تفسير الطبري تفسير الصفحة 555 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 555
556
554
 الآية : 5
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّهِ لَوّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدّونَ وَهُم مّسْتَكْبِرُونَ .
يقول تعالى ذكره: وإذا قيل لهؤلاء المنافقين: تعالوا إلى رسول الله يستغفر لكم لوّوا رؤوسهم, يقول: حرّكوها وهزّوها استهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم وباستغفاره وبتشديدها الواو من «لوّوا» قرأت القرّاء على وجه الخبر عنهم أنهم كرّروا هز رؤوسهم وتحريكها, وأكثروا, إلاّ نافعا فإنه قرأ ذلك بتخفيف الواو: «لوَوْا» على وجه أنهم فعلوا ذلك مرّة واحدة.
والصواب من القول في ذلك قراءة من شدّد الواو لإجماع الحجة من القرّاء عليه.
وقوله: ورأيْتَهُمْ يَصُدّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ يقول تعالى ذكره: ورأيتهم يُعْرضون عما دُعوا إليه وجوههم وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ يقول: وهم مستكبرون عن المصير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم وإنما عُنِي بهذه الاَيات كلها فيما ذُكر عبدُ الله بن أُبيّ ابن سَلُول, وذلك أنه قال لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضّوا, وقال: لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الأعَزّ مِنْها الأذَلّ فسمع بذلك زيد بن أرقم, فأخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم, فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فسأله عما أخبر به عنه, فحلف أنه ما قاله, وقيل له: لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فسألته أن يستغفر لك, فجعل يلوي رأسه ويحرّكه استهزاء, ويعني ذلك أنه غير فاعل ما أشاروا به عليه, فأنزل الله عزّ وجلّ فيه هذه السورة من أوّلها إلى آخرها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وجاءت الأخبار. ذكر الرواية التي جاءت بذلك:
26418ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا يحيى بن آدم, قال: حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن زيد بن أرقم, قال: خرجت مع عمي في غزاة, فسمعت عبد الله بن أُبي ابن سلول يقول لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضّوا, لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ قال: فذكرت ذلك لعمي, فذكره عمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فأرسل إليّ, فحدثته, فأرسل إلى عبد الله عليّا رضي الله عنه وأصحابه, فحلفوا ما قالوا, قال: فكذّبني رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدّقه, فأصابني همّ لم يصبني مثله قطّ فدخلت البيت, فقال لي عمي: ما أردت إلى أن كذّبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك, قال: حتى أنزل الله عزّ وجلّ إذَا جاءَكَ المُنافِقُونَ قال: فبعث إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقرأها, ثم قال: «إن الله عَزّ وَجَلّ قَدْ صَدّقَكَ يا زيد».
26419ـ حدثنا أبو كُرَيب والقاسم بن بشر بن معروف, قال: حدثنا يحيى بن بكير, قال: حدثنا شعبة, قال الحكم: أخبرني, قال: سمعت محمد بن كعب القرظيّ قال: سمعت زيد بن أرقم قال: لما قال عبد الله بن أُبي ابن سلول ما قال: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا, وقال: لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ قال: سمعته فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فذكرت ذلك, فلامني ناس من الأنصار, قال: وجاء هو, فحلف ما قال ذلك, فرجعت إلى المنزل فنمت قال: فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بلغني, فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم, فقال: «إنَ اللّهَ تَبَارَكَ وَتَعالى قَد صدّقَكَ وَعَذَرَكَ» قال: فنزلت الاَية هُمُ الّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مِنْ عِنْدْ رَسُولِ اللّهِ... الاَية.
حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا هاشم أبو النضر, عن شعبة, عن الحكم, قال: سمعت محمد بن كعب القرظي, قال: سمعت زيد بن أرقم يحدّث بهذا الحديث.
حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن الحكم, عن محمد بن كعب القرظي, عن زيد بن أرقم, قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة, فقال عبد الله بن أُبي بن سلول: لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الأعَزّ مِنْها الأذَلّ قال: فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته, فحلف عبد الله بن أُبي انه لم يكن شيء من ذلك, قال: فلامني قومي وقالوا: ما أردتَ إلى هذا, قال: فانطلقت فنمت كئيبا أو حزينا, قال: فأرسل إليّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم, أو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «إنّ اللّهَ قَدْ أنْزَلَ عُذْرَكَ وَصَدّقَكَ», قال: ونزلت هذه الاَية: هُمُ الّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا على مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ حتى يَنْفَضّوا... حتى بلغ لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الأعَزّ مِنْها الأذَلّ.
