سورة التحريم | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 560 من المصحف
سورة التحريم
مقدمة السورة
مدنية في قول الجميع، وهي اثنتا عشرة آية. وتسمى سورة "النبي".
الآية: 1 {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم}
قوله تعالى: "يا أيها النبي لم تحرمُ ما أحل الله لك" ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي لله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا، قالت فتواطأت أنا وحفصة أن أيتنا ما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلتقل: إني أجد منك رح مغافير! أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت له ذلك. فقال: (بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له). فنزل: "لم تحرم ما أحل الله لك - إلى قوله - إن تتوبا: (لعائشة وحفصة)، "وإذ أشر النبي إلى بعض أزواجه حديثا" [التحريم 30] لقوله: (بل شربت عسلا). وعنها أيضا قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل، فكان إذا صلي العصر دار على نسائه فيدنو منهن، فدخل على حفصة فأحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس، فسألت عن ذلك فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها عكة من عسل، فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شربة. فقلت: أما والله لنحتالن له، فذكرت ذلك لسودة وقلت: إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له: يا رسول الله، أكلت مغافير؟ فإنه سيقول لك لا. فقولي له: ما هذه الريح؟ - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح - فإنه سيقول لك سقتني حفصة شربة عسل. فقولي له: جرست نحله العُرْفُط. وسأقول ذلك له، وقوليه أنت يا صفية. فلما دخل على سودة - قالت: تقول سودة والله الذي لا إله إلا هو لقى كدت أن أبادئه بالذي قلت لي، وإنه لعلى الباب، فرقا منك. فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله، أكلت مغافير؟ قال: (لا) قالت: فما هذه الريح؟ قال: (سقتني حفصة شربة عسل) قال: جرست نحله العرفط. فلما دخل علي قلت له مثل ذلك. ثم دخل على صفة فقالت بمثل ذلك. فلما دخل على حفصة قال: يا رسول الله، ألا أسقك منه. قال (لا حاجة لي به) قالت: تقول سودة سبحان الله! والله لقد حرمناه. قالت: قلت لها اسكتي. ففي هذه الرواية أن التي شرب عندها العسل حفصة. وفي الأولى زينب. وروي ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه شربه عند سودة. وقد قيل: إنما هي أم سلمة، رواه أسباط عن السدي. وقاله عطاء بن أبي مسلم. ابن العربي: وهذا كله جهل أو تصور بغير علم. فقال باقي نسائه حسدا وغيرة لمن شرب ذلك عندها: إنا لنجد منك ريح المغافير. والمغافير: بقلة أو صمغة متغيرة الرائحة، فيها حلاوة. واحدها مغفور، وجرست: أكلت. والعرفط: نبت له ريح كريح الخمر. وكان عليه السلام يعجبه أن يوجد منه الريح الطيبة أو يجدها، ويكره الريح الخبيثة لمناجاة الملك. فهذا قول.
وقول آخر - أنه أراد بذلك المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها لأجل أزواجه، قاله ابن عباس وعكرمة. والمرأة أم شريك. وقول ثالث - إن التي حرم مارية القبطية، وكان قد أهداها له المقوقس ملك الإسكندرية. قال ابن إسحاق: هي من كورة أنصنا من بلد يقال له حفن فواقعها في بيت حفصة. روي الدارقطني عن ابن عباس عن عمر قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم ولده مارية في بيت حفصة، فوجدته حفصة معها - وكانت حفصة غابت إلى بيت أبيها - فقالت له: تدخلها بيتي! ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك. فقال لها: (لا تذكري هذا لعائشة فهي علي حرام إن قربتها) قالت حفصة: وكيف تحرم عليك وهي جاريتك؟ فحلف لها ألا يقربها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تذكريه لأحد). فذكرته لعائشة، فآلى لا يدخل على نسائه شهرا، فاعتزلهن تسعا وعشرين ليلة، فأنزل الله عز وجل "لم تحرم ما أحل الله لك" الآية.
أصح هذه الأقوال أولها. وأضعفها أوسطها. قال ابن العربي: "أما ضعفه في السند فلعدم عدالة رواته، وأما ضعفه في معناه فلأن رد النبي صلى الله عليه وسلم للموهوبة ليس تحريما لها، لأن من رد ما وهب له لم يحرم عليه، إنما حقيقة التحريم بعد التحليل. وأما من روي أنه حرم مارية القبطية فهو أمثل في السند وأقرب إلى المعنى، لكنه لم يدون في الصحيح. وروي مرسلا. وقد روي ابن وهب عن مالك عن زيد بن أسلم قال: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أم إبراهيم فقال: (أنت علي حرام والله لا آتينك). فأنزل الله عز وجل في ذلك: "يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك" وروي مثله ابن القاسم عنه. وروي أشهب عن مالك قال: راجعت عمر امرأة من الأنصار في شيء فاقشعر من ذلك وقال: ما كان النساء هكذا! قال: بلى، وقد كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يراجعنه. فأخذ ثوبه فخرج إلى حفصة فقال لها: أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم، ولو أعلم أنك تكره ما فعلت. فلما بلغ عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هجر نساءه قال: رغم أنف حفصة. وإنما الصحيح أنه كان في العسل وأنه شربه عند زينب، وتظاهرت عليه عائشة وحفصة فيه، فجرى ما جرى فحلف ألا يشربه وأسر ذلك. ونزلت الآية في الجميع.
قوله تعالى: "لم تحرم" إن كان النبي صلى الله عليه وسلم حرم ولم يحلف فليس ذلك بيمين عندنا. ولا يحرم قول الرجل: "هذا علي حرام" شيئا حاشا الزوجة. وقال أبو حنيفة: إذا أطلق حمل على المأكول والمشروب دون الملبوس، وكانت يمينا توجب الكفارة. وقال زفر: هو يمين في الكل حتى في الحركة والكون. وعول المخالف على أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم العسل فلزمته الكفارة. وقد قال الله تعالى: "قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم" [التحريم: 2] فسماه يمينا. ودليلنا قول الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا" [المائدة: 87]، وقوله تعالى: "قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون" [يونس: 59]. فذم الله المحرم للحلال ولم يوجب عليه كفارة. قال الزجاج: ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله. ولم يجعل لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يحرم إلا ما حرم الله عليه. فمن قال لزوجته أو أمته: أنت علي حرام؛ ولم ينو طلاقا ولا ظهارا فهذا اللفظ يوجب كفارة اليمين. ولو خاطب بهذا اللفظ جمعا من الزوجات والإماء فعليه كفارة واحدة. ولو حرم على نفسه طعاما أو شيئا آخر لم يلزمه بذلك كفارة عند الشافعي ومالك. وتجب بذلك كفارة عند ابن مسعود والثوري وأبي حنيفة.
واختلف العلماء في الرجل يقول لزوجته: "أنت علي حرام" على ثمانية عشر قولا: أحدها: لا شيء عليه. وبه قال الشعبي ومسروق وربيعة وأبو سلمة وأصبغ. وهو عندهم كتحريم الماء والطعام؛ قال الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم" [المائدة: 87] والزوجة من الطيبات ومما أحل الله. وقال تعالى: "ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام" [النحل: 116]. وما لم يحرمه الله فليس لأحد أن يحرمه، ولا أن يصير بتحريمه حراما. ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لما أحله الله هو علي حرام. وإنما امتنع من مارية ليمين تقدمت منه وهو قوله: (والله لا أقربها بعد اليوم) فقيل له: لم تحرم ما أحل الله لك؛ أي لم تمتنع منه بسبب اليمين. يعني أقدم عليه وكفر.
ثانيها: أنها يمين يكفرها؛ قال أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعبدالله بن مسعود وابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم - والأوزاعي؛ وهو مقتضى الآية. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: إذا حرم الرجل عليه امرأته فإنما هي يمين يكفرها. وقال ابن عباس: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة؛ يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حرم جاريته فقال الله تعالى: "لم تحرم ما أحل الله لك - إلى قوله تعالى - قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم" فكفر عن يمينه وصير الحرام يمينا. خرجه الدارقطني.
ثالثها: أنها تجب فيها كفارة وليست بيمين؛ قاله ابن مسعود وابن عباس أيضا في إحدى روايتيه، والشافعي في أحد قوليه، وفي هذا القول نظر. والآية ترده على ما يأتي.
رابعها: هي ظهار؛ ففيها كفارة الظهار، قال عثمان وأحمد بن حنبل وإسحاق.
خامسها: أنه إن نوى الظهار وهو ينوي أنها محرمة كتحريم ظهر أمه كان ظهارا. وإن نوى تحريم عينها عليه بغير طلاق تحريما مطلقا وجبت كفارة يمين. وإن لم ينو شيئا فعليه كفارة يمين، قاله الشافعي.
سادسها: أنها طلقة رجعية، قاله عمر بن الخطاب والزهري وعبدالعزيز بن أبي سلمة وابن الماجشون. وسابعها: أنها طلقة بائنة، قاله حماد بن أبي سليمان وزيد بن ثابت. ورواه ابن خويز منداد عن مالك.
ثامنها: أنها ثلات تطليقات، قال علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت أيضا وأبو هريرة.
تاسعها: هي في المدخول بها ثلاث، وينوي في غير المدخول بها، قاله الحسن وعلي بن زيد والحكم. وهو مشهور مذهب مالك.
عاشرها: هي ثلاث؛ ولا ينوي بحال ولا في محل وإن لم يدخل؛ قاله عبدالملك في المبسوط، وبه قال ابن أبي ليلى.
حادي عشرها: هي في التي لم يدخل بها واحدة، وفي التي دخل بها ثلاث؛ قاله أبو مصعب ومحمد بن عبدالحكم.
ثاني عشرها: أنه إن نوى الطلاق أو الظهار كان ما نوى. فإن نوى الطلاق فواحدة بائنة إلا أن ينوي ثلاثا. فإن نوى ثنتين فواحدة. فإن لم ينو شيئا كانت يمينا وكان الرجل موليا من امرأته؛ قاله أبو حنيفة وأصحابه. وبمثله قال زفر؛ إلا أنه قال: إذا نوى اثنتين ألزمناه.
