تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 555 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 555

555- تفسير الصفحة رقم555 من المصحف
الآية: 5 {وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون}
قوله تعالى: "وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله" لما نزل القرآن بصفتهم مشى إليهم عشائرهم وقالوا: افتضحتم بالنفاق فتوبوا إلى رسول الله من النفاق، واطلبوا أن يستغفر لكم. فلووا رؤوسهم؛ أي حركوها استهزاء وإباء؛ قال ابن عباس. وعنه أنه كان لعبدالله بن أبي موقف في كل سبب يحض على طاعة الله وطاعة رسوله؛ فقيل له: وما ينفعك ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم غضبان: فأته يستغفر لك؛ فأبى وقال: لا أذهب إليه. وسبب نزول هذه الآيات أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بني المصطلق على ماء يقال لـ "المريسيع" من ناحية "قديد" إلى الساحل، فأزدحم أجير لعمر يقال له: "جهجاه" مع حليف لعبدالله بن أبي يقال له: "سنان" على ماء "بالمشلل"؛ فصرخ جهجاه بالمهاجرين، وصرخ سنان بالأنصار؛ فلطم جهجاه سنانا فقال عبدالله بن أبي: أوقد فعلوها! والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز - يعني أبيا - الأذل؛ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. ثم قال لقومه: كفوا طعامكم عن هذا الرجل، ولا تنفقوا على من عنده حتى ينفضوا ويتركوه. فقال زيد بن أرقم - وهو من رهط عبدالله - أنت والله الذليل المنتقص في قومك؛ ومحمد صلى الله عليه وسلم في عز من الرحمن ومودة من المسلمين، والله لا أحبك بعد كلامك هذا أبدا. فقال عبدالله: اسكت إنما كنت ألعب. فأخبر زيد النبي صلى الله عليه وسلم بقول: فأقسم بالله ما فعل ولا قال؛ فعذره النبي صلى الله عليه وسلم. قال زيد: فوجدت في نفسي ولا مني الناس؛ فنزلت سورة النافقين في تصديق زيد وتكذيب عبدالله. فقيل لعبدالله: قد نزلت فيك آيات شديدة فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر لك؛ فألوى برأسه، فنزلت الآيات. خرجه البخاري ومسلم والترمذي بمعناه. وقد تقدم أول السورة. وقيل: "يستغفر لكم" يستتبكم من النفاق؛ لأن التوبة استغفار.
قوله تعالى: "ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون" أي يعرضون عن الرسول متكبرين عن الإيمان. وقرأ نافع "لووا" بالتخفيف. وشدد الباقون؛ واختاره أبو عبيد وقال: هو فعل لجماعة. النحاس: وغلط في هذا؛ لأنه نزل في عبدالله بن أبي لما قيل له: تعال يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم حرك رأسه استهزاء. فإن قيل: كيف أخبر عنه بفعل الجماعة؟ قيل له: العرب تفعل هذا إذا كنت عن الإنسان. أنشد سيبويه لحسان:
ظننتم بأن يخفي الذي قد صنعتم وفينا رسول عنده الوحي واضعه
وإنما خاطب حسان ابن الأبيرق في شيء سرقه بمكة. وقصته مشهورة. وقد يجوز أن يخبر عنه وعمن فعل فعله. وقيل: قال ابن أبي لما لوى رأسه: أمرتموني أن أومن فقد آمنت، وأن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت؛ فما بقي إلا أن أسجد لمحمد.
الآية: 6 {سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين}
قوله تعالى: "سواء عليهم أاستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم" يعني كل ذلك سواء، لا ينفع استغفارك شيئا؛ لأن الله لا يغفر لهم. نظيره: "سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون" [البقرة: 6]، "سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين" [الشعراء: 136]. وقد تقدم. "إن الله لا يهدي القوم الفاسقين" أي من سبق في علم الله أنه يموت فاسقا.
الآية: 7 {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون}
قوله تعالى: "هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا
ذكرنا سبب النزول فيما تقدم. وابن أبي قال: لا تنفقوا علي من عند محمد حتى ينفضوا؛ حتى يتفرقوا عنه. فاعلمهم الله سبحانه أن خزائن السموات والأرض له، ينفق كيف يشاء. قال رجل لحاتم الأصم: من أين تأكل؟ فقال: "ولله خزائن السموات والأرض". وقال الجنيد: خزائن السموات الغيوب، وخزائن الأرض القلوب؛ فهو علام الغيوب ومقلب القلوب. وكان الشبلي يقول: "ولله خزائن السموات والأرض" فأين تذهبون. "ولكن المنافقين لا يفقهون" أنه إذا أراد أمرا يسره.
