقال (يا أم سلمة هن اللواتي قبضن في الدنيا عجائز شمطا عمشا رمصا جعلهن الله بعد الكبر أترابا على ميلاد واحد في الاستواء" أسنده النحاس عن أنس قال: حدثنا أحمد بن عمرو قال: حدثنا عمرو بن على قال: حدثنا أبو عاصم عن موسى بن عبيد عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك رفعه "إنا أنشأناهن إنشاء" قال (هن العجائز العمش الرمص كن في الدنيا عمشا رمصا). وقال المسيب بن شريك: قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله "إنا أنشأناهن إنشاء" الآية قال: (هن عجائز الدنيا أنشأهن الله خلقا جديدا كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا) فلما سمعت عائشة ذلك قالت: واوجعاه! فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس هناك وجع). "عربا" جمع عروب. قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: العرب العواشق لأزوجهن. وعن ابن عباس أيضا: إنها العروب الملقة. عكرمة: الغنجة. ابن زيد: بلغة أهل المدينة. ومنه قول لبيد:
وفي الخباء عروب غير فاحشة ريا الروادف يعشى دونها البصر
وهي الشكلة بلغة أهل مكة. وعن زيد بن أسلم أيضا: الحسنة الكلام. وعن عكرمة أيضا وقتادة: العرب المتحببات إلى أزواجهن، واشتقاقه من أعرب إذا بين، فالعروب تبين محبتها لزوجها بشكل وغنج وحسن كلام. وقيل: إنها الحسنة التبعل لتكون ألذ استمتاعا. وروى جعفر بن محمد عن أببه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عربا" قال: (كلامهن عربي). وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم "عربا" بإسكان الراء. وضم الباقون وهما جائزان في جمع فعول. "أترابا" على ميلاد واحد في الاستواء وسن واحدة ثلاث وثلاثين سنة. يقال في النساء أتراب وفي الرجال أقران. وكانت العرب تميل إلى من جاوزت حد الصبا من النساء وانحطت عن الكبر. وقيل: "أترابا" أمثالا وأشكالا، قاله مجاهد. السدي: أتراب في الأخلاق لا تباغض بينهن ولا تحاسد. "لأصحاب اليمين" قيل: الحور العين للسابقين، والأتراب العرب لأصحاب اليمين.
قوله تعالى: "ثلة من الأولين. وثلة من الآخرين" رجع الكلام إلى قوله تعالى: "وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين" أي هم "ثلة من الأولين. وثلة من الآخرين" وقد مضى الكلام في معناه. وقال أبو العالية ومجاهد وعطاء بن أبي رباح والضحاك: "ثلة من الأولين" يعني من سابقي هذه الأمة "وثلة من الآخرين" من هذه الأمة من آخرها، يدل عليه ما روي عن ابن عباس في هذه الآية "ثلة من الأولين. وثلة من الآخرين" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هم جميعا من أمتي). وقال الواحدي: أصحاب الجنة نصفان من الأمم الماضية ونصف من هذه الأمة. وهذا يرده ما رواه ابن ماجة في سننه والترمذي في جامعه عن بريدة بن خصيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أهل الجنة عشرون ومائة صف ثمانون منها من هذه الأمة وأربعون من سائر الأمم). قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. و"ثلة" رفع على الابتداء، أو على حذف خبر حرف الصفة، ومجازه: لأصحاب اليمين ثلتان: ثلة من هؤلاء وثلة من هؤلاء. والأولون الأمم الماضية، والآخرون هذه الأمة على القول الثاني.
الآية: 41 - 56 {وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال، في سموم وحميم، وظل من يحموم، لا بارد ولا كريم، إنهم كانوا قبل ذلك مترفين، وكانوا يصرون على الحنث العظيم، وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون، أو آباؤنا الأولون، قل إن الأولين والآخرين، لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم، ثم إنكم أيها الضالون المكذبون، لآكلون من شجر من زقوم، فمالئون منها البطون، فشاربون عليه من الحميم، فشاربون شرب الهيم، هذا نزلهم يوم الدين}
قوله تعالى: "وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال" ذكر منازل أهل النار وسماهم أصحاب الشمال، لأنهم يأخذون كتبهم بشمائلهم، ثم عظم ذكرهم في البلاد والعذاب فقال: "ما أصحاب الشمال. "في سموم" والسموم الريح الحارة التي تدخل في مسام البدن. والمراد هنا حر النار ولفحها. "وحميم" أي ماء حار قد انتهى حره، إذا أحرقت النار أكبادهم وأجسادهم فزعوا إلى الحميم، كالذي يفزع من النار إلى الماء ليطفئ به الحر فيجده حميما حارا في نهاية الحرارة والغليان. وقد مضى في "محمد" "وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم" [محمد: 15]. "وظل من يحموم" أي يفزعون من السموم إلى الظل كما يفزع أهل الدنيا فيجدونه ظلا من يحموم، أي من دخان جهنم أسود شديد السواد. عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وكذلك اليحموم في اللغة: الشديد السواد وهو يفعول من