تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 537 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 537

537- تفسير الصفحة رقم537 من المصحف
قوله تعالى: "إنه لقرآن كريم" قيل: إن الهاء تعود على القرآن، أي إن القرآن لقسم عظيم، قال ابن عباس وغيره. وقيل: ما أقسم الله به عظيم "إنه لقرآن كريم" ذكر المقسم عليه، أي أقسم بمواقع النجوم إن هذا القرآن قرآن كريم، ليس بسحر ولا كهانة، وليس بمفترى، بل هو قرآن كريم محمود، جعله الله تعالى معجزة لنبيه صلى الله عليه وسلم، وهو كريم على المؤمنين، لأنه كلام ربهم، وشفاء صدورهم، كريم على أهل السماء، لأنه تنزيل ربهم ووحيه. وقيل: "كريم" أي غير مخلوق. وقيل: "كريم" لما فيه من كريم الأخلاق ومعاني الأمور. وقيل: لأنه يكرم حافظه، ويعظم قارئه. "في كتاب مكنون" مصون عند الله تعالى. وقيل: مكنون محفوظ عن الباطل. والكتاب هنا كتاب في السماء، قال ابن عباس. وقال جابر بن زيد وابن عباس أيضا: هو اللوح المحفوظ. عكرمة: التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن ومن ينزل عليه. السدي: الزبور. مجاهد وقتادة: هو المصحف الذي في أيدينا.
قوله تعالى: "لا يمسه إلا المطهرون" اختلف في معنى "لا يمسه" هل هو حقيقة في المس بالجارحة أو معنى؟ وكذلك اختلف في "المطهرون" من هم؟ فقال أنس وسعيد وابن جبير: لا يمس ذلك الكتاب إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة. وكذا قال أبو العالية وابن زيد: إنهم الذين طهروا من الذنوب كالرسل من الملائكة والرسل من بني آدم، فجبريل النازل به مطهر، والرسل الذين يجيئهم بذلك مطهرون. الكلبي: هم السفرة الكرام البررة. وهذا كله قول واحد، وهو نحو ما اختاره مالك حيث قال: أحسن ما سمعت في قوله "لا يمسه إلا المطهرون" أنها بمنزلة الآية التي في "عبس وتولى" [عبس: 1]: "فمن شاء ذكره. في صحف مكرمة. مرفوعة مطهرة. بأيدي سفرة. كرام بررة" [عبس: 13] يريد أن المطهرين هم الملائكة الذين وصفوا بالطهارة في سورة "عبس". وقيل: معنى "لا يمسه" لا ينزل به "إلا المطهرون" أي الرسل من الملائكة على الرسل من الأنبياء. وقيل: لا يمس اللوح المحفوظ الذي هو الكتاب المكنون إلا الملائكة المطهرون. وقيل: إن إسرافيل هو الموكل بذلك، حكاه القشيري. ابن العربي: وهذا باطل لأن الملائكة لا تناله في وقت ولا تصل إليه بحال، ولو كان المراد به ذلك لما كان للاستثناء فيه مجال. وأما من قال: إنه الذي بأيدي الملائكة في الصحف فهو قول محتمل، وهو اختيار مالك. وقيل: المراد بالكتاب المصحف الذي بأيدينا، وهو الأظهر. وقد روى مالك وغيره أن كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسخته: (من محمد النبي إلى شرحبيل بن عبد كلال والحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال قيل ذي رعين ومعافر وهمدان أما بعد) وكان في كتابه: ألا يمس القرآن إلا طاهر. وقال ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر). وقالت أخت عمر لعمر عند إسلامه وقد دخل عليها ودعا بالصحيفة: "لا يمسه إلا المطهرون" فقام واغتسل وأسلم. وقد مضى في أول سورة "طه".
