سورة الواقعة | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 535 من المصحف
** ثُلّةٌ مّنَ الأوّلِينَ * وَقَلِيلٌ مّنَ الاَخِرِينَ * عَلَىَ سُرُرٍ مّوْضُونَةٍ * مّتّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مّخَلّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مّن مّعِينٍ * لاّ يُصَدّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مّمّا يَتَخَيّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مّمّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً * إِلاّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً
يقول تعالى مخبراً عن هؤلاء السابقين المقربين أنهم ثلة أي جماعة من الأولين وقليل من الاَخرين, وقد اختلفوا في المراد بقوله الأولين والاَخرين فقيل: المراد بالأولين الأمم الماضية وبالاَخرين هذه الأمة, وهذا رواية عن مجاهد والحسن البصري, رواها عنهما ابن أبي حاتم: وهو اختيار ابن جرير واستأنس بقوله صلى الله عليه وسلم: «نحن الاَخرون السابقون يوم القيامة» ولم يحك غيره ولا عزاه إلى أحد, ومما يستأنس به لهذا القول ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع, حدثنا شريك عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: لما نزلت {ثلة من الأولين وقليل من الاَخرين} شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت {ثلة من الأولين وثلة من الاَخرين} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ثلث أهل الجنة, بل أنتم نصف أهل الجنة أو شطر أهل الجنة وتقاسمونهم النصف الثاني» ورواه الإمام أحمد عن أسود بن عامر عن شريك عن محمد بياع الملاء عن أبيه عن أبي هريرة فذكره.
وقد روي من حديث جابر نحو هذا, ورواه الحافظ ابن عساكر من طريق هشام بن عمارة, حدثنا عبد ربه بن صالح عن عروة بن رويم عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: لما نزلت «إذا وقعت الواقعة» ذكر فيها «ثلة من الأولين وقليل من الاَخرين» قال عمر: يا رسول الله ثلة من الأولين وقليل منا ؟ قال: فأمسك آخر السورة سنة ثم نزل {ثلة من الأولين وثلة من الاَخرين} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عمر تعال فاسمع ما قد أنزل الله {ثلة من الأولين وثلة من الاَخرين} ألا وإن من آدم إلي ثلة وأمتي ثلة, ولن نستكمل ثلتنا حتى نستعين بالسودان من رعاة الإبل ممن شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له» هكذا أورده في ترجمة عروة بن رويم إسناداً ومتناً, ولكن في إسناده نظر, وقد وردت طرق كثيرة متعددة بقوله صلى الله عليه وسلم: «إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة» الحديث بتمامه وهو مفرد في صفة الجنة, ولله الحمد والمنة. وهذا الذي اختاره ابن جرير ههنا فيه نظر بل هو قول ضعيف, لأن هذه الأمة هي خير الأمم بنص القرآن, فيبعد أن يكون المقربون في غيرها أكثر منها, اللهم إلا أن يقابل مجموع الأمم بهذه الأمة, والظاهر أن المقربين من هؤلاء أكثر من سائر الأمم والله أعلم. فالقول الثاني في هذا المقام هو الراجح, وهو أن يكون المراد بقوله تعالى:{ثلة من الأولين} أي من صدر هذه الأمة {وقليل من الاَخرين} أي من هذه الأمة.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح, حدثنا عفان, حدثنا عبد الله بن بكر المزني, سمعت الحسن أتى على هذه الاَية {والسابقون السابقون * أولئك المقربون} فقال: أما السابقون فقد مضوا ولكن اللهم اجعلنا من أصحاب اليمين. ثم قال: حدثنا أبي, حدثنا أبو الوليد, حدثنا السري بن يحيى قال: قرأ الحسن {والسابقون السابقون * أولئك المقربون في جنات النعيم * ثلة من الأولين} قال ثلة ممن مضى من هذه الأمة, وحدثنا أبي حدثنا عبد العزيز بن المغيرة المنقري حدثنا أبو هلال عن محمد بن سيرين أنه قال في هذه الاَية {ثلة من الأولين * وقليل من الاَخرين} قال: كانوا يقولون أو يرجون أن يكونوا كلهم من هذه الأمة, فهذا قول الحسن وابن سيرين أن الجميع من هذه الأمة, ولا شك أن أول كل أمة خير من آخرها, فيحتمل أن تعم الاَية جميع الأمم كل أمة بحسبها, ولهذا ثبت في الصحاح وغيرها من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» الحديث بتمامه. فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن, حدثنا زياد أبو عمر عن الحسن عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره» فهذا الحديث, بعد الحكم بصحة إسناده, محمول على أن الدين كما هو محتاج إلى أول الأمة في إبلاغه إلى من بعدهم, كذلك هو محتاج إلى القائمين به في أواخرها وتثبيت الناس على السنة وروايتها وإظهارها, والفضل للمتقدم وكذلك الزرع هو محتاج إلى المطر الأول وإلى المطر الثاني, ولكن العمدة الكبرى على الأول واحتياج الزرع إليه آكد, فإنه لولاه ما نبت في الأرض ولا تعلق أساسه فيها ولهذا قال عليه السلام «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى قيام الساعة» وفي لفظ «حتى يأتي أمر الله تعالى وهم كذلك» والغرض أن هذه الأمة أشرف من سائر الأمم, والمقربون فيها أكثر من غيرها وأعلى منزلة لشرف دينها وعظم نبيها, ولهذا ثبت بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, أنه أخبر أن في هذه الأمة سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب وفي لفظ «مع كل ألف سبعون ألفاً ـ وفي آخر ـ مع كل واحد سبعون ألفاً.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا هشام بن يزيد الطبراني, حدثنا محمد هو ابن إسماعيل بن عياش, حدثني أبي, حدثني ضمضم يعني ابن زرعة عن شريح هو ابن عبيد, عن أبي مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما والذي نفسي بيده ليبعثن منكم يوم القيامة مثل الليل الأسود زمرة جميعها يحيطون الأرض, تقول الملائكة لما جاء مع محمد صلى الله عليه وسلم أكثر مما جاء مع الأنبياء عليهم السلام» وحسن أن يذكر ههنا عند قوله تعالى: {ثلة من الأولين وقليل من الاَخرين} الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة حيث قال: أخبرنا أبو نصر بن قتادة, أخبرنا أبو عمرو بن مطر, أخبرنا جعفر بن محمد بن المستفاض الفريابي, حدثني أبو وهب الوليد بن عبد الملك بن عبيد الله بن مسرح الحراني, حدثنا سليمان بن عطاء القرشي الحراني عن مسلمة بن عبد الله الجهني, عن عمه أبي مشجعة بن ربعي عن ابي زمل الجهني رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح يقول وهو ثان رجليه «سبحان الله وبحمده أستغفر الله إن الله كان تواباً» سبعين مرة ثم يقول: «سبعين بسبعمائة لا خير لمن كانت ذنوبه في يوم واحد أكثر من سبعمائة» ثم يقول ذلك مرتين ثم يستقبل الناس بوجهه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبه الرؤيا ثم يقول «هل رأى أحد منكم شيئاً ؟» قال ابو زمل: فقلت أنا يا رسول الله, فقال «خير تلقاه, وشر توقاه, وخير لنا, وشر على أعدائنا الحمد لله رب العالمين اقصص رؤياك» فقلت: رأيت جميع الناس على طريق رحب سهل لاحب والناس على الجادة منطلقين, فبينما هم كذلك إذ أشفى ذلك الطريق على مرج لم تر عيني مثله, يرف رفيفاً يقطر ماؤه فيه من أنواع الكلأ, قال وكأني بالرعلة الأولى حين أشفوا على المرج كبروا ثم أكبوا رواحلهم في الطريق, فلم يظلموه يميناً ولا شمالاً, قال فكأني أنظر إليهم منطلقين, ثم جاءت الرعلة الثانية, وهم أكثر منهم أضعافاً فلما أشفوا على المرج كبروا ثم أكبوا رواحلهم في الطريق, فمنهم المرتع ومنهم الاَخذ الضغث, ومضوا على ذلك, قال ثم قدم عظم الناس, فلما أشفوا على المرج كبروا وقالوا هذا خير المنزل, كأني أنظر إليهم يميلون يميناً وشمالاً, فلما رأيت ذلك لزمت الطريق حتى آتي أقصى المرج, فإذا أنا بك يا رسول الله على منبر فيه سبع درجات وأنت في أعلاها درجة, وإذا عن يمينك رجل آدم شثل أقنى إذا هو تكلم يسمو فيقرع الرجال طولاً, وإذا عن يسارك رجل ربع باز كثير خيلان الوجه, كأنما حمم شعره بالماء إذا هو تكلم أصغيتم إكراماً له, وإذا أمام ذلك رجل شيخ أشبه الناس بك خلقاً ووجهاً كلكم تأمونه تريدونه وإذا أمام ذلك ناقة عجفاء شارف, وإذا أنت يا رسول الله كأنك تبعثها.
قال: فامتقع لون رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ثم سري عنه, وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما ما رأيت من الطريق السهل الرحب اللاحب, فذاك ما حملتكم عليه من الهدى وأنتم عليه, وأما المرج الذي رأيت فالدنيا وغدارة عيشها, مضيت أنا وأصحابي لم نتعلق منها بشيء ولم تتعلق منا ولم نردها ولم تردنا, ثم جاءت الرعلة الثانية من بعدنا وهم أكثر منا أضعافاً, فمنهم المرتع ومنهم الاَخذ الضغث ونجوا على ذلك, ثم جاء عظم الناس فمالوا في المرج يميناً وشمالاً فإنا لله وإنا إليه راجعون. وأما أنت فمضيت على طريقة صالحة, فلن تزال عليها حتى تلقاني, وأما المنبر الذي رأيت فيه سبع درجات وأنا في أعلاها درجة فالدنيا سبعة آلاف سنة, أنا في آخرها ألفاً, وأما الرجل الذي رأيت على يميني الاَدم الشثل فذلك موسى عليه السلام, إذا تكلم يعلو الرجال بفضل كلام الله إياه, والذي رأيت عن يساري الباز الربعة الكثير خيلان الوجه كأنما حمم شعره بالماء, فذلك عيسى بن مريم نكرمه لإكرام الله إياه, وأما الشيخ الذي رأيت أشبه الناس بي خلقاً ووجهاً فذاك أبونا إبراهيم كلنا نؤمه ونقتدي به, وأما الناقة التي رأيت ورأيتني أبعثها فهي الساعة علينا تقوم لا نبي بعدي ولا أمة بعد أمتي «قال: فما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رؤيا بعد هذا إلا أن يجيء الرجل فيحدثه بها متبرعاً.
وقوله تعالى: {على سرر موضونة} قال ابن عباس: أي مرمولة بالذهب يعني منسوجة به, وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وزيد بن أسلم وقتادة والضحاك وغيره, وقال السدي: مرمولة بالذهب واللؤلؤ, وقال عكرمة: مشبكة بالدر والياقوت, وقال ابن جرير: ومنه يسمى وضين الناقة الذي تحت بطنها, وهو فعيل بمعنى مفعول لأنه مضفور, وكذلك السرر في الجنة مضفورة بالذهب واللاَلىء.
وقوله تعالى: {متكئين عليها متقابلين} أي وجوه بعضهم إلى بعض ليس أحد وراء أحد {يطوف عليهم ولدان مخلدون} أي مخلدون على صفة واحدة لا يتكبرون عنها ولا يشيبون ولا يتغيرون {بأكواب وأباريق وكأس من معين} أما الأكواب فهي الكيزان التي لا خراطيم لها ولا آذان, والأباريق التي جمعت الوصفين والكؤوس الهنابات, والجميع من خمر من عين جارية معين, ليس من أوعية تنقطع وتفرغ بل من عيون سارحة. وقوله تعالى: {لا يصدعون عنها ولا ينزفون} أي لا تصدع رؤوسهم ولا تنزف عقولهم, بل هي ثابتة مع الشدة المطربة واللذة الحاصلة, وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال: في الخمر أربع خصال: السكر, والصداع, والقيء, والبول, فذكر الله تعالى خمر الجنة ونزهها عن هذه الخصال. وقال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطية وقتادة والسدي {لا يصدعون عنه} يقول ليس لهم فيها صداع رأس وقالوا في قوله: {ولا ينزفون} أي لا تذهب بعقولهم.
وقوله تعالى: {وفاكهة مما يتخيرون * ولحم طير مما يشتهون} أي ويطوفون عليهم بما يتخيرون من الثمار, وهذه الاَية دليل على جواز أكل الفاكهة على صفة التخير لها, ويدل على ذلك حديث عكراش بن ذؤيب الذي رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي رحمه الله في مسنده, حدثنا العباس بن الوليد الترسي, حدثنا العلاء بن الفضل بن عبد الملك بن أبي سوية, حدثنا عبيد الله بن عكراش عن أبيه عكراش بن ذؤيب قال: بعثني مرة في صدقات أموالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقدمت المدينة فإذا هو جالس بين المهاجرين والأنصار وقدمت عليه بإبل كأنها عروق الأرطى قال «من الرجل ؟» قلت: عكراش بن ذؤيب, قال «ارفع في النسب» فانتسبت له إلى مرة بن عبيد وهذه صدقة مرة بن عبيد, فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «هذه إبل قومي هذه صدقات قومي» ثم أمر بها أن توسم بميسم إبل الصدقة وتضم إليها, ثم أخذ بيدي فانطلقنا إلى منزل أم سلمة فقال: «هل من طعام ؟» فأتينا بجفنة كالقصعة كثيرة الثريد والوذر, فجعل يأكل منها فأقبلت أخبط بيدي في جوانبها فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليسرى على يدي اليمنى فقال: يا عكراش, كل من موضع واحد فإنه طعام واحد. ثم أتينا بطبق فيه تمر أو رطب شك عبيد الله رطباً كان أوتمراً, فجعلت آكل من بين يدي وجالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطبق وقال: يا عكراش, كل من حيث شئت فإنه غير لون واحد. ثم أتينا بماء فغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ومسح ببلل كفيه وجهه وذراعيه ورأسه ثلاثاً ثم قال: «يا عكراش هذا الوضوء مما غيرت النار».
