تفسير الطبري تفسير الصفحة 560 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 560
561
559
سورة التحريم مدنية
وآياتها اثنتا عشرة
بسم الله الرحمَن الرحيـم

الآية : 1
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{يَأَيّهَا النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ مَآ أَحَلّ اللّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا أيها النبيّ المحرّم على نفسه ما أحلّ الله له, يبتغي بذلك مرضاه أزواجه, لم تحرّم على نفسك الحلال الذي أحله الله لك, تلتمس بتحريمك ذلك مرضاة أزواجك.
واختلف أهل العلم في الحلال الذي كان الله جلّ ثناؤه أحله لرسوله, فحرّمه على نفسه ابتغاء مرضاة أزواجه, فقال بعضهم: كان ذلك مارية مملوكته القبطية, حرّمها على نفسه بيمين أنه لا يقربها طالبا بذلك رضا حفصة بنت عمر زوجته, لأنها كانت غارت بأن خلا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في يومها وفي حجرتها. ذكر من قال ذلك:
26605ـ حدثني محمد بن عبد الرحيم البرقي, قال: ثني ابن أبي مريم, قال: حدثنا أبو غسان, قال: ثني زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصاب أمّ إبراهيم في بيت بعض نسائه قال: فقالت: أي رسول الله في بيتي وعلى فراشي؟, فجعلها عليه حراما فقالت: يا رسول الله كيف تحرّم عليك الحلال؟, فحلف لها بالله لا يصيبها, فأنزل الله عزّ وجلّ: يا أيّها النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ ما أحَلّ اللّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أزْوَاجِكَ قال: زيد: فقوله أنت عليّ حرام لغو.
26606ـ حدثني يعقوب, قال: ثني ابن علية, قال: حدثنا داود ابن أبي هند, عن الشعبيّ, قال: قال مسروق إن النبيّ صلى الله عليه وسلم حرّم جاريته, وآلى منها, فجعل الحلال حراما, وقال في اليمين: قَدْ فَرَضَ اللّهُ لَكُمْ تَحِلّةَ أيمانِكُمْ.
حدثنا يونس بن عبد الأعلى, قال: حدثنا سفيان, عن داود, عن الشعبيّ, عن مسروق, قال: آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرّم, فعوتب في التحريم, وأمر بالكفارة في اليمين.
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, عن مالك, عن زيد بن أسلم, قال لها: أنت عليّ حرام, ووالله لا أطؤك.
26607ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله يا أيّها النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ ما أحَلّ اللّهَ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أزْوَاجِكَ قال: كان الشعبي يقول: حرّمها عليه, وحلف لا يقربها, فعوتب في التحريم, وجاءت الكفارة في اليمين.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة وعامر الشعبيّ, أن النبي صلى الله عليه وسلم حرّم جاريته. قال الشعبيّ: حلف بيمين مع التحريم, فعاتبه الله في التحريم, وجعل له كفارة اليمين.
26608ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله يا أيّها النّبِيّ لِمَ تحَرّمُ ما أحَلّ اللّهُ لَكَ قال: إنه وَجَدَتِ امرأة من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جاريته في بيتها, فقالت: يا رسول الله أنى كان هذا الأمر, وكنتُ أهونهنّ عليك؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسْكُتي لا تَذْكُرِي هَذَا لأَحَدٍ, هِيَ عَليّ حَرَامٌ إنْ قَرُبْتُها بَعْدَ هَذَا أبَدا», فقالت: يا رسول الله وكيف تحرم عليك ما أحلّ الله لك حين تقول: هي عليّ حرام أبدا؟ فقال: وَاللّهِ لا آتيها أبَدا, فقال الله: يا أيّها النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ ماأحَلّ اللّهُ لَكَ... الاَية, قد غفرت هذا لك, وقولك والله قَدْ فَرَضَ اللّهُ لَكُمْ تَحِلّةَ أيمانِكُمْ وَاللّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ العَلِيمٌ الحَكِيمُ.
