تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 537 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 537

536

ثم ذكر سبحانه المقسم عليه فقال: 77- "إنه لقرآن كريم" أي كرمه الله وأعزه ورفع قدره على جكميع الكتب، وكرمه عن أن يكون سحراً أو كهانة أو كذباً، وقيل إنه كريم لما فيه من كرم الأخلاق ومعالي الأمور، وقيل لأنه يكرم حافظه ويعظم قارئه. وحكى الواحدي عن أهل المعاني أن وصف القرآن بالكريم، لأن من شأنه أن يعطي الخير الكثير بالدلائل التي تؤدي إلى الحق في الدين. قال الأزهري: الكريم اسم جامع لما يحمد، والقرآن كريم يحمد لما فيه من الهدى والبيان والعلم والحكمة.
78- "في كتاب مكنون" أي مستور مصون، وقيل محفوظ عن الباطل، وهو اللوح المحفوظ قاله جماعة، وقيل هو كتاب. وقال عكرمة: هو التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن ومن ينزل عليه، وقال السدي: هو الزبور. وقال مجاهد وقتادة: هو المصحف الذي في أيدينا.
79- "لا يمسه إلا المطهرون" قال الواحدي: أكثر المفسرين على أن الضمير عائد إلى الكتاب المكنون: أي لا يمس الكتاب المكنون إلا المطهرون، وهم الملائكة، وقيل هم الملائكة والرسل من بني آدم، ومعنى لا يمسه المس الحقيقي، وقيل معناه: لا ينزل به إلا المطهرون، وقيل معناه: لا يقرأه، وعلى كون المراد بالكتاب المكنون هو القرآن، فقيل "لا يمسه إلا المطهرون" من الأحداث والأنجاس. كذا قال قتادة وغيره: وقال الكلبي المطهرون من الشرك. وقال الربيع بن أنس: المطهرون من الذنوب والخطايا. وقال محمد بن الفضل وغيره: معنى لا يمسه: أي المؤمنون. وقال الحسين بن الفضل: لا يعرف تفسيره وتأويله إلا من طهره الله من الشرك والنفاق. وقد ذهب الجمهور إلى منع المحدث من مس المصحف، وبه قال علي وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي. وروي عن ابن عباس والشعبي وجماعة منهم أبو حنيفة، أنه يجوز للمحدث مسه، وقد أوضحنا ما هو الحق في هذا في شرحنا للمنتقى فليرجع إليه. قرأ الجمهور "المطهرون" بتخفيف الطاء وتشديد الهاء مفتوحة اسم مفعول. وقرأ سلمان الفارسي بكسر الهاء على أنه اسم فاعل: أي المطهرون أنفسهم. وقرأ نافع بن عمرو في رواية عنهما، عيسى بن عمر بسكون الطاء وفتح الهاء خفيفة، اسم مفعول من أطهر، وقرأ الحسن وزيد بن علي وعبد الله بن عوف بتشديد الطاء وكسر الهاء وأصله المتطهرون.
80- "تنزيل من رب العالمين" قرأ الجمهور بالرفع، وقرئ بالنصب، فالرفع على أنه صفة أخرى لقرآن، أو خبر مبتدأ محذوف، والنصب على الحال.