وهكذا رواه الترمذي مطولاً وابن ماجه جميعاً عن محمد بن بشار عن أبي الهذيل العلاء بن الفضل به, وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديثه. وقال الإمام أحمد: حدثنا بهز بن أسد وعفان, وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا شيبان, قالوا حدثنا سليمان بن المغيرة, حدثنا ثابت قال: قال أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبه الرؤيا, فربما رأى الرجل الرؤيا فسأل عنه إذا لم يكن يعرفه, فإذا أثنى عليه معروف كان أعجب لرؤياه إليه, فأتته أمرأة فقالت: يا رسول الله رأيت كأني أتيت فأخرجت من المدينة فأدخلت الجنة, فسمعت وجبة انتحبت لها الجنة, فنظرت فإذا فلان بن فلان وفلان بن فلان فسمت اثني عشر رجلاً, كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث سرية قبل ذلك فجيء بهم عليهم ثياب طلس تشخب أوداجهم, فقيل اذهبوا بهم إلى نهر البيدخ أو البيذخ, قال فغمسوا فيه فخرجوا ووجوههم كالقمر ليلة البدر, فأتوا بصفحة من ذهب فيها بسر, فأكلوا من بسره ما شاءوا فما يقلبونها من وجه إلا أكلوا من الفاكهة ما أرادوا, وأكلت معهم فأتى البشير من تلك السرية, فقال ما كان من رؤيا كذا وكذا فأصيب فلان وفلان حتى عد اثني عشر رجلاً, فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة, فقال قصي رؤياك, فقصتها وجعلت تقول فجيء بفلان وفلان كما قال. هذا لفظ أبي يعلى, قال الحافظ الضياء: وهذا على شرط مسلم.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا معاذ بن المثنى, حدثنا علي بن المديني, حدثنا ريحان بن سعيد عن عباد بن منصور عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء, عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل إذا نزع ثمرة في الجنة عادت مكانها أخرى» وقوله تعالى:{ولحم طير مما يشتهون} قال الإمام أحمد: حدثنا سيار بن حاتم, حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي, حدثنا ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن طير الجنة كأمثال البخت يرعى في شجر الجنة» فقال أبو بكر: يا رسول الله إن هذه لطير ناعمة, فقال «آكلها أنعم منها ـ قالها ثلاثاً ـ وإني لأرجو أن تكون ممن يأكل منها» انفرد به أحمد من هذا الوجه. وروى الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه صفة الجنة من حديث إسماعيل بن علي الخطمي عن أحمد بن علي الحيوطي عن عبد الجبار بن عاصم عن عبد الله بن زياد, عن زرعة عن نافع عن ابن عمر قال: ذكرت عند النبي صلى الله عليه وسلم طوبى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر هل بلغك ما طوبى ؟» قال: الله ورسوله أعلم. قال «طوبى شجرة في الجنة ما يعلم طولها إلا الله كأمثال البخت» فقال أبو بكر: يا رسول الله إن هناك لطيراً ناعماً ؟ قال «أنعم منه من يأكله وأنت منهم إن شاء الله تعالى» وقال قتادة في قوله تعالى: {ولحم طير مما يشتهون} وذكر لنا أن أبا بكر قال: يا رسول الله إني أرى طيرها ناعمة كأهلها ناعمون, قال «من يأكلها والله ياأبا بكر أنعم منها وإنها لأمثال البخت وإني لأحتسب على الله أن تأكل منها يا أبا بكر».
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني مجاهد بن موسى, حدثنا معن بن عيسى, حدثني ابن أخي ابن شهاب عن أبيه عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكوثر فقال: «نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل, فيه طيور أعناقها يعني كأعناق الجزر» فقال عمر: إنها لناعمة, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آكلها أنعم منها» وكذا رواه الترمذي عن عبد بن حميد عن القعنبي عن محمد بن عبد الله بن مسلم بن شهاب عن أبيه عن أنس, وقال حسن. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا علي بن محمد الطنافسي, حدثنا أبو معاوية عن عبيد الله بن الوليد الرصافي عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن في الجنة لطيراً فيه سبعون ألف ريشة فيقع على صحفة الرجل من أهل الجنة فينتفض, فيخرج من كل ريشة يعني لوناً أبيض من اللبن وألين من الزبد وأعذب من الشهد, ليس منها لون يشبه صاحبه ثم يطير» هذا حديث غريب جداً والرصافي وشيخه ضعيفان, ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن صالح كاتب الليث, حدثني الليث, حدثنا خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن أبي حازم عن عطاء عن كعب قال: إن طائر الجنة أمثال البخت يأكل من ثمرات الجنة ويشرب من أنهار الجنة, فيصطففن له فإذا اشتهى منها شيئاً أتى حتى يقع بين يديه, فيأكل من خارجه وداخله ثم يطير لم ينقص منه شيء, صحيح إلى كعب وقال الحسن بن عرفة: حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشوياً».
وقوله تعالى: {وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون} قرأ بعضهم بالرفع وتقديره ولهم فيها حور عين! وقراءة الجر تحتمل معنيين: أحدهما أن يكون الإعراب على الإتباع بما قبله كقوله تعالى: {يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق, وكأس من معين * لا يصدعون عنها ولا ينزفون وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين} كما قال تعالى: {وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم} وكما قال تعالى: {عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق} والاحتمال الثاني أن يكون مما يطوف به الولدان المخلدون عليهم الحور العين, ولكن يكون ذلك في القصور لا بين بعضهم بعضاً, بل في الخيام يطوف عليهم الخدام بالحور العين, والله أعلم. وقوله تعالى: {كأمثال اللؤلؤ المكنون} أي كأنهن اللؤلؤ الرطب في بياضه وصفائه كما تقدم في سورة الصافات {كأنهن بيض مكنون} وقد تقدم في سورة الرحمن وصفهن أيضاً, ولهذا قال: {جزاء بما كانوا يعملون} أي هذا الذي أتحفناهم به مجازاة لهم على ما أحسنوا من العمل.
ثم قال تعالى: {لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلام} أي لا يسمعون في الجنة كلاماً لاغياً أي عبثاً خالياً من المعنى أو مشتملاً على معنى حقير أو ضعيف كما قال {لا تسمع فيها لاغية} أي كلمة لا غية {ولا تأثيم} أي ولا كلاماً فيه قبح {إلا قيلا سلاماً سلام} أي إلا التسليم منهم بعضهم على بعض كما قال تعالى: {تحيتهم فيها سلام} وكلامهم أيضاً سالم من اللغو والإثم.
** وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مّنضُودٍ * وَظِلّ مّمْدُودٍ * وَمَآءٍ مّسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لاّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مّرْفُوعَةٍ * إِنّآ أَنشَأْنَاهُنّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لاَِصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلّةٌ مّنَ الأوّلِينَ * وَثُلّةٌ مّنَ الاَخِرِينَ
لما ذكر تعالى مآل السابقين وهم المقربون, عطف عليهم بذكر أصحاب اليمين وهم الأبرار, كما قال ميمون بن مهران أصحاب اليمين منزلتهم دون المقربين فقال {وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين} أي أي شيء أصحاب اليمين وما حالهم وكيف مآلهم. ثم فسر ذلك فقال تعالى: {في سدر مخضود} قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وابن الأحوص وقسامة بن زهير والسفر بن قيس, والحسن وقتادة وعبد الله بن كثير والسدي وأبو حزرة وغيرهم: هو الذي لا شوك فيه, وعن ابن عباس: هو الموقر بالثمر, وهو رواية عن عكرمة ومجاهد, وكذا قال قتادة أيضاً: كنا نحدث أنه الموقر الذي لا شوك به, والظاهر أن المراد هذا وهذا, فإن سدر الدنيا كثير الشوك قليل الثمر, وفي الاَخرة على العكس من هذا لا شوك فيه وفيه الثمر الكثير الذي قد أثقل أصله, كما قال الحافظ أبو بكر أحمد بن سلمان النجّاد, حدثنا محمد بن محمد هو البغوي, حدثني حمزة بن العباس, حدثنا عبد الله بن عثمان حدثنا عبد الله بن المبارك, أخبرنا صفوان بن عمرو عن سليم بن عامر قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إن الله لينفعنا بالأعراب ومسائلهم, قال: أقبل أعرابي يوماً فقال: يا رسول الله ذكر الله في الجنة شجرة تؤذي صاحبها, فقال رسول الله: «وما هي ؟» قال السدر فإن له شوكاً مؤذياً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أليس الله تعالى يقول {في سدر مخضود} خضد الله شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة, فإنها لتنبت ثمراً تفتق الثمرة منها عن اثنين وسبعين لوناً من طعام, ما فيها من لون يشبه الاَخر».
(طريق آخر) قال أبو بكر بن أبي داود: حدثنا محمد بن المصفى, حدثنا محمد بن المبارك, حدثني يحيى بن حمزة, حدثني ثور بن يزيد, حدثني حبيب بن عبيد عن عتبة بن عبد السلمي قال: كنت جالساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: فجاء أعرابي فقال: يا رسول الله أسمعك تذكر في الجنة شجرة لا أعلم شجراً أكثر شوكاً منها, يعني الطلح, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله يجعل مكان كل شوكة منها ثمرة مثل خصوة التيس الملبود, فيها سبعون لوناً من الطعام لا يشبه لون الاَخر» وقوله {وطلح منضود} الطلح شجر عظام يكون بأرض الحجاز من شجر العضاه واحدته طلحة, وهو شجر كثير الشوك, وأنشد ابن جرير لبعض الحداة:
بشرها دليلها وقالاغداً ترين الطلح والجبالا
وقال مجاهد {منضود} أي متراكم الثمر يذكر بذلك قريشاً لأنهم كانوا يعجبون من وجّ وظلاله من طلح وسدر وقال السدي: منضود مصفود. قال ابن عباس: يشبه طلح الدنيا, ولكن له ثمر أحلى من العسل, قال الجوهري والطلح لغة في الطلع قلت: وقد روى ابن أبي حاتم من حديث الحسن بن سعد عن شيخ من همدان قال: سمعت علياً يقول هذا الحرف في طلح منضود, قال: طلع منضود, فعلى هذا يكون من صفة السدر, فكأنه وصفه بأنه مخضود, وهو الذي لا شوك له, وأن طلعه منضود وهو كثرة ثمره, والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو معاوية عن إدريس عن جعفر بن إياس عن أبي نضرة عن أبي سعيد {وطلح منضود} قال الموز, قال وروي عن ابن)عباس وأبي هريرة والحسن وعكرمة وقسامة بن زهير وقتادة وأبي حزرة مثل ذلك وبه, قال مجاهد وابن زيد: وزاد فقال: أهل اليمن يسمون الموز الطلح, ولم يحك ابن جرير غير هذا القول.
وقوله تعالى: {وظل ممدود} قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة, يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها, اقرأوا إن شئتم {وظل ممدود} ورواه مسلم من حديث الأعرج به. وقال الإمام أحمد: حدثنا سريج, حدثنا فليح عن هلال بن علي, عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام, اقرءوا إن شئتم {وظل ممدود} وكذا رواه مسلم من حديث الأعرج به. وكذا رواه البخاري عن محمد بن سنان عن فليح به, وكذا رواه عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة, وكذا رواه حماد بن سلمة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة والليث بن سعد عن سعيد المقبري, عن أبيه عن أبي هريرة: وعوف عن ابن سيرين, عن أبي هريرة به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر وحجاج قالا: حدثنا شعبة, سمعت أبا الضحاك يحدث أبا هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين ـ أو مائة ـ سنة هي شجرة الخلد». وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد ابن سنان, حدثنا يزيد بن هارون عن محمد بن عمرو بن أبي سلمة عن أبي هريرة, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها, واقرءوا إن شئتم {وظل ممدود} إسناد جيد ولم يخرجوه, وهكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن عبدة وعبد الرحيم والبخاري, كلهم عن محمد بن عمرو به, وقد رواه الترمذي من حديث عبد الرحمن بن سليمان به.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا مهران, حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن زياد مولى بني مخزوم عن أبي هريرة قال: إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام اقرءوا إن شئتم {وظل ممدود} فبلغ ذلك كعباً فقال: صدق والذي أنزل التوراة على موسى والفرقان على محمد, لو أن رجلاً ركب حقة أو جذعة ثم دار بأعلى تلك الشجرة ما بلغها حتى يسقط هرماً, إن الله غرسها بيده ونفخ فيها من روحه, وإن أفنانها لمن وراء سور الجنة وما في الجنة نهر إلا وهو يخرج من أصل تلك الشجرة. وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا محمد بن منهال الضرير: حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: {وظل ممدود} قال: «في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها» وكذا رواه البخاري عن روح بن عبد المؤمن عن يزيد بن زريع, وكذا رواه أبو داود الطيالسي عن عمران بن داود القطان عن قتادة به, وكذا رواه معمر وأبو هلال عن قتادة به, وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد وسهل بن سعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ما يقطعها» فهذا حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, بل متواتر مقطوع بصحته عند أئمة الحديث النقاد, لتعدد طرقه وقوة أسانيده وثقة رجاله.