ثالث عشرها: أنه لا تنفعه نية الظهار وإنما يكون طلاقا؛ قاله ابن القاسم.
رابع عشرها: قال يحيى بن عمر: يكون طلاقا؛ فإن أرتجعها لم يجز له وطؤها حتى يكفر كفارة الظهار.
خامس عشرها: إن نوى الطلاق فما أراد من أعداده. وإن نوى واحدة فهي رجعية. وهو قول الشافعي رضي الله عنه. وروي مثله عن أبي بكر وعمر وغيرهم من الصحابة والتابعين.
سادس عشرها: إن نوى ثلاثا فثلاثا، وإن واحدة فواحدة. وإن نوى يمينا فهي يمين. وإن لم ينو شيئا فلا شيء عليه. وهو قول سفيان. وبمثله قال الأوزاعي وأبو ثور؛ إلا أنهما قالا: إن لم ينو شيئا فهي واحدة.
سابع عشرها: له نيته ولا يكون أقل من واحدة؛ قاله ابن شهاب. وإن لم ينو شيئا لم يكن شيء؛ قال ابن العربي. ورأيت لسعيد بن جبير وهو:
الثامن عشر: أن عليه عتق رقبة وإن لم يجعلها ظهارا. ولست أعلم لها وجها ولا يبعد في المقالات عندي.
قلت: قد ذكره الدارقطني في سننه عن ابن عباس فقال: حدثنا الحسين بن إسماعيل قال حدثنا محمد بن منصور قال حدثنا روح قال: حدثنا سفيان الثوري عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه أتاه رجل فقال: إني جعلت امرأتي علي حراما. فقال: كذبت! ليست عليك بحرام؛ ثم تلا "يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك" عليك أغلظ الكفارات: عتق رقبة. وقد قال جماعة من أهل التفسير: إنه لما نزلت هذه الآية كفر عن يمينه بعتق رقبة، وعاد إلى مارية صلى الله عليه وسلم؛ قاله زيد بن أسلم وغيره.
قال علماؤنا: سبب الاختلاف في هذا الباب أنه ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نص ولا ظاهر صحيح يعتمد عليه في هذه المسألة، فتجاذبها العلماء لذلك. فمن تمسك بالبراءة الأصلية فقال: لا حكم، فلا يلزم بها شيء. وأما من قال إنها يمين؛ فقال: سماها الله يمينا. وأما من قال: تجب فيها كفارة وليست بيمين؛ فبناه على أحد أمرين: أحدهما: أنه ظن أن الله تعالى أوجب الكفارة فيها وإن لم تكن يمينا. والثاني: أن معنى اليمين عنده التحريم، فوقعت الكفارة على المعنى. وأما من قال: إنها طلقة رجعية؛ فإنه حمل اللفظ على أقل وجوهه، والرجعية محرمة الوطء كذلك؛ فيحمل اللفظ عليه. وهذا يلزم مالكا، لقوله: إن الرجعية محرمة الوطء. وكذلك وجه من قال: إنها ثلاث، فحمله على أكبر معناه وهو الطلاق الثلاث. وأما من قال: إنه ظهار، فلأنه أقل درجات التحريم، فإنه تحريم لا يرفع النكاح. وأما من قال: إنه طلقة بائنة، فعول على أن الطلاق الرجعي لا يحرم المطلقة، وأن الطلاق البائن يحرمها. وأما قول يحيى بن عمر فإنه احتاط بأن جعله طلاقا، فلما ارتجعها احتاط بأن يلزمه الكفارة. ابن العربي: "وهذا لا يصح، لأنه جمع بين المتضادين، فإنه لا يجتمع ظهار وطلاق في معنى لفظ واحد، فلا وجه للاحتياط فيما لا يصح اجتماعه في الدليل. وأما من قال: إنه ينوى في التي لم يدخل بها، فلأن الواحدة تبينها وتحرمها شرعا إجماعا. وكذلك قال من لم يحكم باعتبار نيته: إن الواحدة تكفي قبل الدخول في التحريم بالإجماع، فيكفي أخذا بالأقل المتفق عليه. وأما من قال: إنه ثلاث فيهما، فلأنه أخذ بالحكم الأعظم، فإنه لو صرح بالثلاث لنفذت في التي لم يدخل بها نفوذها في التي دخل بها. ومن الواجب أن يكون المعنى مثله وهو التحريم". والله أعلم. وهذا كله في الزوجة. وأما في الأمة فلا يلزم فيها شيء من ذلك، إلا أنه ينوي به العتق عند مالك. وذهب عامة العلماء إلى أن عليه كفارة يمين. ابن العربي. والصحيح أنها طلقة واحدة، لأنه لو ذكر الطلاق لكان أقله وهو الواحدة إلا أن يعدده. كذلك إذا ذكر التحريم يكون أقله إلا أن يقيده بالأكثر، مثل أن يقول أنت علي حرام إلا بعد زوج، فهذا نص على المراد.
قلت: أكثر المفسرين على أن الآية نزلت في حفصة لما خلا النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها بجاريته؛ ذكره الثعلبي. وعلى هذا فكأنه قال: لا يحرم عليك ما حرمته على نفسك ولكن عليك كفارة يمين، وإن كان في تحريم العسل والجارية أيضا. فكأنه قال: لم يحرم عليك ما حرمته، ولكن ضممت إلى التحريم يمينا فكفر عن اليمين. وهذا صحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حرم ثم حلف، كما ذكره الدارقطني. وذكر البخاري معناه في قصة العسل عن عبيد بن عمير عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عند زينب بنت جحش عسلا ويمكث عندها، فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل: أكلت مغافير؟ إني لأجد منك ريح مغافير! قال: (لا ولكن شربت عسلا ولن أعود له وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا). يبتغي مرضات أزواجه. فيعني بقوله: (ولن أعود له على جهة التحريم. وبقوله: (حلفت) أي بالله، بدليل أن الله تعالى أنزل عليه عند ذلك معاتبته على ذلك، وحوالته على كفارة اليمين بقوله تعالى: "يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك" يعني العسل المحرم بقوله: (لن أعود له). "تبتغي مرضات أزواجك" أي تفعل ذلك طلبا لرضاهن. "والله غفور رحيم" غفور لما أوجب المعاتبة، رحيم برفع المؤاخذة. وقد قيل: إن ذلك كان ذنبا من الصغائر. والصحيح أنه معاتبة على ترك الأولى، وأنه لم تكن له صغيرة ولا كبيرة.
الآية: 2 {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم}
قوله تعالى: "قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم" تحليل اليمين كفارتها. أي إذا أحببتم استباحة المحلوف عليه، وهو قوله تعالى في سورة "المائدة": "فكفارته إطعام عشرة مساكين" [المائدة: 89]. ويتحصل من هذا أن من حرم شيئا من المأكول والمشروب لم يحرم عليه عندنا، لأن الكفارة لليمين لا للتحريم على ما بيناه. وأبو حنيفة يراه يمينا في كل شيء، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرمه، فإذا حرم طعاما فقد حلف على أكله، أو أمة فعلى وطئها، أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم يكن له نية، وإن نوى الظهار فظهار، وإن نوى الطلاق فطلاق بائن. وكذلك إن نوى ثنتين أو ثلاثا. وإن قال: نويت الكذب دين فيما بينه وبين الله تعالى. ولا يدين في القضاء بإبطال الإيلاء. وإن قال: كل حلال عليه حرام؛ فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو، وإلا فعلى ما نوى. ولا يراه الشافعي يمينا ولكن سببا في الكفارة في النساء وحدهن. وإن نوى الطلاق فهو رجعي عنده، على ما تقدم بيانه. فإن حلف إلا يأكله حنث ويبر بالكفارة.
فإن حرم أمته أو زوجته فكفارة يمين، كما في صحيح مسلم عن ابن عباس قال: إذا حرم الرجل عليه امرأته، فهي يمين يكفرها. وقال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.
قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كفر عن يمينه. وعن الحسن: لم يكفر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وكفارة اليمين في هذه السورة إنما أمر بها الأمة. والأول أصح، وأن المراد بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. ثم إن الأمة تقتدي به في ذلك. وقد قدمنا عن زيد بن أسلم أنه عليه السلام كفر بعتق رقبة. وعن مقاتل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق رقبة في تحريم مارية. والله أعلم. وقيل: أي قد فرض الله لكم تحليل ملك اليمين، فبين في قوله تعالى: "ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له" [الأحزاب: 38] أي فيما شرعه له في النساء المحللات. أي حلل لكم ملك الأيمان، فلم تحرم مارية على نفسك مع تحليل الله إياها لك. وقيل: تحلة اليمين الاستثناء، أي فرض الله لكم الاستثناء المخرج عن اليمين. ثم عند قوم يجوز الاستثناء من الأيمان متى شاء وإن تحلل مدة. وعند المعظم لا يجوز إلا متصلا، فكأنه قال: استثن بعد هذا فيما تحلف عليه. وتحلة اليمين تحليلها بالكفارة، والأصل تحللة، فأدغمت. وتفعلة من مصادر فعل؛ كالتسمية والتوصية. فالتحلة تحليل اليمين. فكأن اليمين عقد والكفارة حل. وقيل: التحلة الكفارة؛ أي إنها تحل للجالف ما حرم على نفسه؛ أي إذا كفر صار كمن لم يحلف. "والله مولاكم" وليكم وناصركم بإزالة الحظر فيما تحرمونه على أنفسكم، وبالترخيص لكم في تحليل أيمانكم بالكفارة، وبالثواب على ما تخرجونه في الكفارة.