وعلى هذا المعنى قال قتادة وغيره: "لا يمسه إلا المطهرون" من الأحداث والأنجاس. الكلبي: من الشرك. الربيع بن أنس: من الذنوب والخطايا. وقيل: معنى "لا يمسه" لا يقرؤه "إلا المطهرون" إلا الموحدون، قاله محمد بن فضيل وعبدة. قال عكرمة: كان ابن عباس ينهي أن يمكن أحد من اليهود والنصارى من قراءة القرآن وقال الفراء: لا يجد طعمه ونفعه وبركته إلا المطهرون، أي المؤمنون بالقرآن. ابن العربي: وهو اختيار البخاري، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا). وقال الحسين بن الفضل: لا يعرف تفسيره وتأويله إلا من طهره الله من الشرك والنفاق. وقال أبو بكر الوراق: لا يوفق للعمل به إلا السعداء. وقيل: المعنى لا يمس ثوابه إلا المؤمنون. ورواه معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قيل: ظاهر الآية خبر عن الشرع، أي لا يمسه إلا المطهرون شرعا، فإن وجد خلاف ذلك فهو غير الشرع، وهذا اختيار القاضي أبي بكر بن العربي. وأبطل أن يكون لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر. وقد مضى هذا المعنى في سورة "البقرة". المهدوي: يجوز أن يكون أمرا وتكون ضمة السين ضمة إعراب. ويجوز أن يكون نهيا وتكون ضمة بناء السين ضمة بناء والفعل مجزوم.
واختلف العلماء في مس المصحف على غير وضوء، فالجمهور على المنع من مسه لحديث عمرو بن حزم. وهو مذهب علي وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد، وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي. واختلفت الرواية عن أبي حنيفة، فروي عنه أنه يمسه المحدث، وقد روي هذا عن جماعة من السلف منهم ابن عباس والشعبي وغيرهما. وروي عنه أنه يمس ظاهره وحواشيه وما لا مكتوب فيه، وأما الكتاب فلا يمسه إلا طاهر. ابن العربي: وهذا إن سلمه مما يقوي الحجة عليه، لأن حريم الممنوع ممنوع. وفيما كتبه النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم أقوى دليل عليه. وقال مالك: لا يحمله غير طاهر بملاقة ولا على وسادة. وقال أبو حنيفة: لا بأس بذلك. ولم يمنع من حمله بعلاقة أو مسه بحائل. وقد روي عن الحكم وحماد وداود بن علي أنه لا بأس بحمله ومسه للمسلم والكافر طاهرا أو محدثا، إلا أن داود قال: لا يجوز للمشرك حمله. واحتجوا في إباحة ذلك بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر، وهو موضع ضرورة فلا حجة فيه. وفي مس الصبيان إياه على وجهين: أحدهما المنع اعتبارا بالبالغ. والثاني الجواز، لأنه لو منع لم يحفظ القرآن، لأن تعلمه حال الصغر، ولأن الصبي وإن كانت له طهارة إلا أنها ليست بكاملة، لأن النية لا تصح منه، فإذا جاز أن يحمله على غير طهارة كاملة جاز أن يحمله محدثا.
الآية: 81 - 87 {أفبهذا الحديث أنتم مدهنون، وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون، فلولا إذا بلغت الحلقوم، وأنتم حينئذ تنظرون، ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون، فلولا إن كنتم غير مدينين، ترجعونها إن كنتم صادقين}
قوله تعالى: "أفبهذا الحديث" يعني القرآن "أنتم مدهنون" أي مكذبون، قال ابن عباس وعطاء وغيرهما. والمدهن الذي ظاهره خلاف باطنه، كأنه شبه بالدهن في سهولة ظاهر. وقال مقاتل بن سليمان وقتادة: مدهنون كافرون، نظيره: "ودوا لو تدهن فيدهنون" [القلم: 9]. وقال المؤرج: المدهن المنافق أو الكافر الذي يلين جانبه ليخفي كفره، والإدهان والمداهنة التكذيب والكفر النفاق، وأصله اللين، وأن يسر خلاف ما يظهر، وقال أبو قيس بن الأسلت:
الحزم والقوة خير من الإدهان والفهة والهاع
وأدهن وداهن واحد. وقال قوم: داهنت بمعنى واريت وأدهنت بمعنى غششت. وقال الضحاك: "مدهنون" معرضون. مجاهد: ممالئون الكفار على الكفر به. ابن كيسان: المدهن الذي لا يعقل ما حق الله عليه ويدفعه بالعلل. وقال بعض اللغويين: مدهنون تاركون للجزم في قبول القرآن.
