تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 555 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 555

554

5- "وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله" أي إذا قال لهم القائل من المؤمنين قد نزل فيكم ما نزل من القرآن فتوبوا إلى الله ورسوله وتعالوا يستغفر لكم رسول الله "لووا رؤوسهم" أي حركوها استهزاء بذلك. قال مقاتل: عطفوا رؤوسهم رغبة من الاستغفار. قرأ الجمهور "لووا" بالتشديد وقرأ نافع بالتخفيف واختار القراءة الأولى أبو عبيد، "ورأيتهم يصدون" أي يعرضون عن قول من قال لهم: تعالوا يستغفر لكم رسول الله، أو يعرضون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجملة "وهم مستكبرون" في محل نصب على الحال من فاعل الحال الأولى، وهي يصدون، لأن الرؤية بصرية فيصدون في محل نصب على الحال، والمعنى: ورأيتهم صادين مستكبرين.
6- "سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم" أي الاستغفار وعدمه سواء لا ينفعهم ذلك لإصرارهم على النفاق واستمرارهم على الكفر. قرأ الجمهور "أستغفرت" بهمزة مفتوحة من غير مد، وحذف همزة الاستفهام ثقة بدلالة أم عليها. وقرأ يزيد بن القعقاع بهمزة ثم ألف "لن يغفر الله لهم" أي ما داموا على النفاق "إن الله لا يهدي القوم الفاسقين" أي الكاملين في الخروج عن الطاعة والانهماك في معاصي الله، ويدخل فيهم المنافقون دخولاً أولياً.
ثم ذكر سبحانه بعض قبائحهم فقال: 7- "هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا" أي حتى يتفرقوا عنه، يعنون بذلك فقراء المهاجرين، والجملة مستأنفة جارية مجرى التعليل لفسقهم، أو لعدم مغفرة الله لهم. قرأ الجمهور "ينفضوا" من الانفضاض، وهو التفرق، وقرأ الفضل بن عيسى الرقاشي ينفضوا من أنفض القوم: إذا فنيت أزوادهم، يقال نفض الرجل وعاءه من الزاد فانفض. ثم أخبر سبحانه بسعة ملكه فقال: "ولله خزائن السموات والأرض" أي إنه هو الرزاق لهؤلاء المهاجرين، لأن خزائن الرزق له فيعطي من شاء ما شاء ويمنع من شاء ما شاء "ولكن المنافقين لا يفقهون" ذلك ولا يعلمون أن خزائن الأرزاق بيد الله عز وجل وأنه الباسط القابض المعطي المانع.
ثم ذكر سبحانه مقالة شنعاء قالوها فقال: 8- "يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل" القائل لهذه المقالة هو عبد الله بن أبي رأس المنفاقين، وعنى بالأعز نفسه ومن معه، وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، ومراده بالرجوع رجوعهم من تلك الغزوة، وإنما أسند القول إلى المنافقين مع كون القائل هو فرد من سامعون له مطيعون. ثم رد الله سبحانه على قائل تلك المقالة فقال: "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين" أي القوة والغلبة لله وحده ولمن أفاضها عليه من رسله وصالحي عباده لا لغيرهم. اللهم كما جعلت العزة للمؤمنين على المنافقين على المنافقين فاجعل العزة للعادلين من عبادك، وأنزل الذلة على الجائرين الظالمين "ولكن المنافقين لا يعلمون" بما فيه النفع فيفعلونه، وبما فيه الضر فيجتنبونه، بل هم كالأنعام لفرط جهلهم ومزيد حيرتهم والطبع على قلوبهم. وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن زيد بن أرقم قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصاب الناس شدة، فقال عبد الله بن أبي لأصحابه "لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا" من حوله، وقال: "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل" فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله، فاجتهد يمينه ما فعل، فقالوا: كذب زيد رسول الله، فوقع في نفسي مما قالوا شدة حتى أنزل الله تصديقي في إذا جاءك المنافقون، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم فلووا رؤوسهم، وهو قوله: "كأنهم خشب مسندة" قال: كانوا رجالاً أجمل شيء". وأخرج عنه بأطول من هذا ابن سعد وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: إنما سماهم الله منافقين لأنهم كتموا الشرك وأظهروا الإيمان. وأخرج ابن المنذر عنه "اتخذوا أيمانهم جنة" قال: حلفهم بالله إنهم لمنكم اجتنبوا بأيمانهم من القتل والحرب. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً "كأنهم خشب مسندة" قال نخل قيام. وأخرج ابن مردويه والضياء في المختارة عنه أيضاً، قال نزلت هذه الآية "هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا" في عسيف لعمر بن الخطاب. وأخرج ابن مردويه عن زيد بن أرقم وابن مسعود أنهما قرآ " لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة. قال سفيان: يرون أنها غزوة بني المصطلق فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال المهاجري ياللمهاجرين وقال الأنصاري ياللأنصار، فسمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم: ما بال دعوة الجاهلية؟ قالوا رجل من المهاجرين كسع رجلاً من الأنصار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوها فإنها منتنة. فسمع ذلك عبد الله بن أبي فقال: أو قد فعلوها، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه" زاد الترمذي "فقال له ابنه عبد الله: والله لا تنفلت حتى تقر أنك الذليل، ورسول الله العزيز، ففعل".