الآية: 3 {وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير}
قوله تعالى: "وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا" أي واذكر إذ أسر النبي إلى حفصة حديثا" يعني تحريم مارية على نفسه واستكتامه إياها ذلك. وقال الكلبي: أسر إليها أن أباك وأبا عائشة يكونان خليفتي على أمتي من بعدي؛ وقال ابن عباس. قال: أسر أمر الخلافة بعده إلى حفصة فذكرته حفصة. روي الدارقطني في سننه عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: "وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا" قال: اطلعت حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم مع أم إبراهيم فقال: (لا تخبري عائشة) وقال لها (إن أباك وأباها سيملكان أو سيليان بعدي فلا تخبري عائشة) قال: فانطلقت حفصة فأخبرت عائشة فأظهره الله عليه، فعرف بعضه وأعرض عن بعض. قال أعرض عن قوله: (إن أباك وأباها يكونان بعدي). كره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينشر ذلك في الناس. "فلما نبأت به" أي أخبرت به عائشة لمصافاة كانت بينهما، وكانتا متظاهرتين على نساء النبي صلى الله عليه وسلم. "وأظهره الله عليه" أي أطلعه الله على أنها قد نبأت به. وقرأ طلحة بن مصرف "فلما أنبأت" وهما لغتان: أنبأ ونبأ. "عرف بعضه وأعرض عن بعض" عرف حفصة بعض ما أوحي إليه من أنها أخبرت عائشة بما نهاها عن أن تخبرها، وأعرض عن بعض تكرما؛ قاله السدي. وقال الحسن: ما استقصى كريم قط، قال الله تعالى "عرف بعضه وأعرض عن بعض". وقال مقاتل: يعني أخبرها ببعض ما قالت لعائشة، وهو حديث أم ولده ولم يخبرها ببعض وهو قول حفصة لعائشة: إن أبا بكر وعمر سيملكان بعده. وقراءة العامة "عرف" مشددا، ومعناه ما ذكرناه. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، يدل عليه قوله تعالى: "وأعرض عن بعض" أي لم يعرفها إياه. ولو كانت مخففة لقال في ضده وأنكر بعضا. وقرأ علي وطلحة بن مصرف وأبو عبدالرحمن السلمي والحسن وقتادة والكلبي والكسائي والأعمش عن أبي بكر "عرف" مخففة. قال عطاء: كان أبو عبدالرحمن السلمي إذا قرأ عليه الرجل "عرف" مشددة حصبه بالحجارة. قال الفراء: وتأويل قوله عز وجل: "عرف بعضه" بالتخفيف، أي غضب فيه وجازى عليه؛ وهو كقولك لمن أساء إليك: لأعرفن لك ما فعلت، أي لأجازينك عليه. وجازاها النبي صلى الله عليه وسلم بأن طلقها طلقة واحدة. فقال عمر: لو كان في آل الخطاب خير لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طلقك. فأمره جبريل بمراجعتها وشفع فيها. واعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه شهرا، وقعد في مشربة مارية أم إبراهيم حتى نزلت آية التحريم على ما تقدم. وقيل: هم بطلاقها حتى قال له جبريل: (لا تطلقها فإنها صوامة قوامة وإنها من نسائك في الجنة) فلم يطلقها. "فلما نبأها به" أي أخبر حفصة بما أظهره الله عليه. "قالت من أنبأك هذا" يا رسول الله عني. فظنت أن عائشة أخبرته، فقال عليه السلام: "قال نبأني العليم الخبير" أي الذي لا يخفى عليه شيء. و"هذا" سد مسد مفعولي "أنبأ". و"نبأ" الأول تعدى إلى مفعول، و"نبأ" الثاني تعدى إلى مفعول واحد، لأن نبأ وأنبأ إذا لم يدخلا على المبتدأ والخبر جاز أن يكتفى فيهما بمفعول واحد وبمفعولين، فإذا دخلا على الابتداء والخبر تعدى كل واحد منهما إلى ثلاثة مفعولين. ولم يجز الاقتصار على الاثنين دون الثالث، لأن الثالث هو خبر المبتدأ في الأصل فلا يقتصر دونه، كما لا يقتصر على المبتدأ دون الخبر.
الآية: 4 {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير}
قوله تعالى: "إن تتوبا إلى الله" يعني حفصة وعائشة، حثهما على التوبة على ما كان منهما من الميل إلى خلاف محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. "فقد صغت قلوبكما" أي زاغت ومالت عن الحق. وهو أنهما أحبتا ما كره النبي صلى الله عليه وسلم من اجتناب جاريته واجتناب العسل، وكان عليه السلام يحب العسل والنساء. قال ابن زيد: مالت قلوبهما بأن سرهما أن يحتبس عن أم ولده، فسرهما ما كرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: فقد مالت قلوبكما إلى التوابة. وقال: "فقد صغت قلوبكما" ولم يقل: فقد صغى قلباكما، ومن شأن العرب إذا ذكروا الشيئين، من اثنين جمعوهما، لأنه لا يشكل. وقد مضى هذا المعنى في "المائدة" في قوله تعالى: "فاقطعوا أيديهما" [المائدة: 38]. وقيل: كلما ثبتت الإضافة فيه مع التثنية فلفظ الجمع أليق به، لأنه أمكن وأخف. وليس قوله: "فقد صغت قلوبكما" جزاء للشرط، لأن هذا الصغو كان سابقا، فجواب الشرط محذوف للعلم به. أي إن تتوبا كان خيرا لكما، إذ قد صغت قلوبكما.
قوله تعالى: "وإن تظاهرا عليه" أي تتظاهرا وتتعاونا على النبي صلى الله عليه وسلم بالمعصية والإيذاء. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له، حتى خرج حاجا فخرجت معه، فلما رجع فكنا ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له، فوقفت حتى فرع، ثم سرت معه فقلت: يا أمير المؤمنين، من اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه؟ فقال: تلك حفصة وعائشة. قال فقلت له: والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة فما أستطيع هيبة لك. قال: فلا تفعل، ما ظننت أن عندي من علم فسلني عنه، فإن كنت أعلمه أخبرتك... وذكر الحديث. "فإن الله هو مولاه" أي وليه وناصره، فلا يضره ذلك التظاهر منهما. "وجبريل وصالح المؤمنين" قال عكرمة وسعيد بن جبير: أبو بكر وعمر، لأنهما أبوا عائشة وحفصة، وقد كانا عونا له عليهما. وقيل: صالح المؤمنين علي رضي الله عنه. وقيل: خيار المؤمنين. وصالح: اسم جنس كقوله تعالى: "والعصر. إن الإنسان لفي خسر" [العصر: 2]، قاله الطبري. وقيل: "صالح المؤمنين" هم الأنبياء، قال العلاء بن زيادة وقتادة وسفيان. وقال ابن زيد: هم الملائكة. السدي: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: "صالح المؤمنين" ليس لفظ الواحد وإنما هو صالحو المؤمنين: فأضاف الصالحين إلى المؤمنين، وكتب بغير واو على اللفظ لأن لفظ الواحد والجمع واحد فيه. كما جاءت أشياء في المصحف متنوع فيها حكم اللفظ دون وضع الخط.
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما اعتزل نبي الله صلى الله عليه وسلم نساءه قال دخلت المسجد فإذا الناس ينكتون بالحصى ويقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه - وذلك قبل أن يؤمرن بالحجاب - فقال عمر: فقلت لأعلمن ذلك اليوم، قال فدخلت على عائشة فقلت: يا ابنة أبي بكر، أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقالت: مالي ومالك يا ابن الخطاب! عليك بعيبتك! قال فدخلت على حفصة بنت عمر فقلت لها: يا حفصة، أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم! والله لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحبك، ولولا أنا لطلقك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبكت أشد البكاء، فقلت لها: أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هو في خزانته في المشربة. فدخلت فإذا أنا برباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا على أسكفة المشربة مدل رجليه على نقير من خشب، وهو جذع يرقى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وينحدر. فناديت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله، فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إلي فلم يقل شيئا. ثم قلت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إلي فلم يقل شيئا. ثم رفعت صوتي فقلت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني أظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظن أني جئت من أجل حفصة، والله لئن أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقها لأضربن عنقها، ورفعت صوتي فأومأ إلي أن اِرْقَه؛ فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على حصير، فجلست فأدنى عليه إزاره وليس عليه غيره؛ وإذا الحصير قد أثر في جنبه، فنظرت ببصري في خزانة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع، ومثلها قرظا في ناحية الغرفة؛ وإذا أفيق معلق - قال - فابتدرت عيناي. قال: (ما يبكيك يا ابن الخطاب)؟ قلت يا نبي الله، ومالي لا أبكى وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى! وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفوته، وهذه خزانتك! فقال: (يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا) قلت: بلى. قال: ودخلت عليه حين دخلت وأنا أرى في وجهه الغضب، فقلت: يا رسول الله، ما يشق عليك من شأن النساء؛ فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك. وقلما تكلمت - وأحمد الله - بكلام إلا رجوت أن يكون الله عز وجل يصدق قولي الذي أقول ونزلت هذه الآية، آية التخيير: "عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن" [التحريم: 5]. "وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير".
وكانت عائشة بنت أبي بكر وحفصة تظاهران على سائر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: يا رسول الله، أطلقتهن؟ قال: (لا). قلت: يا رسول الله، إني دخلت المسجد والمسلمون ينكتون بالحصى يقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن؟ قال: (نعم إن شئت). فلم أزل أحدثه حتى تحسر الغضب عن وجهه، وحتى كشر فضحك، وكان من أحسن الناس ثغرا. ثم نزل نبي الله صلى الله عليه وسلم ونزلت؛ فنزلت أتشبث بالجذع، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما يمشي على الأرض ما يمسه بيده. فقلت: يا رسول الله، إنما كنت في الغرفة تسعا وعشرين. قال: (إن الشهر يكون تسعا وعشرين) فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه. ونزلت هذه الآية: "وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم" [النساء: 83]. فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر؛ وأنزل الله آية التخيير.