26609ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: يا أيّها النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ ماأحَلّ اللّهُ لَكَ كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتاة, فغشيها, فبصُرت به حفصة, وكان اليوم يومَ عائشة, وكانتا متظاهرتين, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اكْتُمي عَليّ وَلا تَذْكُرِي لِعائِشَةَ ما رأيْتِ», فذكرت حفصة لعائشة, فغضبت عائشة. فلم تزل بنبيّ الله صلى الله عليه وسلم حتى حلف أن لا يقربها أبدا, فأنزل الله هذه الاَية, وأمره أن يكفر يمينه, ويأتي جاريته.
26610ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عامر, في قول الله يا أيّها النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ ماأحَلّ اللّهُ لَكَ في جارية أتاها, فأطلعت عليه حفصة, فقال: هي عليّ حرام, فاكتمي ذلك, ولا تخبري به أحدا فذكرت ذلك.
وقال آخرون: بل حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريته, فجعل الله عزّ وجلّ تحريمه إياها بمنزلة اليمين, فأوجب فيها من الكفارة مثل ما أوجب في اليمين إذا حنث فيها صاحبها. ذكر من قال ذلك:
26611ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, في قوله قَدْ فَرَضَ اللّهُ لَكُمْ تَحِلّةَ أيمَانِكُمْ أمر الله النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إذا حرموا شيئا مما أحلّ الله لهم أن يكفروا أيمانهم بإطعام عشر مساكين أو كسوتهم, أو تحرير رقبة, وليس يدخل ذلك في طلاق.
26612ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: يا أيّها النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ ماأحَلّ اللّهُ لَكَ... إلى قوله وَهُوَ العَلِيمُ الْحَكِيمُ قال: كانت حفصة وعائشة متحابتين وكانتا زوجتي النبيّ صلى الله عليه وسلم, فذهبت حفصة إلى أبيها, فتحدثت عنده, فأرسل النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى جاريته, فظلت معه في بيت حفصة, وكان اليوم الذي يأتي فيه عائشة, فرجعت حفصة, فوجدتهما في بيتها, فجعلت تنتظر خروجها, وغارت غيره شديدة, فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريته, ودخلت حفصة فقالت: قد رأيت من كان عندك, والله لقد سُئْتَنِي, فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «واللّهِ لأُرْضِيَنّكِ فإنّي مُسِرّ إلَيْكِ سِرا فاحْفَظِيهِ» قالت: ما هو؟ قال: «إنّي أُشْهِدُكِ أنّ سُرّيّتِي هَذِهِ عَليّ حَرَامٌ رِضا لكِ», وكانت حفصة وعائشة تظاهران على نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم, فانطلقت حفصة إلى عائشة, فأسرّت إليها أن أبشري إن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد حرّم عليه فتاته, فلما أخبرت بسرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أظهر الله عزّ وجلّ النبيّ صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله على رسوله لما تظاهرتا عليه يا أيّها النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ ماأحَلّ اللّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أزْوَاجِكَ... إلى قوله وَهُوَ العَلِيمُ الْحَكِيمُ.
26613ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن علية, قال: حدثنا هشام الدستوائي, قال: كتب إليّ يحيى يحدّث عن يعلى بن حكيم, عن سعيد بن جُبير, أن ابن عباس كان يقول: في الحرام يمين تكفرها. وقال ابن عباس: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ يعني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حرّم جاريته, فقال الله وجلّ ثناؤه: يا أيّها النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ ماأحَلّ اللّهُ لَكَ... إلى قوله قَدْ فَرَضَ اللّهُ لَكُمْ تَحِلّةَ أيمَانِكُمْ فكفر يمينه, فصير الحرام يمينا.
26614ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا معتمر, عن أبيه, قال: أنبأنا أبو عثمان أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل بيت حفصة, فإذا هي ليست ثَمّ, فجاءته فتاته, وألقى عليها سترا, فجاءت حفصة فقعدت على الباب حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته, فقالت: والله لقد سئتني, جامعتها في بيتي, أو كما قالت قال: وحرّمها النبيّ صلى الله عليه وسلم, أو كما قال.