26420ـ حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا ابن أبي عديّ, قال: أخبرني ابن عون, عن محمد, قال: سمعها زيد بن أرقم فرفعها إلى وليه, قال: فرفعها وَلّيه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم, قال: فقيل لزيد: وَفَتْ أذنك.
26421ـ حدثنا أحمد بن منصور الرّمادّي, قال: حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان, قال: ثني أبي, قال: ثني بشير بن مسلم أنه قيل لعبد الله بن أُبي ابن سلول: يا أبا حباب إنه قد أنزل فيك آي شداد, فأذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك, فلوى رأسه وقال: أمرتموني أن أومن فآمنت, وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فأعطيت, فما بقي إلا أن أسجد لمحمد.
26422ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّهِ لَوّوْا... الاَية كلها قرأها إلى الفاسِقِينَ أنزلت في عبد الله بن أُبي, وذلك أن غلاما من قرابته انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدّثه بحديث عنه وأمر شديد, فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإذا هو يحلف وبتبرأ من ذلك, وأقبلت الأنصار على ذلك الغلام, فلاموه وعَذَلوه وقيل لعبد الله: لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجعل يلوي رأسه: أي لستُ فاعلاً, وكذب عليّ, فأنزل الله ما تسمعون.
26423ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: وَإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّهِ لَوّوْا رُءُوسَهُمْ قال: عبد الله بن أُبي, قيل له: تعالَ ليستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلوى رأسه وقال: ماذا قلت؟.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, قال: قال له قومه: لو أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فاستغفر لك, فجعل يلوي رأسه, فنزلت فيه وَإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّهِ.
الآية : 6
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَـَسِقِينَ .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: سواء يا محمد على هؤلاء المنافقين الذين قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله أستَغْفَرْتَ لَهُمْ ذنوبهم أمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ يقول: لن يصفح الله لهم عن ذنوبهم, بل يعاقبهم عليها إنّ اللّهِ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ يقول: إن الله لا يوفّق للإيمان القوم الكاذبين عليه, الكافرين به, الخارجين عن طاعته. وقد:
26424ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ اسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أمْ لَمْ تَسَتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ قال: نزلت هذه الاَية بعد الاَية التي في سورة التوبة إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرّةً فَلَنْ يَغْفِرَ الله لَهُمْ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «زيادة على سبعين مرّة», فأنزل الله: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ اسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أمْ لَمْ تَسَتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ.
الآية : 7
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {هُمُ الّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىَ مَنْ عِندَ رَسُولِ اللّهِ حَتّىَ يَنفَضّواْ وَلِلّهِ خَزَآئِنُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَـَكِنّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ }.
يقول تعالى ذكره هُمُ الّذِينَ يَقُولُونَ يعني الذين يقولون لأصحابهم لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْد رَسُولِ اللّهِ من أصحابه المهاجرين حتى يَنْفَضّوا يقول: حتى يتفرّقوا عنه.
وقوله: ولِلّهِ خَزَائِنُ السّمَوَاتِ والأْرضِ يقول: ولله جميع ما في السموات والأرض من شيء وبيده مفاتيح خزائن ذلك, لا يقدر أحد أن يعطي أحدا شيئا إلا بمشيته وَلَكِنّ المُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ أن ذلك كذلك, فلذلك يقولون: لا تنفقوا على من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينفضّوا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26425ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: هُمُ الّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا على مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ حتى يَنْفَضّوا قال: لا تطعموا محمد وأصحابه حتى تصيبهم مجاعة, فيتركوا نبيهم.
26426ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة هُمُ الّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا على مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ حتى يَنْفَضّوا قرأها إلى آخر الاَية, وهذا قول عبد الله بن أُبي لأصحابه المنافقين لا تنفقوا على محمد وأصحابه حتى يَدَعوه, فإنكم لولا أنكم تنفقون عليهم لتركوه وَأجلوا عنه.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة هُمُ الّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا على مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ حتى يَنْفَضّوا إن عبد الله بن أُبي ابن سلول قال لأصحابه, لا تنفقوا على من عند رسول الله, فأنكم لو لم تنفقوا عليهم قد انفضوا.
26427ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ حتى يَنْفَضّوا يعني الرّفد والمعونة, وليس يعني الزكاة المفروضة والذين قالوا هذا هم المنافقون.