قوله تعالى: "وجبريل" فيه لغات تقدمت في سورة "البقرة". ويجوز أن يكون معطوفا على "مولاه" والمعنى: الله وليه وجبريل وليه؛ فلا يوقف على "مولاه" ويوقف على "جبريل" ويكون "وصالح المؤمنين" مبتدأ "والملائكة" معطوفا عليه. و"ظهير" خبرا؛ وهو بمعنى الجمع. وصالح المؤمنين أبو بكر؛ قاله المسيب بن شريك. وقال سعيد بن جبير: عمر. وقال عكرمة: أبو بكر وعمر. وروي شقيق عن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: "فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين" قال: إن صالح المؤمنين أبو بكر وعمر. وقيل: هو علي. عن أسماء بنت عميس قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ("وصالح المؤمنين" علي بن أبي طالب). وقيل غير هذا مما تقدم القول فيه. ويجوز أن يكون "وجبريل" مبتدأ وما بعده معطوفا عليه. والخبر ((ظهير" وهو بمعنى الجمع أيضا. فيوقف على هذا على "مولاه". ويجوز أن يكون "جبريل وصالح المؤمنين" معطوفا على "مولاه" فيوقف على "المؤمنين" ويكون "والملائكة بعد ذلك ظهير" ابتداء وخبرا. ومعنى "ظهير" أعوان. وهو بمعنى ظهراء؛ كقوله تعالى: "وحسن أولئك، رفيقا" [النساء: 69]. وقال أبو علي: قد جاء فعيل للكثرة كقوله تعالى: "ولا يسأل حميم حميما. يبصرونهم" [المعارج:11]. وقيل: كان التظاهر منهما في التحكم على النبي صلي اله عليه وسلم في النفقة، ولهذا آلى منهن شهرا واعتزلهن. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله قال: دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم، قال: فأذن لأبي بكر فدخل، ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا - قال - فقال لأقولن شيئا أضحك النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: يا رسول الله، لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها؛ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (هن حولي كما ترى يسألنني النفقة). فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها؛ كلاهما يقول: تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده! فقلن: والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا أبدا ليس عنده. ثم اعتزلهن شهرا أو تسعا وعشرين. ثم نزلت عليه هذه الآية: "يا أيها النبي قل لأزواجك" حتى بلغ "للمحسنات منكن أجرا عظيما" [الأحزاب: 28] الحديث. وقد ذكراه في سورة "الأحزاب".
الآية: 5 {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكار}
قوله تعالى: "عسى ربه إن طلقكن" قد تقدم في الصحيح أن هذه الآية نزلت على لسان عمر رضي الله عنه. ثم قيل: كل "عسى" في القرآن واجب؛ إلا هذا. وقيل: هو واجب ولكن الله عز وجل علقه بشرط وهو التطليق ولم يطلقهن. "أن يبدله أزواجا خيرا منكن" لأنكن لو كنتن خيرا منهن ما طلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال معناه السدي. وقيل: هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلي الله عليه وسلم، لو طلقهن في الدنيا أن يزوجه في الدنيا نساء خيرا منهن. وقرئ "أن يبدله" بالتشديد والتخفيف. والتبديل والإبدال بمعنى، كالتنزيل والإنزال. والله كان عالما بأنه كان لا يطلقهن، ولكن أخبر عن قدرته، على أنه إن طلقهن أبدله خيرا منهن تخويفا لهن. وهو كقوله تعالى: "وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم" [محمد: 38]. وهو إخبار عن القدرة وتخويف لهم، لا أن في الوجود من هو خير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: "مسلمات" يعني مخلصات، قاله سعيد بن جبير. وقيل: معناه مسلمات لأمر الله تعالى وأمر رسوله. "مؤمنات" مصدقات بما أمرن به ونهين عنه. "قانتات" مطيعات. والقنوت: الطاعة. وقد تقدم. "تائبات" أي من ذنوبهن؛ قاله السدي. وقيل: راجحات إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم تاركات لمحاب أنفسهن. "عابدات" أي كثيرات العبادة لله تعالى. وقال ابن عباس: كل عبادة في القرآن فهو التوحيد. "سائحات" صائبات؛ قال ابن عباس والحسن وابن جبير. وقال زيد بن أسلم وابنه عبدالرحمن ويمان: مهاجرات. قال زيد: وليس في أمة محمد صلى الله عليه وسلم سياحة إلا الهجرة. والسياحة الجولان في الأرض. وقال الفراء والقتبي وغيرهما: سمي الصائم سائحا لأن السائح لا زاد معه، وإنما يأكل من حيث يجد الطعام. وقيل: ذاهبات في طاعة الله عز وجل؛ من ساح الماء إذا ذهب. وقد مضى في سورة "التوبة" والحمد لله. "ثيبات وأبكارا" أي منهن ثيب ومنهن بكر. وقيل: إنما سميت الثيب ثيبا لأنها راجعة إلى زوجها إن أقام معها، أو إلى غيره إن فارقها. وقيل: لأنها ثابت إلى بيت أبويها. وهذا أصح؛ لأنه ليس كل ثيب تعود إلى زوج. وأما البكر فهي العذراء؛ سميت بكرا لأنها على أول حالتها التي خلقت بها. وقال الكلبي: أراد بالثيب مثل آسية امرأة فرعون، وبالبكر مثل مريم بنة عمران.
قلت: وهذا إنما يمشي على قول من قال: إن التبديل وعد من الله لنبيه لو طلقهن في الدنيا زوجه في الآخرة خيرا منهن. والله أعلم.
الآية: 6 {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا" فيه مسألة واحدة وهي الأمر بوقاية الإنسان نفسه وأهله النار. قال الضحاك: معناه قوا أنفسكم، وأهلوكم فليقوا أنفسهم نارا. وروي علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: قوا أنفسكم وأمروا أهليكم بالذكر والدعاء حتى يقيهم الله بكم. وقال علي رضي الله عنه وقتادة ومجاهد: قوا أنفسكم بأفعالكم وقوا أهليكم بوصيتكم. ابن العربي: وهو الصحيح، والفقه الذي يعطيه العطف الذي يقتضي التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه في معنى الفعل؛ كقوله:
علفتها تبنا وماء باردا
وكقوله:
ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا
فعلى الرجل أن يصلح نفسه بالطاعة، ويصلح أهله إصلاح الراعي للرعية. ففي صحيح الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عنهم والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم). وعن هذا عبر الحسن في هذه الآية بقوله: يأمرهم وينهاهم. وقال بعض العلماء لما قال: "قوا أنفسكم" دخل فيه الأولاد؛ لأن الولد بعض منه. كما دخل في قوله تعالى: "ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم" [النور: 61] فلم يفردوا بالذكر إفراد سائر القرابات. فيعلمه الحلال والحرام، ويجنبه المعاصي والآثام، إلى غير ذلك من الأحكام. وقال عليه السلام: (حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ويعلمه الكتابة ويزوجه إذا بلغ). وقال عليه السلام: (ما نحل والد ولدا أفضل من أدب حسن). وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع). خرجه جماعة من أهل الحديث. وهذا لفظ أبي داود. وخرج أيضا عن سمرة بن جندب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين فإذا بلغ عشر سنين فأضربوه عليها). وكذلك يخبر أهله بوقت الصلاة ووجوب الصيام ووجوب الفطر إذا وجب؛ مستندا في ذلك إلى رؤية الهلال.
وقد روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوتر يقول: (قومي فأوتري يا عائشة). وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله امرأ قام من الليل فصلى فأيقظ أهله فإن لم تقم رش وجهها بالماء. رحم الله امرأة قامت من الليل تصلى وأيقظت زوجها فإذا لم يقم رشت على وجهه من الماء). ومنه قوله صلي الله عليه وسلم: (أيقظوا صواحب الحجر). ويدخل هذا في عموم قوله تعالى: "وتعاونوا على البر والتقوى" [المائدة: 2]. وذكر القشيري أن عمر رضي الله عنه قال لما نزلت هذه الآية: يا رسول الله، نقي أنفسنا، فكيف لنا بأهلينا؟. فقال: (تنهونهم عما نهاكم الله وتأمرونهم بما أمر الله). وقال مقاتل: ذلك حق عليه في نفسه وولده وأهله وعبيده وإمائه. قال الكيا: فعلينا تعليم أولادنا وأهلينا الدين والخير، وما لا يستغنى عنه من الأدب. وهو قوله تعالى: "وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها" [طه: 132]. ونحو قوله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: "وأنذر عشيرتك الأقربين". [الشعراء: 214]. وفي الحديث: (مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع).
قوله تعالى: "وقودها الناس والحجارة" " تقدم في سورة "البقرة". "عليها ملائكة غلاظ شداد" يعني الملائكة الزبانية غلاط القلوب لا يرحمون إذا استرحموا خلقوا من الغضب، وحبب إليهم عذاب الخلق كما حبب لبني آدم أكل الطعام والشراب. "شداد" أي شداد الأبدان. وقيل: غلاظ الأقوال شداد الأفعال. وقيل غلاظ في أخذهم أهل النار شداد عليهم. يقال: فلان شديد على فلان؛ أي قوي عليه يعذبه بأنواع العذاب. وقيل: أراد بالغلاظ ضخامة أجسامهم، وبالشدة القوة. قال ابن عباس: ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة، وقوة الواحد منهم أن يضرب بالمقمع فيدفع بتلك الضربة سبعين ألف إنسان في قعر جهنم. وذكر ابن وهب قال: وحدثنا عبدالرحمن بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خزنة جهنم: (ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق والمغرب).
قوله تعالى: "لا يعصون الله ما أمرهم" أي لا يخالفونه في أمره من زيادة أو نقصان. "ويفعلون ما يؤمرون" أي في وقته، فلا يؤخرونه ولا يقدمونه. وقيل أي لذتهم في أمتثال أمر الله؛ كما أن سرور أهل الجنة في الكون في الجنة؛ ذكره بعض المعتزلة. وعندهم أنه يستحيل التكيف غدا. ولا يخفى معتقد أهل الحق في أن الله يكلف العبد اليوم وغدا، ولا ينكر التكليف في حق الملائكة. ولله أن يفعل ما يشاء.
الآية: 7 {يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون}
قوله تعالى: "يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم" فإن عذركم لا ينفع. وهذا النهي لتحقيق اليأس. "إنما تجزون ما كنتم تعملون" في الدنيا. ونظيره: "فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون" [الروم: 57]. وقد تقدم.
تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 560
560- تفسير الصفحة رقم560 من المصحفسورة التحريم
مقدمة السورة
مدنية في قول الجميع، وهي اثنتا عشرة آية. وتسمى سورة "النبي".
الآية: 1 {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم}
قوله تعالى: "يا أيها النبي لم تحرمُ ما أحل الله لك" ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي لله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا، قالت فتواطأت أنا وحفصة أن أيتنا ما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلتقل: إني أجد منك رح مغافير! أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت له ذلك. فقال: (بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له). فنزل: "لم تحرم ما أحل الله لك - إلى قوله - إن تتوبا: (لعائشة وحفصة)، "وإذ أشر النبي إلى بعض أزواجه حديثا" [التحريم 30] لقوله: (بل شربت عسلا). وعنها أيضا قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل، فكان إذا صلي العصر دار على نسائه فيدنو منهن، فدخل على حفصة فأحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس، فسألت عن ذلك فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها عكة من عسل، فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شربة. فقلت: أما والله لنحتالن له، فذكرت ذلك لسودة وقلت: إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له: يا رسول الله، أكلت مغافير؟ فإنه سيقول لك لا. فقولي له: ما هذه الريح؟ - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح - فإنه سيقول لك سقتني حفصة شربة عسل. فقولي له: جرست نحله العُرْفُط. وسأقول ذلك له، وقوليه أنت يا صفية. فلما دخل على سودة - قالت: تقول سودة والله الذي لا إله إلا هو لقى كدت أن أبادئه بالذي قلت لي، وإنه لعلى الباب، فرقا منك. فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله، أكلت مغافير؟ قال: (لا) قالت: فما هذه الريح؟ قال: (سقتني حفصة شربة عسل) قال: جرست نحله العرفط. فلما دخل علي قلت له مثل ذلك. ثم دخل على صفة فقالت بمثل ذلك. فلما دخل على حفصة قال: يا رسول الله، ألا أسقك منه. قال (لا حاجة لي به) قالت: تقول سودة سبحان الله! والله لقد حرمناه. قالت: قلت لها اسكتي. ففي هذه الرواية أن التي شرب عندها العسل حفصة. وفي الأولى زينب. وروي ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه شربه عند سودة. وقد قيل: إنما هي أم سلمة، رواه أسباط عن السدي. وقاله عطاء بن أبي مسلم. ابن العربي: وهذا كله جهل أو تصور بغير علم. فقال باقي نسائه حسدا وغيرة لمن شرب ذلك عندها: إنا لنجد منك ريح المغافير. والمغافير: بقلة أو صمغة متغيرة الرائحة، فيها حلاوة. واحدها مغفور، وجرست: أكلت. والعرفط: نبت له ريح كريح الخمر. وكان عليه السلام يعجبه أن يوجد منه الريح الطيبة أو يجدها، ويكره الريح الخبيثة لمناجاة الملك. فهذا قول.
وقول آخر - أنه أراد بذلك المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها لأجل أزواجه، قاله ابن عباس وعكرمة. والمرأة أم شريك. وقول ثالث - إن التي حرم مارية القبطية، وكان قد أهداها له المقوقس ملك الإسكندرية. قال ابن إسحاق: هي من كورة أنصنا من بلد يقال له حفن فواقعها في بيت حفصة. روي الدارقطني عن ابن عباس عن عمر قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم ولده مارية في بيت حفصة، فوجدته حفصة معها - وكانت حفصة غابت إلى بيت أبيها - فقالت له: تدخلها بيتي! ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك. فقال لها: (لا تذكري هذا لعائشة فهي علي حرام إن قربتها) قالت حفصة: وكيف تحرم عليك وهي جاريتك؟ فحلف لها ألا يقربها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تذكريه لأحد). فذكرته لعائشة، فآلى لا يدخل على نسائه شهرا، فاعتزلهن تسعا وعشرين ليلة، فأنزل الله عز وجل "لم تحرم ما أحل الله لك" الآية.
أصح هذه الأقوال أولها. وأضعفها أوسطها. قال ابن العربي: "أما ضعفه في السند فلعدم عدالة رواته، وأما ضعفه في معناه فلأن رد النبي صلى الله عليه وسلم للموهوبة ليس تحريما لها، لأن من رد ما وهب له لم يحرم عليه، إنما حقيقة التحريم بعد التحليل. وأما من روي أنه حرم مارية القبطية فهو أمثل في السند وأقرب إلى المعنى، لكنه لم يدون في الصحيح. وروي مرسلا. وقد روي ابن وهب عن مالك عن زيد بن أسلم قال: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أم إبراهيم فقال: (أنت علي حرام والله لا آتينك). فأنزل الله عز وجل في ذلك: "يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك" وروي مثله ابن القاسم عنه. وروي أشهب عن مالك قال: راجعت عمر امرأة من الأنصار في شيء فاقشعر من ذلك وقال: ما كان النساء هكذا! قال: بلى، وقد كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يراجعنه. فأخذ ثوبه فخرج إلى حفصة فقال لها: أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم، ولو أعلم أنك تكره ما فعلت. فلما بلغ عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هجر نساءه قال: رغم أنف حفصة. وإنما الصحيح أنه كان في العسل وأنه شربه عند زينب، وتظاهرت عليه عائشة وحفصة فيه، فجرى ما جرى فحلف ألا يشربه وأسر ذلك. ونزلت الآية في الجميع.
قوله تعالى: "لم تحرم" إن كان النبي صلى الله عليه وسلم حرم ولم يحلف فليس ذلك بيمين عندنا. ولا يحرم قول الرجل: "هذا علي حرام" شيئا حاشا الزوجة. وقال أبو حنيفة: إذا أطلق حمل على المأكول والمشروب دون الملبوس، وكانت يمينا توجب الكفارة. وقال زفر: هو يمين في الكل حتى في الحركة والكون. وعول المخالف على أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم العسل فلزمته الكفارة. وقد قال الله تعالى: "قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم" [التحريم: 2] فسماه يمينا. ودليلنا قول الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا" [المائدة: 87]، وقوله تعالى: "قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون" [يونس: 59]. فذم الله المحرم للحلال ولم يوجب عليه كفارة. قال الزجاج: ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله. ولم يجعل لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يحرم إلا ما حرم الله عليه. فمن قال لزوجته أو أمته: أنت علي حرام؛ ولم ينو طلاقا ولا ظهارا فهذا اللفظ يوجب كفارة اليمين. ولو خاطب بهذا اللفظ جمعا من الزوجات والإماء فعليه كفارة واحدة. ولو حرم على نفسه طعاما أو شيئا آخر لم يلزمه بذلك كفارة عند الشافعي ومالك. وتجب بذلك كفارة عند ابن مسعود والثوري وأبي حنيفة.
واختلف العلماء في الرجل يقول لزوجته: "أنت علي حرام" على ثمانية عشر قولا: أحدها: لا شيء عليه. وبه قال الشعبي ومسروق وربيعة وأبو سلمة وأصبغ. وهو عندهم كتحريم الماء والطعام؛ قال الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم" [المائدة: 87] والزوجة من الطيبات ومما أحل الله. وقال تعالى: "ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام" [النحل: 116]. وما لم يحرمه الله فليس لأحد أن يحرمه، ولا أن يصير بتحريمه حراما. ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لما أحله الله هو علي حرام. وإنما امتنع من مارية ليمين تقدمت منه وهو قوله: (والله لا أقربها بعد اليوم) فقيل له: لم تحرم ما أحل الله لك؛ أي لم تمتنع منه بسبب اليمين. يعني أقدم عليه وكفر.
ثانيها: أنها يمين يكفرها؛ قال أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعبدالله بن مسعود وابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم - والأوزاعي؛ وهو مقتضى الآية. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: إذا حرم الرجل عليه امرأته فإنما هي يمين يكفرها. وقال ابن عباس: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة؛ يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حرم جاريته فقال الله تعالى: "لم تحرم ما أحل الله لك - إلى قوله تعالى - قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم" فكفر عن يمينه وصير الحرام يمينا. خرجه الدارقطني.
ثالثها: أنها تجب فيها كفارة وليست بيمين؛ قاله ابن مسعود وابن عباس أيضا في إحدى روايتيه، والشافعي في أحد قوليه، وفي هذا القول نظر. والآية ترده على ما يأتي.
رابعها: هي ظهار؛ ففيها كفارة الظهار، قال عثمان وأحمد بن حنبل وإسحاق.
خامسها: أنه إن نوى الظهار وهو ينوي أنها محرمة كتحريم ظهر أمه كان ظهارا. وإن نوى تحريم عينها عليه بغير طلاق تحريما مطلقا وجبت كفارة يمين. وإن لم ينو شيئا فعليه كفارة يمين، قاله الشافعي.
سادسها: أنها طلقة رجعية، قاله عمر بن الخطاب والزهري وعبدالعزيز بن أبي سلمة وابن الماجشون. وسابعها: أنها طلقة بائنة، قاله حماد بن أبي سليمان وزيد بن ثابت. ورواه ابن خويز منداد عن مالك.
ثامنها: أنها ثلات تطليقات، قال علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت أيضا وأبو هريرة.
تاسعها: هي في المدخول بها ثلاث، وينوي في غير المدخول بها، قاله الحسن وعلي بن زيد والحكم. وهو مشهور مذهب مالك.
عاشرها: هي ثلاث؛ ولا ينوي بحال ولا في محل وإن لم يدخل؛ قاله عبدالملك في المبسوط، وبه قال ابن أبي ليلى.
حادي عشرها: هي في التي لم يدخل بها واحدة، وفي التي دخل بها ثلاث؛ قاله أبو مصعب ومحمد بن عبدالحكم.
ثاني عشرها: أنه إن نوى الطلاق أو الظهار كان ما نوى. فإن نوى الطلاق فواحدة بائنة إلا أن ينوي ثلاثا. فإن نوى ثنتين فواحدة. فإن لم ينو شيئا كانت يمينا وكان الرجل موليا من امرأته؛ قاله أبو حنيفة وأصحابه. وبمثله قال زفر؛ إلا أنه قال: إذا نوى اثنتين ألزمناه.