قوله تعالى: "وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون" قال ابن عباس: تجعلون شكركم التكذيب. وذكر الهيثم بن عدي:أن من لغة أزد شنوءة ما رزق فلان؟ أي ما شكره. وإنما صلح أن يوضع اسم الرزق مكان شكره، لأن شكر الرزق يقتضي الزيادة فيه فيكون الشكر رزقا على هذا المعنى. فقيل: "وتجعلون رزقكم" أي شكر رزقكم الذي لو وجد منكم لعاد رزقا لكم "أنكم تكذبون" بالرزق أن تضعوا الرزق مكان الشكر، كقوله تعالى: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية" [الأنفال: 35] أي لم يكونوا يصلون ولكنهم كانوا يصفرون ويصفقون مكان الصلاة. ففيه بيان أن ما أصاب العباد من خير فلا ينبغي أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكن أسباب، بل ينبغي أن يروه من قبل الله تعالى، ثم يقابلونه بشكر إن كان نعمة، أو صبر إن كان مكروها تعبدا له وتذللا. وروي عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسم قرأ "وتجعلون بشكركم أنكم تكذبون" حقيقة. وعن ابن عباس أيضا: أن المراد به الاستسقاء بالأنواء، وهو قول العرب: مطرنا بنوء كذا، رواه علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله لعليه وسلم. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: مطر الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر قالوا هذه رحمة الله وقال بعضهم لقد صدق نوء كذا وكذا، قال: فنزلت هذه الآية: "فلا أقسم بمواقع النجوم حتى بلغ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون".
وعنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في سفر فعطشوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أرأيتم أن دعوت الله لكم فسقيتم لعلكم تقولون هذا المطر بنوء كذا) فقالوا يا رسول الله ما هذا بحين الأنواء. فصلى ركعتين ودعا ربه فهاجت ريح ثم هاجت سحابة فمطروا، فمر النبي صلى الله عليه وسلم ومعه عصابة من أصحابه برجل يغترف بقدح له وهو يقول سقينا بنوء كذا، ولم يقل هذا من رزق الله فنزلت: "وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون" أي شكركم لله على رزقه إياكم "أنكم تكذبون" بالنعمة وتقولون سقينا بنوء كذا، كقولك: جعلت إحساني إليك إساءة منك إلي، وجعلت إنعامي لديك أن اتخذتني عدوا. وفي الموطأ عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحدبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما أنصرف أقبل على الناس وقال: (أتدرون ماذا قال ربكم) قالوا: الله ورسول أعلم، قال: (أصبح من عبادي مومن بي وكافر بالكوكب فأما من مطرنا بفضل الله ورحمته فذللك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا فذلك بالكوكب كافر بي). قال الشافعي رحمه الله: لا أحب أحدا أن يقول مطرنا بنوء كذا وكذا، وإن كان النوء عندنا الوقت المخلوق لا يضر ولا ينفع، ولا يمطر ولا يحبس شيئا من المطر، والذي أحب أن يقول: مطرنا وقت كذا كما تقول مطرنا شهر كذا، ومن قال: مطرنا بنوء كذا، وهو يريد أن النوء أنزل الماء، كما عني بعض، أهل الشرك من الجاهلية بقوله فهو كافر، حلال دمه إن لم يتب. وقال أبو عمر بن عبدالبر: وأما قوله عليه الصلاة والسلام حاكيا عن اله سبحانه: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر) فمعناه عندي على وجهين: أما أحدهما فإن المعتقد بأن النوء هو الموجب لنزول الماء، وهو المنشئ للسحاب دون الله عز وجل فذلك كافر كفرا صريحا يجب استتابته عليه وقتله إن أبى لنبذه الإسلام ورده القرآن. والوجه الآخر أن يعتقد أن النوء ينزل الله به الماء، وأنه سبب الماء على ما قدره الله وسبق في علمه، وهذا وإن كان وجها مباحا، فإن فيه أيضا كفرا بنعمة الله عز وجل، وجهلا بلطيف حكمته في أنه ينزل الماء متى شاء، مرة بنوء كذا، ومرة بنوء كذا، وكثيرا ما ينوء النوء فلا ينزل معه شيء من الماء، وذلك من الله تعالى لا من النوء. وكذلك كان أبو هريرة يقول إذا أصبح وقد مطر: مطرنا بنوء الفتح، ثم يتلو: "ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها" [فاطر: 2] قال أبو عمر : وهذا عندي نحو قول وسول الله صلى الله عليه وسلم: (مطرنا بفضل الله ورحمته). ومن هذا الباب قول عمر بن الخطاب للعباس بن عبدالمطلب حين استسقى به: يا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم كم بقي من نوء الثريا؟ فقال العباس: العلماء يزعمون أنها تعترض في الأفق سبعا بعد سقوطها. فما مضت سابعة حتى مطروا، فقال عمر: الحمد لله هذا بفضل الله ورحمته. وكان عمر رحمه الله قد علم أن نوء الثريا وقت يرجى فيه المطر ويؤمل فسأله عنه أخرج أم بقيت منه بغية؟.