26615ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادةيا أيّها النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ ماأحَلّ اللّهُ لَكَ... الاَية, قال: كان حرم فتاته القبطية أمّ ولده إبراهيم يقال لها مارية في يوم حفصة, وأسرّ ذلك إليها, فأطلعت عليه عائشة, وكانتا تظاهران على نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم, فأحلّ الله له ما حرّم على نفسه, فأُمر أن يكفر عن يمينه, وعوتب في ذلك, فقال: قَدْ فَرَضَ اللّهُ لَكُمْ تَحِلّةَ أيمَانِكُمْ وَاللّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ العَلِيمُ الْحَكِيمُ قال قتادة: وكان الحسن يقول حرّمها عليه, فجعل الله فيها كفارة يمين.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حرّمها يعني جاريته, فكانت يمينا.
26616ـ حدثنا سعيد بن يحيى, قال: حدثنا أبي, قال: حدثنا محمد بن إسحاق, عن الزهري, عن عبيد الله بن عبد الله, عن ابن عباس, قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: من المرأتان؟ قال: عائشة, وحفصة. وكان بدء الحديث في شأن أمّ إبراهيم القبطية, أصابها النبيّ صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة في يومها, فوجدته حفصة, فقالت: يا نبيّ الله لقد جئت إليّ شيئا ما جئتَ إلى أحد من أزواجك بمثله في يومي وفي دوري, وعلى فراشي قال: «ألا تَرْضَيْنَ أنْ أُحَرّمَها فَلا أقْرَبَهَا؟» قالت: بلى, فحرّمها, وقال: «لا تَذْكُرِي ذلكَ لأَحَدٍ», فذكرته لعائشة, فأظهره الله عزّ وجلّ عليه, فأنزل الله: يا أيّها النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ ما أحَلّ اللّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أزْوَجكَ... الاَيات كلها, فبلغنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كفر يمينه, وأصاب جاريته.
وقال آخرون: كان ذلك شرابا يشربه, كان يعجبه ذلك. ذكر من قال ذلك:
26617ـ حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا أبو داود, قال: حدثنا شعبة, عن قيس بن مسلم, عن عبد الله بن شدّاد بن الهاد, قال: نزلت هذه الاَية في شراب يا أيّها النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ ما أحَلّ اللّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أزْوَجكَ.
حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا أبو قَطن البغدادي عمرو بن الهيثم, قال: حدثنا شعبة, عن قيس بن مسلم, عن عبد الله بن شدّاد مثله.
26618ـ قال: ثنا أبو قطن, قال: حدثنا يزيد بن إبراهيم, عن ابن أبي مليكة, قال: نزلت في شراب.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: كان الذي حرّمه النبيّ صلى الله عليه وسلم على نفسه شيئا كان الله قد أحله له, وجائز أن يكون ذلك كان جاريته, وجائز أن يكون كان شرابا من الأشربة, وجائز أن يكون كان غير ذلك, غير أنه أيّ ذلك كان, فإنه كان تحريم شيء كان له حلالاً, فعاتبه الله على تحريمه على نفسه ما كان له قد أحله, وبين له تحلّة يمينه كان حلف بها مع تحريمه ما حرّم على نفسه.
فإن قائل قائل: وما برهانك على أنه صلى الله عليه وسلم كان حلف مع تحريمه ما حرم, فقد علمت قول من قال: لم يكن من النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك غير التحريم, وأن التحريم هو اليمين؟ قيل: البرهان على ذلك واضح, وهو أنه لا يعقل في لغة عربية ولا عجمية أن قول القائل لجاريته, أو لطعام أو شراب, هذا عليّ حرام يمين, فإذا كان ذلك غير معقول, فمعلوم أن اليمين غير قول القائل للشيء الحلال له: هو عليّ حرام. وإذا كان ذلك كذلك صحّ ما قلنا, وفسد ما خالفه, وبعد, فجائز أن يكون تحريم النبيّ صلى الله عليه وسلم ما حرّم على نفسه من الحلال الذي كان الله تعالى ذكره, أحله له بيمين, فيكون قوله لِمَ تُحَرّمُ ما أحَلّ اللّهُ معنا: لم تحلف على الشيء الذي قد أحله الله أن لا تقربه, فتحرّمه على نفسك باليمين.