وقد قال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا أبو بكر, حدثنا أبو حصين قال: كنا على باب في موضع ومعنا أبو صالح وشقيق يعني الضبي, فحدث أبو صالح قال: حدثني أبو هريرة قال: إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً, قال أبو صالح: أتكذب أبا هريرة ؟ قال: ما أكذب أبا هريرة ولكني أكذبك أنت, فشق ذلك على القراء يومئذ. قلت: فقد أبطل من يكذب بهذا الحديث مع ثبوته وصحته ورفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الترمذي: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا زياد بن الحسن بن الفرات القزاز عن أبيه عن جده عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما في الجنة شجرة إلا ساقها من ذهب» ثم قال: حسن غريب. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن أبي الربيع, حدثنا أبو عامر العقدي عن زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن ابن عباس قال: الظل الممدود شجرة في الجنة على ساق ظلها قدر ما يسير الراكب في كل نواحيها, مائة عام, قال: فيخرج إليها أهل الجنة أهل الغرف وغيرهم فيتحدثون في ظلها, قال: فيشتهي بعضهم ويذكر لهو الدنيا فيرسل الله ريحاً من الجنة, فتحرك تلك الشجرة بكل لهو في الدنيا. هذا أثر غريب إسناده جيد قوي حسن. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا ابن يمان حدثنا سفيان, حدثنا أبو إسحاق عن عمرو بن ميمون في قوله تعالى: {وظل ممدود} قال سبعون ألف سنة, وكذا رواه ابن جرير عن بندار عن ابن مهدي عن سفيان مثله, ثم قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا مهران عن سفيان عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون {وظل ممدود} قال: خمسمائة ألف سنة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو الوليد الطيالسي, حدثنا حصين بن نافع عن الحسن في قول الله تعالى: {وظل ممدود} قال: في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة لا يقطعها, وقال عوف عن الحسن: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها» رواه ابن جرير وقال شبيب عن عكرمة عن ابن عباس: في الجنة شجر لا يحمل يستظل به, رواه ابن أبي حاتم, وقال الضحاك والسدي وأبو حزرة في قوله تعالى: {وظل ممدود} لا ينقطع, ليس فيها شمس ولا حر مثل قبل طلوع الفجر, وقال ابن مسعود: الجنة سجسج كما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس, وقد تقدمت الاَيات كقوله تعالى: {وندخلهم ظلاً ظليل} وقوله: {أكلها دائم وظله} وقوله: {في ظلال وعيون} إلى غير ذلك من الاَيات وقوله تعالى: {وماء مسكوب} قال الثوري: يجري في غير أخدود, وقد تقدم الكلام عند تفسير قوله تعالى: {فيها أنهار من ماء غير آسن} الاَية. بما أغنى عن إعادته ههنا.
وقوله تعالى: {وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة} أي وعندهم من الفواكه الكثيرة المتنوعة في الألوان مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر, كما قال تعالى: {كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابه} أي يشبه الشكل الشكل ولكن الطعم غير الطعم, وفي الصحيحين في ذكر سدرة المنتهى: «فإذا ورقها كآذان الفيلة ونبقها مثل قلال هجر». وفيهما أيضاً من حديث مالك عن زيد عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال: خسفت الشمس فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه فذكر الصلاة, وفيه قالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئاً في مقامك هذا ثم رأيناك تكعكعت, قال: «إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقوداً, ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا», وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو خيثمة, حدثنا عبد الله بن جعفر, حدثنا عبيد الله, حدثنا ابن عقيل عن جابر قال: بينا نحن في صلاة الظهر إذ تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدمنا معه, ثم تناول شيئاً ليأخذه ثم تأخر, فلما قضى الصلاة قال أبي بن كعب: يا رسول الله صنعت اليوم في الصلاة شيئاً ما كنت تصنعه, قال: «إنه عرضت علي الجنة وما فيها من الزهرة والنضرة, فتناولت منها قطفاً من عنب لاَتيكم به فحيل بيني وبينه, ولو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينقص منه» وروى مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر نحوه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن بحر, حدثنا هشام بن يوسف, أخبرنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عامر بن زيد البكالي أنه سمع عتبة بن عبد السلمي يقول: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فسأله عن الحوض وذكر الجنة ثم قال الأعرابي: فيها فاكهة ؟ قال: «نعم وفيها شجرة تدعى طوبى» . قال: فذكر شيئاً لا أدري ما هو, قال: أي شجر أرضنا تشبه ؟ قال: «ليست تشبه شيئاً من شجر أرضك ؟» فقال النبي صلى الله عليه وسلم أتيت الشام ؟ قال: لا . قال: «تشبه شجرة بالشام تدعى الجوزة تنبت على ساق واحدة وينفرش أعلاها». قال: ما عظم العنقود ؟ قال: «مسيرة شهر للغراب الأبقع لا يفتر». قال: ما عظم أصلها ؟ قال: «لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك ما أحاطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتها هرماً» قال: فيها عنب ؟ قال: «نعم» قال: فما عظم الحبة ؟ قال: «هل ذبح أبوك تيساً من غنمه قط عظيماً ؟» قال: نعم, قال: «فسلخ إهابه فأعطاه أمك فقال اتخذي لنا منه دلواً ؟» قال: نعم. قال الأعرابي: فإن تلك الحبة لتشبعني وأهل بيتي ؟ قال: «نعم وعامة عشيرتك».
وقوله تعالى: {لا مقطوعة ولا ممنوعة} أي لا تنقطع شتاء ولا صيفاً بل أكلها دائم مستمر أبداً, مهما طلبوا وجدوا لا يمتنع عليهم بقدرة الله شيء, وقال قتادة: لا يمنعهم من تناولها عود ولا شوك ولا بعد, وقد تقدم في الحديث إذا تناول الرجل الثمرة عادت مكانها أخرى وقوله تعالى: {وفرش مرفوعة} أي عالية وطيئة ناعمة قال النسائي وأبو عيسى الترمذي: حدثنا أبو كريب, حدثنا رشدين بن سعد عن عمر بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وفرش مرفوعة} قال: «ارتفاعها كما بين السماء والأرض ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام ثم قال الترمذي: هذا الحديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد, قال: وقال بعض أهل العلم: معنى هذا الحديث ارتفاع الفرش في الدرجات وبعدما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض, هكذا قال إنه لا يعرف هذا إلا من رواية رشدين بن سعد, وهو المصري وهو ضعيف, هكذا رواه أبو جعفر بن جرير عن أبي كريب عن رشدين به.
ثم رواه هو وابن أبي حاتم كلاهما عن يونس بن عبد الأعلى, عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث فذكره, وكذا رواه ابن أبي حاتم أيضاً عن نعيم بن حماد عن ابن وهب, وأخرجه الضياء في صفة الجنة من حديث حرملة عن ابن وهب به مثله, ورواه الإمام أحمد عن حسن بن موسى عن ابن لهيعة, حدثنا دراج فذكره. وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو معاوية جويبر عن أبي سهل يعني كثير بن زياد عن الحسن {وفرش مرفوعة} قال: ارتفاع فراش الرجل من أهل الجنة مسيرة ثمانين سنة. وقوله تعالى: {إنا أنشأناهن إنشاءً * فجعلناهن أبكاراً * عرباً أتراباً * لأصحاب اليمين} جرى الضمير على غير مذكور. ولكن لما دل السياق وهو ذكر الفرش على النساء اللاتي يضاجعن فيها اكتفى بذلك عن ذكرهن وعاد الضمير عليهن كما في قوله تعالى: {إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب} يعني الشمس على المشهور من قول المفسرين, وقال الأخفش في قوله تعالى: {إنا أنشأناهن} أضمرهن ولم يذكرن قبل ذلك, وقال أبو عبيدة: ذكرن في قوله تعالى: {وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون} فقوله تعالى: {إنا أنشأناهن} أي أعدناهن في النشأة الأخرى بعدما كن عجائز رمصاً, صرنَ أبكاراً عرباً أي بعد الثيوبة عدن أبكاراً عرباً متحببات إلى أزواجهن بالحلاوة والظرافة والملاحة.
وقال بعضهم عرباً أي غنجات, قال موسى بن عبيدة الربذي عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنا أنشأناهن قال نساء عجائز كن في الدنيا عمشاً رمصاً» رواه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم ثم قال الترمذي: غريب, وموسى ويزيد ضعيفان, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف الحمصي, حدثنا آدم يعني ابن أبي إياس, حدثنا شيبان بن جابر عن يزيد بن مرة عن سلمة بن يزيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى: {إنا أنشأناهن إنشاء} يعني الثيب والأبكار اللاتي كن في الدنيا. وقال عبد بن حميد: حدثنا مصعب بن مقدام, حدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن قال: أتت عجوز فقالت يا رسول الله ادع الله تعالى أن يدخلني الجنة فقال: «يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز» قال: فولت تبكي. قال: «أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز, إن الله تعالى يقول {إنّا أنشأناهن إنشاءً فجعلناهن أبكار}».
وهكذا رواه الترمذي في الشمائل عن عبد بن حميد. وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا بكر بن سهل الدمياطي, حدثنا عمرو بن هاشم البيروتي, أخبرنا سليمان بن أبي كريمة عن هشام بن حسان عن الحسن عن أمه عن أم سلمة قالت: قلت يا رسول الله أخبرني عن قول الله تعالى: {حور عين} قال: «حور بيض عين ضخام العيون شفر الحوراء بمنزلة جناح النسر» قلت: أخبرني عن قوله تعالى: {كأمثال اللؤلؤ المكنون} قال: «صفاؤهن صفاء الدر الذي في الأصداف الذي لم تمسه الأيدي» قلت: أخبرني عن قوله: {فيهن خيرات حسان} قال «خيرات الأخلاق حسان الوجوه» قلت: أخبرني عن قوله {كأنهن بيض مكنون} قال: «رقتهن كرقة الجلد الذي رأيت في داخل البيضة مما يلي القشر وهو الغرقىء» قلت: يا رسول الله أخبرني عن قوله {عرباً أتراب} قال «هن اللواتي قبضن في الدار الدنيا عجائز رمصاً شمصاً, خلقهن الله بعد الكبر فجعلهن عذارى عرباً متعشقات محببات أتراباً على ميلاد واحد» قلت: يا رسول الله نساء الدنيا أفضل أم الحور العين ؟ قال: «بل نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة» قلت: يا رسول الله وبم ذاك ؟ قال: «بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن الله عز وجل. ألبس الله وجوههن النور وأجسادهن الحرير. بيض الألوان خضر الثياب صفر الحلي مجامرهن الدر وأمشاطهن الذهب, يقلن نحن الخالدات فلا نموت أبداً ونحن الناعمات فلا نبأس أبداً, ونحن المقيمات فلا نظعن أبداً ألا ونحن الراضيات فلا نسخط أبداً, طوبى لمن كنا له وكان لنا» قلت: يا رسول الله المرأة منا تتزوج زوجين والثلاثة والأربعة ثم تموت فتدخل الجنة ويدخلون معها, من يكون زوجها ؟ قال: «يا أم سلمة إنها تخير فتختار أحسنهم خلقاً, فتقول يا رب إن هذا كان أحسن خلقاً معي فزوجنيه, يا أم سلمة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والاَخرة».
وفي حديث الصور الطويل المشهور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, يشفع للمؤمنين كلهم في دخول الجنة, فيقول الله تعالى قد شفعتك وأذنت لهم بدخولها, فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «والذي بعثني بالحق ما أنتم في الدنيا بأعرف بأزواجكم ومساكنكم من أهل الجنة بأزواجهم ومساكنهم, فيدخل الرجل منهم على ثنتين وسبعين زوجة مما ينشىء الله, وثنتين من ولد آدم لهما فضل على من أنشأ الله بعبادتهما في الدنيا, يدخل الأولى منهما في غرفة من ياقوتة على سرير من ذهب مكلل باللؤلؤ عليه سبعون زوجاً من سندس وإستبرق, وإنه ليضع يده بين كتفيها ثم ينظر إلى يده من صدرها من وراء ثيابها وجلدها ولحمها, وإنه لينظر إلى مخ ساقها كما ينظر أحدكم إلى السلك في قصبة الياقوت كبده لها مرآة, يعني وكبدها له مرآة, فبينما هو عندها لا يملها ولا تمله ولا يأتيها من مرة إلا وجدها عذراء, ما يفتر ذكره ولا يشتكي قبلها إلا أنه لا مني ولا منية, فبينما هو كذلك إذ نودي إنا قد عرفنا أنك لا تمل ولا تمل, إلا أن لك أزواجاً غيرها فيخرج فيأتيهن واحدة واحدة, كلما جاء واحدة قالت: والله ما في الجنة شيء أحسن منك, وما في الجنة شيء أحب إلي منك» وقال عبد الله بن وهب: أخبرني عمرو بن الحارث عن دراج عن ابن حجيرة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال له: أنطأ في الجنة ؟ قال «نعم, والذي نفسي بيده دحماً دحماً, فإذا قام عنها رجعت مطهرة بكراً».