الحم وهو الشحم المسود باحتراق النار. وقيل: هو المأخوذ من الحمم وهو الفحم. وقال الضحاك: النار سوداء وأهلها سود وكل ما فيها أسود. وعن ابن عباس أيضا: النار سوداء. وقال ابن زيد: اليحموم جبل في جهنم يستغيث إلى ظله أهل النار. "لا بارد" بل حار لأنه من دخان شفير جهنم. "ولا كريم" عذب، عن الضحاك. وقال سعيد بن المسيب: ولا حسن منظره، وكل ما لا خير فيه فليس بكريم. وقيل: "وظل من يحموم" أي من النار يعذبون بها، كقوله تعالى: "لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل" [الزمر: 16]. "إنهم كانوا قبل ذلك مترفين" أي إنما استحقوا هذه العقوبة لأنهم كانوا في الدنيا متنعمين بالحرام. والمترف المنعم، عن ابن عباس وغيره. وقال السدي: "مترفين" أي مشركين. "وكانوا يصرون على الحنث العظيم" أي يقيمون على الشرك، عن الحسن والضحاك وابن زيد. وقال قتادة ومجاهد: الذنب العظيم الذي لا يتوبون منه. الشعبي: هو اليمين الغموس وهى من الكبائر، يقال: حنث في يمينه أي لم يرها ورجح فيها. وكانوا يقسمون أن لا بعث، وأن أنداد الله فذلك حنثهم، قال الله تعالى مخبرا عنهم: "وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت" [النحل: 38] وفي الخبر: كان يتحنث في حراء، أي يفعل ما يسقط عن نفسه الحنث وهو الذنب. "وكانوا يقولون أئذا متنا" هذا استبعاد منهم لأمر البعث وتكذيب له. فقال الله تعالى: "قل" لهم يا محمد "إن الأولين" من أبائكم "والآخرين" منكم "لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم" يريد يوم القيامة. ومعنى الكلام القسم ودخول اللام في قوله تعالى: "لمجوعون" هو دليل القسم في المعنى، أي إنكم لمجموعون قسما حقا خلاف قسمكم الباطل "ثم إنكم أيها الضالون" عن الهدى "المكذبون" بالبعث "لآكلون من شجر من زقوم" وهو شجر كريه المنظر، كريه الطعم، وهي التي ذكرت في سورة "والصافات". "فمالئون منها البطون" أي من الشجرة، لأن المقصود من الشجر شجرة. ويجوز أن تكون "من" الأولى زائدة، ويحوز أن يكون المفعول محذوفا كأنه قال: "لآكلون من شجر من زقوم" طعاما. وقوله: "من زقوم" صفة لشجر، والصفة إذا قدرت الجار زائدا نصبت على المعنى، أو جررت على اللفظ، فإن قدرت المفعول محذوفا لم تكن الصفة إلا في موضع جر.
قوله تعالى: "فشاربون عليه" أي على الزقوم أو على الأكل أو على الشجر، لأنه يذكر ومؤنث. "من الحميم" وهو الماء المغلي الذي قد اشتد غليانه وهو صديد أهل النار. أي يورثهم حر ما يأكلون من الزقوم مع الجوع الشديد عطشا فيشربون ماء يظنون أنه يزيل العطش فيجدونه حميما مغلى. "فشاربون شرب الهيم" قراءة نافع وعاصم وحمزة "شرب" بضم الشين. الباقون بفتحها لغتان جيدتان، تقول العرب: شربت شربا وشربا وشربا وشربا بضمتين. قال أبو زيد: سمعت العرب تقول بضم الشين ولتحها وكسرها، والفتح هو المصدر الصحيح، لأن كل مصدر من ذوات الثلاثة فأصله فعل، ألا ترى أنك ترده إلى المرة الواحدة، فتقول: فعلة نحو شربة وبالضم الاسم. وقيل: إن المفتوح والاسم مصدران، فالشرب كالأكل، والشرب كالذكر، والشرب بالكسر المشروب كالطحن المطحون. والهيم الإبل العطاش التي لا تروى لداء يصيبها، عن ابن عباس وعكرمة وقتادة والسدي وغيرهم، وقال عكرمة أيضا: هي الإبل المراض. الضحاك: الهيم الإبل يصيبها داء تعطش منه عطشا شديدا، واحدها أهيم والأنثى هيماء. ويقال لذلك الداء الهيام، قال قيس بن الملوح:
يقال به داء الهيام أصابه وقد علمت نفسي مكان شفائها
وقوم هيم أيضا أي عطاش، وقد هاموا هياما. ومن العرب من يقول في الإبل: هائم وهائمة والجمع هيم، قال لبيد:
أجزت إلى معارفها بشعث وأطلاح من العيدي هيم
وقال الضحاك والأخفش وابن عيينة وابن كيسان: الهيم الأرض السهلة ذات الرمل. وروي أيضا عن ابن عباس: فيشربون شرب الرمال التي لا تروى بالماء. المهدوي: ويقال لكل ما لا يروى من الإبل والرمل أهيم وهيماء. وفي الصحاح: والهيام بالضم أشد العطش. والهيام كالجنون من العشق. والهيام داء يأخذ الإبل فتهيم في الأرض لا ترعى. يقال: ناقة هيماء. والهيماء أيضا المفازة لا ماء بها. والهيام بالفتح: الرمل الذي لا يتماسك أن يسيل من اليد للينه والجمع هيم مثل قذال وقذل. والهيام بالكسر الإبل العطاش الواحد هيمان، وناقة هيماء مثل عطشان وعطشى.
قوله تعالى: "هذا نزلهم يوم الدين" أي رزقهم الذي يعد لهم، كالنزل الذي يعد للأضياف تكرمة لهم، وفيه تهكم، كما في قوله تعالى: "فبشرهم بعذاب أليم" [آل عمران: 21] وكقول أبي السعد الضبي:
وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا جعلنا القنا والمرهفات له نزلا
وقرأ يونس بن حبيب وعباس عن أبي عمرو "هذا نزلهم" بإسكان الزاي، وقد مضى في آخر "آل عمران" القول فيه. "يوم الدين" يوم الجزاء، يعني في جهنم