وروى سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا في بعض أسفاره يقول: مطرنا ببعض عثانين الأسد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كذبت بل هو سقيا الله عز وجل) قال سفيان: عثانين الأسد الذراع والجبهة. وقراءة العامة "تكذبون" من التكذيب. وقرأ المفضل عن عاصم ويحيى بن وثاب "تكذبون" بفتح التاء مخففا. ومعناه ما قدمناه من قول من قال: مطرنا بنوء كذا. وثبت من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث لن يزلن في أمتي التفاخر في الأحساب والنياحة والأنواء) ولفظ مسلم في هذا (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة).
قوله تعالى: "فلولا إذا بلغت الحلقوم" أي فهلا إذا بلغت النفس أو الروح الحلقوم. ولم يتقدم لها ذكر، لأن المعنى معروف، قال حاتم.
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
وفي حديث: (إن ملك الموت له أعوان يقطعون العروق يجمعون الروح شيئا فشيئا حتى ينتهى بها إلى الحلقوم فيتوفاها ملك الموت). "وأنتم حينئذ تنظرون" أمري وسلطاني. وقيل: تنظرون إلى الميت لا تقدرون له على شيء. وقال ابن عباس: يريد من حضر من أهل الميت ينتظرون متى تخرج نفسه. ثم قيل: هو رد عليهم في قولهم لإخوانهم "لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا" [آل عمران: 156] أي فهل ردوا روح الواحد منهم إذا بلغت الحلقوم. وقيل: المعنى فهلا إذا بلغت نفس أحدكم الحلقوم عند النزع وأنتم حضور أمسكتم روحه في جسده، مع حرصكم على امتداد عمره، وحبكم لبقائه. وهذا ردا لقولهم: "نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر" [الجاثية:24]. وقيل: هو خطاب لمن هو في النزع، أي إن لم يك ما بك من الله فهلا حفظت على نفسك الروح. "ونحن أقرب إليه منكم" أي بالقدرة والعلم والرؤية. قال عامر بن عبد القيس: ما نظر إلى شيء إلا رأيت الله تعالى أقرب إلى منه. وقيل أراد ورسلنا الذين يتولون قبضه "أقرب إليه منكم" "ولكن لا تبصرون" أي لا ترونهم.
قوله تعالى: "فلولا إن كنتم غير مدينين" أي فهلا إن كنتم غير محاسبين ولا مجزيين بأعمالكم، ومنه قوله تعالى: "أإنا لمدينون" [الصافات: 53] أي مجزيون محاسبون. وقد تقدم. وقيل : غير مملوكين ولا مقهورين. قال الفراء وغيره: دنته ملكته، وأنشد للحطيئة:
لقد دنيت أمر بنيك حتى تركتهم أدق من الطحين
يعني ملكت. ودانه أي أدله واستعبده، يقال: دنته فدان. وقد مضى في "الفاتحة" القول في هذا عند قوله تعالى: "يوم الدين". "ترجعونها" ترجعون الروح إلى الجسد. "إن كنتم صادقين" أي ولن ترجعوها فبطل زعمكم أنكم غير مملوكين ولا محاسبين. و"ترجعونها" جواب لقوله تعالى: "فلولا إذا بلغت الحلقوم" ولقوله: "فلولا إن كنتم غير مدينين" أجيبا بجواب واحد، قاله الفراء. وربما أعادت العرب الحرفين ومعناهما واحد، ومنه قوله تعالى: "فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون" [البقرة: 38] أجيبا بجواب واحد وهما شرطان. وقيل: حذف أحدهما لدلالة الآخر عليه. وقيل: فيها تقديم وتأخير، مجازها: فلولا وهلا إن كنتم غير مدينين ترجعونها، تردون نفس هذا الميت إلى جسده إذا بلغت الحلقوم.