وإنما قلنا: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم حرّم ذلك, وحلف مع تحريمه, كما:
26619ـ حدثني الحسن بن قزعة, قال: حدثنا مسلمة بن علقمة, عن داود ابن أبي هند, عن الشعبيّ, عن مسروق, عن عائشة قالت: آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرم, فأُمِرَ في الإيلاء بكفارة, وقيل له في التحريم لِمَ تُحَرّمُ ما أحَلّ اللّهُ لَكَ.
وقوله: وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يقول تعالى ذكره: والله غفور يا محمد لذنوب التائبين من عباده من ذنوبهم, وقد غفر لك تحريمك على نفسك ما أحله الله لك, رحيم بعباده أن يعاقبهم على ما قد تابوا منه من الذنوب بعد التوبة.
الآية : 2
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{قَدْ فَرَضَ اللّهُ لَكُمْ تَحِلّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }.
يقول تعالى ذكره: قد بين الله عزّ وجلّ لكم تحلة أيمانكم, وحدّها لكم أيها الناس وَاللّهُ مَوْلاكُمْ يتولاكم بنصره أيها المؤمنون وَهُوَ العَلِيمُ بمصالحكم الْحَكِيمُ في تدبيره إياكم, وصرفكم فيما هو أعلم به.
الآية : 3
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{وَإِذَ أَسَرّ النّبِيّ إِلَىَ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمّا نَبّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللّهُ عَلَيْهِ عَرّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمّا نَبّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَـَذَا قَالَ نَبّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ }.
يقول تعالى ذكره: وَإذْ أسَرّ النّبِيّ محمد صلى الله عليه وسلم إلى بَعْض أزْوَاجِهِ, وهو في قول ابن عباس وقتادة وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن بن زيد والشعبي والضحاك بن مزاحم: حَفْصَةُ. وقد ذكرنا الرواية في ذلك قبل.
وقوله: حَديثا والحديث الذي أسرّ إليها في قول هؤلاء هو قوله لمن أسرّ إليه ذلك من أزواجه تحريمُ فتاته, أو ما حرّم على نفسه مما كان الله جلّ ثناؤه قد أحله له, وحلفه على ذلك وقوله: «لا تَذْكُرِي ذَلِكَ لأَحَدٍ».
وقوله: فَلَمّا نَبّأَتْ بِهِ يقول تعالى ذكره: فلما أخبرت بالحديث الذي أسرّ إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبتها وأظْهَرَهُ عَلَيْهِ يقول: وأظهر الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم على أنها قد أنبأت بذلك صاحبتها.
وقوله: عَرّفَ بَعْضَهُ وأعْرَضَ عَنْ بَعْض اختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الأمصار غير الكسائي: عَرّفَ بتشديد الراء, بمعنى: عرّف النبيّ صلى الله عليه وسلم حفصة بعض ذلك الحديث وأخبرها به, وكان الكسائي يذكر عن الحسن البصريّ وأبي عبد الرحمن السلمي وقتادة, أنهم قرأوا ذلك: «عَرَفَ» بتخفيف الراء, بمعنى: عرف لحفصة بعض ذلك الفعل الذي فعلته من إفشائها سرّه, وقد استكتمها إياه: أي غضب من ذلك عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم, وجازاها عليه من قول القائل لمن أساء إليه: لأعرفنّ لك يا فلان ما فعلت, بمعنى: لإجازينك عليه قالوا: وجازاها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك من فعلها بأن طلقها.
وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه عَرّفَ بَعْضَهُ بتشديد الراء, بمعنى: عرّف النبيّ صلى الله عليه وسلم حفصة, يعني ما أظهره الله عليه من حديثها صاحبتها لإجماع الحجة من القرّاء عليه.