26428ـ حدثنا الربيع بن سليمان, قال: حدثنا أسد بن موسى, قال: حدثنا يحيى بن أبي زائدة, قال: حدثنا الأعمش عن عمرو بن مُرّة, عن عبد الرحمن بن أبي لَيلى, عن زيد بن أرقم, قال: لما قال ابن أُبي ما قال, أخبرت النبيّ صلى الله عليه وسلم, فجاء فحلف, فجعل الناس يقولون لي تأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكذب؟ حتى جلستُ في البيت مخافة إذا رأوني قالوا: هذا الذي يكذب, حتى أُنزل: هُمُ الّذِينَ يَقُولُونَ.
الآية : 8
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {يَقُولُونَ لَئِن رّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الأعَزّ مِنْهَا الأذَلّ وَلِلّهِ الْعِزّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـَكِنّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }.
يقول تعالى ذكره: يقول هؤلاء المنافقون الذين وصف صفتهم قبل لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الأعَزّ مِنْها الأذَلّ فيها, ويعني بالأعزّ: الأشدّ والأقوى, قال الله جلّ ثناؤه: ولِلّهِ العِزّةُ يعني: الشدّة والقوّة وَلِرَسُولِهِ ولِلْمُوءْمِنِينَ بالله وَلَكِنّ المُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ذلك.
وذُكر أن سبب قيل ذلك عبدُ الله بن أُبي كان من أجل أن رجلاً من المهاجرين كَسَعَ رجلا من الأنصار. ذكر من قال ذلك:
26429ـ حدثني محمد بن معمر, قال: حدثنا أبو عامر, قال: حدثنا زَمْعة, عن عمرو, قال: سمعت جابر بن عبد الله, قال: إن الأنصار كانوا أكثر من المهاجرين, ثم إن المهاجرين كثروا فخرجوا في غزوة لهم, فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار, قال: فكان بينهما قتال إلى أن صرخ: يا معشر الأنصار, وصرخ المهاجر: يا معشر المهاجرين قال: فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم, فقال: «ما لَكُمْ وَلِدعْوَةِ الجاهِلِيّةِ»؟ فقالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار, قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دَعُوها فإنّها مُنْتِنَةٌ», قال: فقال عبد الله بن أُبي ابن سلول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ, فقال عمر: يا رسول الله دعني فأقتله, قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَتَحَدّثُ النّاسُ أنّ رَسُولَ اللّهِ يَقْتُلُ أصْحَابَهُ».
26430ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ... إلى ولِلّهِ العِزّةُ ولِرَسُولِهِ قال: قال ذلك عبد الله بن أُبي ابن سلول الأنصاري رأس المنافقين, وناس معه من المنافقين.
26431ـ حدثني أحمد بن منصور الرمادي قال: حدثنا إبراهيم بن الحكم قال: ثني أبي عن عكرمة أن عبد الله بن عبد الله بن أُبي ابن سلول كان يقال له حباب, فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله, فقال: يا رسول الله إن والدي يؤذي الله ورسوله, فذرني حتى أقتله, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تَقْتُلْ أباكَ عَبْدَ اللّهِ», ثم جاء أيضا فقال: يا رسول الله إن والدي يؤذي الله ورسوله, فذرني حتى أقتله, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تَقْتُلْ أباكَ», فقال: يا رسول الله فتوضأ حتى أسقيه من وضوئك لعلّ قلبه أن يلين, فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه, فذهب به إلى أبيه فسقاه, ثم قال له: هل تدري ما سقيتك؟ فقال له والده نعم, سقيتني بول أمك, فقال له ابنه: لا والله, ولكن سقيتك وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عكرمة: وكان عبد الله بن أُبي عظيم الشأن فيهم. وفيهم أنزلت هذه الاَية في المنافقين: هُمُ الّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ حتى يَنْفَضّوا وهو الذي قال: لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الأعَزّ مِنْها الأذَلّ قال: فلما بلغوا المدينة, مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه, أخذ ابنه السيف, ثم قال لوالده: أنت تزعم «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ», فوالله لا تدخلها حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا الحسين, عن عمرو بن دينار, عن جابر بن عبد الله أن رجلاً من المهاجرين كسع رجلاً من الأنصار برجله وذلك في أهل اليمن شديد فنادى المهاجري يا للمهاجرين, ونادى الأنصاري يا للأنصار قال: والمهاجرون يومئذ أكثر من الأنصار, فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «دَعُوها فإنّها مُنْتِنَةٌ», فقال عبد الله بن أُبي ابن سلول, لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الأعَزّ مِنْها الأذَلّ».