الآية: 88 - 96 {فأما إن كان من المقربين، فروح وريحان وجنة نعيم، وأما إن كان من أصحاب اليمين، فسلام لك من أصحاب اليمين، وأما إن كان من المكذبين الضالين، فنزل من حميم، وتصلية جحيم، إن هذا لهو حق اليقين، فسبح باسم ربك العظيم}
قوله تعالى: "فأما إن كان من المقربين" ذكر طبقات الخلق عند الموت وعند البعث، وبين درجاتهم فقال: "فأما إن كان" هذا المتوفى "من المقربين" وهم السابقون. "فروح وريحان وجنة نعيم" وقراءة العامة "فروح" بفتح الراء ومعناه عند ابن عباس وغيره: فراحة من الدنيا. قال الحسن: الروح الرحمة. الضحاك: الروح الاستراحة. القتبي: المعنى له في طيب نسيم. وقال أبو العباس بن عطاء: الروح النظر إلى وجه الله، والريحان الاستماع لكلامه ووحيه، "وجنة نعيم" هو ألا يحجب فيها عن الله عز وجل. وقرأ الحسن وقتادة ونصر بن عاصم والجحدري ورويس وزيد عن يعقوب "فروح" بضم الراء، ورويت عن ابن عباس. قال الحسن: الروح الرحمة، لأنها كالحياة للمرحوم. وقالت عائشة رضي الله عنها: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم "فروح" بضم الراء ومعناه فبقاء له وحياة في الحنة وهذا هو الرحمة. "وريحان" قال مجاهد وسعيد بن جبير: أي رزق. قال مقاتل: هو الرزق بلغة حمير، يقال: خرجت أطلب ريحان الله أي رزقه، قال النمر بن تولب:
سلام الإله وريحانه ورحمته وسماه درر
وقال قتادة: إنه الجنة. الضحاك: الرحمة. وقيل هو الريحان المعروف الذي يشم. قاله الحسن وقتادة أيضا. الربيع بن خيثم: هذا عند الموت والجنة مخبوءة له إلى أن يبعث. أبو الجوزاء: هذا عند قبض روحه يتلقى بضبائر الريحان. أبو العالية: لا يفارق أحد روحه من المقربين في الدنيا حتى يؤتى بغصنين من ريحان فيشمهما ثم يقبض روحه فيهما، وأصل ريحان واشتقاقه تقدم في أول سورة "الرحمن" فتأمله. وقد سرد الثعلبي في الروح والريحان أقوالا كثيرة سوى ما ذكرنا من أرادها وجدها هناك.
قوله تعالى: "وأما إن كان من أصحاب اليمين" أي "إن كان" هذا المتوفى "من أصحاب اليمين" "فسلام لك من أصحاب اليمين" أي لست ترى منهم إلا ما تحب من السلامة فلا تهتم لهم، فإنهم يسلمون من عذاب الله. وقيل: المعنى سلام لك منهم، أي أنت سالم من الاغتمام لهم. والمعنى واحد. وقيل: أي إن أصحاب اليمين يدعون لك يا محمد بأن يصلي الله عليك وسلم. وقيل: المعنى إنهم يسلمون عليك يا محمد. وقيل: معناه سلمت أيها العبد مما تكره فإنك من أصحاب اليمين، فحذف إنك. وقيل: إنه يحيا بالسلام إكراما، فعلى هذا في محل السلام ثلاثة أقاويل: أحدها عند قبض روحه في الدنيا يسلم عليه ملك الموت، قاله الضحاك. وقال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال: ربك يقرئك السلام. وقد مضى هذا في سورة "النحل" عند قوله تعالى: "الذين تتوفاهم الملائكة طيبين" [النحل: 32]. الثاني عند مساءلته في القبر يسلم عليه منكر ونكير. الثالث عند بعثه في القيامة تسلم عليه الملائكة قبل وصوله إليها.
قلت: وقد يحتمل أن تسلم عليه في المواطن الثلاثة ويكون ذلك إكراما بعد إكرام. والله أعلم. وجواب "إن" عند المبرد محذوف التقدير مهما يكن من شيء "فسلام لك من أصحاب اليمين" إن كان من أصحاب اليمين" فسلام لك من أصحاب اليمين" فحذف جواب الشرط لدلالة ما تقدم عليه، كما حذف الجواب في نحو قولك أنت ظالم إن فعلت، لدلالة ما تقدم عليه. ومذهب الأخفش أن الفاء جواب "أما" و"إن"، ومعنى ذلك أن الفاء جواب "أما" وقد سدت مسد جواب "إن" على التقدير المتقدم، والفاء جواب لهما على هذا الحد. ومعنى "أما" عند الزجاج: الخروج من شيء إلى شيء، أي دع ما كنا فيه وخذ في غيره.