وقوله: وأعْرَضَ عَنْ بَعْض يقول: وترك أن يخبرها ببعض. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26620ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَإذْ أسَرّ النّبِيّ إلى بَعْضِ أزْوَاجِهِ حَدِيثا قوله لها: لا تذكريه فَلَمّا نَبّأَتْ بِهِ وأظْهَرَهُ اللّهُ عَلَيْهِ عَرّفَ بَعْضهُ وأعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ وكان كريما صلى الله عليه وسلم.
وقوله: فَلَمّا نَبّأَها بِهِ يقول: فلما خبر حفصة نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بما أظهره الله عليه من إفشائها سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عائشة قالت منْ أنْبأَكَ هَذَا يقول: قالت حفصةُ لرسول الله: من أنبأك هذا الخبر وأخبرك به قالَ نَبّأَنَي العَلِيمُ الخَبِيرُ يقول تعالى ذكره: قال محمد نبيّ الله لحفصة: خبرني به العليم بسرائر عباده, وضمائر قلوبهم, الخبير بأمورهم, الذي لا يخفى عنه شيء. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26621ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: فَلَمّا نَبّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أنْبَأَكَ هَذَا ولم تشكّ أن صاحبتها أخبرت عنها قالَ نَبّأَنِي الْعَلِيمُ الخَبِيرُ.

الآية : 4
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {إِن تَتُوبَآ إِلَى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنّ اللّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ }.
يقول تعالى ذكره: إن تتوبا إلى الله أيتها المرأتان فقد مالت قلوبكما إلى محبة ما كرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم من اجتنابه جاريته, وتحريمها على نفسه, أو تحريم ما كان له حلالاً مما حرّمه على نفسه بسبب حفصة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26622ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: إنْ تَتُوبا إلى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبَكُما يقول: زاغت قلوبكما, يقول: قد أثمت قلوبكما.
26623ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا محمد بن طلحة, عن زبيد, عن مجاهد قال: كنا نرى أن قوله: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبَكُما شيء هين, حتى سمعت قراءة ابن مسعود: «إن تَتُوبا إلى اللّهُ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبَكُما».
26624ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبَكُما: أي مالت قلوبكما.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن قتادة فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبَكُما مالت قلوبكما.
26625ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبَكُما يقول: زاغت.
26626ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان صٍغَتْ قُلُوبَكُما قال: زاغت قلوبكما.
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: ابن زيد, قال الله عزّ وجلّ: إنْ تَتُوبا إلى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبَكُما قال: سرهما أن يجتنب رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريته, وذلك لهما موافق صَغَتْ قُلُوبَكُما إلى أن سرّهما ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: وَإنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ يقول تعالى ذكره للتي أسّر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه, والتي أفشت إليها حديثه, وهما عائشة وحفصة رضي الله عنهما. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26627ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن الزهري, عن عبيد الله بن أبي ثور, عن ابن عباس قال: لم أزل حريصا على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم, اللتين قال الله جلّ ثناؤه: إنْ تَتْوبا إلى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبَكُما قال: فحجّ عمر, وحججت معه, فلما كان ببعض الطريق عدل عمر, وعدلت معه بإداوة, ثم أتاني فسكبت على يده وتوضأ فقلت: يا أمير المؤمنين, من المرأتان من أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله لهما: إنْ تَتُوبا إلى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبَكُما قال عمر: واعجبا لك يا بن عباس قال الزهري: وكره والله ما سأله ولم يكتم, قال: هي حفصة وعائشة قال: ثم أخذ يسوق الحديث, فقال: كنا معشر قريش نغلب النساء, فلما قدمنا المدينة, ثم ذكر الحديث بطوله.
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن أشهب, عن مالك, عن أبي النضر, عن عليّ بن حسين, عن ابن عباس, أنه سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المتطاهرتين على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: عائشة وحفصة.
26628ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنا سفيان, عن يحيى بن سعيد, عن عبيد بن حنين أنه سمع ابن عباس يقول: مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن المتظاهرتين, فما أجد له موضعا أسأله فيه حتى خرج حاجا, وصحبته حتى إذا كان بمرّ الظّهران ذهب لحاجته, وقال: أدركني بإداوة من ماء فلما قضى حاجته ورجع, أتيته بالإداوة أصبها عليه, فرأيت موضعا, فقلت: يا أمير المؤمنين, من المرأتان المتظاهرتان على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فما قضيت كلامي حتى قال: عائشة وحفصة رضي الله عنهما.