ثالث عشرها: أنه لا تنفعه نية الظهار وإنما يكون طلاقا؛ قاله ابن القاسم.
رابع عشرها: قال يحيى بن عمر: يكون طلاقا؛ فإن أرتجعها لم يجز له وطؤها حتى يكفر كفارة الظهار.
خامس عشرها: إن نوى الطلاق فما أراد من أعداده. وإن نوى واحدة فهي رجعية. وهو قول الشافعي رضي الله عنه. وروي مثله عن أبي بكر وعمر وغيرهم من الصحابة والتابعين.
سادس عشرها: إن نوى ثلاثا فثلاثا، وإن واحدة فواحدة. وإن نوى يمينا فهي يمين. وإن لم ينو شيئا فلا شيء عليه. وهو قول سفيان. وبمثله قال الأوزاعي وأبو ثور؛ إلا أنهما قالا: إن لم ينو شيئا فهي واحدة.
سابع عشرها: له نيته ولا يكون أقل من واحدة؛ قاله ابن شهاب. وإن لم ينو شيئا لم يكن شيء؛ قال ابن العربي. ورأيت لسعيد بن جبير وهو:
الثامن عشر: أن عليه عتق رقبة وإن لم يجعلها ظهارا. ولست أعلم لها وجها ولا يبعد في المقالات عندي.
قلت: قد ذكره الدارقطني في سننه عن ابن عباس فقال: حدثنا الحسين بن إسماعيل قال حدثنا محمد بن منصور قال حدثنا روح قال: حدثنا سفيان الثوري عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه أتاه رجل فقال: إني جعلت امرأتي علي حراما. فقال: كذبت! ليست عليك بحرام؛ ثم تلا "يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك" عليك أغلظ الكفارات: عتق رقبة. وقد قال جماعة من أهل التفسير: إنه لما نزلت هذه الآية كفر عن يمينه بعتق رقبة، وعاد إلى مارية صلى الله عليه وسلم؛ قاله زيد بن أسلم وغيره.
قال علماؤنا: سبب الاختلاف في هذا الباب أنه ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نص ولا ظاهر صحيح يعتمد عليه في هذه المسألة، فتجاذبها العلماء لذلك. فمن تمسك بالبراءة الأصلية فقال: لا حكم، فلا يلزم بها شيء. وأما من قال إنها يمين؛ فقال: سماها الله يمينا. وأما من قال: تجب فيها كفارة وليست بيمين؛ فبناه على أحد أمرين: أحدهما: أنه ظن أن الله تعالى أوجب الكفارة فيها وإن لم تكن يمينا. والثاني: أن معنى اليمين عنده التحريم، فوقعت الكفارة على المعنى. وأما من قال: إنها طلقة رجعية؛ فإنه حمل اللفظ على أقل وجوهه، والرجعية محرمة الوطء كذلك؛ فيحمل اللفظ عليه. وهذا يلزم مالكا، لقوله: إن الرجعية محرمة الوطء. وكذلك وجه من قال: إنها ثلاث، فحمله على أكبر معناه وهو الطلاق الثلاث. وأما من قال: إنه ظهار، فلأنه أقل درجات التحريم، فإنه تحريم لا يرفع النكاح. وأما من قال: إنه طلقة بائنة، فعول على أن الطلاق الرجعي لا يحرم المطلقة، وأن الطلاق البائن يحرمها. وأما قول يحيى بن عمر فإنه احتاط بأن جعله طلاقا، فلما ارتجعها احتاط بأن يلزمه الكفارة. ابن العربي: "وهذا لا يصح، لأنه جمع بين المتضادين، فإنه لا يجتمع ظهار وطلاق في معنى لفظ واحد، فلا وجه للاحتياط فيما لا يصح اجتماعه في الدليل. وأما من قال: إنه ينوى في التي لم يدخل بها، فلأن الواحدة تبينها وتحرمها شرعا إجماعا. وكذلك قال من لم يحكم باعتبار نيته: إن الواحدة تكفي قبل الدخول في التحريم بالإجماع، فيكفي أخذا بالأقل المتفق عليه. وأما من قال: إنه ثلاث فيهما، فلأنه أخذ بالحكم الأعظم، فإنه لو صرح بالثلاث لنفذت في التي لم يدخل بها نفوذها في التي دخل بها. ومن الواجب أن يكون المعنى مثله وهو التحريم". والله أعلم. وهذا كله في الزوجة. وأما في الأمة فلا يلزم فيها شيء من ذلك، إلا أنه ينوي به العتق عند مالك. وذهب عامة العلماء إلى أن عليه كفارة يمين. ابن العربي. والصحيح أنها طلقة واحدة، لأنه لو ذكر الطلاق لكان أقله وهو الواحدة إلا أن يعدده. كذلك إذا ذكر التحريم يكون أقله إلا أن يقيده بالأكثر، مثل أن يقول أنت علي حرام إلا بعد زوج، فهذا نص على المراد.
قلت: أكثر المفسرين على أن الآية نزلت في حفصة لما خلا النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها بجاريته؛ ذكره الثعلبي. وعلى هذا فكأنه قال: لا يحرم عليك ما حرمته على نفسك ولكن عليك كفارة يمين، وإن كان في تحريم العسل والجارية أيضا. فكأنه قال: لم يحرم عليك ما حرمته، ولكن ضممت إلى التحريم يمينا فكفر عن اليمين. وهذا صحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حرم ثم حلف، كما ذكره الدارقطني. وذكر البخاري معناه في قصة العسل عن عبيد بن عمير عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عند زينب بنت جحش عسلا ويمكث عندها، فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل: أكلت مغافير؟ إني لأجد منك ريح مغافير! قال: (لا ولكن شربت عسلا ولن أعود له وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا). يبتغي مرضات أزواجه. فيعني بقوله: (ولن أعود له على جهة التحريم. وبقوله: (حلفت) أي بالله، بدليل أن الله تعالى أنزل عليه عند ذلك معاتبته على ذلك، وحوالته على كفارة اليمين بقوله تعالى: "يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك" يعني العسل المحرم بقوله: (لن أعود له). "تبتغي مرضات أزواجك" أي تفعل ذلك طلبا لرضاهن. "والله غفور رحيم" غفور لما أوجب المعاتبة، رحيم برفع المؤاخذة. وقد قيل: إن ذلك كان ذنبا من الصغائر. والصحيح أنه معاتبة على ترك الأولى، وأنه لم تكن له صغيرة ولا كبيرة.
الآية: 2 {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم}
قوله تعالى: "قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم" تحليل اليمين كفارتها. أي إذا أحببتم استباحة المحلوف عليه، وهو قوله تعالى في سورة "المائدة": "فكفارته إطعام عشرة مساكين" [المائدة: 89]. ويتحصل من هذا أن من حرم شيئا من المأكول والمشروب لم يحرم عليه عندنا، لأن الكفارة لليمين لا للتحريم على ما بيناه. وأبو حنيفة يراه يمينا في كل شيء، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرمه، فإذا حرم طعاما فقد حلف على أكله، أو أمة فعلى وطئها، أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم يكن له نية، وإن نوى الظهار فظهار، وإن نوى الطلاق فطلاق بائن. وكذلك إن نوى ثنتين أو ثلاثا. وإن قال: نويت الكذب دين فيما بينه وبين الله تعالى. ولا يدين في القضاء بإبطال الإيلاء. وإن قال: كل حلال عليه حرام؛ فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو، وإلا فعلى ما نوى. ولا يراه الشافعي يمينا ولكن سببا في الكفارة في النساء وحدهن. وإن نوى الطلاق فهو رجعي عنده، على ما تقدم بيانه. فإن حلف إلا يأكله حنث ويبر بالكفارة.
فإن حرم أمته أو زوجته فكفارة يمين، كما في صحيح مسلم عن ابن عباس قال: إذا حرم الرجل عليه امرأته، فهي يمين يكفرها. وقال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.
قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كفر عن يمينه. وعن الحسن: لم يكفر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وكفارة اليمين في هذه السورة إنما أمر بها الأمة. والأول أصح، وأن المراد بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. ثم إن الأمة تقتدي به في ذلك. وقد قدمنا عن زيد بن أسلم أنه عليه السلام كفر بعتق رقبة. وعن مقاتل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق رقبة في تحريم مارية. والله أعلم. وقيل: أي قد فرض الله لكم تحليل ملك اليمين، فبين في قوله تعالى: "ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له" [الأحزاب: 38] أي فيما شرعه له في النساء المحللات. أي حلل لكم ملك الأيمان، فلم تحرم مارية على نفسك مع تحليل الله إياها لك. وقيل: تحلة اليمين الاستثناء، أي فرض الله لكم الاستثناء المخرج عن اليمين. ثم عند قوم يجوز الاستثناء من الأيمان متى شاء وإن تحلل مدة. وعند المعظم لا يجوز إلا متصلا، فكأنه قال: استثن بعد هذا فيما تحلف عليه. وتحلة اليمين تحليلها بالكفارة، والأصل تحللة، فأدغمت. وتفعلة من مصادر فعل؛ كالتسمية والتوصية. فالتحلة تحليل اليمين. فكأن اليمين عقد والكفارة حل. وقيل: التحلة الكفارة؛ أي إنها تحل للجالف ما حرم على نفسه؛ أي إذا كفر صار كمن لم يحلف. "والله مولاكم" وليكم وناصركم بإزالة الحظر فيما تحرمونه على أنفسكم، وبالترخيص لكم في تحليل أيمانكم بالكفارة، وبالثواب على ما تخرجونه في الكفارة.