قوله تعالى: "وأما إن كان من المكذبين" بالبعث "الضالين" عن الهدى وطريق الحق "فنزل من حميم" أي فلهم رزق من حميم، كما قال: "ثم إنكم أيها الضالون المكذبون. لآكلون" وكما قال: "ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم" [الصافات: 67] "وتصلية جحيم" إدخال في النار. وقيل: إقامة في الجحيم ومقاساة لأنواع عذابها، يقال: أصلاه النار وصلاه، أي جعله يصلاها والمصدر ههنا أضيف إلى المفعول، كما يقال: لفلان إعطاء مال أي يعطى المال. وقرئ "وتصلية" بكسر التاء أي ونزل من تصلية جحيم. ثم أدغم أبو عمرو التاء في الجيم وهو بعيد. "إن هذا لهو حق اليقين" أي هذا الذي قصصناه محض اليقين وخالصه. وجاز إضافة الحق إلى اليقين وهما واحد لاختلاف لفظهما. قال المبرد: هو كقولك عين اليقين ومحض اليقين، فهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه عند الكوفيين. وعند البصريين حق الأمر اليقين أو الخبر اليقين. وقيل: هو توكيد. وقيل: أصل اليقين أن يكون نعتا للحق فأضيف المنعوت إلى النعت على الاتساع والمجاز، كقوله: "ولدار الآخرة" [يوسف: 109] وقال قتادة في هذه الآية: إن الله ليس بتارك أحدا من الناس حتى يقفه على اليقين من هذا القرآن، فأما المؤمن فأيقن في الدنيا فنفعه ذلك يوم القيامة، وأما الكافر فأيقن يوم القيامة حين لا ينفعه اليقين. "فسبح باسم ربك العظيم" أي نزه الله تعالى عن السوء. والباء زائدة أي سبح اسم ربك، والاسم المسمى. وقيل: "فسبح" أي فصل بذكر ربك وبأمره. وقيل: فاذكر اسم ربك العظيم وسبحه. وعن عقبة بن عامر قال: لما نزلت "فسبح باسم ربك العظيم" قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اجعلوها في ركوعكم) ولما نزلت "سبح اسم ربك الأعلى" [الأعلى: 1] قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اجعلوها في سجودكم) خرجه أبو داود. والله أعلم.
سورة الحديد
مقدمة السورة
عن العرباض بن سارية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بالمسبحات قبل أن يرقد ويقول: (إن فيهن آية أفضل من ألف آية) يعني بالمسبحات "الحديد" و"الحشر" و"الصف" و"الجمعة" و"التغابن".
الآية: 1 - 3 {سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم، له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم}
قوله تعالى: "سبح لله ما في السماوات والأرض" أي مجد الله ونزهه عن السوء. وقال ابن عباس: صلى لله "ما في السموات" ممن خلق من الملائكة "والأرض" من شيء فيه روح أولا روح فيه. وقيل: هو تسبيح الدلالة. وأنكر الزجاج هذا وقال: لو كان هذا تسبيح الدلالة وظهور آثار الصنعة لكانت مفهومة، فلم قال: "ولكن لا تفقهون تسبيحهم" [الإسراء: 44] وإنما هو تسبيح مقال. واستدل بقوله تعالى: "وسخرنا مع داود الجبال يسبحن" [الأنبياء: 79] فلو كان هذا تسبيح دلالة فأي تخصيص لداود ؟!
قلت: وما ذكره هو الصحيح، وقد مضى بيانه والقول فيه في "الإسراء" عند قوله تعالى: "وإن من شيء إلا يسبح بحمده" [الإسراء: 44] "وهو العزيز الحكيم".
قوله تعالى: "له ملك السماوات والأرض" أي أنفرد بذلك. والملك عبارة عن الملك ونفوذ الأمر فهو سبحانه الملك القادر القاهر. وقيل: أراد خزائن المطرو النبات وسائر الرزق. "يحي ويميت" يميت الأحياء في الدنيا ويحي الأموات للبعث. وقيل: يحيي النطف وهي موات وحيث الأحياء. وموضع "يحيي ويميت" رفع على معنى وهو يحي ويميت. ويجوز أن يكون نصبا بمعنى "له ملك السموات والأرض" محييا ومميتا على الحال من المجرور في "له" والجار عاملا فيها. "وهو على كل شيء قدير" أي هو الله لا يعجزه شيء.
قوله تعالى: "هو الأول والآخر والظاهر والباطن" اختلف في معاني هذه الأسماء وقد بيناها في الكتاب الأسنى. وقد شرحها رسول الله صلى الله عليه وسلم شرحا يغني عن قول كل قائل، فقال في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين وأغننا من الفقر) عنى بالظاهر الغالب، وبالباطن العالم، والله أعلم. "وهو بكل شيء عليم" بما كان أو يكون فلا يخفى عليه شيء.