26629ـ حدثنا ابن بشار وابن المثنى, قالا: حدثنا عمر بن يونس, قال: حدثنا عكرمة بن عمار, قال: حدثنا سماك أبو زميل, قال: ثني عبد الله بن عباس, قال: ثني عمر بن الخطاب, قال: لما اعتزل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم نساءه, دخلت عليه وأنا أرى في وجهه الغضب, فقلت: يا رسول الله ما شقّ عليك من شأن النساء, فلئن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته, وجبرائيل وميكائيل, وأنا وأبو بكر معك, وقلما تكلمت وأحمد الله بكلام, إلا رجوت أن يكون الله مصدّق قولي, فنزلت هذه الاَية, آية التخيير: عَسَى رَبّهُ إنْ طَلّقَكُنّ أنْ يُبْدِلَهُ أزْوَاجا خَيْرا مِنْكُنّ, وَإنْ تَظاهَرَا عَلَيْهِ فإنّ اللّهَ هُوَ مُوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ المُوءْمِنِينَ... الاَية, وكانت عائشة ابنة أبي بكر وحفصة تتظاهران على سائر نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم.
26630ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وَإنْ تَظَاهَرَ عَلَيْهِ يقول: على معصية النبيّ صلى الله عليه وسلم وأذاه.
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, قال ابن عباس لعمر: يا أمير المؤمنين إني أريد أن أسألك عن أمر وإني لأهابك, قال: لا تهبني, فقال: من اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: عائشة وحفصة.
وقوله: فإنّ اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ المُوءْمِنِينَ يقول: فإن الله هو وليه وناصره, وصالح المؤمنين, وخيار المؤمنين أيضا مولاه وناصره.
وقيل: عني بصالح المؤمنين في هذا الموضع: أبو بكر, وعمر رضي الله عنهما. ذكر من قال ذلك:
26631ـ حدثني عليّ بن الحسن الأزدي, قال: حدثنا يحيى بن يمان, عن عبد الوهاب, عن مجاهد, في قوله وَصَالِحُ المُوءْمِنِينَ قال: أبو بكر وعمر.
26632ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا عبيد بن سليمان, عن الضحاك, في قوله: وَصَالِحُ المُوءْمِنِينَ قال: خيار المؤمنين أبو بكر الصدّيق وعمر.
حدثنا إسحاق بن إسرائيل, قال: حدثنا الفضل بن موسى السيناني من قرية بمرو يقال لها سينان عن عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: وَصَالِحُ المُوءْمِنِينَ قال: أبو بكر وعمر.
حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله وَصَالِحُ المُوءْمِنِينَ يقول: خيار المؤمنين.
وقال آخرون: عُنِي بصالح المؤمنين: الأنبياء صلوات الله عليهم. ذكر من قال ذلك:
26633ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَصَالِحُ المُوءْمِنِينَ قال: هم الأنبياء.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, قوله وَصَالِحُ المُوءْمِنِينَ قال: هم الأنبياء.
26634ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان وَصَالِحُ المُوءْمِنِينَ قال الأنبياء.
والصواب من القول في ذلك عندي: أن قوله: وَصَالِحُ المُوءْمِنِينَ وإن كان في لفظ واحد, فإنه بمعنى الجميع, وهو بمعنى قوله إنّ الإنْسانَ لَفِي خَسْر فالإنسان وإن كان في لفظ واحد, فإنه بمعنى الجميع, وهو نظير قول الرجل: لا تَقريَنّ إلا قارىء القرآن, يقال: قارىء القرآن, وإن كان في اللفظ واحدا, فمعناه الجمع, لأنه قد أذن لكلّ قارىء القرآن أن يقريه, واحدا كان أو جماعة.