وقال الطبراني: حدثنا إبراهيم بن جابر الفقيه البغدادي, حدثنا محمد بن عبد الملك الدقيقي الواسطي حدثنا معلى بن عبد الرحمن الواسطي, حدثنا شريك عن عاصم الأحول عن أبي المتوكل عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عدن أبكاراً» وقال أبو داود الطيالسي: أخبرنا عمران عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا في النساء, قلت: يا رسول الله ويطيق ذلك ؟ قال: يعطى قوة مائة» ورواه الترمذي من حديث أبي داود وقال: صحيح غريب. وروى أبو القاسم الطبراني من حديث حسين بن علي الجعفي عن زائدة عن هشام بن حسان, عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله هل نصل إلى نسائنا في الجنة ؟ قال: «إن الرجل ليصل في اليوم إلى مائة عذراء» قال الحافظ أبو عبد الله المقدسي: هذا الحديث عندي على شرط الصحيح والله أعلم.
وقوله: {عرب} قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: يعني متجببات إلى أزواجهن, ألم تر إلى الناقة الضبعة هي كذلك, وقال الضحاك عن ابن عباس: العرب العواشق لأزواجهن وأزواجهن لهن عاشقون, وكذا قال عبد الله بن سرجس ومجاهد وعكرمة وأبو العالية ويحيى بن أبي كثير وعطية والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم, وقال ثور بن يزيد عن عكرمة قال: سئل ابن عباس عن قوله: {عرب} قال: هي الملقة لزوجها. وقال شعبة عن سماك عن عكرمة: هي الغنجة. وقال الأجلح بن عبد الله عن عكرمة: هي الشكلة, وقال صالح بن حيّان عن عبد الله بن بريدة في قوله: {عرب} قال: الشكلة بلغة أهل مكة والغنجة بلغة أهل المدينة, وقال تميم بن حذلم: هي حسن التبعل. وقال زيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن: العرب حسنات الكلام وقال ابن أبي حاتم ذكر عن سهل بن عثمان العسكري, حدثنا أبو علي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرباً ـ قال ـ كلامهن عربي».
وقوله: {أتراب} قال الضحاك عن ابن عباس: يعني في سن واحدة ثلاث وثلاثين سنة, وقال مجاهد: الأتراب المستويات, وفي رواية عنه الأمثال, وقال عطية الأقران وقال السدي {أتراب} أي في الأخلاق المتواخيات بينهن, ليس بينهن تباغض ولا تحاسد, يعني لا كما كن ضرائر متعاديات. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو أسامة عن عبد الله بن الكهف عن الحسن ومحمد {عرباً أتراب} قالا: المستويات الأسنان يأتلفن جميعاً ويلعبن جميعاً, وقد روى أبو عيسى الترمذي عن أحمد بن منيع عن أبي معاوية عن عبد الرحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعد عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة لمجتمعاً للحور العين يرفعن أصواتاً لم تسمع الخلائق بمثلها ـ قال ـ يقلن نحن الخالدات فلا نبيد, ونحن الناعمات فلا نبأس ونحن الراضيات فلا نسخط طوبى لمن كان لنا وكنا له» ثم قال: هذا حديث غريب.
وقال الحافظ أبو يعلى: أخبرنا أبو خيثمة, حدثنا إسماعيل بن عمر, حدثنا ابن أبي ذئب عن فلان عبد الله بن رافع عن بعض ولد أنس بن مالك عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الحور العين ليغنين في الجنة يقلن نحن خيرات حسان خبئنا لأزواج كرام» قلت: إسماعيل بن عمر هذا هو أبو المنذر الواسطي أحد الثقات الأثبات. وقد روى هذا الحديث الإمام عبد الرحيم بن إبراهيم الملقب بدحيم عن ابن أبي فديك, عن ابن أبي ذئب عن عون بن الخطاب بن عبد الله بن رافع عن ابن لأنس عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الحور العين يغنين في الجنة نحن الحور الحسان خلقنا لأزواج كرام» وقوله تعالى: {لأصحاب اليمين} أي خلقن لأصحاب اليمين أو ادخرن لأصحاب اليمين أو زوجن لأصحاب اليمين, والأظهر أنه متعلق بقوله {إنا أنشأناهن إنشاءً فجعلناهن أبكاراً عرباً أتراباً لأصحاب اليمين} فتقديره أنشأناهن لأصحاب اليمين, وهذا توجيه ابن جرير.
وروي عن أبي سليمان الداراني رحمه الله تعالى قال: صليت ليلة ثم جلست أدعو وكان البرد شديداً فجعلت أدعو بيد واحدة, فأخذتني عيني فنمت فرأيت حوراء لم ير مثلها وهي تقول: يا أبا سليمان أتدعو بيد واحدة وأنا أغذى لك في النعيم منذ خمسمائة سنة. قلت: ويحتمل أن يكون قوله: {لأصحاب اليمين} متعلقاً بما قبله وهو قوله: {أتراباً لأصحاب اليمين} أي في أسنانهم, كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر, والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب دري في السماء إضاءة, لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتفلون ولا يتمخطون, أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألوة, وأزواجهم الحور العين, أخلاقهم على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعاً في السماء» وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون وعفان قالا: حدثنا حماد بن سلمة.
وروى الطبراني واللفظ له من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدخل أهل الجنة الجنة جرداً مرداً بيضاً جعاداً مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين, وهم على خلق آدم ستون ذراعاً في عرض سبعة أذرع». وروى الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي عن عمران القطان عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدخل أهل الجنة الجنة جرداً مرداً مكحلين بني ثلاث وثلاثين سنة» ثم قال: حسن غريب. وقال ابن وهب: أخبرنا عمرو بن الحارث أن دراجاً أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات من أهل الجنة من صغير أو كبير يردون بني ثلاث وثلاثين في الجنة لا يزيدون عليها أبداً وكذلك أهل النار» ورواه الترمذي عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن رشدين بن سعد عن عمرو بن الحارث به.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا القاسم بن هاشم, حدثنا صفوان بن صالح, حدثنا رواد بن الجراح العسقلاني, حدثنا الأوزاعي عن هارون بن ذئاب عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدخل أهل الجنة الجنة على طول آدم ستين ذراعاً بذراع الملك! على حسن يوسف, وعلى ميلاد عيسى ثلاث وثلاثين سنة, وعلى لسان محمد جرد مرد مكحلون» وقال أبو بكر بن أبي داود: حدثنا محمود بن خالد وعباس بن الوليد قالا: حدثنا عمر عن الأوزاعي عن هارون بن ثابت عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يبعث أهل الجنة على صورة آدم في ميلاد عيسى ثلاث وثلاثين جرداً مرداً مكحلين. ثم يذهب بهم إلى شجرة في الجنة فيكسون منها لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم». وقوله تعالى: {ثلة من الأولين وثلة من الاَخرين} أي جماعة من الأولين وجماعة من الاَخرين.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا المنذر بن شاذان, حدثنا محمد بن بكار, حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين عن عبد الله بن مسعود, قال وكان بعضهم يأخذ عن بعض قال: أكرينا ذات ليلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم غدونا عليه فقال: «عرضت علي الأنبياء وأتباعها بأممها فيمر علي النبي والنبي في العصابة! والنبي في الثلاثة والنبي وليس معه أحد ـ وتلا قتادة هذه الاَية {أليس منكم رجل رشيد} قال: حتى مر علي موسى بن عمران في كبكبة من بني إسرائيل قال: قلت ربي من هذا ؟ قال: هذا أخوك موسى بن عمران ومن تبعه من بني إسرائيل! قال: قلت رب فأين أمتي ؟ قال: انظر عن يمينك في الضراب قال فإذا وجوه الرجال قال: قال أرضيت ؟ قال: قلت: قد رضيت رب. قال: انظر إلى الأفق عن يسارك فإذا وجوه الرجال قال: أرضيت ؟ قلت: قد رضيت رب. قال: فإن مع هؤلاء سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب». قال وأنشأ عكاشة بن محصن من بني أسد قال سعيد وكان بدرياً قال: يا نبي الله ادع الله أن يجعلني منهم قال: فقال «اللهم اجعله منهم» قال أنشأ رجل آخر قال: يا نبي الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال: «سبقك بها عكاشة» قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإن استطعتم فداكم أبي وأمي أن تكونوا من أصحاب السبعين فافعلوا, وإلا فكونوا من أصحاب الضراب, وإلا فكونوا من أصحاب الأفق, فإني قد رأيت أناساً كثيراً قد تأشّبوا حوله ـ ثم قال ـ إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة» فكبرنا ثم قال: «إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة» قال: فكبرنا قال: «إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة» قال فكبرنا, قال ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاَية {ثلة من الأولين وثلة من الاَخرين} قال: فقلنا بيننا: من هؤلاء السبعون ألفاً ؟ فقلنا: هم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا. قال: فبلغه ذلك فقال: «بل هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون» وكذا رواه ابن جرير من طريقين آخرين عن قتادة به نحوه, وهذا الحديث له طرق كثيرة من غير هذا الوجه في الصحاح وغيرها, وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا مهران, حدثنا سفيان عن أبان بن أبي عياش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {ثلة من الأولين * وثلة من الاَخرين} قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هما جميعاً من أمتي».
** وَأَصْحَابُ الشّمَالِ مَآ أَصْحَابُ الشّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ * لاّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ * إِنّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُواْ يُصِرّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَآؤُنَا الأوّلُونَ * قُلْ إِنّ الأوّلِينَ وَالاَخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَىَ مِيقَاتِ يَوْمٍ مّعْلُومٍ * ثُمّ إِنّكُمْ أَيّهَا الضّآلّونَ الْمُكَذّبُونَ * لاَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مّن زَقّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَـَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدّينِ
لما ذكر تعالى حال أصحاب اليمين عطف عليهم بذكر أصحاب الشمال فقال: {وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال} أي أيّ شيء هم فيه أصحاب الشمال ؟ ثم فسر ذلك فقال: {في سموم} وهو الهواء الحار {وحميم} وهو الماء الحار {وظل من يحموم} قال ابن عباس: ظل الدخان, وكذا قال مجاهد وعكرمة وأبو صالح وقتادة والسدي وغيرهم, وهذه كقوله تعالى:{انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون * انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب * إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر * ويل يومئذ للمكذبين} ولهذا قال ههنا: {وظل من يحموم} وهو الدخان الأسود {لا بارد ولا كريم} أي ليس طيب الهبوب ولا حسن المنظر كما قال الحسن وقتادة {ولا كريم} أي ولا كريم المنظر, قال الضحاك: كل شراب ليس بعذب فليس بكريم.
وقال ابن جرير: العرب تتبع هذه اللفظة في النفي فيقولون: هذا الطعام ليس بطيب ولا كريم, هذا اللحم ليس بسمين ولا كريم. وهذه الدار ليست بنظيفة ولا كريمة. وكذا رواه ابن جرير من طريقين آخرين عن قتادة به نحوه, ثم ذكر تعالى استحقاقهم لذلك فقال تعالى: {إنهم كانوا قبل ذلك مترفين} أي كانوا في الدار الدنيا منعمين مقبلين على لذات أنفسهم لا يلوون ما جاءتهم به الرسل {وكانوا يصرون} أي يقيمون ولا ينوون توبة {على الحنث العظيم} وهو الكفر بالله وجعل الأوثان والأنداد أرباباً من دون الله. قال ابن عباس الحنث العظيم: الشرك. وكذا قال مجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم. وقال الشعبي: هو اليمين الغموس {وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون ؟} يعني أنهم يقولون ذلك مكذبين به مستبعدين لوقوعه, قال الله تعالى: {قل إن الأولين والاَخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم} أي أخبرهم يا محمد أن الأولين والاَخرين من بني آدم سيجمعون إلى عرصات القيامة لا يغادر منهم أحداً, كما قال تعالى: {ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود * وما نؤخره إلا لأجل معدود * يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد} ولهذا قال ههنا: {لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم} أي هو موقت بوقت محدود, لا يتقدم ولا يتأخر ولا يزيد ولا ينقص.
{ثم إنكم أيها الضالون المكذبون * لاَكلون من شجر من زقوم * فمالئون منها البطون} وذلك أنهم يقبضون ويسجرون حتى يأكلوا من شجر الزقوم حتى يملأوا منها بطونهم, {فشاربون عليه من الحميم * فشاربون شرب الهيم} وهي الإبل العطاش, واحدها أهيم والأنثى هيماء, ويقال: هائم وهائمة, قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة: الهيم, الإبل العطاش الظماء, وعن عكرمة أنه قال: الهيم الإبل المراض تمص الماء مصاً ولا تروى. وقال السدي: الهيم داء يأخذ الإبل فلا تروى أبداً حتى تموت, فكذلك أهل جهنم لا يروون من الحميم أبداً. وعن خالد بن معدان أنه كان يكره أن يشرب شرب الهيم غبة واحدة من غير أن يتنفس ثلاثاً, ثم قال تعالى: {هذا نزلهم يوم الدين} أي هذا الذي وصفنا هو ضيافتهم عند ربهم يوم حسابهم, كما قال تعالى في حق المؤمنين: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزل} أي ضيافة وكرامة.
تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 535
535 : تفسير الصفحة رقم 535 من القرآن الكريم** ثُلّةٌ مّنَ الأوّلِينَ * وَقَلِيلٌ مّنَ الاَخِرِينَ * عَلَىَ سُرُرٍ مّوْضُونَةٍ * مّتّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مّخَلّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مّن مّعِينٍ * لاّ يُصَدّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مّمّا يَتَخَيّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مّمّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً * إِلاّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً
يقول تعالى مخبراً عن هؤلاء السابقين المقربين أنهم ثلة أي جماعة من الأولين وقليل من الاَخرين, وقد اختلفوا في المراد بقوله الأولين والاَخرين فقيل: المراد بالأولين الأمم الماضية وبالاَخرين هذه الأمة, وهذا رواية عن مجاهد والحسن البصري, رواها عنهما ابن أبي حاتم: وهو اختيار ابن جرير واستأنس بقوله صلى الله عليه وسلم: «نحن الاَخرون السابقون يوم القيامة» ولم يحك غيره ولا عزاه إلى أحد, ومما يستأنس به لهذا القول ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع, حدثنا شريك عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: لما نزلت {ثلة من الأولين وقليل من الاَخرين} شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت {ثلة من الأولين وثلة من الاَخرين} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ثلث أهل الجنة, بل أنتم نصف أهل الجنة أو شطر أهل الجنة وتقاسمونهم النصف الثاني» ورواه الإمام أحمد عن أسود بن عامر عن شريك عن محمد بياع الملاء عن أبيه عن أبي هريرة فذكره.
وقد روي من حديث جابر نحو هذا, ورواه الحافظ ابن عساكر من طريق هشام بن عمارة, حدثنا عبد ربه بن صالح عن عروة بن رويم عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: لما نزلت «إذا وقعت الواقعة» ذكر فيها «ثلة من الأولين وقليل من الاَخرين» قال عمر: يا رسول الله ثلة من الأولين وقليل منا ؟ قال: فأمسك آخر السورة سنة ثم نزل {ثلة من الأولين وثلة من الاَخرين} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عمر تعال فاسمع ما قد أنزل الله {ثلة من الأولين وثلة من الاَخرين} ألا وإن من آدم إلي ثلة وأمتي ثلة, ولن نستكمل ثلتنا حتى نستعين بالسودان من رعاة الإبل ممن شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له» هكذا أورده في ترجمة عروة بن رويم إسناداً ومتناً, ولكن في إسناده نظر, وقد وردت طرق كثيرة متعددة بقوله صلى الله عليه وسلم: «إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة» الحديث بتمامه وهو مفرد في صفة الجنة, ولله الحمد والمنة. وهذا الذي اختاره ابن جرير ههنا فيه نظر بل هو قول ضعيف, لأن هذه الأمة هي خير الأمم بنص القرآن, فيبعد أن يكون المقربون في غيرها أكثر منها, اللهم إلا أن يقابل مجموع الأمم بهذه الأمة, والظاهر أن المقربين من هؤلاء أكثر من سائر الأمم والله أعلم. فالقول الثاني في هذا المقام هو الراجح, وهو أن يكون المراد بقوله تعالى:{ثلة من الأولين} أي من صدر هذه الأمة {وقليل من الاَخرين} أي من هذه الأمة.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح, حدثنا عفان, حدثنا عبد الله بن بكر المزني, سمعت الحسن أتى على هذه الاَية {والسابقون السابقون * أولئك المقربون} فقال: أما السابقون فقد مضوا ولكن اللهم اجعلنا من أصحاب اليمين. ثم قال: حدثنا أبي, حدثنا أبو الوليد, حدثنا السري بن يحيى قال: قرأ الحسن {والسابقون السابقون * أولئك المقربون في جنات النعيم * ثلة من الأولين} قال ثلة ممن مضى من هذه الأمة, وحدثنا أبي حدثنا عبد العزيز بن المغيرة المنقري حدثنا أبو هلال عن محمد بن سيرين أنه قال في هذه الاَية {ثلة من الأولين * وقليل من الاَخرين} قال: كانوا يقولون أو يرجون أن يكونوا كلهم من هذه الأمة, فهذا قول الحسن وابن سيرين أن الجميع من هذه الأمة, ولا شك أن أول كل أمة خير من آخرها, فيحتمل أن تعم الاَية جميع الأمم كل أمة بحسبها, ولهذا ثبت في الصحاح وغيرها من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» الحديث بتمامه. فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن, حدثنا زياد أبو عمر عن الحسن عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره» فهذا الحديث, بعد الحكم بصحة إسناده, محمول على أن الدين كما هو محتاج إلى أول الأمة في إبلاغه إلى من بعدهم, كذلك هو محتاج إلى القائمين به في أواخرها وتثبيت الناس على السنة وروايتها وإظهارها, والفضل للمتقدم وكذلك الزرع هو محتاج إلى المطر الأول وإلى المطر الثاني, ولكن العمدة الكبرى على الأول واحتياج الزرع إليه آكد, فإنه لولاه ما نبت في الأرض ولا تعلق أساسه فيها ولهذا قال عليه السلام «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى قيام الساعة» وفي لفظ «حتى يأتي أمر الله تعالى وهم كذلك» والغرض أن هذه الأمة أشرف من سائر الأمم, والمقربون فيها أكثر من غيرها وأعلى منزلة لشرف دينها وعظم نبيها, ولهذا ثبت بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, أنه أخبر أن في هذه الأمة سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب وفي لفظ «مع كل ألف سبعون ألفاً ـ وفي آخر ـ مع كل واحد سبعون ألفاً.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا هشام بن يزيد الطبراني, حدثنا محمد هو ابن إسماعيل بن عياش, حدثني أبي, حدثني ضمضم يعني ابن زرعة عن شريح هو ابن عبيد, عن أبي مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما والذي نفسي بيده ليبعثن منكم يوم القيامة مثل الليل الأسود زمرة جميعها يحيطون الأرض, تقول الملائكة لما جاء مع محمد صلى الله عليه وسلم أكثر مما جاء مع الأنبياء عليهم السلام» وحسن أن يذكر ههنا عند قوله تعالى: {ثلة من الأولين وقليل من الاَخرين} الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة حيث قال: أخبرنا أبو نصر بن قتادة, أخبرنا أبو عمرو بن مطر, أخبرنا جعفر بن محمد بن المستفاض الفريابي, حدثني أبو وهب الوليد بن عبد الملك بن عبيد الله بن مسرح الحراني, حدثنا سليمان بن عطاء القرشي الحراني عن مسلمة بن عبد الله الجهني, عن عمه أبي مشجعة بن ربعي عن ابي زمل الجهني رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح يقول وهو ثان رجليه «سبحان الله وبحمده أستغفر الله إن الله كان تواباً» سبعين مرة ثم يقول: «سبعين بسبعمائة لا خير لمن كانت ذنوبه في يوم واحد أكثر من سبعمائة» ثم يقول ذلك مرتين ثم يستقبل الناس بوجهه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبه الرؤيا ثم يقول «هل رأى أحد منكم شيئاً ؟» قال ابو زمل: فقلت أنا يا رسول الله, فقال «خير تلقاه, وشر توقاه, وخير لنا, وشر على أعدائنا الحمد لله رب العالمين اقصص رؤياك» فقلت: رأيت جميع الناس على طريق رحب سهل لاحب والناس على الجادة منطلقين, فبينما هم كذلك إذ أشفى ذلك الطريق على مرج لم تر عيني مثله, يرف رفيفاً يقطر ماؤه فيه من أنواع الكلأ, قال وكأني بالرعلة الأولى حين أشفوا على المرج كبروا ثم أكبوا رواحلهم في الطريق, فلم يظلموه يميناً ولا شمالاً, قال فكأني أنظر إليهم منطلقين, ثم جاءت الرعلة الثانية, وهم أكثر منهم أضعافاً فلما أشفوا على المرج كبروا ثم أكبوا رواحلهم في الطريق, فمنهم المرتع ومنهم الاَخذ الضغث, ومضوا على ذلك, قال ثم قدم عظم الناس, فلما أشفوا على المرج كبروا وقالوا هذا خير المنزل, كأني أنظر إليهم يميلون يميناً وشمالاً, فلما رأيت ذلك لزمت الطريق حتى آتي أقصى المرج, فإذا أنا بك يا رسول الله على منبر فيه سبع درجات وأنت في أعلاها درجة, وإذا عن يمينك رجل آدم شثل أقنى إذا هو تكلم يسمو فيقرع الرجال طولاً, وإذا عن يسارك رجل ربع باز كثير خيلان الوجه, كأنما حمم شعره بالماء إذا هو تكلم أصغيتم إكراماً له, وإذا أمام ذلك رجل شيخ أشبه الناس بك خلقاً ووجهاً كلكم تأمونه تريدونه وإذا أمام ذلك ناقة عجفاء شارف, وإذا أنت يا رسول الله كأنك تبعثها.
قال: فامتقع لون رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ثم سري عنه, وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما ما رأيت من الطريق السهل الرحب اللاحب, فذاك ما حملتكم عليه من الهدى وأنتم عليه, وأما المرج الذي رأيت فالدنيا وغدارة عيشها, مضيت أنا وأصحابي لم نتعلق منها بشيء ولم تتعلق منا ولم نردها ولم تردنا, ثم جاءت الرعلة الثانية من بعدنا وهم أكثر منا أضعافاً, فمنهم المرتع ومنهم الاَخذ الضغث ونجوا على ذلك, ثم جاء عظم الناس فمالوا في المرج يميناً وشمالاً فإنا لله وإنا إليه راجعون. وأما أنت فمضيت على طريقة صالحة, فلن تزال عليها حتى تلقاني, وأما المنبر الذي رأيت فيه سبع درجات وأنا في أعلاها درجة فالدنيا سبعة آلاف سنة, أنا في آخرها ألفاً, وأما الرجل الذي رأيت على يميني الاَدم الشثل فذلك موسى عليه السلام, إذا تكلم يعلو الرجال بفضل كلام الله إياه, والذي رأيت عن يساري الباز الربعة الكثير خيلان الوجه كأنما حمم شعره بالماء, فذلك عيسى بن مريم نكرمه لإكرام الله إياه, وأما الشيخ الذي رأيت أشبه الناس بي خلقاً ووجهاً فذاك أبونا إبراهيم كلنا نؤمه ونقتدي به, وأما الناقة التي رأيت ورأيتني أبعثها فهي الساعة علينا تقوم لا نبي بعدي ولا أمة بعد أمتي «قال: فما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رؤيا بعد هذا إلا أن يجيء الرجل فيحدثه بها متبرعاً.
وقوله تعالى: {على سرر موضونة} قال ابن عباس: أي مرمولة بالذهب يعني منسوجة به, وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وزيد بن أسلم وقتادة والضحاك وغيره, وقال السدي: مرمولة بالذهب واللؤلؤ, وقال عكرمة: مشبكة بالدر والياقوت, وقال ابن جرير: ومنه يسمى وضين الناقة الذي تحت بطنها, وهو فعيل بمعنى مفعول لأنه مضفور, وكذلك السرر في الجنة مضفورة بالذهب واللاَلىء.
وقوله تعالى: {متكئين عليها متقابلين} أي وجوه بعضهم إلى بعض ليس أحد وراء أحد {يطوف عليهم ولدان مخلدون} أي مخلدون على صفة واحدة لا يتكبرون عنها ولا يشيبون ولا يتغيرون {بأكواب وأباريق وكأس من معين} أما الأكواب فهي الكيزان التي لا خراطيم لها ولا آذان, والأباريق التي جمعت الوصفين والكؤوس الهنابات, والجميع من خمر من عين جارية معين, ليس من أوعية تنقطع وتفرغ بل من عيون سارحة. وقوله تعالى: {لا يصدعون عنها ولا ينزفون} أي لا تصدع رؤوسهم ولا تنزف عقولهم, بل هي ثابتة مع الشدة المطربة واللذة الحاصلة, وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال: في الخمر أربع خصال: السكر, والصداع, والقيء, والبول, فذكر الله تعالى خمر الجنة ونزهها عن هذه الخصال. وقال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطية وقتادة والسدي {لا يصدعون عنه} يقول ليس لهم فيها صداع رأس وقالوا في قوله: {ولا ينزفون} أي لا تذهب بعقولهم.
وقوله تعالى: {وفاكهة مما يتخيرون * ولحم طير مما يشتهون} أي ويطوفون عليهم بما يتخيرون من الثمار, وهذه الاَية دليل على جواز أكل الفاكهة على صفة التخير لها, ويدل على ذلك حديث عكراش بن ذؤيب الذي رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي رحمه الله في مسنده, حدثنا العباس بن الوليد الترسي, حدثنا العلاء بن الفضل بن عبد الملك بن أبي سوية, حدثنا عبيد الله بن عكراش عن أبيه عكراش بن ذؤيب قال: بعثني مرة في صدقات أموالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقدمت المدينة فإذا هو جالس بين المهاجرين والأنصار وقدمت عليه بإبل كأنها عروق الأرطى قال «من الرجل ؟» قلت: عكراش بن ذؤيب, قال «ارفع في النسب» فانتسبت له إلى مرة بن عبيد وهذه صدقة مرة بن عبيد, فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «هذه إبل قومي هذه صدقات قومي» ثم أمر بها أن توسم بميسم إبل الصدقة وتضم إليها, ثم أخذ بيدي فانطلقنا إلى منزل أم سلمة فقال: «هل من طعام ؟» فأتينا بجفنة كالقصعة كثيرة الثريد والوذر, فجعل يأكل منها فأقبلت أخبط بيدي في جوانبها فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليسرى على يدي اليمنى فقال: يا عكراش, كل من موضع واحد فإنه طعام واحد. ثم أتينا بطبق فيه تمر أو رطب شك عبيد الله رطباً كان أوتمراً, فجعلت آكل من بين يدي وجالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطبق وقال: يا عكراش, كل من حيث شئت فإنه غير لون واحد. ثم أتينا بماء فغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ومسح ببلل كفيه وجهه وذراعيه ورأسه ثلاثاً ثم قال: «يا عكراش هذا الوضوء مما غيرت النار».