81- "أفبهذا الحديث أنتم مدهنون" الإشارة إلى القرآن المنعوت بالنعوت السابقة، والمدهن والمداهن المنافق. كذا قال الزجاج وغيره. وقال عطاء وغيره: هو الكذاب. وقال مقاتل بن سليمان وقتادة: مدهنون كافرون، كما في قوله: "ودوا لو تدهن فيدهنون" وقال الضحاك: مدهنون معرضون، وقال مجاهد: ممالئون للكفار على الكفر، وقال أبو كيسان: المدهن الذي لا يعقل حق الله عليه ويدفعه بالعلل. والأول أولى لأن أصل المدهن الذي ظاهره خلاف باطنه كأنه يشبه الدهن في سهولته. قال المؤرج: المدهن المنافق الذي يلين ليخفي كفره، والإدهان والمداهنة: التكذيب والكفر والنفاق. وأصله اللين، وأن يسر خلاف ما يظهر، وقال في الكشاف مدهنون: أي متهاونون به كمن يدهن في الأمر: أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاوناً به انتهى. قال الراغب: والإدهان في الأصل مثل التدهين لكن جعل عبارة عن المداراة والملاينة، وترك الجد: كما جعل التقريد، وهو نزع القراد عبارة عن ذلك، ويؤيد ما ذكره قول أبي قيس بن الأسلت: الحزم والقوة خير من الـ إدهان والعهه والهاع
82- "وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون" في الكلام مضاف محذوف، كما حكاه الواحدي عن المفسرين: أي تجعلون شكر رزقكم أنكم تكذبون بنعمة الله فتضعون التكذيب موضع الشكر. وقال الهيثم: إن أزدشنوءة يقولون ما رزق فلان: أي ما شكر، وعلى هذه اللغة لا يكون في الآية مضاف محذوف بل معنى الرزق الشكر. ووجه التعبير بالرزق عن الشكر أن الشكر يفيض زيادة الرزق فيكون الشكر رزقاً تعبيراً بالسبب عن المسبب، ومما يدخل تحت هذه الآية قول الكفار إذا سقاهم الله، وأنزل عليهم المطر: سقينا بنوء كذا، ومطرنا بنوء كذا قل الأزهري: معنى الآية وتجعلون بدل شكركم رزقكم الذي رزقكم الله التكذيب بأنه من عند الله الرزاق. وقرأ علي وابن عباس وتجعلون شكركم وقرأ الجمهور "أنكم تكذبون" بالتشديد من التكذيب، وقرأ علي وعاصم في رواية عنه بالتخفيف من الكذب.
83- "فلولا إذا بلغت الحلقوم" أي فهلاً إذا بلغت الروح أو النفس الحلقوم عند الموت، ولم يتقدم لها ذكر، لأن المعنى مفهوم عندهم إذا جاءوا بمثل هذه العبارة، ومنه قول حاتم طي: أماوي ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
84- "وأنتم حينئذ تنظرون" إلى ما هو فيه ذلك الذي بلغت نفسه أو روحه الحلقوم. قال الزجاج: وأنتم يا أهل الميت في تلك الحال ترون الميت قد صار إلى أن تخرج نفسه، والمعنى أنهم في تلك الحال لا يمكنهم الدفع عنه، ولا يستطيعون شيئاً ينفعه أو يخفف عنه ما هو فيه.
85- "ونحن أقرب إليه منكم" أي بالعلم والقدرة والرؤية، وقيل أراد ورسلنا الذين يتولون قبضه أقرب إليه منكم "ولكن لا تبصرون" أي لا تدركون ذلك لجهلكم بأن الله أقرب إلى عبده من حبل الوريد، أو لا تبصرون ملائكة الموت الذين يحضرون الميت ويتولون قبضه.
86- " فلولا إن كنتم غير مدينين * ترجعونها " يقال دان السلطان رعيته: إذا ساسهم واستعبدهم. قال الفراء: دنته ملكته، وأشد للحطيئة: لقد دنت أمر بنيك حتى تركتهم أدق من الطحين أي ملكت، ويقال دانه: إذا أذله واستعبده، وقيل معنى مدينين محاسبين، وقيل مجزيين، ومنه قول الشاعر: ولم يبق سوى العدوا ن دناهم كما دنوا والمعنى الأول أصق بمعنى الآية: أي فهلا إن كنتم غير مربوبين وملوكين ترجعونها: أي النفس التي قد بلغت الحلقوم إلى مقرها الذي كانت فيه.
87- "إن كنتم صادقين" ولن ترجعوها فبطل زعمكم إنكم غير مربوبين ولا مملوكين، والعامل في قوله إذا بلغت هو قوله ترجعونها، ولولا الثانية تأكيد للأولى قال الفراء: وربما أعادت العرب الحرفين ومعناهما واحد.
ثم ذكر سبحانه طبقات الخلق عند الموت وبعده فقال: 88- "فأما إن كان من المقربين" أي السابقين من الثلاثة الأصناف المتقدم تفصيل أحوالهم.