الآية: 3 {وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير}
قوله تعالى: "وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا" أي واذكر إذ أسر النبي إلى حفصة حديثا" يعني تحريم مارية على نفسه واستكتامه إياها ذلك. وقال الكلبي: أسر إليها أن أباك وأبا عائشة يكونان خليفتي على أمتي من بعدي؛ وقال ابن عباس. قال: أسر أمر الخلافة بعده إلى حفصة فذكرته حفصة. روي الدارقطني في سننه عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: "وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا" قال: اطلعت حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم مع أم إبراهيم فقال: (لا تخبري عائشة) وقال لها (إن أباك وأباها سيملكان أو سيليان بعدي فلا تخبري عائشة) قال: فانطلقت حفصة فأخبرت عائشة فأظهره الله عليه، فعرف بعضه وأعرض عن بعض. قال أعرض عن قوله: (إن أباك وأباها يكونان بعدي). كره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينشر ذلك في الناس. "فلما نبأت به" أي أخبرت به عائشة لمصافاة كانت بينهما، وكانتا متظاهرتين على نساء النبي صلى الله عليه وسلم. "وأظهره الله عليه" أي أطلعه الله على أنها قد نبأت به. وقرأ طلحة بن مصرف "فلما أنبأت" وهما لغتان: أنبأ ونبأ. "عرف بعضه وأعرض عن بعض" عرف حفصة بعض ما أوحي إليه من أنها أخبرت عائشة بما نهاها عن أن تخبرها، وأعرض عن بعض تكرما؛ قاله السدي. وقال الحسن: ما استقصى كريم قط، قال الله تعالى "عرف بعضه وأعرض عن بعض". وقال مقاتل: يعني أخبرها ببعض ما قالت لعائشة، وهو حديث أم ولده ولم يخبرها ببعض وهو قول حفصة لعائشة: إن أبا بكر وعمر سيملكان بعده. وقراءة العامة "عرف" مشددا، ومعناه ما ذكرناه. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، يدل عليه قوله تعالى: "وأعرض عن بعض" أي لم يعرفها إياه. ولو كانت مخففة لقال في ضده وأنكر بعضا. وقرأ علي وطلحة بن مصرف وأبو عبدالرحمن السلمي والحسن وقتادة والكلبي والكسائي والأعمش عن أبي بكر "عرف" مخففة. قال عطاء: كان أبو عبدالرحمن السلمي إذا قرأ عليه الرجل "عرف" مشددة حصبه بالحجارة. قال الفراء: وتأويل قوله عز وجل: "عرف بعضه" بالتخفيف، أي غضب فيه وجازى عليه؛ وهو كقولك لمن أساء إليك: لأعرفن لك ما فعلت، أي لأجازينك عليه. وجازاها النبي صلى الله عليه وسلم بأن طلقها طلقة واحدة. فقال عمر: لو كان في آل الخطاب خير لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طلقك. فأمره جبريل بمراجعتها وشفع فيها. واعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه شهرا، وقعد في مشربة مارية أم إبراهيم حتى نزلت آية التحريم على ما تقدم. وقيل: هم بطلاقها حتى قال له جبريل: (لا تطلقها فإنها صوامة قوامة وإنها من نسائك في الجنة) فلم يطلقها. "فلما نبأها به" أي أخبر حفصة بما أظهره الله عليه. "قالت من أنبأك هذا" يا رسول الله عني. فظنت أن عائشة أخبرته، فقال عليه السلام: "قال نبأني العليم الخبير" أي الذي لا يخفى عليه شيء. و"هذا" سد مسد مفعولي "أنبأ". و"نبأ" الأول تعدى إلى مفعول، و"نبأ" الثاني تعدى إلى مفعول واحد، لأن نبأ وأنبأ إذا لم يدخلا على المبتدأ والخبر جاز أن يكتفى فيهما بمفعول واحد وبمفعولين، فإذا دخلا على الابتداء والخبر تعدى كل واحد منهما إلى ثلاثة مفعولين. ولم يجز الاقتصار على الاثنين دون الثالث، لأن الثالث هو خبر المبتدأ في الأصل فلا يقتصر دونه، كما لا يقتصر على المبتدأ دون الخبر.
الآية: 4 {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير}
قوله تعالى: "إن تتوبا إلى الله" يعني حفصة وعائشة، حثهما على التوبة على ما كان منهما من الميل إلى خلاف محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. "فقد صغت قلوبكما" أي زاغت ومالت عن الحق. وهو أنهما أحبتا ما كره النبي صلى الله عليه وسلم من اجتناب جاريته واجتناب العسل، وكان عليه السلام يحب العسل والنساء. قال ابن زيد: مالت قلوبهما بأن سرهما أن يحتبس عن أم ولده، فسرهما ما كرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: فقد مالت قلوبكما إلى التوابة. وقال: "فقد صغت قلوبكما" ولم يقل: فقد صغى قلباكما، ومن شأن العرب إذا ذكروا الشيئين، من اثنين جمعوهما، لأنه لا يشكل. وقد مضى هذا المعنى في "المائدة" في قوله تعالى: "فاقطعوا أيديهما" [المائدة: 38]. وقيل: كلما ثبتت الإضافة فيه مع التثنية فلفظ الجمع أليق به، لأنه أمكن وأخف. وليس قوله: "فقد صغت قلوبكما" جزاء للشرط، لأن هذا الصغو كان سابقا، فجواب الشرط محذوف للعلم به. أي إن تتوبا كان خيرا لكما، إذ قد صغت قلوبكما.
قوله تعالى: "وإن تظاهرا عليه" أي تتظاهرا وتتعاونا على النبي صلى الله عليه وسلم بالمعصية والإيذاء. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له، حتى خرج حاجا فخرجت معه، فلما رجع فكنا ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له، فوقفت حتى فرع، ثم سرت معه فقلت: يا أمير المؤمنين، من اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه؟ فقال: تلك حفصة وعائشة. قال فقلت له: والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة فما أستطيع هيبة لك. قال: فلا تفعل، ما ظننت أن عندي من علم فسلني عنه، فإن كنت أعلمه أخبرتك... وذكر الحديث. "فإن الله هو مولاه" أي وليه وناصره، فلا يضره ذلك التظاهر منهما. "وجبريل وصالح المؤمنين" قال عكرمة وسعيد بن جبير: أبو بكر وعمر، لأنهما أبوا عائشة وحفصة، وقد كانا عونا له عليهما. وقيل: صالح المؤمنين علي رضي الله عنه. وقيل: خيار المؤمنين. وصالح: اسم جنس كقوله تعالى: "والعصر. إن الإنسان لفي خسر" [العصر: 2]، قاله الطبري. وقيل: "صالح المؤمنين" هم الأنبياء، قال العلاء بن زيادة وقتادة وسفيان. وقال ابن زيد: هم الملائكة. السدي: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: "صالح المؤمنين" ليس لفظ الواحد وإنما هو صالحو المؤمنين: فأضاف الصالحين إلى المؤمنين، وكتب بغير واو على اللفظ لأن لفظ الواحد والجمع واحد فيه. كما جاءت أشياء في المصحف متنوع فيها حكم اللفظ دون وضع الخط.
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما اعتزل نبي الله صلى الله عليه وسلم نساءه قال دخلت المسجد فإذا الناس ينكتون بالحصى ويقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه - وذلك قبل أن يؤمرن بالحجاب - فقال عمر: فقلت لأعلمن ذلك اليوم، قال فدخلت على عائشة فقلت: يا ابنة أبي بكر، أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقالت: مالي ومالك يا ابن الخطاب! عليك بعيبتك! قال فدخلت على حفصة بنت عمر فقلت لها: يا حفصة، أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم! والله لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحبك، ولولا أنا لطلقك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبكت أشد البكاء، فقلت لها: أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هو في خزانته في المشربة. فدخلت فإذا أنا برباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا على أسكفة المشربة مدل رجليه على نقير من خشب، وهو جذع يرقى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وينحدر. فناديت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله، فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إلي فلم يقل شيئا. ثم قلت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إلي فلم يقل شيئا. ثم رفعت صوتي فقلت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني أظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظن أني جئت من أجل حفصة، والله لئن أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقها لأضربن عنقها، ورفعت صوتي فأومأ إلي أن اِرْقَه؛ فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على حصير، فجلست فأدنى عليه إزاره وليس عليه غيره؛ وإذا الحصير قد أثر في جنبه، فنظرت ببصري في خزانة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع، ومثلها قرظا في ناحية الغرفة؛ وإذا أفيق معلق - قال - فابتدرت عيناي. قال: (ما يبكيك يا ابن الخطاب)؟ قلت يا نبي الله، ومالي لا أبكى وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى! وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفوته، وهذه خزانتك! فقال: (يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا) قلت: بلى. قال: ودخلت عليه حين دخلت وأنا أرى في وجهه الغضب، فقلت: يا رسول الله، ما يشق عليك من شأن النساء؛ فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك. وقلما تكلمت - وأحمد الله - بكلام إلا رجوت أن يكون الله عز وجل يصدق قولي الذي أقول ونزلت هذه الآية، آية التخيير: "عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن" [التحريم: 5]. "وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير".
وكانت عائشة بنت أبي بكر وحفصة تظاهران على سائر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: يا رسول الله، أطلقتهن؟ قال: (لا). قلت: يا رسول الله، إني دخلت المسجد والمسلمون ينكتون بالحصى يقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن؟ قال: (نعم إن شئت). فلم أزل أحدثه حتى تحسر الغضب عن وجهه، وحتى كشر فضحك، وكان من أحسن الناس ثغرا. ثم نزل نبي الله صلى الله عليه وسلم ونزلت؛ فنزلت أتشبث بالجذع، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما يمشي على الأرض ما يمسه بيده. فقلت: يا رسول الله، إنما كنت في الغرفة تسعا وعشرين. قال: (إن الشهر يكون تسعا وعشرين) فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه. ونزلت هذه الآية: "وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم" [النساء: 83]. فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر؛ وأنزل الله آية التخيير.