وهكذا رواه الترمذي مطولاً وابن ماجه جميعاً عن محمد بن بشار عن أبي الهذيل العلاء بن الفضل به, وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديثه. وقال الإمام أحمد: حدثنا بهز بن أسد وعفان, وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا شيبان, قالوا حدثنا سليمان بن المغيرة, حدثنا ثابت قال: قال أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبه الرؤيا, فربما رأى الرجل الرؤيا فسأل عنه إذا لم يكن يعرفه, فإذا أثنى عليه معروف كان أعجب لرؤياه إليه, فأتته أمرأة فقالت: يا رسول الله رأيت كأني أتيت فأخرجت من المدينة فأدخلت الجنة, فسمعت وجبة انتحبت لها الجنة, فنظرت فإذا فلان بن فلان وفلان بن فلان فسمت اثني عشر رجلاً, كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث سرية قبل ذلك فجيء بهم عليهم ثياب طلس تشخب أوداجهم, فقيل اذهبوا بهم إلى نهر البيدخ أو البيذخ, قال فغمسوا فيه فخرجوا ووجوههم كالقمر ليلة البدر, فأتوا بصفحة من ذهب فيها بسر, فأكلوا من بسره ما شاءوا فما يقلبونها من وجه إلا أكلوا من الفاكهة ما أرادوا, وأكلت معهم فأتى البشير من تلك السرية, فقال ما كان من رؤيا كذا وكذا فأصيب فلان وفلان حتى عد اثني عشر رجلاً, فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة, فقال قصي رؤياك, فقصتها وجعلت تقول فجيء بفلان وفلان كما قال. هذا لفظ أبي يعلى, قال الحافظ الضياء: وهذا على شرط مسلم.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا معاذ بن المثنى, حدثنا علي بن المديني, حدثنا ريحان بن سعيد عن عباد بن منصور عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء, عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل إذا نزع ثمرة في الجنة عادت مكانها أخرى» وقوله تعالى:{ولحم طير مما يشتهون} قال الإمام أحمد: حدثنا سيار بن حاتم, حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي, حدثنا ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن طير الجنة كأمثال البخت يرعى في شجر الجنة» فقال أبو بكر: يا رسول الله إن هذه لطير ناعمة, فقال «آكلها أنعم منها ـ قالها ثلاثاً ـ وإني لأرجو أن تكون ممن يأكل منها» انفرد به أحمد من هذا الوجه. وروى الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه صفة الجنة من حديث إسماعيل بن علي الخطمي عن أحمد بن علي الحيوطي عن عبد الجبار بن عاصم عن عبد الله بن زياد, عن زرعة عن نافع عن ابن عمر قال: ذكرت عند النبي صلى الله عليه وسلم طوبى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر هل بلغك ما طوبى ؟» قال: الله ورسوله أعلم. قال «طوبى شجرة في الجنة ما يعلم طولها إلا الله كأمثال البخت» فقال أبو بكر: يا رسول الله إن هناك لطيراً ناعماً ؟ قال «أنعم منه من يأكله وأنت منهم إن شاء الله تعالى» وقال قتادة في قوله تعالى: {ولحم طير مما يشتهون} وذكر لنا أن أبا بكر قال: يا رسول الله إني أرى طيرها ناعمة كأهلها ناعمون, قال «من يأكلها والله ياأبا بكر أنعم منها وإنها لأمثال البخت وإني لأحتسب على الله أن تأكل منها يا أبا بكر».
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني مجاهد بن موسى, حدثنا معن بن عيسى, حدثني ابن أخي ابن شهاب عن أبيه عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكوثر فقال: «نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل, فيه طيور أعناقها يعني كأعناق الجزر» فقال عمر: إنها لناعمة, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آكلها أنعم منها» وكذا رواه الترمذي عن عبد بن حميد عن القعنبي عن محمد بن عبد الله بن مسلم بن شهاب عن أبيه عن أنس, وقال حسن. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا علي بن محمد الطنافسي, حدثنا أبو معاوية عن عبيد الله بن الوليد الرصافي عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن في الجنة لطيراً فيه سبعون ألف ريشة فيقع على صحفة الرجل من أهل الجنة فينتفض, فيخرج من كل ريشة يعني لوناً أبيض من اللبن وألين من الزبد وأعذب من الشهد, ليس منها لون يشبه صاحبه ثم يطير» هذا حديث غريب جداً والرصافي وشيخه ضعيفان, ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن صالح كاتب الليث, حدثني الليث, حدثنا خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن أبي حازم عن عطاء عن كعب قال: إن طائر الجنة أمثال البخت يأكل من ثمرات الجنة ويشرب من أنهار الجنة, فيصطففن له فإذا اشتهى منها شيئاً أتى حتى يقع بين يديه, فيأكل من خارجه وداخله ثم يطير لم ينقص منه شيء, صحيح إلى كعب وقال الحسن بن عرفة: حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشوياً».
وقوله تعالى: {وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون} قرأ بعضهم بالرفع وتقديره ولهم فيها حور عين! وقراءة الجر تحتمل معنيين: أحدهما أن يكون الإعراب على الإتباع بما قبله كقوله تعالى: {يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق, وكأس من معين * لا يصدعون عنها ولا ينزفون وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين} كما قال تعالى: {وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم} وكما قال تعالى: {عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق} والاحتمال الثاني أن يكون مما يطوف به الولدان المخلدون عليهم الحور العين, ولكن يكون ذلك في القصور لا بين بعضهم بعضاً, بل في الخيام يطوف عليهم الخدام بالحور العين, والله أعلم. وقوله تعالى: {كأمثال اللؤلؤ المكنون} أي كأنهن اللؤلؤ الرطب في بياضه وصفائه كما تقدم في سورة الصافات {كأنهن بيض مكنون} وقد تقدم في سورة الرحمن وصفهن أيضاً, ولهذا قال: {جزاء بما كانوا يعملون} أي هذا الذي أتحفناهم به مجازاة لهم على ما أحسنوا من العمل.
ثم قال تعالى: {لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلام} أي لا يسمعون في الجنة كلاماً لاغياً أي عبثاً خالياً من المعنى أو مشتملاً على معنى حقير أو ضعيف كما قال {لا تسمع فيها لاغية} أي كلمة لا غية {ولا تأثيم} أي ولا كلاماً فيه قبح {إلا قيلا سلاماً سلام} أي إلا التسليم منهم بعضهم على بعض كما قال تعالى: {تحيتهم فيها سلام} وكلامهم أيضاً سالم من اللغو والإثم.
** وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مّنضُودٍ * وَظِلّ مّمْدُودٍ * وَمَآءٍ مّسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لاّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مّرْفُوعَةٍ * إِنّآ أَنشَأْنَاهُنّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لاَِصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلّةٌ مّنَ الأوّلِينَ * وَثُلّةٌ مّنَ الاَخِرِينَ
لما ذكر تعالى مآل السابقين وهم المقربون, عطف عليهم بذكر أصحاب اليمين وهم الأبرار, كما قال ميمون بن مهران أصحاب اليمين منزلتهم دون المقربين فقال {وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين} أي أي شيء أصحاب اليمين وما حالهم وكيف مآلهم. ثم فسر ذلك فقال تعالى: {في سدر مخضود} قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وابن الأحوص وقسامة بن زهير والسفر بن قيس, والحسن وقتادة وعبد الله بن كثير والسدي وأبو حزرة وغيرهم: هو الذي لا شوك فيه, وعن ابن عباس: هو الموقر بالثمر, وهو رواية عن عكرمة ومجاهد, وكذا قال قتادة أيضاً: كنا نحدث أنه الموقر الذي لا شوك به, والظاهر أن المراد هذا وهذا, فإن سدر الدنيا كثير الشوك قليل الثمر, وفي الاَخرة على العكس من هذا لا شوك فيه وفيه الثمر الكثير الذي قد أثقل أصله, كما قال الحافظ أبو بكر أحمد بن سلمان النجّاد, حدثنا محمد بن محمد هو البغوي, حدثني حمزة بن العباس, حدثنا عبد الله بن عثمان حدثنا عبد الله بن المبارك, أخبرنا صفوان بن عمرو عن سليم بن عامر قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إن الله لينفعنا بالأعراب ومسائلهم, قال: أقبل أعرابي يوماً فقال: يا رسول الله ذكر الله في الجنة شجرة تؤذي صاحبها, فقال رسول الله: «وما هي ؟» قال السدر فإن له شوكاً مؤذياً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أليس الله تعالى يقول {في سدر مخضود} خضد الله شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة, فإنها لتنبت ثمراً تفتق الثمرة منها عن اثنين وسبعين لوناً من طعام, ما فيها من لون يشبه الاَخر».
(طريق آخر) قال أبو بكر بن أبي داود: حدثنا محمد بن المصفى, حدثنا محمد بن المبارك, حدثني يحيى بن حمزة, حدثني ثور بن يزيد, حدثني حبيب بن عبيد عن عتبة بن عبد السلمي قال: كنت جالساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: فجاء أعرابي فقال: يا رسول الله أسمعك تذكر في الجنة شجرة لا أعلم شجراً أكثر شوكاً منها, يعني الطلح, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله يجعل مكان كل شوكة منها ثمرة مثل خصوة التيس الملبود, فيها سبعون لوناً من الطعام لا يشبه لون الاَخر» وقوله {وطلح منضود} الطلح شجر عظام يكون بأرض الحجاز من شجر العضاه واحدته طلحة, وهو شجر كثير الشوك, وأنشد ابن جرير لبعض الحداة:
بشرها دليلها وقالاغداً ترين الطلح والجبالا
وقال مجاهد {منضود} أي متراكم الثمر يذكر بذلك قريشاً لأنهم كانوا يعجبون من وجّ وظلاله من طلح وسدر وقال السدي: منضود مصفود. قال ابن عباس: يشبه طلح الدنيا, ولكن له ثمر أحلى من العسل, قال الجوهري والطلح لغة في الطلع قلت: وقد روى ابن أبي حاتم من حديث الحسن بن سعد عن شيخ من همدان قال: سمعت علياً يقول هذا الحرف في طلح منضود, قال: طلع منضود, فعلى هذا يكون من صفة السدر, فكأنه وصفه بأنه مخضود, وهو الذي لا شوك له, وأن طلعه منضود وهو كثرة ثمره, والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو معاوية عن إدريس عن جعفر بن إياس عن أبي نضرة عن أبي سعيد {وطلح منضود} قال الموز, قال وروي عن ابن)عباس وأبي هريرة والحسن وعكرمة وقسامة بن زهير وقتادة وأبي حزرة مثل ذلك وبه, قال مجاهد وابن زيد: وزاد فقال: أهل اليمن يسمون الموز الطلح, ولم يحك ابن جرير غير هذا القول.
وقوله تعالى: {وظل ممدود} قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة, يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها, اقرأوا إن شئتم {وظل ممدود} ورواه مسلم من حديث الأعرج به. وقال الإمام أحمد: حدثنا سريج, حدثنا فليح عن هلال بن علي, عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام, اقرءوا إن شئتم {وظل ممدود} وكذا رواه مسلم من حديث الأعرج به. وكذا رواه البخاري عن محمد بن سنان عن فليح به, وكذا رواه عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة, وكذا رواه حماد بن سلمة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة والليث بن سعد عن سعيد المقبري, عن أبيه عن أبي هريرة: وعوف عن ابن سيرين, عن أبي هريرة به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر وحجاج قالا: حدثنا شعبة, سمعت أبا الضحاك يحدث أبا هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين ـ أو مائة ـ سنة هي شجرة الخلد». وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد ابن سنان, حدثنا يزيد بن هارون عن محمد بن عمرو بن أبي سلمة عن أبي هريرة, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها, واقرءوا إن شئتم {وظل ممدود} إسناد جيد ولم يخرجوه, وهكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن عبدة وعبد الرحيم والبخاري, كلهم عن محمد بن عمرو به, وقد رواه الترمذي من حديث عبد الرحمن بن سليمان به.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا مهران, حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن زياد مولى بني مخزوم عن أبي هريرة قال: إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام اقرءوا إن شئتم {وظل ممدود} فبلغ ذلك كعباً فقال: صدق والذي أنزل التوراة على موسى والفرقان على محمد, لو أن رجلاً ركب حقة أو جذعة ثم دار بأعلى تلك الشجرة ما بلغها حتى يسقط هرماً, إن الله غرسها بيده ونفخ فيها من روحه, وإن أفنانها لمن وراء سور الجنة وما في الجنة نهر إلا وهو يخرج من أصل تلك الشجرة. وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا محمد بن منهال الضرير: حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: {وظل ممدود} قال: «في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها» وكذا رواه البخاري عن روح بن عبد المؤمن عن يزيد بن زريع, وكذا رواه أبو داود الطيالسي عن عمران بن داود القطان عن قتادة به, وكذا رواه معمر وأبو هلال عن قتادة به, وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد وسهل بن سعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ما يقطعها» فهذا حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, بل متواتر مقطوع بصحته عند أئمة الحديث النقاد, لتعدد طرقه وقوة أسانيده وثقة رجاله.