26432ـ حدثني عمران بن بكار الكلاعيّ, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا عليّ بن سليمان, قال: حدثنا أبو إسحاق, أن زيد بن أرقم, أخبره أن عبد الله بن أُبي ابن سلول قال لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ حتى يَنْفَضّوا وقال لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الأعَزّ مِنْها الأذَلّ قال: فحدثني زيد أنه أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول عبد الله بن أُبي, قال: فجاء فحلف عبد الله بن أُبي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال ذلك قال أبو إسحاق: فقال لي زيد, فجلست في بيتي, حتى أنزله الله تصديق زيد, وتكذيب عبد الله في إذا جاءك المنافقون.
26433ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَة لَيُخْرِجَنّ الأعَزّ مِنْها الأذَلّ قرأ الاَية كلها إلى لا يَعْلَمُونَ قال: قد قالها منافق عظيم النفاق في رجلين اقتتلا, أحدهما غفاريّ, والاَخر جُهَنِيّ, فظهر الغفاريّ على الجُهنيّ, وكان بين جُهينة والأنصار حلف, فقال رجل من المنافقين وهو ابن أُبي: يا بني الأوس, يا بني الخزرج, عليكم صاحبكم وحليفكم, ثم قال: والله ما مثلنا ومَثَل محمد إلا كما قال القائل: «سَمّن كلبك يأكلك», والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ, فسعى بها بعضهم إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم, فقال عمر: يا نبيّ الله مُر معاذ بن جبل أن يضرب عنق هذا المنافق, فقال: «لا يتحدّثُ النّاسُ أنّ مُحَمّدا يَقْتُلُ أصحَابَهُ». ذُكر لنا أنه كان أُكْثِر على رجل من المنافقين عنده, فقال: هل يصلي؟ فقال: نعم ولا خير في صلاته, فقال: نُهيت عن المصلين, نُهيت عن المصلين.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, قال: اقتتل رجلان, أحدهما من جُهينة, والاَخر من غفار, وكانت جهينة حليف الأنصار, فظهر عليه الغفاريّ, فقال رجل منهم عظيم النفاق: عليكم صاحبكم, عليكم صاحبكم, فوالله ما مَثُلنا ومَثَل محمد إلا كما قال القائل: «سمّن كلبك يأكلك», أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ وهم في سفر, فجاء رجل ممن سمعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم, فأخبره ذلك, فقال عمر: مُر معاذا يضرب عنقه, فقال: «وَاللّه لا يَتَحَدّثُ النّاسُ أنّ مُحَمّدا يَقْتُلُ أصحَابَهُ», فنزلت فيهم: هُمُ الّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا على مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ.
وقوله: لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الأعَزّ مِنْها الأذَلّ:
26434ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن الحسن أن غلاما جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله إني سمعت عبد الله بن أُبي يقول كذا وكذا قال: «فَلعَلّكَ غَضِبْتَ عَلَيْهِ؟» قال: لا والله لقد سمعته يقوله قال: «فَلَعَلّكَ أخْطأَ سَمْعُكَ؟» قال: لا والله يا نبيّ الله لقد سمعته يقوله قال: فَلَعَلّهُ شُبّهَ عَلَيْكَ», قال: لا والله, قال: فأنزل الله تصديقا للغلام: لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الأعَزّ مِنْها الأذَلّ, فأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم بأذن الغلام, فقال: «وَفَتْ أُذُنُكَ, وَفَتْ أُذُنُكَ يا غُلامُ».