قوله تعالى: "وجبريل" فيه لغات تقدمت في سورة "البقرة". ويجوز أن يكون معطوفا على "مولاه" والمعنى: الله وليه وجبريل وليه؛ فلا يوقف على "مولاه" ويوقف على "جبريل" ويكون "وصالح المؤمنين" مبتدأ "والملائكة" معطوفا عليه. و"ظهير" خبرا؛ وهو بمعنى الجمع. وصالح المؤمنين أبو بكر؛ قاله المسيب بن شريك. وقال سعيد بن جبير: عمر. وقال عكرمة: أبو بكر وعمر. وروي شقيق عن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: "فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين" قال: إن صالح المؤمنين أبو بكر وعمر. وقيل: هو علي. عن أسماء بنت عميس قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ("وصالح المؤمنين" علي بن أبي طالب). وقيل غير هذا مما تقدم القول فيه. ويجوز أن يكون "وجبريل" مبتدأ وما بعده معطوفا عليه. والخبر ((ظهير" وهو بمعنى الجمع أيضا. فيوقف على هذا على "مولاه". ويجوز أن يكون "جبريل وصالح المؤمنين" معطوفا على "مولاه" فيوقف على "المؤمنين" ويكون "والملائكة بعد ذلك ظهير" ابتداء وخبرا. ومعنى "ظهير" أعوان. وهو بمعنى ظهراء؛ كقوله تعالى: "وحسن أولئك، رفيقا" [النساء: 69]. وقال أبو علي: قد جاء فعيل للكثرة كقوله تعالى: "ولا يسأل حميم حميما. يبصرونهم" [المعارج:11]. وقيل: كان التظاهر منهما في التحكم على النبي صلي اله عليه وسلم في النفقة، ولهذا آلى منهن شهرا واعتزلهن. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله قال: دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم، قال: فأذن لأبي بكر فدخل، ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا - قال - فقال لأقولن شيئا أضحك النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: يا رسول الله، لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها؛ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (هن حولي كما ترى يسألنني النفقة). فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها؛ كلاهما يقول: تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده! فقلن: والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا أبدا ليس عنده. ثم اعتزلهن شهرا أو تسعا وعشرين. ثم نزلت عليه هذه الآية: "يا أيها النبي قل لأزواجك" حتى بلغ "للمحسنات منكن أجرا عظيما" [الأحزاب: 28] الحديث. وقد ذكراه في سورة "الأحزاب".
الآية: 5 {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكار}
قوله تعالى: "عسى ربه إن طلقكن" قد تقدم في الصحيح أن هذه الآية نزلت على لسان عمر رضي الله عنه. ثم قيل: كل "عسى" في القرآن واجب؛ إلا هذا. وقيل: هو واجب ولكن الله عز وجل علقه بشرط وهو التطليق ولم يطلقهن. "أن يبدله أزواجا خيرا منكن" لأنكن لو كنتن خيرا منهن ما طلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال معناه السدي. وقيل: هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلي الله عليه وسلم، لو طلقهن في الدنيا أن يزوجه في الدنيا نساء خيرا منهن. وقرئ "أن يبدله" بالتشديد والتخفيف. والتبديل والإبدال بمعنى، كالتنزيل والإنزال. والله كان عالما بأنه كان لا يطلقهن، ولكن أخبر عن قدرته، على أنه إن طلقهن أبدله خيرا منهن تخويفا لهن. وهو كقوله تعالى: "وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم" [محمد: 38]. وهو إخبار عن القدرة وتخويف لهم، لا أن في الوجود من هو خير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: "مسلمات" يعني مخلصات، قاله سعيد بن جبير. وقيل: معناه مسلمات لأمر الله تعالى وأمر رسوله. "مؤمنات" مصدقات بما أمرن به ونهين عنه. "قانتات" مطيعات. والقنوت: الطاعة. وقد تقدم. "تائبات" أي من ذنوبهن؛ قاله السدي. وقيل: راجحات إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم تاركات لمحاب أنفسهن. "عابدات" أي كثيرات العبادة لله تعالى. وقال ابن عباس: كل عبادة في القرآن فهو التوحيد. "سائحات" صائبات؛ قال ابن عباس والحسن وابن جبير. وقال زيد بن أسلم وابنه عبدالرحمن ويمان: مهاجرات. قال زيد: وليس في أمة محمد صلى الله عليه وسلم سياحة إلا الهجرة. والسياحة الجولان في الأرض. وقال الفراء والقتبي وغيرهما: سمي الصائم سائحا لأن السائح لا زاد معه، وإنما يأكل من حيث يجد الطعام. وقيل: ذاهبات في طاعة الله عز وجل؛ من ساح الماء إذا ذهب. وقد مضى في سورة "التوبة" والحمد لله. "ثيبات وأبكارا" أي منهن ثيب ومنهن بكر. وقيل: إنما سميت الثيب ثيبا لأنها راجعة إلى زوجها إن أقام معها، أو إلى غيره إن فارقها. وقيل: لأنها ثابت إلى بيت أبويها. وهذا أصح؛ لأنه ليس كل ثيب تعود إلى زوج. وأما البكر فهي العذراء؛ سميت بكرا لأنها على أول حالتها التي خلقت بها. وقال الكلبي: أراد بالثيب مثل آسية امرأة فرعون، وبالبكر مثل مريم بنة عمران.
قلت: وهذا إنما يمشي على قول من قال: إن التبديل وعد من الله لنبيه لو طلقهن في الدنيا زوجه في الآخرة خيرا منهن. والله أعلم.
الآية: 6 {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا" فيه مسألة واحدة وهي الأمر بوقاية الإنسان نفسه وأهله النار. قال الضحاك: معناه قوا أنفسكم، وأهلوكم فليقوا أنفسهم نارا. وروي علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: قوا أنفسكم وأمروا أهليكم بالذكر والدعاء حتى يقيهم الله بكم. وقال علي رضي الله عنه وقتادة ومجاهد: قوا أنفسكم بأفعالكم وقوا أهليكم بوصيتكم. ابن العربي: وهو الصحيح، والفقه الذي يعطيه العطف الذي يقتضي التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه في معنى الفعل؛ كقوله:
علفتها تبنا وماء باردا
وكقوله:
ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا
فعلى الرجل أن يصلح نفسه بالطاعة، ويصلح أهله إصلاح الراعي للرعية. ففي صحيح الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عنهم والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم). وعن هذا عبر الحسن في هذه الآية بقوله: يأمرهم وينهاهم. وقال بعض العلماء لما قال: "قوا أنفسكم" دخل فيه الأولاد؛ لأن الولد بعض منه. كما دخل في قوله تعالى: "ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم" [النور: 61] فلم يفردوا بالذكر إفراد سائر القرابات. فيعلمه الحلال والحرام، ويجنبه المعاصي والآثام، إلى غير ذلك من الأحكام. وقال عليه السلام: (حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ويعلمه الكتابة ويزوجه إذا بلغ). وقال عليه السلام: (ما نحل والد ولدا أفضل من أدب حسن). وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع). خرجه جماعة من أهل الحديث. وهذا لفظ أبي داود. وخرج أيضا عن سمرة بن جندب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين فإذا بلغ عشر سنين فأضربوه عليها). وكذلك يخبر أهله بوقت الصلاة ووجوب الصيام ووجوب الفطر إذا وجب؛ مستندا في ذلك إلى رؤية الهلال.
وقد روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوتر يقول: (قومي فأوتري يا عائشة). وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله امرأ قام من الليل فصلى فأيقظ أهله فإن لم تقم رش وجهها بالماء. رحم الله امرأة قامت من الليل تصلى وأيقظت زوجها فإذا لم يقم رشت على وجهه من الماء). ومنه قوله صلي الله عليه وسلم: (أيقظوا صواحب الحجر). ويدخل هذا في عموم قوله تعالى: "وتعاونوا على البر والتقوى" [المائدة: 2]. وذكر القشيري أن عمر رضي الله عنه قال لما نزلت هذه الآية: يا رسول الله، نقي أنفسنا، فكيف لنا بأهلينا؟. فقال: (تنهونهم عما نهاكم الله وتأمرونهم بما أمر الله). وقال مقاتل: ذلك حق عليه في نفسه وولده وأهله وعبيده وإمائه. قال الكيا: فعلينا تعليم أولادنا وأهلينا الدين والخير، وما لا يستغنى عنه من الأدب. وهو قوله تعالى: "وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها" [طه: 132]. ونحو قوله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: "وأنذر عشيرتك الأقربين". [الشعراء: 214]. وفي الحديث: (مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع).
قوله تعالى: "وقودها الناس والحجارة" " تقدم في سورة "البقرة". "عليها ملائكة غلاظ شداد" يعني الملائكة الزبانية غلاط القلوب لا يرحمون إذا استرحموا خلقوا من الغضب، وحبب إليهم عذاب الخلق كما حبب لبني آدم أكل الطعام والشراب. "شداد" أي شداد الأبدان. وقيل: غلاظ الأقوال شداد الأفعال. وقيل غلاظ في أخذهم أهل النار شداد عليهم. يقال: فلان شديد على فلان؛ أي قوي عليه يعذبه بأنواع العذاب. وقيل: أراد بالغلاظ ضخامة أجسامهم، وبالشدة القوة. قال ابن عباس: ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة، وقوة الواحد منهم أن يضرب بالمقمع فيدفع بتلك الضربة سبعين ألف إنسان في قعر جهنم. وذكر ابن وهب قال: وحدثنا عبدالرحمن بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خزنة جهنم: (ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق والمغرب).
قوله تعالى: "لا يعصون الله ما أمرهم" أي لا يخالفونه في أمره من زيادة أو نقصان. "ويفعلون ما يؤمرون" أي في وقته، فلا يؤخرونه ولا يقدمونه. وقيل أي لذتهم في أمتثال أمر الله؛ كما أن سرور أهل الجنة في الكون في الجنة؛ ذكره بعض المعتزلة. وعندهم أنه يستحيل التكيف غدا. ولا يخفى معتقد أهل الحق في أن الله يكلف العبد اليوم وغدا، ولا ينكر التكليف في حق الملائكة. ولله أن يفعل ما يشاء.
الآية: 7 {يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون}
قوله تعالى: "يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم" فإن عذركم لا ينفع. وهذا النهي لتحقيق اليأس. "إنما تجزون ما كنتم تعملون" في الدنيا. ونظيره: "فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون" [الروم: 57]. وقد تقدم.
الصفحة رقم 560 من المصحف تحميل و استماع mp3