وقوله: وَالمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلكَ ظَهِيرٌ يقول: والملائكة مع جبريل وصالح المؤمنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم أعوان على من آذاه, وأراد مساءته. والظهير في هذا الموضع بلفظ واحد في معنى جمع. ولو أخرج بلفظ الجميع لقيل: والملائكة بعد ذلك ظهراء. وكان ابن زيد يقول في ذلك ما:
26635ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: وَإنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فإن اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْريلُ وَصَالِحُ المُوءْمِنِينَ قال: وبدأ بصالح المؤمنين ها هنا قبل الملائكة, قال: والمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلكَ ظَهِيرٌ.
الآية : 5
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{عَسَىَ رَبّهُ إِن طَلّقَكُنّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مّنكُنّ مُسْلِمَاتٍ مّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيّبَاتٍ وَأَبْكَاراً }.
يقول تعالى ذكره: عسى ربّ محمد إن طلقكنّ يا معشر أزواج محمد صلى الله عليه وسلم أن يبدله منكنّ أزواجا خيرا منكن.
وقيل: إن هذه الاَية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم تحذيرا من الله نساءه لما اجتمعن عليه في الغيرة. ذكر من قال ذلك:
26636ـ حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم, قالا: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا حميد الطويل, عن أنس بن مالك, قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة فقلت لهنّ: عسى ربه إن طلقهن أن يبدله أزواجا خيرا منكنّ, قال: فنزل كذلك.
26637ـ حدثنا يعقوب, قال: حدثنا ابن علية, عن حميد, عن أنس, عن عمر, قال: يلغني عن بعض أمهاتنا, أمهات المؤمنين شدّة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذاهنّ إياه, فاستقريتهنّ امرأة امرأة, أعظها وأنهاها عن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأقول: إن أبيتنّ أبدله الله خيرا منكن, حتى أتيت, حسبت أنه قال على زينب, فقالت: يا بن الخطاب, أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهنّ أنت؟ فأمسكت, فأنزل الله عَسَى رَبّهُ إنْ طَلّقَكُنّ أنْ يُبْدِلَهُ أزْوَاجا خَيْرا مِنْكُنّ.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا ابن أبي عدي, عن حميد, عن أنس, قال: قال عمر بن الخطاب: يلغني عن أمهات المؤمنين شيء, فاستقريتهنّ أقول: لتكففن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, أو ليبدلنه الله أزواجا خيرا منكنّ, حتى أتيت على إحدى أمهات المؤمنين, فقالت: يا عمر أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهنّ أنت؟ فكففت, فأنزل الله عَسَى رَبّهُ إنْ طَلّقَكُنّ أنْ يُبْدلَهُ أزْوَجا خَيْرا مِنْكُنّ مُسْلِماتٍ مُوءْمِناتٍ... الاَية.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: أنْ يُبْدِلَهُ فقرأ ذلك بعض قرّاء مكة والمدينة والبصرة بتشديد الدال: «يبدّله أزواجا» من التبديل وقرأه عامة قرّاء الكوفة: يُبْدِ له بتخفيف الدال من الإبدال.
والصواب من القول أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.
وقوله: مُسْلِماتٍ يقول: خاضعات لله بالطاعة مُوءْمِناتٍ يعني مصدّقات بالله ورسوله.
وقوله قَانِتات يقول: مطيعات لله, كما:
26638ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قول الله قانتاتٍ قال: مطيعات.
26639ـ حدثني ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله قانِتاتٍ قال مطيعات.
وقوله: تائِباتٍ يقول: راجعات إلى ما يحبه الله منهنّ من طاعته عما يكرهه منهنّ عابِدَاتٍ يقول: متذللات لله بطاعته. وقوله سائحاتٍ يقول: صائمات.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: سائحات فقال بعضهم: معنى ذلك: صائمات. ذكر من قال ذلك:
26640ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله سائحات قال: صائمات.
26641ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله سَائحاتٍ قال: صائمات.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, قال السّائحات: الصائمات.
26642ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: سائحاتٍ يعني: صائمات.