لما ذكر سبحانه قبائح المنافقين رجع إلى خطاب المؤمنين مرغباً لهم في ذكره فقال: 9- "يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله" فحذرهم عن أخلاق المنافقين الذي ألهتهم أموالهم وأولادهم عن ذكر الله، ومعنى لا تلهكم: لا تشغلكم، والمراد بالذكر فرائض الإسلام، قاله الحسن. وقال الضحاك: الصلوات الخمس وقيل قراءة القرآن، وقيل هو خطاب للمنافقين، ووصفهم بالإيمان لكونهم آمنوا ظاهراً، والأول أولى "ومن يفعل ذلك" أي يلتهي بالدنيا عن الدين "فأولئك هم الخاسرون" أي الكاملون في الخسران.
10- " وأنفقوا من ما رزقناكم " الظاهر أن المراد الإنفاق في الخر على عمومه، ومن للتبعيض أي أنفقوا بعض ما رزقناكم في سبيل الخير، وقيل المراد الزكاة المفروضة "من قبل أن يأتي أحدكم الموت" بأن تنزل به أسبابه ويشاهد حضور علاماته، وقدم المفعول على الفاعل للاهتمام "فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب" أي يقول عند نزول ما نزل به منادياً لربه هلا أمهلتني وأخرت موتي إلى أجل قريب: أي أمد قصير "فأصدق" أي فأتصدق بمالي " وأكن من الصالحين " قرأ الجمهور "فأصدق " بإدغام التاء في الصاد ، وانتصابه على أنه جواب التمني، وقيل إن لا في لولا زائدة، والأصل لو أخرتني. وقرأ أبي وابن مسعود وسعيد بن جبير فأتصدق بدون إدغام على الأصل. وقرأ الجمهور "وأكن" بالجزم على محل على موضع فأصدق لأنه على معنى إن أخرتني أصدق وأكن. وكذا قال أبو علي الفارسي وابن عطية وغيرهم. وقال سيبويه حاكياً عن الخليل: إنه جزم على توهم الشرط الذي يدل عليه التمني، وجعل سيبويه هذا نظير قول زهير: بدا لي أني لست مدرك ما مضى ولا سابق شيئاً إذا كان حاثيا فخفض ولا سابق عطفاً على مدرك الذي هو خبر ليس على توهم زيادة الباء فيه. وقرأ أبو عمرو وابن محيصن ومجاهد " وأكن " بالنصب عطفاً على فأصدق، ووجهها واضح. ولكن قال أبو عبيد: رأيت في مصحف عثمان وأكن بغير واو، وقرأ عبيد بن عمير وأكون بالرفع على الاستئناف: أي وأنا أكون. قال الضحاك: لا ينزل بأحد الموت لم يحج ولم يؤد زكاة إلا سأل الرجعة، وقرأ هذه الآية.
ثم أجاب الله سبحانه عن هذا المتمني فقال: 11- "ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها" أي إذا حضر أجلها وانقضى عمرها "والله خبير بما تعملون" لا يخفى عليه شيء منه فهو مجازيكم بأعمالكم. قرأ الجمهور "تعملون" بالفوقية على الخطاب، وقرأ أبو بكر عن عاصم والسلمي بالتحتية على الخبر. وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم" الآية قال: "هم عباد من أمتي الصالحون منهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وعن الصلوات الخمس المفروضة". وأخرج عبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له مال يبلغه حج بيت الله، أو تجب عليه فيه الزكاة فلم يفعل سأل الرجعة عند الموت، فقال رجل: يا ابن عباس اتق الله فإنما يسأل الرجعة الكافر، فقال: سأتلوا عليكم بذلك قرآناً "يا أيها الذين آمنوا" إلى آخر السورة". وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس "فأصدق وأكن من الصالحين" قال: أحج.