الآية: 8 {يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون}
القائل ابن أبي كما تقدم. وقيل: إنه لما قال: "ليخرجن الأعز منها الأذل" ورجع إلى المدينة لم يلبث إلا أياما يسيرة حتى مات؛ فاستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألبسه قميصه؛ فنزلت هذه الآية: "لن يغفر الله لهم". وقد مضى بيانه هذا كله في سورة "التوبة" مستوفى. وروي أن عبدالله بن عبدالله بن أبي بن سلول قال لأبيه: والذي لا إله إلا هو لا تدخل المدينة حتى تقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأعز وأنا الأذل؛ فقاله. توهموا أن العزة بكثرة الأموال والأتباع؛ فبين الله أن العزة والمنعة والقوة لله.
الآية: 9 {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون}
حذر المؤمنين أخلاق المنافقين؛ أي لا تشتغلوا بأموالكم كما فعل المنافقون إذ قالوا - للشح بأموالهم - : لا تنفقوا على من عند رسول الله. "عن ذكر الله" أي عن الحج والزكاة. وقيل: عن قراءة القرآن. وقيل: عن إدامة الذكر. وقيل: عن الصلوات الخمس؛ قاله الضحاك. وقال الحسن: جمع الفرائض؛ كأنه قال عن طاعة الله. وقيل: هو خطاب للمنافقين؛ أي آمنتم بالقول فآمنوا بالقلب. "ومن يفعل ذلك" أي من يشتغل بالمال والولد عن طاعة ربه "فأولئك هم الخاسرون".
الآية: 10 - 11 {وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين، ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون}
قوله تعالى: "وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت" يدل على وجوب تعجيل أداء الزكاة، ولا يجوز تأخيرها أصلا. وكذلك سائر العبادات إذا تعين وقتها. "فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين" سأل الرجعة إلى الدنيا ليعمل صالحا. وروى الترمذي عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال: من كان له مال يبلغه حج بيت ربه أو تجب عليه فيه زكاة فلم يفعل، سأل الرجعة عند الموت. فقال رجل: يا ابن عباس، اتق الله، إنما سأل الرجعة الكفار. فقال: سأتلو عليك بذلك قرانا: "يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون. وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين إلى قوله والله خبير بما تعملون" قال: فما يوجب الزكاة؟ قال: إذا بلغ المال مائتين فصاعدا. قال: فما يوجب الحج؟ قال: الزاد والراحلة.
قلت: ذكره الحليمي أبو عبدالله الحسين بن الحسن في كتاب (منهاج الدين) مرفوعا فقال: وقال ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان عنده مال يبلغه الحج...) الحديث؛ فذكره. وقد تقدم في "آل عمران" لفظه.
قال ابن العربي: أخذ ابن عباس بعموم الآية في إنفاق الواجب خاصة دون النفل؛ فأما تفسيره بالزكاة فصحيح كله عموما وتقديرا بالمائتين. وأما القول في الحج ففيه إشكال؛ لأنا إن قلنا: إن الحج على التراخي ففي المعصية في الموت قبل الحج خلاف بين العلماء؛ فلا تخرج الآية عليه. وإن قلنا: إن الحج على الفور فالآية في العموم صحيح؛ لأن من وجب عليه الحج فلم يؤده لقي من الله ما يود أنه رجع ليأتي بما ترك من العبادات. وأما تقدير الأمر بالزاد والراحلة ففي ذلك خلاف مشهور بين العلماء. وليس لكلام ابن عباس فيه مدخل؛ لأجل أن الرجعة والوعيد لا يدخل في المسائل المجتهد فيها ولا المختلف عليها، وإنما يدخل في المتفق عليه. والصحيح تناوله للواجب من الإنفاق كيف تصرف بالإجماع أو بنص القرآن؛ لأجل أن ما عدا ذلك لا يتطرق إليه تحقيق الوعيد.
قوله تعالى: "لولا" أي هلا؛ فيكون استفهاما. وقيل: "لا" صلة؛ فيكون الكلام بمعنى التمني. "فأصدق" نصب على جواب التمني بالفاء. "وأكون" عطف على "فأصدق" وهي قراءة ابن عمرو وابن محيصن ومجاهد. وقرأ الباقون "وأكن" بالجزم عطفا على موضع الفاء؛ لأن قوله: "فأصدق" لو لم تكن الفاء لكان مجزوما؛ أي أصدق. ومثله: "من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم" [الأعراف: 186] فيمن جزم. قال ابن عباس: هذه الآية أشد على أهل التوحيد؛ لأنه لا يتمنى الرجوع في الدنيا أو التأخير فيها أحد له عند الله خير في الآخرة.
قلت: إلا الشهيد فإنه يتمنى الرجوع حتى يقتل، لما يرى من الكرامة. "والله خبير بما تعملون" من خير وشر. وقراءة العامة بالتاء على الخطاب. وقرأ أبو بكر عن عاصم والسلمي بالياء؛ على الخبر عمن مات وقال هذه المقالة.