وقد قال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا أبو بكر, حدثنا أبو حصين قال: كنا على باب في موضع ومعنا أبو صالح وشقيق يعني الضبي, فحدث أبو صالح قال: حدثني أبو هريرة قال: إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً, قال أبو صالح: أتكذب أبا هريرة ؟ قال: ما أكذب أبا هريرة ولكني أكذبك أنت, فشق ذلك على القراء يومئذ. قلت: فقد أبطل من يكذب بهذا الحديث مع ثبوته وصحته ورفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الترمذي: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا زياد بن الحسن بن الفرات القزاز عن أبيه عن جده عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما في الجنة شجرة إلا ساقها من ذهب» ثم قال: حسن غريب. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن أبي الربيع, حدثنا أبو عامر العقدي عن زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن ابن عباس قال: الظل الممدود شجرة في الجنة على ساق ظلها قدر ما يسير الراكب في كل نواحيها, مائة عام, قال: فيخرج إليها أهل الجنة أهل الغرف وغيرهم فيتحدثون في ظلها, قال: فيشتهي بعضهم ويذكر لهو الدنيا فيرسل الله ريحاً من الجنة, فتحرك تلك الشجرة بكل لهو في الدنيا. هذا أثر غريب إسناده جيد قوي حسن. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا ابن يمان حدثنا سفيان, حدثنا أبو إسحاق عن عمرو بن ميمون في قوله تعالى: {وظل ممدود} قال سبعون ألف سنة, وكذا رواه ابن جرير عن بندار عن ابن مهدي عن سفيان مثله, ثم قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا مهران عن سفيان عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون {وظل ممدود} قال: خمسمائة ألف سنة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو الوليد الطيالسي, حدثنا حصين بن نافع عن الحسن في قول الله تعالى: {وظل ممدود} قال: في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة لا يقطعها, وقال عوف عن الحسن: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها» رواه ابن جرير وقال شبيب عن عكرمة عن ابن عباس: في الجنة شجر لا يحمل يستظل به, رواه ابن أبي حاتم, وقال الضحاك والسدي وأبو حزرة في قوله تعالى: {وظل ممدود} لا ينقطع, ليس فيها شمس ولا حر مثل قبل طلوع الفجر, وقال ابن مسعود: الجنة سجسج كما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس, وقد تقدمت الاَيات كقوله تعالى: {وندخلهم ظلاً ظليل} وقوله: {أكلها دائم وظله} وقوله: {في ظلال وعيون} إلى غير ذلك من الاَيات وقوله تعالى: {وماء مسكوب} قال الثوري: يجري في غير أخدود, وقد تقدم الكلام عند تفسير قوله تعالى: {فيها أنهار من ماء غير آسن} الاَية. بما أغنى عن إعادته ههنا.
وقوله تعالى: {وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة} أي وعندهم من الفواكه الكثيرة المتنوعة في الألوان مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر, كما قال تعالى: {كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابه} أي يشبه الشكل الشكل ولكن الطعم غير الطعم, وفي الصحيحين في ذكر سدرة المنتهى: «فإذا ورقها كآذان الفيلة ونبقها مثل قلال هجر». وفيهما أيضاً من حديث مالك عن زيد عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال: خسفت الشمس فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه فذكر الصلاة, وفيه قالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئاً في مقامك هذا ثم رأيناك تكعكعت, قال: «إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقوداً, ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا», وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو خيثمة, حدثنا عبد الله بن جعفر, حدثنا عبيد الله, حدثنا ابن عقيل عن جابر قال: بينا نحن في صلاة الظهر إذ تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدمنا معه, ثم تناول شيئاً ليأخذه ثم تأخر, فلما قضى الصلاة قال أبي بن كعب: يا رسول الله صنعت اليوم في الصلاة شيئاً ما كنت تصنعه, قال: «إنه عرضت علي الجنة وما فيها من الزهرة والنضرة, فتناولت منها قطفاً من عنب لاَتيكم به فحيل بيني وبينه, ولو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينقص منه» وروى مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر نحوه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن بحر, حدثنا هشام بن يوسف, أخبرنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عامر بن زيد البكالي أنه سمع عتبة بن عبد السلمي يقول: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فسأله عن الحوض وذكر الجنة ثم قال الأعرابي: فيها فاكهة ؟ قال: «نعم وفيها شجرة تدعى طوبى» . قال: فذكر شيئاً لا أدري ما هو, قال: أي شجر أرضنا تشبه ؟ قال: «ليست تشبه شيئاً من شجر أرضك ؟» فقال النبي صلى الله عليه وسلم أتيت الشام ؟ قال: لا . قال: «تشبه شجرة بالشام تدعى الجوزة تنبت على ساق واحدة وينفرش أعلاها». قال: ما عظم العنقود ؟ قال: «مسيرة شهر للغراب الأبقع لا يفتر». قال: ما عظم أصلها ؟ قال: «لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك ما أحاطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتها هرماً» قال: فيها عنب ؟ قال: «نعم» قال: فما عظم الحبة ؟ قال: «هل ذبح أبوك تيساً من غنمه قط عظيماً ؟» قال: نعم, قال: «فسلخ إهابه فأعطاه أمك فقال اتخذي لنا منه دلواً ؟» قال: نعم. قال الأعرابي: فإن تلك الحبة لتشبعني وأهل بيتي ؟ قال: «نعم وعامة عشيرتك».
وقوله تعالى: {لا مقطوعة ولا ممنوعة} أي لا تنقطع شتاء ولا صيفاً بل أكلها دائم مستمر أبداً, مهما طلبوا وجدوا لا يمتنع عليهم بقدرة الله شيء, وقال قتادة: لا يمنعهم من تناولها عود ولا شوك ولا بعد, وقد تقدم في الحديث إذا تناول الرجل الثمرة عادت مكانها أخرى وقوله تعالى: {وفرش مرفوعة} أي عالية وطيئة ناعمة قال النسائي وأبو عيسى الترمذي: حدثنا أبو كريب, حدثنا رشدين بن سعد عن عمر بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وفرش مرفوعة} قال: «ارتفاعها كما بين السماء والأرض ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام ثم قال الترمذي: هذا الحديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد, قال: وقال بعض أهل العلم: معنى هذا الحديث ارتفاع الفرش في الدرجات وبعدما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض, هكذا قال إنه لا يعرف هذا إلا من رواية رشدين بن سعد, وهو المصري وهو ضعيف, هكذا رواه أبو جعفر بن جرير عن أبي كريب عن رشدين به.
ثم رواه هو وابن أبي حاتم كلاهما عن يونس بن عبد الأعلى, عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث فذكره, وكذا رواه ابن أبي حاتم أيضاً عن نعيم بن حماد عن ابن وهب, وأخرجه الضياء في صفة الجنة من حديث حرملة عن ابن وهب به مثله, ورواه الإمام أحمد عن حسن بن موسى عن ابن لهيعة, حدثنا دراج فذكره. وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو معاوية جويبر عن أبي سهل يعني كثير بن زياد عن الحسن {وفرش مرفوعة} قال: ارتفاع فراش الرجل من أهل الجنة مسيرة ثمانين سنة. وقوله تعالى: {إنا أنشأناهن إنشاءً * فجعلناهن أبكاراً * عرباً أتراباً * لأصحاب اليمين} جرى الضمير على غير مذكور. ولكن لما دل السياق وهو ذكر الفرش على النساء اللاتي يضاجعن فيها اكتفى بذلك عن ذكرهن وعاد الضمير عليهن كما في قوله تعالى: {إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب} يعني الشمس على المشهور من قول المفسرين, وقال الأخفش في قوله تعالى: {إنا أنشأناهن} أضمرهن ولم يذكرن قبل ذلك, وقال أبو عبيدة: ذكرن في قوله تعالى: {وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون} فقوله تعالى: {إنا أنشأناهن} أي أعدناهن في النشأة الأخرى بعدما كن عجائز رمصاً, صرنَ أبكاراً عرباً أي بعد الثيوبة عدن أبكاراً عرباً متحببات إلى أزواجهن بالحلاوة والظرافة والملاحة.
وقال بعضهم عرباً أي غنجات, قال موسى بن عبيدة الربذي عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنا أنشأناهن قال نساء عجائز كن في الدنيا عمشاً رمصاً» رواه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم ثم قال الترمذي: غريب, وموسى ويزيد ضعيفان, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف الحمصي, حدثنا آدم يعني ابن أبي إياس, حدثنا شيبان بن جابر عن يزيد بن مرة عن سلمة بن يزيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى: {إنا أنشأناهن إنشاء} يعني الثيب والأبكار اللاتي كن في الدنيا. وقال عبد بن حميد: حدثنا مصعب بن مقدام, حدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن قال: أتت عجوز فقالت يا رسول الله ادع الله تعالى أن يدخلني الجنة فقال: «يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز» قال: فولت تبكي. قال: «أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز, إن الله تعالى يقول {إنّا أنشأناهن إنشاءً فجعلناهن أبكار}».
وهكذا رواه الترمذي في الشمائل عن عبد بن حميد. وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا بكر بن سهل الدمياطي, حدثنا عمرو بن هاشم البيروتي, أخبرنا سليمان بن أبي كريمة عن هشام بن حسان عن الحسن عن أمه عن أم سلمة قالت: قلت يا رسول الله أخبرني عن قول الله تعالى: {حور عين} قال: «حور بيض عين ضخام العيون شفر الحوراء بمنزلة جناح النسر» قلت: أخبرني عن قوله تعالى: {كأمثال اللؤلؤ المكنون} قال: «صفاؤهن صفاء الدر الذي في الأصداف الذي لم تمسه الأيدي» قلت: أخبرني عن قوله: {فيهن خيرات حسان} قال «خيرات الأخلاق حسان الوجوه» قلت: أخبرني عن قوله {كأنهن بيض مكنون} قال: «رقتهن كرقة الجلد الذي رأيت في داخل البيضة مما يلي القشر وهو الغرقىء» قلت: يا رسول الله أخبرني عن قوله {عرباً أتراب} قال «هن اللواتي قبضن في الدار الدنيا عجائز رمصاً شمصاً, خلقهن الله بعد الكبر فجعلهن عذارى عرباً متعشقات محببات أتراباً على ميلاد واحد» قلت: يا رسول الله نساء الدنيا أفضل أم الحور العين ؟ قال: «بل نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة» قلت: يا رسول الله وبم ذاك ؟ قال: «بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن الله عز وجل. ألبس الله وجوههن النور وأجسادهن الحرير. بيض الألوان خضر الثياب صفر الحلي مجامرهن الدر وأمشاطهن الذهب, يقلن نحن الخالدات فلا نموت أبداً ونحن الناعمات فلا نبأس أبداً, ونحن المقيمات فلا نظعن أبداً ألا ونحن الراضيات فلا نسخط أبداً, طوبى لمن كنا له وكان لنا» قلت: يا رسول الله المرأة منا تتزوج زوجين والثلاثة والأربعة ثم تموت فتدخل الجنة ويدخلون معها, من يكون زوجها ؟ قال: «يا أم سلمة إنها تخير فتختار أحسنهم خلقاً, فتقول يا رب إن هذا كان أحسن خلقاً معي فزوجنيه, يا أم سلمة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والاَخرة».
وفي حديث الصور الطويل المشهور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, يشفع للمؤمنين كلهم في دخول الجنة, فيقول الله تعالى قد شفعتك وأذنت لهم بدخولها, فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «والذي بعثني بالحق ما أنتم في الدنيا بأعرف بأزواجكم ومساكنكم من أهل الجنة بأزواجهم ومساكنهم, فيدخل الرجل منهم على ثنتين وسبعين زوجة مما ينشىء الله, وثنتين من ولد آدم لهما فضل على من أنشأ الله بعبادتهما في الدنيا, يدخل الأولى منهما في غرفة من ياقوتة على سرير من ذهب مكلل باللؤلؤ عليه سبعون زوجاً من سندس وإستبرق, وإنه ليضع يده بين كتفيها ثم ينظر إلى يده من صدرها من وراء ثيابها وجلدها ولحمها, وإنه لينظر إلى مخ ساقها كما ينظر أحدكم إلى السلك في قصبة الياقوت كبده لها مرآة, يعني وكبدها له مرآة, فبينما هو عندها لا يملها ولا تمله ولا يأتيها من مرة إلا وجدها عذراء, ما يفتر ذكره ولا يشتكي قبلها إلا أنه لا مني ولا منية, فبينما هو كذلك إذ نودي إنا قد عرفنا أنك لا تمل ولا تمل, إلا أن لك أزواجاً غيرها فيخرج فيأتيهن واحدة واحدة, كلما جاء واحدة قالت: والله ما في الجنة شيء أحسن منك, وما في الجنة شيء أحب إلي منك» وقال عبد الله بن وهب: أخبرني عمرو بن الحارث عن دراج عن ابن حجيرة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال له: أنطأ في الجنة ؟ قال «نعم, والذي نفسي بيده دحماً دحماً, فإذا قام عنها رجعت مطهرة بكراً».