89- " فروح وريحان وجنة نعيم " وقرأ الجمهور " روح " بفتح الراء، ومعناه الراحة من الدنيا والاستراحة من أحوالهم. وقال الحسن: الروح الرحمة. وقال مجاهد: الروح الفرح وقرأ ابن عباسء وعائشة والحسن وقتادة ونصر بن عاصم والجحدري " فروح " بضم الراء، ورويت هذه القراءة عن يعقوب، قيل وسعيد بن جبير ومقاتل. قال مقاتل: هو الرزق بلغة حمير، يقال خرجت أطلب ريحان الله: أي رزقه، ومنه قول النمر بن تولب. سلامالإله وريحانه ورحمته وسماء درر وقال قتادة: إنه الجنة. وقال الضحاك: هو الرحمة. وقال الحسن: هو الريحان المعروف الذي يشم. قال قتادة والربيع بن خثيم: هذا عند الموت، والجنة مخبوءة له إلى أن يبعث، وكذا قال أبو الجوزاء وأبو العالية، ومعنى وجنة نعيم أنها ذات تنعم، وارتفاع روح وما بعده على الابتداء، والخبر محذوف: أي فله روح.
90- "وأما إن كان" ذلك المتوفى "من أصحاب اليمين" وقد تقدم ذكر وتفصيل أحوالهم وما أعده الله لهم من الجزاء.
91- "فسلام لك من أصحاب اليمين" أي لست ترى فيهم إلا ما تحب من السلامة فلا تهتم بهم فإنه يسلمون من عذاب الله، وقيل المعنى: سلام لك منهم: أي أنت سالم من الاغتمام بهم، وقيل المعنى: إنهم يدعون لك ويسلمون عليك، وقيل إنه صلى الله عليه وسلم يحيي بالسلام إكراماً، وقيل هو إخبار من الله سبحانه بتسليم بعضهم على بعض، وقيل المعنى: سلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين.
92- "وأما إن كان من المكذبين الضالين" أي المكذبين بالبعث الضالين عن الهدى، وهم أصحاب الشمال المتقدم ذكرهم، وتفصيل أحوالهم.
93- "فنزل من حميم" أي فله نزل يعد لنزوله من حميم، وهو الماء الذي قد تناهت حرارته، وذلك بعد أن يأكل من الزقوم كما تقدم بيانه.
94- "وتصلية جحيم" يقال أصلاه النار وصلاه: أي إذا جعله في النار، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول، أو إلى المكان. قال المبرد: وجواب الشرط في هذه الثلاثة المواضع محذوف والتقدير: مهما يكن من شيء فروح الخ. وقال الأخفش: إن الفاء في المواضع الثلاثة هي جواب أما وجواب حرف الشرط. قرأ الجمهور "وتصلية" بالرفع عطفاً علي فنزل. وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بالجر عطفاً على حميم: أي فنزل من حميح ومن تصلية جحيم.
95- "إن هذا لهو حق اليقين" الإشارة إلى ما ذكر في هذه السورة، أو إلى المذكور قريباً من أحوال المتفرقين لهو حق اليقين: أي محض اليقين وخالصه، وإضافة حق إلى اليقين من باب إضافة الشيء إلى نفسه. قال المبرد: هو كقولك عن اليقين ومحض اليقين، هذا عند الكوفيين وجوزوا ذلك لاختلاف اللفظ، وأما البصريون فيجعلون المضاف إليه محذوفاً، والتقدير: حق الأمر اليقين أو الخبر اليقين.
والفاء في 96- "فسبح باسم ربك العظيم" لترتيب ما بعدها على ما قبلها: أي نزهه عما لا يليق بشأنه، والباء متعلقة بمحذوف: أي فسبح ملتبساً باسم ربك للتبرك به. وقيل المعنى: فصل بذكر ربك، وقيل الباء زائدة، والاسم بمعنى الذات. وقيل هي للتعدية لأن سبح يتعدى بنفسه تارة ويتعدى بالحرف أخرى، والأول أولى. وقد أخرج النسائي وابن جرير ومحمد بن نصر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة، ثم فرق في السنين، وفي لفظ: ثم نزل من السماء الدنيا إلى الأرض نجوماً، ثم قرأ "فلا أقسم بمواقع النجوم". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير ومحمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عنه "فلا أقسم بمواقع النجوم" قال القرآن "وإنه لقسم لو تعلمون عظيم" قال: القرآن. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً في الآية قال: نجوم القرآن حين ينزل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في المعرفة من طرق عن ابن عباس أيضاً "لا يمسه إلا المطهرون" قال: الكتاب المنزل في السماء لا يمسه إلا الملائكة. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن أنس "لا يمسه إلا المطهرون" قال: الملائكة. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن علقمة قال: أتينا سلمان الفارسي فخرج علينا من كنيف، فقلنا له: لو توضأت يا أيا عبد الله ثم قرأت علينا سورة كذا وكذا، قال: إنما قال الله " في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون " وهو الذي في السماء لا يمسه إلا الملائكة، ثم قرأ علينا من القرآن ما شئنا. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي داود وابن المنذر عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه قال في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: لا تمس القرآن إلا على طهر. وأخرجه مالك في الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر. وأخرجه أبو داود في المراسيل من حديث الزهري قال: قرأ في صحيفة عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ولا يمس القرآن إلا طاهر" وقد أسنده الدارقطني عن عمرو بن حزم وعبد الله بن عمرو وعثمان بن أبي العاص، وفي أسانيدها نظر. وأخرج ابن المنذر عن ابن عمر أنه كان لا يمس المصحف إلا متوضئاً. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر والحاكم وصححه عن عبد الرحمن بن زيد قال: كنا مع سلمان فانطلق إلى حاجة، فتوارى عنا ثم خرج إلينا، فقلنا: لو توضأت فسألناك عن أشياء من القرآن، فقال: سلوني، فإني لن أمسه إنما يمسه المطهرون ثم تلا "لا يمسه إلا المطهرون". وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يمس القرآن إلا طاهر" وأخرج ابن مردويه عن معاذ بن جبل: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن كتب له في عهده: أن لا يمس القرآن إلا طاهر". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أنتم مدهنون" قال: مكذبون. وأخرج مسلم وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال "مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر، قالوا: هذه رحمة وضعها الله. وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا. فنزلت هذه الآية "فلا أقسم بمواقع النجوم" حتى بلغ "وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون"" وأصل الحديث بدون ذكر أنه سبب نزول الآية ثابت في الصحيحين من حديث ومعنى هذه القرىءة الرحمة لأنها كالحياة للمرحوم، والريحان: الرزق في الجنة، قاله مجاهد زيد بن خالد الجهني. ومن حديث أبي سعيد الخدري. وفي الباب أحاديث. وأخرج أحمد وابن منيع وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه. والضياء في المختارة عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون" قال: شكركم، تقولون مطرنا بنوء كذا وكذا وبنجم كذا وكذا. وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن عائشة قالت: ما فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن إلا آيات يسيرة قوله: "وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون" قال: شكركم. وأخرج ابن مردويه عن علي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ " وتجعلون رزقكم "" وأخرج أبو عبيد في فضائله وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس أنه كان يقرأ وتجعلون شكركم قال: يعني الأنواء وما مطر قوم إلا أصبح كافرا كانوا يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا، فأنزل الله وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون. وأخرج ابن مردويه عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي أنه قرأ وتجعلون شكركم وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأها كذلك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "غير مدينين" قال: غير محاسبين. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر عن الربيع بن خيثم "فأما إن كان من المقربين" الآية قال: هذا له عند الموت "وجنة نعيم" تخبأ له الجنة إلى يوم يبعث " وأما إن كان من المكذبين الضالين * فنزل من حميم " قال: هذا عند الموت "وتصلية جحيم" قال: تخبأ له الجحيم إلى يوم البعث. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فروح" قال: رائحة "وريحان" قال: استراحة. وأخرج ابن جرير عنه قال: يعني بالريحان المستريح من الدنيا "وجنة نعيم" يقول: مغفرة ورحمة. وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً قال: الريحان الرزق. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضاً في قوله: "فسلام لك من أصحاب اليمين" قال: تأتيه الملائكة بالسلام من قبل الله تسلم عليه وتخبره أنه من أصحاب اليمين. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً "إن هذا لهو حق اليقين" قال: ما قصصنا عليك في هذه السورة. وأخرج عنه أيضاً "فسبح باسم ربك العظيم" قال: فصل لربك. وأخرج سعيد بن منصور وأحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عقبة بن عامر الجهني قال "لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم " فسبح باسم ربك العظيم " قال: اجعلوها في ركوعكم، فلما نزلت "سبح اسم ربك الأعلى" قال: اجعلوها في سجودكم". سورة الحديد هي تسع وعشرون آية وهي مدنية. قال القرطبي: في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الحديد بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج الطبراني وابن مردويه قال السيوطي بسند ضعيف عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نزلت سورة الحديد يوم الثلاثاء، وخلق الله الحديد يوم الثلاثاء، وقتل ابن آدم أخاه يوم الثلاثاء، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحجامة يوم الثلاثاء". وأخرج الديلمي عن جابر مرفوعاً "لا تحتجموا يوم الثلاثاء، فإن سورة الحديد أنزلت علي يوم الثلاثاء" وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن العرباض بن سارية "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد وقال: إن فيهن آية أفضل من ألف آية". وفي إسناده بقية بن الوليد وفيه مقال معروف. وقد أخرجه النسائي عن خالد بن معدان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر العرباض بن سارية، فهو مرسل. وأخرج ابن الضريس عن يحيى بن أبي كثير قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ المسبحات، وكان يقول: إن فيهن آية أفضل من ألف آية" قال يحيى: فنراها الآية التي في آخر الحشر. وقال ابن كثير في تفسيره: والآية المشارة إليها والله أعلم هي قوله: "هو الأول والآخر والظاهر والباطن" الآية والمسبحات المذكورة هي: الحديد والحشر، والصف، والجمعة، والتغابن. قوله: 1- "سبح لله ما في السموات والأرض" أي نزهه ومجده. قال المقاتلان: يعني كل شيء من ذي روح وغيره، وقد تقدم الكلام في تسبيح الجمادات عند تفسير قوله: "وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم" والمراد بالتسبيح المسند إلى ما في السموات والأرض من العقلاء وغيرهم والحيوانات والجمادات هو ما يعم التسبيح بلسان المقال كتسبيح الملائكة والإنس والجن، وبلسان الحال كتسبيح غيرهم، فإن كل موجود يدل على الصانع. وقد أنكر الزجاج أن يكون تسبيح غير العقلاء هو تسبيح الدلالة وقال: لو كان هذا تسبيح الدلالة وظهور آثار الصنعة لكانت مفهومة، فلم قال: "ولكن لا تفقهون تسبيحهم" وإنما هو تسبيح مقال، واستدل بقوله: "وسخرنا مع داود الجبال يسبحن" فلو كان هذا التسبيح من الجبال تسبيح دلالة لم يكن لتخصيص داود فائدة، وفعل التسبيح قد يتعدى بنفسه تارة، كما في قوله: "وسبحوه" وباللام أخرى كهذه الآية، وأصله أن يكون متعدياً بنفسه، لأن معنى سبحته: بعدته عن السوء، فإذا استعمل باللام فهي إما مزيدة للتأكيد كما في شكرته وشكرت له، أو هي للتعليل: أي افعل التسبيح لأجل الله سبحانه خالصاً له، وجاء هذا الفعل في بعض الفواتح ماضياً كهذه الفاتحة، وفي بعضها مضارعاً، وفي بعضها أمراً للإشارة إلى أن هذه الأشياء مسبحة في كل الأوقات لا يختص تسبيحها بوقت دون وقت، بل هي مسبحة أبداً في الماضي وستكون مسبحة أبداً في المستقبل "وهو العزيز" أي القادر الغالب الذي لا ينازعه أحد ولا يمانعه ممانع كائناً ما كان "الحكيم" الذي يفعل أفعال الحكمة والصواب.
2- "له ملك السموات والأرض" يتصرف فيه وحده ولاينفذ غير تصرفه وأمره، وقيل أراد خزائن المطر والنبات وسائر الأرزاق "يحيي ويميت" الفعلان في محل رفع على أنهما خبر لمبتدأ محذوف، أو في محل نصب على الحال من ضمير له، أو كلام مستأنفة لبيان بعض أحكام الملك، والمعنى: أنه يحيي في الدنيا ويميت الأحياء، وقيل يحيي النطف وهي موات ويميت الأحياء، وقيل يحيي الأموات للبعث "وهو على كل شيء قدير" لا يعجزه شيئ كائناً ما كان.
3- "هو الأول" قبل كل شيء "والآخر" بعد كل شيء: أي الباقي بعد فناء خلقه "والظاهر" العالي الغالب على كل شيء، أو الظاهر وجوده بالأدلة الواضحة "والباطن" أي العالم بما بطن، ومن قولهم فلان يبطن أمر فلان: أي يعلم داخلة أمره، ويجوز أن يكون المعنى المحتجب عن الأبصار والعقول، وقد فسر هذه الأسماء الأربعة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي، فيتعين المصير إلى ذلك "وهو بكل شيء عليم" لا يعزب عن علمه شيء من المعلومات.