26435ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قول الله لَيُخْرِجَن الأعَزّ مِنْها الأذَل قال: كان المنافقون يسمون المهاجرين: الجلابيب وقال: قال ابن أُبي: قد أمرتكم في هؤلاء الجلابيب أمري, قال: هذا بين أمَجٍ وعُسْفان على الكديد تنازعوا على الماء, وكان المهاجرون قد غلبوا على الماء قال: وقال ابن أُبي أيضا: أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ لقد قلت لكم: لا تنفقوا عليهم, لو تركتموهم ما وجدوا ما يأكلون, ويخرجوا ويهربوا فأتى عمر بن الخطاب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ألا تسمع ما يقول ابن أُبي؟ قال: «وما ذاك؟» فأخبره وقال: دعني أضرب عنقه يا رسول الله, قال: «إذا تَرْعَدُ لَهُ آنُفٌ كَثِيرَةٌ بِيَثْرِب» قال عمر: فإن كرهت يا رسول الله أن يقتله رجل من المهاجرين, فمرّ به سعد بن معاذ, ومحمد بن مسلمة فيقتلانه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّي أكْرَهُ أنْ يَتَحَدّثَ النّاسُ أنّ مُحَمّدا يَقْتُلُ أصحَابَهُ, ادْعُوا لي عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَبْدِ اللّهِ بْن أُبي», فدعاه, فقال: «ألا تَرَى ما يَقُولُ أبُوكَ؟» قال: وما يقول بأبي أنت وأمي؟ قال: «يَقُولُ لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الأعَزّ مِنْها الأذَلّ» فقال: فقد صدق والله يا رسول الله, أنت والله الأعزّ وهو الأذلّ, أما والله لقد قَدِمت المدينة يا رسول الله, وإن أهل يثرب ليعلمون ما بها أحد أبرّ مني, ولئن كان يرضى الله ورسوله أن آتيهما برأسه لاَتِيَنّها به, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا» فلما قَدِموا المدينة, قام عبد الله بن عبد الله بن أُبي على بابها بالسيف لأبيه ثم قال: أنت القائل: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ, أما والله لتعرفنّ العزّة لك أو لرسول الله, والله لا يأويك ظله, ولا تأويه أبدا إلا بإذن من الله ورسوله فقال: يا للخزرج ابني يمنعني بيتي يا للخزرج ابني يمنعني بيتي فقال: والله لا تأويه أبدا إلا بإذن منه فاجتمع إليه رجال فكلموه, فقال: والله لا يدخله إلا بإذن من الله ورسوله, فأتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبروه, فقال: «اذْهَبُوا إلَيْهِ, فَقُولُوا له خَلّهِ ومَسْكَنَه» فأتوه, فقال: أما إذا جاء إمر النبيّ صلى الله عليه وسلم فنعم.
26436ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سَلَمة وعليّ بن مجاهد, عن محمد بن إسحاق, عن عاصم بن عمر بن قتادة, عن عبد الله بن أبي بكر, وعن محمد بن يحيى بن حبان, قال: كلّ قد حدثني بعض حديث بني المصطلق, قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني المصطلق يجمعون له, وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية بنت الحارث زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل, فتزاحف الناس فاقتتلوا, فهزم الله بني المصطلق, وقُتل من قتل منهم, ونفل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم, فأفاءهم الله عليه, وقد أصيب رجل من بني كلب بن عوف بن عامر بن ليث بن بكر, يقال له هشام بن صبابة أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت, وهو يرى أنه من العدوّ, فقتله خطأ, فبينا الناس على ذلك الماء وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له جَهْجاه بن سعيد, يقود له فرسه, فازدحم جَهْجاه وسنان الجُهْنِيّ حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا, فصرخ الجهنيّ: يا معشر الأنصار. وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين, فغضب عبد الله بن أُبي ابن سلول, وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم, غلام حديث السنّ, فقال: قد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا والله ما أعُدّنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل: «سمّن كلبك يأكلك», أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ ثم أقبل على من حضر من قومه, فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم, وقاسمتموهم أموالكم, أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير بلادكم فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وذلك عند فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه, فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله مُر به عباد بن بشر بن وقش فليقتله, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَكَيْفَ يا عُمَرُ إذَا تَحَدّثَ النّاس أن مُحَمّدا يَقْتُلُ أصحَابَهُ, لا, وَلَكِنْ أَذّنْ بالرّحِيلِ», وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها, فارتحل الناس, وقد مشى عبد الله بن أبيّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلغه ما سمع منه, فحلف بالله ما قلت ما قال, ولا تكلمت به وكان عبد الله بن أُبي في قومه شريفا عظيما, فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه من الأنصار: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام أوهم في حديثه, ولم يحفظ ما قال الرجل, حدبا على عبد الله بن أُبي, ودفعا عنه فلما استقلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم, لقيه أسيد بن حضير, فحياه بتحية النبوّة وسلم عليه ثم قال: يا رسول الله لقد رُحتَ في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «أو ما بَلَغَكَ ما قالَ صَاحِبُكُمْ؟» قال: فأيّ صاحب يا رسول الله؟ قال: «عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبيّ», قال: وما قال؟ قال: «زَعمَ أنّهُ إنْ رَجَعَ إلى المَدِينَةِ أخْرَجَ الأعَزّ مِنْها الأذَل» قال أسيد: فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت, هو والله الذليل وأنت العزيز ثم قال: يا رسول الله ارفق به, فوالله لقد جاء الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه, فإنه ليرى أنك قد استلبته مُلكا. ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى, وليلتهم حتى أصبح, وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس, ثم نزل بالناس, فلم يكن إلا أن وجدوا مسّ الأرض وقعوا نياما, وإنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أُبي. ثم راح بالناس وسلك الحجاز حتى نزل على ماء بالحجاز فُويق النقيع, يقال له نقعاء فلما راح رسول الله صلى الله عليه وسلم هبّت على الناس ريح شديدة آذتهم وتخوّفوها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَخافُوا فإنّما هَبّتْ لمَوْتِ عَظِيم مِنْ عُظُماءِ الكُفّارِ» فلما قَدِموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت أحد بني قينقاع وكان من عظماء يهود, وكهفا للمنافقين قد مات ذلك اليوم, فنزلت السورة التي ذكر الله فيها المنافقين في عبد الله بن أُبي ابن سلول, ومن كان معه على مثل أمره, فقال: إذَا جاءَكَ المُنافِقُونَ فلما نزلت هذه السورة أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن زيد فقال: «هَذَا الّذِي أوْفى اللّهَ بأُذُنه», وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أُبي الذي كان من أبيه.
26437ـ حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا سلمة, قال: ثني محمد بن إسحاق, عن عاصم بن عمر بن قتادة أن عبد الله بن عبد الله بن أُبي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أُبي فيما بلغك عنه, فإن كنت فاعلاً, فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه, فوالله لقد علمت الخزرج ما كان فيها رجل أبرّ بوالده مني, وإني أخشى أن تأمر به غيره فيقتله, فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أُبي يمشي في الناس فأقتلَه, فأقتل مؤمنا بكافر, فأدخلَ النارَ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بَلْ نَرْفُقْ بِهِ ونُحسِنْ صُحْبَتَهُ ما بَقِيَ مَعَنا», وجعل بعد ذلك اليوم إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه, ويأخذونه ويعنفونه ويتوعدونه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك عنهم من شأنهم «كَيْفَ تَرَى يا عُمَرُ أما وَاللّهِ لَوْ قَتَلْتُهُ يَوْمَ أمَرْتَنِي بقَتْلِهِ لأَرْعَدَتْ لَهُ آنَفٌ, لَوْ أمَرْتَها اليَوْمَ بقَتْلِهِ لَقَتَلَتْهُ» قال: فقال عمر: قد والله علمت لأمرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري.
الآية : 9
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }.
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله لا تُلْهِكُمْ أمْوَالكُمْ يقول: لا توجب لكم أموالكم وَلا أوْلادُكُمْ اللهو عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وهو من ألهيته عن كذا وكذا, فلها هو يلهو لهوا ومنه قول امرىء القيس:
وَمِثْلكِ حُبْلَى قد طرَقْتُ وَمُرْضِعٍفألْهَيْتُها عَنْ ذِي تَمائمَ مُحْوِلِ
وقيل: عُنِي بذكر الله جلّ ثناؤه في هذا الموضع: الصلوات الخمس. ذكر من قال ذلك:
26438ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن أبي سنان, عن ثابت, عن الضحاك يا آيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أمْوَالُكُمْ وَلا أوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ قال: الصلوات الخمس.
وقوله: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلكَ يقول: ومن يلهه ماله وأولاده عن ذكر الله فأُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ يقول: هم المغبونون حظوظهم من كرامة الله ورحمته تبارك وتعالى.
الآية : 10-11
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَأَنفِقُواْ مِن مّا رَزَقْنَاكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلآ أَخّرْتَنِيَ إِلَىَ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصّدّقَ وَأَكُن مّنَ الصّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخّرَ اللّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وأنفقوا أيها المؤمنون بالله ورسوله من الأموال التي رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول إذا نزل به الموت: يا ربّ هلا أخرتني فتُمْهِلَ لي في الأجل إلى أجل قريب. فأصدّق يقول: فأزكي مالي وأكُنْ مِنَ الصّالِحِينَ يقول: وأعمل بطاعتك, وأؤدّي فرائضك.