وقال الطبراني: حدثنا إبراهيم بن جابر الفقيه البغدادي, حدثنا محمد بن عبد الملك الدقيقي الواسطي حدثنا معلى بن عبد الرحمن الواسطي, حدثنا شريك عن عاصم الأحول عن أبي المتوكل عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عدن أبكاراً» وقال أبو داود الطيالسي: أخبرنا عمران عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا في النساء, قلت: يا رسول الله ويطيق ذلك ؟ قال: يعطى قوة مائة» ورواه الترمذي من حديث أبي داود وقال: صحيح غريب. وروى أبو القاسم الطبراني من حديث حسين بن علي الجعفي عن زائدة عن هشام بن حسان, عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله هل نصل إلى نسائنا في الجنة ؟ قال: «إن الرجل ليصل في اليوم إلى مائة عذراء» قال الحافظ أبو عبد الله المقدسي: هذا الحديث عندي على شرط الصحيح والله أعلم.
وقوله: {عرب} قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: يعني متجببات إلى أزواجهن, ألم تر إلى الناقة الضبعة هي كذلك, وقال الضحاك عن ابن عباس: العرب العواشق لأزواجهن وأزواجهن لهن عاشقون, وكذا قال عبد الله بن سرجس ومجاهد وعكرمة وأبو العالية ويحيى بن أبي كثير وعطية والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم, وقال ثور بن يزيد عن عكرمة قال: سئل ابن عباس عن قوله: {عرب} قال: هي الملقة لزوجها. وقال شعبة عن سماك عن عكرمة: هي الغنجة. وقال الأجلح بن عبد الله عن عكرمة: هي الشكلة, وقال صالح بن حيّان عن عبد الله بن بريدة في قوله: {عرب} قال: الشكلة بلغة أهل مكة والغنجة بلغة أهل المدينة, وقال تميم بن حذلم: هي حسن التبعل. وقال زيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن: العرب حسنات الكلام وقال ابن أبي حاتم ذكر عن سهل بن عثمان العسكري, حدثنا أبو علي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرباً ـ قال ـ كلامهن عربي».
وقوله: {أتراب} قال الضحاك عن ابن عباس: يعني في سن واحدة ثلاث وثلاثين سنة, وقال مجاهد: الأتراب المستويات, وفي رواية عنه الأمثال, وقال عطية الأقران وقال السدي {أتراب} أي في الأخلاق المتواخيات بينهن, ليس بينهن تباغض ولا تحاسد, يعني لا كما كن ضرائر متعاديات. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو أسامة عن عبد الله بن الكهف عن الحسن ومحمد {عرباً أتراب} قالا: المستويات الأسنان يأتلفن جميعاً ويلعبن جميعاً, وقد روى أبو عيسى الترمذي عن أحمد بن منيع عن أبي معاوية عن عبد الرحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعد عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة لمجتمعاً للحور العين يرفعن أصواتاً لم تسمع الخلائق بمثلها ـ قال ـ يقلن نحن الخالدات فلا نبيد, ونحن الناعمات فلا نبأس ونحن الراضيات فلا نسخط طوبى لمن كان لنا وكنا له» ثم قال: هذا حديث غريب.
وقال الحافظ أبو يعلى: أخبرنا أبو خيثمة, حدثنا إسماعيل بن عمر, حدثنا ابن أبي ذئب عن فلان عبد الله بن رافع عن بعض ولد أنس بن مالك عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الحور العين ليغنين في الجنة يقلن نحن خيرات حسان خبئنا لأزواج كرام» قلت: إسماعيل بن عمر هذا هو أبو المنذر الواسطي أحد الثقات الأثبات. وقد روى هذا الحديث الإمام عبد الرحيم بن إبراهيم الملقب بدحيم عن ابن أبي فديك, عن ابن أبي ذئب عن عون بن الخطاب بن عبد الله بن رافع عن ابن لأنس عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الحور العين يغنين في الجنة نحن الحور الحسان خلقنا لأزواج كرام» وقوله تعالى: {لأصحاب اليمين} أي خلقن لأصحاب اليمين أو ادخرن لأصحاب اليمين أو زوجن لأصحاب اليمين, والأظهر أنه متعلق بقوله {إنا أنشأناهن إنشاءً فجعلناهن أبكاراً عرباً أتراباً لأصحاب اليمين} فتقديره أنشأناهن لأصحاب اليمين, وهذا توجيه ابن جرير.
وروي عن أبي سليمان الداراني رحمه الله تعالى قال: صليت ليلة ثم جلست أدعو وكان البرد شديداً فجعلت أدعو بيد واحدة, فأخذتني عيني فنمت فرأيت حوراء لم ير مثلها وهي تقول: يا أبا سليمان أتدعو بيد واحدة وأنا أغذى لك في النعيم منذ خمسمائة سنة. قلت: ويحتمل أن يكون قوله: {لأصحاب اليمين} متعلقاً بما قبله وهو قوله: {أتراباً لأصحاب اليمين} أي في أسنانهم, كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر, والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب دري في السماء إضاءة, لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتفلون ولا يتمخطون, أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألوة, وأزواجهم الحور العين, أخلاقهم على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعاً في السماء» وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون وعفان قالا: حدثنا حماد بن سلمة.
وروى الطبراني واللفظ له من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدخل أهل الجنة الجنة جرداً مرداً بيضاً جعاداً مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين, وهم على خلق آدم ستون ذراعاً في عرض سبعة أذرع». وروى الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي عن عمران القطان عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدخل أهل الجنة الجنة جرداً مرداً مكحلين بني ثلاث وثلاثين سنة» ثم قال: حسن غريب. وقال ابن وهب: أخبرنا عمرو بن الحارث أن دراجاً أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات من أهل الجنة من صغير أو كبير يردون بني ثلاث وثلاثين في الجنة لا يزيدون عليها أبداً وكذلك أهل النار» ورواه الترمذي عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن رشدين بن سعد عن عمرو بن الحارث به.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا القاسم بن هاشم, حدثنا صفوان بن صالح, حدثنا رواد بن الجراح العسقلاني, حدثنا الأوزاعي عن هارون بن ذئاب عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدخل أهل الجنة الجنة على طول آدم ستين ذراعاً بذراع الملك! على حسن يوسف, وعلى ميلاد عيسى ثلاث وثلاثين سنة, وعلى لسان محمد جرد مرد مكحلون» وقال أبو بكر بن أبي داود: حدثنا محمود بن خالد وعباس بن الوليد قالا: حدثنا عمر عن الأوزاعي عن هارون بن ثابت عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يبعث أهل الجنة على صورة آدم في ميلاد عيسى ثلاث وثلاثين جرداً مرداً مكحلين. ثم يذهب بهم إلى شجرة في الجنة فيكسون منها لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم». وقوله تعالى: {ثلة من الأولين وثلة من الاَخرين} أي جماعة من الأولين وجماعة من الاَخرين.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا المنذر بن شاذان, حدثنا محمد بن بكار, حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين عن عبد الله بن مسعود, قال وكان بعضهم يأخذ عن بعض قال: أكرينا ذات ليلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم غدونا عليه فقال: «عرضت علي الأنبياء وأتباعها بأممها فيمر علي النبي والنبي في العصابة! والنبي في الثلاثة والنبي وليس معه أحد ـ وتلا قتادة هذه الاَية {أليس منكم رجل رشيد} قال: حتى مر علي موسى بن عمران في كبكبة من بني إسرائيل قال: قلت ربي من هذا ؟ قال: هذا أخوك موسى بن عمران ومن تبعه من بني إسرائيل! قال: قلت رب فأين أمتي ؟ قال: انظر عن يمينك في الضراب قال فإذا وجوه الرجال قال: قال أرضيت ؟ قال: قلت: قد رضيت رب. قال: انظر إلى الأفق عن يسارك فإذا وجوه الرجال قال: أرضيت ؟ قلت: قد رضيت رب. قال: فإن مع هؤلاء سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب». قال وأنشأ عكاشة بن محصن من بني أسد قال سعيد وكان بدرياً قال: يا نبي الله ادع الله أن يجعلني منهم قال: فقال «اللهم اجعله منهم» قال أنشأ رجل آخر قال: يا نبي الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال: «سبقك بها عكاشة» قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإن استطعتم فداكم أبي وأمي أن تكونوا من أصحاب السبعين فافعلوا, وإلا فكونوا من أصحاب الضراب, وإلا فكونوا من أصحاب الأفق, فإني قد رأيت أناساً كثيراً قد تأشّبوا حوله ـ ثم قال ـ إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة» فكبرنا ثم قال: «إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة» قال: فكبرنا قال: «إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة» قال فكبرنا, قال ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاَية {ثلة من الأولين وثلة من الاَخرين} قال: فقلنا بيننا: من هؤلاء السبعون ألفاً ؟ فقلنا: هم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا. قال: فبلغه ذلك فقال: «بل هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون» وكذا رواه ابن جرير من طريقين آخرين عن قتادة به نحوه, وهذا الحديث له طرق كثيرة من غير هذا الوجه في الصحاح وغيرها, وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا مهران, حدثنا سفيان عن أبان بن أبي عياش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {ثلة من الأولين * وثلة من الاَخرين} قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هما جميعاً من أمتي».
** وَأَصْحَابُ الشّمَالِ مَآ أَصْحَابُ الشّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ * لاّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ * إِنّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُواْ يُصِرّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَآؤُنَا الأوّلُونَ * قُلْ إِنّ الأوّلِينَ وَالاَخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَىَ مِيقَاتِ يَوْمٍ مّعْلُومٍ * ثُمّ إِنّكُمْ أَيّهَا الضّآلّونَ الْمُكَذّبُونَ * لاَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مّن زَقّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَـَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدّينِ
لما ذكر تعالى حال أصحاب اليمين عطف عليهم بذكر أصحاب الشمال فقال: {وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال} أي أيّ شيء هم فيه أصحاب الشمال ؟ ثم فسر ذلك فقال: {في سموم} وهو الهواء الحار {وحميم} وهو الماء الحار {وظل من يحموم} قال ابن عباس: ظل الدخان, وكذا قال مجاهد وعكرمة وأبو صالح وقتادة والسدي وغيرهم, وهذه كقوله تعالى:{انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون * انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب * إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر * ويل يومئذ للمكذبين} ولهذا قال ههنا: {وظل من يحموم} وهو الدخان الأسود {لا بارد ولا كريم} أي ليس طيب الهبوب ولا حسن المنظر كما قال الحسن وقتادة {ولا كريم} أي ولا كريم المنظر, قال الضحاك: كل شراب ليس بعذب فليس بكريم.
وقال ابن جرير: العرب تتبع هذه اللفظة في النفي فيقولون: هذا الطعام ليس بطيب ولا كريم, هذا اللحم ليس بسمين ولا كريم. وهذه الدار ليست بنظيفة ولا كريمة. وكذا رواه ابن جرير من طريقين آخرين عن قتادة به نحوه, ثم ذكر تعالى استحقاقهم لذلك فقال تعالى: {إنهم كانوا قبل ذلك مترفين} أي كانوا في الدار الدنيا منعمين مقبلين على لذات أنفسهم لا يلوون ما جاءتهم به الرسل {وكانوا يصرون} أي يقيمون ولا ينوون توبة {على الحنث العظيم} وهو الكفر بالله وجعل الأوثان والأنداد أرباباً من دون الله. قال ابن عباس الحنث العظيم: الشرك. وكذا قال مجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم. وقال الشعبي: هو اليمين الغموس {وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون ؟} يعني أنهم يقولون ذلك مكذبين به مستبعدين لوقوعه, قال الله تعالى: {قل إن الأولين والاَخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم} أي أخبرهم يا محمد أن الأولين والاَخرين من بني آدم سيجمعون إلى عرصات القيامة لا يغادر منهم أحداً, كما قال تعالى: {ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود * وما نؤخره إلا لأجل معدود * يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد} ولهذا قال ههنا: {لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم} أي هو موقت بوقت محدود, لا يتقدم ولا يتأخر ولا يزيد ولا ينقص.
{ثم إنكم أيها الضالون المكذبون * لاَكلون من شجر من زقوم * فمالئون منها البطون} وذلك أنهم يقبضون ويسجرون حتى يأكلوا من شجر الزقوم حتى يملأوا منها بطونهم, {فشاربون عليه من الحميم * فشاربون شرب الهيم} وهي الإبل العطاش, واحدها أهيم والأنثى هيماء, ويقال: هائم وهائمة, قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة: الهيم, الإبل العطاش الظماء, وعن عكرمة أنه قال: الهيم الإبل المراض تمص الماء مصاً ولا تروى. وقال السدي: الهيم داء يأخذ الإبل فلا تروى أبداً حتى تموت, فكذلك أهل جهنم لا يروون من الحميم أبداً. وعن خالد بن معدان أنه كان يكره أن يشرب شرب الهيم غبة واحدة من غير أن يتنفس ثلاثاً, ثم قال تعالى: {هذا نزلهم يوم الدين} أي هذا الذي وصفنا هو ضيافتهم عند ربهم يوم حسابهم, كما قال تعالى في حق المؤمنين: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزل} أي ضيافة وكرامة.
الصفحة رقم 535 من المصحف تحميل و استماع mp3