وقال آخرون: السائحات: المهاجرات. ذكر من قال ذلك:
26643ـ حدثنا إسحق بن إسرائيل, قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراورديّ, عن زيد بن أسلم, قال: السائحات: المهاجرات.
26644ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله سائحات قال: مهاجرات ليس في القرآن, ولا في أمة محمد سياحة إلا الهجرة, وهي التي قال الله السّائحُونَ.
وقد بيّنا الصواب من القول في معنى السائحين فيما مضى قبل بشواهده مع ذكرنا أقوال المختلفين فيه, وكرهنا إعادته.
وكان بعض أهل العربية يقول: نرى أن الصائم إنما سمي سائحا, لأن السائح لا زاد معه, وإنما يأكل حيث يجد الطعام, فكأنه أُخذ من ذلك.
وقوله: ثَيّباتٍ وهنّ اللواتي قد افترعن وذهبت عذرتهنّ وأبْكارا وهنّ اللواتي لم يجامعن, ولم يفترعن.

الآية : 6
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ قُوَاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاّ يَعْصُونَ اللّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }.
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله قُوا أنْفُسَكُمْ يقول: علموا بعضكم بعضا ما تقون به من تعلمونه النار, وتدفعونها عنه إذا عمل به من طاعة الله, واعملوا بطاعة الله.
وقوله: وأهْلِيكُمْ نارا يقول: وعلموا أهليكم من العمل بطاعة الله ما يقون به أنفسهم من النار. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26645ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن منصور, عن رجل, عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله: قُوا أنْفُسَكُمْ وأهْلِيكُمْ نارا وَقُودَها النّاسُ والْحِجارَةُ قال: علّموهم, أدّبوهم.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن منصور, عن رجل, عن علي قُوا أنْفُسَكُمْ وأهْلِيكُمْ نارا يقول: أدّبوهم, علّموهم.
حدثني الحسين بن يزيد الطحان, قال: حدثنا سعيد بن خثيم, عن محمد بن خالد الضبيّ, عن الحكم, عن عليّ بمثله.
26646ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله قُوا أنْفُسَكُمْ وأهْلِيكُمْ نارا يقول: أعملوا بطاعة الله, واتقوا معاصي الله, ومروا أهليكم بالذكر ينْجيكم الله من النار.
26647ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحرث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: قُوا أنْفُسَكُمْ وأهْلِيكُمْ نارا قال: اتقوا الله, وأوصوا أهليكم بتقوى الله.
26648ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قُوا أنْفُسَكُمْ وأهْلِيكُمْ نارا وَقودُها النّاسُ والْحِجارَةُ قال: قال يقيهم أن يأمرهم بطاعة الله, وينهاهم عن معصيته, وأن يقوم عليهم بأمر الله يأمرهم به ويساعدهم عليه, فإذا رأيت لله معصية ردعتهم عنها, وزجرتهم عنها.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله قُوا أنْفُسَكُمْ وأهْلِيكُمْ نارا قال: مروهم بطاعة الله, وانهوهم عن معصيته.
وقوله: وَقُودَها النّاسُ يقول: حطبها الذي يوقد على هذه النار بنو آدم وحجارة الكبريت.
وقوله: عَلَيْها مَلائِكَةُ غِلاظٌ شِدَادٌ يقول: على هذه النار ملائكة من ملائكة الله, غلاظ على أهل النار, شداد عليهم لا يَعْصُونَ اللّهَ ما أمَرَهُمْ يقول: لا يخالفون الله في أمره الذي يأمرهم به وَيَفْعَلُونَ ما يُوءْمَرُونَ يقول: وينتهون إلى ما يأمرهم به ربهم.

الآية : 7
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{يَأَيّهَا الّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ الْيَوْمَ إِنّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }.
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيله يوم القيامة للذين جحدوا وحدانيته في الدنيا يا أيّها الّذِينَ كَفَرُوا باللّهِ لا تَعْتَذِرُوا اليَوْمَ إنّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يقول: يقال لهم: إنما تثابون اليوم, وذلك يوم القيامة, وتعطون جزاء أعمالكم التي كنتم في الدنيا تعملون, فلا تطلبوا المعاذير منها.