وقيل: عنى بقوله وَأكُنْ مِنَ الصالِحِينَ وأحجّ بيتك الحرام. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26439ـ حدثني يونس وسعيد بن الربيع, قال سعيد, حدثنا سفيان, وقال يونس: أخبرنا سفيان, عن أبي جناب عن الضحاك بن مزاحم, عن ابن عباس, قال: ما من أحد يموت ولم يؤدّ زكاة ماله ولم يحجّ إلا سأل الكرّة, فقالوا: يا أبا عباس لا تزال تأتينا بالشيء لا نعرفه قال: فأنا أقرأ عليكم في كتاب الله: وأنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أنْ يأْتِيَ أحَدَكُمْ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبّ لَوْلا أخّرْتَنِي إلى أجَلٍ قَرِيبٍ فأصّدّقَ قال: أؤدي زكاة مالي وأكُنْ مِنَ الصّالِحِينَ قال: أحجّ.
26440ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن أبي سنان, عن رجل, عن الضحاك, عن ابن عباس, قال: ما يمنع أحدكم إذا كان له مال يجب عليه فيه الزكاة أن يزكي, وإذا أطاق الحجّ أن يحجّ من قبل أن يأتيه الموت, فيسأل ربه الكرّة فلا يُعطاها, فقال رجل: أما تتقي الله, يسأل المؤمن الكرّة؟ قال: نعم, أقرأ عليكم قرآنا, فقرأ: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أمْوَالُكُمْ وَلا أوْلادُكُم عَن ذِكْرِ اللّهِ فقال الرجل: فما الذي يوجب عليّ الحجّ, قال: راحلة تحمله, ونفقة تبلغه.
26441ـ حدثنا عباد بن يعقوب الأسديّ وفضالة بن الفضل, قال عباد: أخبرنا يزيد أبو حازم مولى الضحاك.
وقال فضالة: حدثنا بزيع عن الضحاك بن مزاحم في قوله: لَوْلا أخّرْتَنِي إلى أجَلٍ قَرِيبٍ فأصّدّقَ قال: فأتصدّق بزكاة مالي وأكُنْ مِنَ الصّالِحِينَ قال: الحجّ.
26442ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: لا تُلْهِكُمْ أمْوَالُكُمْ وَلا أوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ إلى آخر السورة: هو الرجل المؤمن نزل به الموت وله مال كثير لم يزكه, ولم يحجّ منه, ولم يعط منه حق الله يسأل الرجعة عند الموت فيزكي ماله, قال الله: وَلَنْ يُوءَخّرَ اللّهُ نَفْسا إذَا جاءَ أجَلُها.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله لا تُلْهِكُمْ أمْوَالُكُمْ وَلا أوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ... إلى قوله وأنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أنْ يَأْتي أحَدُكُمْ المَوْتَ قال: هو الرجل المؤمن إذا نزل به الموت وله مال لم يزكه ولم يحجّ منه, ولم يعط حقّ الله فيه, فيسأل الرجعة عند الموت ليتصدّق من ماله ويزكي, قال الله وَلَنْ يُوءَخّرَ اللّهُ نَفْسا إذَا جاءَ أجَلُها.
26443ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان فَأصّدّقَ وأكُنْ مِنَ الصّالِحِينَ قال: الزكاة والحج.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: وأكُنْ مِنَ الصّالِحِينَ فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الأمصار غير ابن محيصن وأبي عمرو: وأكن, جزما عطفا بها على تأويل قوله فأصّدّقَ لو لم تكن فيه الفاء, وذلك أن قوله: فأصّدّقَ لو لم تكن فيه الفاء كان جزما. وقرأ ذلك ابن محيصن وأبو عمرو: «وأكُونَ» بإثبات الواو ونصب «وأكونَ» عطفا به على قوله فأصّدّق فنصب قوله «وأكُونَ» إذ كان قوله فأصّدّقَ نصبا.
والصواب من القول في ذلك: أنهما قراءتان معروفتان, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.
وقوله: وَلَنْ يُوءَخّرَ اللّهُ نَفْسا إذَا جاءَ أجَلُها يقول: لن يؤخر الله في أجل أحد فيمدّ له فيه إذا حضر أجله, ولكنه يخترمه وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ يقول: والله ذو خبرة وعلم بأعمال عبيده هو بجميعها محيط, لا يخفى عليه شيء, وهو مجازيهم بها, المحسنَ بإحسانه, والمسيىء بإساءته.

نهاية تفسير الإمام الطبري لسورة المنافقون